دور العقيدة في بناء الإنسان

عباس ذهبيات

دور العقيدة في بناء الإنسان

المؤلف:

عباس ذهبيات


الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: مركز الرسالة
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٢
ISBN: 964-8629-58-7
الصفحات: ١٠٠

١
٢

٣
٤

مقدمة المركز

الحمدُ للّه ربِّ العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على محمد المصطفى الأمين وآله الطيبين الطاهرين ، وبعد :

إنَّ نظرة الإنسان إلى الحياة والكون ومفاهيمه في شتى المجالات بل وحتى عواطفه وأحاسيسه كلها تدور حول محور العقيدة التي يتبناها ، والتي تسهم في بنائه الفكري والأخلاقي والاجتماعي ، وتوجيه طاقاته نحو البناء والتغيير.

وإذا كانت المدارس الوضعية قد حققت بعض النجاح في ميادين الحضارة المادية ، فقد أثبتت فشلها الذريع في تلبية حاجة الفرد لحياة كريمة حرّة من قيود الابتذال والفجور ، فكان التفسّخ الأخلاقي والانحدار الخلقي والتفكك الاُسري والفراغ العقائدي ، هو أبرز معطيات الحضارة المادية التي صنعها الإنسان على صعيد الحياة الفكرية والشخصية والاجتماعية.

ولقد اقتضت حكمة الخالق تعالى أن يرشد الإنسان إلى الجذور والاُصول التي يستقي منها معارفه وينهل منها حقائق هذا الوجود ليصل من خلالها إلى المعتقدات الصحيحة السليمة من الشوائب والبعيدة عن الانحراف بعد أن منحه تعالى الفطرة الصافية مشعلاً يهديه إلى النور ، نور العقيدة الإسلامية الحقة الذي أضاء بسناه ما حوله.

ومتى ما حكّم الإنسان عقله يرى أنّ العقيدة الإسلامية تشكّل نظاما متكاملاً للحياة البشرية بمختلف أطوارها ويرسم الطريق لكلِّ جوانبها وينسجم مع الفطرة الإنسانية ويضمن تحقق حاجات الفرد الروحية ورغباته المادية بشكل متوازن ودقيق ، وبما يضمن كرامته وشخصيته.

وعلى قواعد هذه العقيدة يقوم بناء الشخصية ، شخصية الفرد والمجتمع والدولة الإسلامية ، وتنتظم العلائق والروابط ، وتتحدد الحقوق والواجبات ، وتتحقق العدالة والمساواة ، ويستتب الأمن والسلام ، وينشأ التكافل والتضامن ،

٥

وتزدهر الفضائل والمكارم ، ويُبنى الإنسان على كافة الأصعدة.

فعلى الصعيد الفكري أخرجت العقيدة الإسلامية الإنسان من عالم الخرافات والجهل لتأخذ بيده إلى دنيا العلم والنور ، محفّزة الطاقات الكامنة فيه للتأمل والاعتبار بآيات اللّه ودلائله ، وبذلك فقد نبذت التقليد في الاعتقاد وربطت بين العلم والإيمان.

وعلى الصعيد الاجتماعي استطاعت العقيدة الإسلامية أن تسمو بالروابط الاجتماعية من أُسس العصبية القبلية واللون والمال إلى دعائم معنوية تتمثل بالتقوى والفضيلة والأخاء الإنساني ، فشكّل المسلمون خير أُمة أُخرجت للناس بعد أن كانوا جماعات متفرقة متناحرة.

وعلى الصعيد الأخلاقي نجحت العقيدة الإسلامية في تنمية الواعز الذاتي القائم على أساس الإيمان برقابة الخالق جلَّ وعلا لكلِّ حركات الإنسان وسكناته وما يستتبع ذلك من ثواب وعقاب ، الأمر الذي أدى إلى تعديل الغرائز وتنمية شجرة الأخلاق الفاضلة وجعلها عنصرا مشتركا في جميع الأحكام الإسلامية.

كما أسهمت العقيدة الإسلامية في بناء المجتمع اقتصاديا وسياسيا وتربويا ، وبذلك فهي تمثل عنصر القوة في تاريخ الحضارة الإسلامية.

فلأجل النهوض بالإنسان المسلم من حالة الضعف الروحي والانزلاق في مهاوي المادية ومغرياتها ، لا بدَّ من تذكيره بمعطيات تلك العقيدة ، وترسيخ قناعته بقوتها وصلاحيتها لكلِّ العصور بلغة معاصرة ، وبشكل يتناسب مع مقتضيات العصر الحديث ، والتحليل الفكري.

وإصدارنا هذا يوضح لك هذه الحقائق بشكل جلي معتمدا البحث والتحليل الفكري بإسلوب سهل ممتع وعرض علمي قويم يبتعد بالأفكار عن مهاوي الانحراف وأوهام الخيال ، ويقودها إلى الحقائق الناصعة والأدلة الساطعة.

فللّه الشكر على ما أنعم وله الحمد على ما وفق وهو المستعان

مركز الرسالة

٦

المقدِّمة

أكثر ما يهمّ الإنسان في الحياة هو أن يعرف حقيقة مبدئه ومعاده ، والغاية من وجوده ، ومن أين جاء ، وإلى أين ينتهي ، ولماذا وجد؟

هذه الأسئلة التي يطرحها الإنسان على نفسه على الدوام ، تحتاج إلى إجابات شافية ، لكي يتخذ الإنسان على ضوئها موقفا من الحياة ، يحدد سلوكه ، ويقيم لمجتمعه نظاما صالحا يرتضيه.

ولقد فشلت العقائد الوضعية في الاجابة على استفهامات الإنسان المتعلقة بمبدئه ومعاده ، ومبرِّر وجوده ؛ مرَّة من خلال الادعاء بأنَّ الانسان وجد صدفة! ومرَّة أُخرى من خلال الزعم بأنّه وجد نتيجة لتطور المادة!! .. وما إلى ذلك من تفسيرات واهية لا تُسمن ولا تغني من جوع الإنسان وتعطشه الأبدي لمعرفة الحقيقة.

وليس هذا فحسب ، بل فشلت أيضا في رسم معالم النظام الاجتماعي الذي يصلح الانسان ويحقق سعادته.

وبينما أجابت العقائد الدينية المحرَّفة إجابات باهتة ومشوهة ، عندما أقرّت من حيث المبدأ بوجود الخالق ولكن شبّهته بخلقه ، كما فشلت في تحديد النظام الأصلح للبشرية ، أجابت العقيدة الإسلامية عن كلِّ ذلك بمنتهى الصدق والعمق ، عندما أعلنت أنّ للإنسان خالقا حكيما قادرا

٧

لا يُنال بالحواس ولا يقاس بالناس ، وأنّ الإنسان وجد لغاية سامية وهي عبادة اللّه تعالى والوصول من خلالها إلى أرفع درجات التكامل والخلود.

كما تولِّد هذه العقيدة أيضا عواطف وأحاسيس خيِّرة ، يتبنى الإسلام بثها وتنميتها من أجل بناء الإنسان الكامل في الأبعاد الفكرية والاجتماعية والسلوكية ، وتكوين الشخصية العقائدية التي تتمتع بعقلية هادفة وسلوك قويم ، واتجاه رسالي ، على العكس من الشخصية اللامنتمية ، التي تنصبّ اهتماماتها جميعا على الذات ومصالحها ورغائبها ، فتعاني من الفراغ العقلي والتأزم النفسي وفقدان الهدفية في الحياة.

وينبغي الإشارة هنا إلى أنَّ العقيدة الإسلامية ليست كعقيدة الفلاسفة ـ باعتبارها نظرية فكرية تقبع في زوايا الدماغ ـ بل هي قوة تتحرك في القلب وتنعكس ايجابيا على النَّفس والجوارح ، فيندفع معتنقها إلى ميادين الجهاد والعمل ، وعليه فقد كانت قوة فاعلة ومحرِّكة ، غيّرت مجرى التاريخ ، وبدّلت معالم الحضارة ، وأحدثت في حياة الإنسان الاجتماعية والفكرية انقلابات رائعة ، وحققت انتصارات عسكرية مشهودة ، ولذلك وجدنا القلة المستضعفة العزلاء في مكة ، استطاعت بعقيدتها أن تصمد ثلاثة عشر عاما في مواجهة طغيان كالطوفان.

وهذه العقيدة هي التي جنّدت للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جيشا عِدّته عشرة آلاف ، وهو الذي خرج من مكة مستخفيا يطارده كفارها ، ولم يستطع الذين حاربوه طوال هذه المدة أن يصمدوا أمام قوة الإيمان الزاحفة ، فاستسلموا له ، وأتوا إليه مذعنين ، أو دفعوا إليه الجزية صاغرين.

كان المسلمون يملكون أقوى عُدد النصر ، وهي العقيدة التي تصنع

٨

المعجزات ، التي جعلت من حمزة ـ سيد الشهداء ـ يقود أوّل سرية في الإسلام في ثلاثين راكبا مسلما ، لمواجهة ثلاثمئة راكب من قريش على ساحل البحر الأحمر ، ولم تخرج السرية المسلمة لمجرَّد استعراض العضلات ، بل كانت جادَّة في المواجهة والاشتباك مع عدو تبلغ قوته عشرة أضعاف قوّتها.

ولم يحدث في تاريخ معارك الإسلام ، التي كان يحرز فيها انتصارات باهرة ومتوالية ، أن كانت قوة المسلمين المادية متكافئة مع قوة العدو ، بل كانت قوة المسلمين من حيث العدد والعُدّة تصل أحيانا إلى خُمس قوة العدو ، ولم يتحقق النصر إلاّ باعتمادهم على المدد المعنوي الهائل الذي تمنحه العقيدة للمقاتل المسلم مع عدم إغفال دور الامداد الغيبي المتواصل ، وبعض العوامل والشروط المادية الاُخرى.

وهكذا نجد أنّ العقيدة هي القوة الأساسية في كلِّ معارك الإسلام ، والعامل الأساس في تحقيق النصر في مختلف المجالات.

وبغية النهوض الحضاري بالفرد المسلم ، لا بدَّ من تذكيره بالمعطيات الحضارية التي منحتها العقيدة الإسلامية لمن سبقه من المسلمين ، صحيح أنَّ المسلم لم يتخلَّ كليا عن عقيدته ، ولكن عقيدته قد تجرَّدت في قلبه من فاعليتها ، وفقدت في سلوكه إشعاعها الاجتماعي ، بفعل عوامل الغزو الفكري التي تعرّض ويتعرض لها باستمرار ، وبفعل عوامل الانحطاط والتخلف التي عصفت بمجتمعه كنتيجة مباشرة لابتعاده عن قيم وتعاليم السماء.

وممّا ينبغي التركيز عليه في هذا الاطار :

٩

أولاً : تعريف الإنسان المسلم بعقيدته الحقة عن طريق منابع المعرفة الصافية.

وثانيا : ترسيخ قناعته بصوابها وصلاحيتها للعصر الراهن ، وإبراز عناصر تفوّقها على العقائد الاُخرى.

وثالثا : العمل على إعادة دور العقيدة في بناء الإنسان المسلم ، لتتجسّد في فكره إيمانا عميقا ، وفي سلوكه عملاً صالحا وأخلاقا حميدة ، كما كانت تتفاعل عطاءً وجهادا في نفوس المؤمنين السابقين ومن تبعهم بإحسان.

ولاجل هذه الغاية ، عقدنا هذا البحث الذي يتناول دور العقيدة في بناء الإنسان الفكري والاجتماعي والنفسي ، وانعكاساتها على أخلاق المسلمين وسلوكهم ، كما سلّطنا الضوء فيه على الدور الكبير الذي قامت به مدرسة آل البيت عليهم‌السلام من أجل صيانة العقيدة ، والتصدي الحازم لمحاولات تسطيح الوعي التي تعرّض لها الإنسان المسلم في أدوار سياسية متتابعة.

ولا بدَّ من الإشارة إلى أننا اتبعنا في هذا البحث « المنهج النقلي » واعتمدنا ـ أساسا ـ على المصادر والمراجع التراثية.

ومن اللّه نستمد العون والتوفيق.

١٠

الفصل الأول

البناء الفكري

المبحث الأول : تحرير فكر الإنسان.

ترتكز نظرة العقيدة الإسلامية على كون الإنسان موجودا مكرَّما : ( ولقَدْ كرَّمنا بني آدم وحملناهم في البرِّ والبحر ورزقناهم من الطَّيبات وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقنا تفضيلاً ) (١).

فهو خليفة اللّه في الأرض ، يمتلك العوامل التي تؤهّله للسمّو والارتفاع إلى مراتب عالية : ( وإذ قال ربُّك للملائكة إنّي جاعلٌ في الارض خليفةً قالوا أتجعلُ فيها من يُفسدُ فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونُقدسُ لك قال إني أعلمُ ما لا تعلمون ) (٢). كما أن بإمكان الإنسان أن ينحطّ ويتسافل حتى يصل إلى مرتبة الحيوانية : ( ... أخلدَ إلى الأرضِ واتَّبعَ هواه فمثلهُ كمثل الكلبِ إن تحمل عليهِ يلهث أو تتركه يلهث .. ) (٣).

ثم يتسافل أكثر فأكثر حتى يصل إلى مرتبة الجماد : ( ثمَّ قست قُلوبُكُم

__________________

(١) الاسراء ١٧ : ٧٠.

(٢) البقرة ٢ : ٣٠.

(٣) الاعراف ٧ : ١٧٦.

١١

من بعدِ ذلك فهي كالحجارةِ أو أشدُّ قسوة .. ) (١).

وعليه فالعقيدة الإسلامية تراعي في الانسان عوامل القوة والضعف معا ، فقد وُصف الإنسان في الكتاب الكريم بأنّه خُلِق ضعيفا هلوعا عجولاً ، وأنه يطغى ، وأنّه كان ظلوما جهولاً (٢).

وعلى هذا الأساس لا تحاول الشريعة إرهاقه بتكاليف شاقة ، تفوق طاقاته وقدراته النفسية والبدنية ، قال تعالى : ( لا يُكلِّفُ اللّه نفسا إلاَّ وُسعَها .. ) (٣).

وقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رُفعَ عن أُمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أُكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، ومالا يطيقون ، وما اضطروا إليه ، والحسد ، والطّيرة ، والتّفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (٤). وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رُفعَ القلم عن ثلاثة : عن المجنون المغلوب على عقله حتّى يبرأ ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم » (٥).

فالعقيدة الإسلامية ـ إذن ـ تعتبر عوامل الضعف في الإنسان حالة طبيعية ناتجة عن تكوينه البشري ، ولم ترها معقدة بالمستوى الذي يفقد الإنسان معها قدرته على البناء والحركة ، وحرية الاختيار.

__________________

(١) البقرة ٢ : ٧٤.

(٢) راجع سورة النساء ٤ : ٢٨ ، والمعارج ٧٠ : ١٩ ، والاحزاب ٣٣ : ٧٢ ، والأنبياء ٢١ : ٣٧ ، والعلق ٩٦ : ٦.

(٣) البقرة ٢ : ٢٨٦.

(٤) الخصال ، للصدوق : ٤١٧ باب التسعة ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.

(٥) كنز العمّال ، للمتقي الهندي ٤ : ٢٣٣ مؤسسة الرسالة ط ٥.

١٢

وفوق ذلك حاولت العقيدة ـ وهي تريد بناء الإنسان وتكامله ـ أن تثير لديه شعورا عميقا بالجانب الإيجابي من وجوده.

الخطيئة أمرٌ طارئ

من ناحية أُخرى فإنَّ العقيدة الإسلامية تعتبر الخطيئة أمرا طارئا على الإنسان ، وليس ذاتيا أصيلاً ، وعليه فحين يسقط الإنسان في مهاوي الخطيئة ، فإنّه لا يتحول إلى شيطان تمنعه شيطنته من العودة إلى رحاب الإنسانية ، بل يبقى إنسانا مخطئا يمكن أن يسعى إلى تصحيح خطئه ، والنهوض من كبوته.

وهذا هو سر عظمة النظرة الإسلامية إلى الإنسان ، فهي لا تجعله تحت رحمة الشعور بخطيئة أصيلة مفروضة عليه ، كما تفعل النصرانية ، بل هي تسعى إلى انتشال الإنسان من وحل الخطيئة ، وإشعاره بقدرته على الارتقاء ، وتذكيره الدائم بعفو اللّه ورحمته الواسعة ، وعدم اليأس منها. ولا يوجد في الإسلام « كرسي للاعتراف » كما هو الحال في النصرانية ، بل يسعى أئمة الدين وعلماؤه إلى ستر عيوب الناس وذنوبهم مهما أمكن ذلك ، لأن اللّه تعالى يحبَّ الستر.

عن الاصبغ بن نباتة قال : أتى رجل أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال : يا أمير المؤمنين ، إنّي زنيت فطهّرني ، فأعرض أمير المؤمنين عليه‌السلام بوجهه عنه ، ثم قال له : « اجلس ، فأقبل عليّ عليه‌السلام على القوم ، فقال : أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر اللّه عليه؟! .. » (١).

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ٤ : ٢١ / ٣١ باب فيما يجب به التعزير والحد ، دار صعب طبع ١٤٠١ ه.

١٣

الإنسان موجود مكرَّم

ومن جانب آخر تحاول العقيدة إشعار الإنسان ـ على الدَّوام ـ بأنّه موجود مكرَّم ، له موقعه المهمّ في هذا الكون ، من خلال وظيفة الاستخلاف فيه وما عليه إلاّ أن يقوم بأداء وظيفة الاستخلاف هذه على أحسن وجه ، وأن يشكر خالقه على هذا التكريم والتمكين والهداية إلى الدين الحق.

سأل رجلٌ أمير المؤمنين عليه‌السلام عن حبه للقاء اللّه تعالى ، فقال : بماذا أحببت لقاءه؟ قال عليه‌السلام : « لمَّا رأيته قد اختار لي دين ملائكته ورسله وأنبيائه ، علمت أنَّ الذي أكرمني بهذا ليس ينساني ، فأحببت لقاءه » (١).

معالم التحرير

ولقد أسهمت العقيدة إسهاما فعالاً في تحرير الإنسان على محاور عدّة ، منها : ـ

أولاً : ـ حرَّرت الإنسان من الاستبداد السياسي ، فليس في الإسلام استبداد إنسان بآخر ، أو تسخير طبقة أو قومية لاُخرى (فقد كان الدين ، على امتداد التأريخ الإسلامي ، من أبرز العوامل لظهور حركات التحرر. ومهما تكن نظرة الباحث تجاه الدين فلا يستطيع إبعاد العامل الديني وأثره في بناء الوعي الثوري خلال هذه الفترة من تأريخ الاسلام.

فلم تكن ثورة أبي ذر رحمه‌الله وثورة الحسين عليه‌السلام إلاّ منطلقا لاتّجاه واعٍ لتصحيح الانحراف في تأريخ الإسلام. ورغم كل الانحراف الذي تعرض

__________________

(١) كتاب الخصال : ٣٣ باب الاثنين ـ منشورات جماعة المدرسين ـ قم.

١٤

له المسلمون على امتداد تأريخهم الطويل لم ينعدم في فترة من هذا التأريخ اتجاه ثوري قوي في إعادة الإسلام الى مجاري الحياة والقضاء على الظلم والاستغلال واستعادة حقوق الانسان المسلم وكرامته) (١).

كما حرَّرت العقيدة الاسلامية الانسان من عادة « تأليه البشر » ، كعبادة الملوك والأُسر الحاكمة ، وهي عادة كانت سائدة عند بعض الاُمم القديمة كالمصريين القدماء ، وقد أبطل الإسلام نظريات التمييز بين إنسان وآخر ، سواء على أساس الجنس أو اللغة أو اللّون أو المال أو القوة ، ومقياس التفاضل ينحصر في أُمور معنوية هي التقوى والفضيلة ، قال تعالى : ( يا أيُّها النَّاسُ إنَّا خَلقناكُم مِن ذكرٍ وأُنثى وجَعلنَاكُم شُعُوبا وقَبائل لِتعارفُوا إنَّ أكرمكُم عندَ اللّه أتقاكُم إنَّ اللّه عَليمٌ خبيرٌ) (٢).

إنّ الإسلام يحتل الأسبقية بإعلان مبدأ الحرية قبل الثورة الفرنسية بأكثر من عشرة قرون.

قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في خطبةٍ له : « أيُّها الناس إنّ آدم لم يلد عبدا ولا أمة ، وإنّ النّاس كلّهم أحرار. ». (٣).

إلاّ أنّ الإسلام لم يجعل هذه الحرية الممنوحة للإنسان مطلقة ، بحيث يُطلق العنان للإنسان ليفعل ما يشاء ، بل جعل للحرية ضوابط وكوابح حتى لا تؤدي إلى فوضى.

ومن هنا يبرز الفرق الشاسع بين العقيدة الإسلامية التي تربط الحرية

__________________

(١) دور الدين في حياة الانسان ، للشيخ الآصفي : ٥٠ ـ دار التعارف ط٢.

(٢) الحجرات ٤٩ : ١٣.

(٣) فروع الكافي ٨ : ٦٩ ـ دار صعب ط٣.

١٥

الإنسانية بالعبودية للّه تعالى والخضوع الواعي والطوعي لسلطته ، وبين القوانين الوضعية التي تُلقي بالإنسان في تيهٍ لا يتفق مع قدرته ولا مع طبيعته.

ومن هنا لا بدَّ من توازن بين الحرية والعبودية ، وليس هناك توازن في هذا السبيل يطلق قدرات الإنسان ، ويحافظ على طبيعته في آن واحد ، إلاّ بما نجده في الإسلام ؛ عبودية للّه ، وحرية من سائر العبوديات ، فلا تكتمل حرية العبد إلاّ بعبوديته للّه .. ولا تكتمل عبوديته للّه إلاّ بتحرره من عبادة سواه ، فهنا توازن واتّساق واضح بين الجانب الاجتماعي والجانب الإيماني في شخصية المسلم عن طريق الحرية كما يراها الإسلام (١).

وعلى ضوء ما تقدم ، فالعقيدة تُقرِّر حقيقة أساسية هي أنّ جوهر الحرية الحقيقية ، هو العبودية للّه ، لأنّها تعني التحرر من جميع السلطات الجائرة ، وليس في العبودية للّه أي امتهان لكرامة الإنسان ، بل هي على العكس من ذلك تعزّز شخصيته وتحافظ على مكانته ،

فقد كان الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يتشرف بكونه عبدا للّه ، ويحب أن يطلقوا عليه صفة « العبودية » ويرفض الغلوّ الذي قد يؤدي إلى التأليه الباطل ، كما حصل لأهل الكتاب على الرغم من التحذير الإلهي لهم من الغلو في أشخاص رسلهم ، قال تعالى : ( يأهلَ الكِتَابِ لا تَغلُوا في دينِكُم ولا تقُولُوا على اللّه إلاّ الحَقَّ إنَّما المسيحُ عيسى ابنُ مريمَ رسُولُ اللّه وكلمتُهُ ألقاها إلى مريمَ

__________________

(١) معالم شخصية المسلم ، للدكتور يحيى فرغل : ٧٩ ـ ٨٠ ، منشورات المكتبة العصرية ـ طبعة عام ١٣٩٩ ه.

١٦

ورُوحٌ منهُ .. ) (١).

إنّ مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تحارب فكرة تأليه البشر من خلال التركيز على صفة العبودية أحيانا .. قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : أنا عبداللّه وأخو رسوله (٢). وقال الإمام الرضا عليه‌السلام : « بالعبودية للّه أفتخر » (٣). على أن فكرة تأليه البشر كانت سائدة في الاُمم الاُخرى ، وتسرّبت إلى أتباع الأديان السماوية فخالطت عقائد بعضهم ، فالمسيحية ـ على سبيل المثال ـ تدَّعي إلوهية المسيح ، واليهودية تزعم أنّ عزيرا ابن اللّه!

ومن هنا تبرز حكمة وبُعد نظر الإمام علي عليه‌السلام في تركيزه على صفة العبودية ووقوفه بالمرّصاد لكلِّ دعوات الغلوّ التي نسبته إلى الربوبية ، جاء في الحديث : (أنّه أتى قوم أمير المؤمنين عليه الصّلاة والسلام فقالوا : السّلام عليك يا ربّنا! فاستتابهم ، فلم يتوبوا ، فحفر لهم حفيرة ، وأوقد فيها نارا وحفر حفيرة إلى جانبها اُخرى ، وأفضى بينهما ، فلما لم يتوبوا ، ألقاهم في الحفيرة ، وأوقد في الحفيرة الاُخرى حتّى ماتوا) (٤).

وفي هذا الصدد قال عليه‌السلام : « هلك فيَّ رجلان : محبٌّ غالٍ ، ومبغضٌ قالٍ » (٥).

ثانيا : حرَّرت العقيدة الإسلامية الإنسان المسلم من شهوات نفسه

__________________

(١) النساء ٤ : ١٧١.

(٢) كنز العمال ١٣ : ح ٣٦٤١٠.

(٣) بحار الانوار ٤٩ : ١٢٩.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٥٥٢. دار احياء التراث العربي ط ٥.

(٥) نهج البلاغة ، ضبط صبحي الصالح ، ٥٥٨ / حكم ٤٦٩.

١٧

بعدما ربطت قلبه باللّه والدار الآخرة ، ولم تربطه بأهوائه ونزواته ، لقد زودت العقيدة عقل المسلم وإرادته بالحصانة الواقية من الانحراف أو إيثار العاجل الفاني على الآجل الباقي ، والنَّفس ـ في توجهات آل البيت عليهم‌السلام ـ هي منطقة الخطر ، لذلك تصدّرت أولى اهتماماتهم.

ومن هنا نجد أنّ حديث النفس وضرورة السيطرة عليها يحتل مساحةً كبيرةً من أقوال وحكم ومواعظ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فلم يترك مناسبة إلاّ واغتنمها في الحديث عن النفس لكونها قطب الرَّحى في عملية بناء الإنسان.

لقد أخبرنا الذكر الحكيم : ( .. بأنَّ اللّه لم يكُ مُغَيِّرا نِعمةً أنعَمَها على قومٍ حتَّى يُغيِّرُوا ما بأنفُسِهِم ) (١) ولذلك فإنَّ ما يلفت نظر الباحث أنّ الإمام عليا عليه‌السلام ـ أيام حكومته العادلة ـ كان يوصي عماله على الأقاليم وكبار قادته بالسيطرة على النفس ، على الرغم من انتقائه الدَّقيق لهم ، وكون أكثرهم من ذوي الفضائل العالية والسَّجايا الحميدة ، فمن كتاب له عليه‌السلام للأشتر لمّا ولاّه مصر : « هذا ما أمر به عبدُ اللّه عليّ أمير المؤمنين ، مالك بن الحارث الأشتر ... أمَرَهُ بتقوى اللّه ، وإيثار طاعته ... وأمَرَه أن يكسر نفسهُ من الشهوات ... فإنّ النّفس أمّارة بالسوء ، إلاّ ما رحم اللّه ... فاملك هواك ، وشحَّ بنفسك عمّا لا يحلَّ لك ، فإنّ الشُّحَّ بالنفسِ الإنصافُ منها فيما أحبَّت أو كرهت وأشعر قلبك الرحمة للرعية » (٢).

ومن وصية له لشريح بن هاني أحد قادته العسكريين ، لمّا جعله على

__________________

(١) الانفال ٨ : ٥٣.

(٢) نهج البلاغة ، لصبحي الصالح : ٤٢٧.

١٨

مقدّمة جيشه إلى الشام : « ... واعلم أنَّك إنْ لم تردَعْ نفسك عن كثير ممَّا تُحبُّ ، مخافة مكروه ، سمت بك الأهواء إلى كثير من الضرر ، فكن لنفسك مانعا رادعا ... » (١).

ومن كتاب له عليه‌السلام كان قد وجّهه إلى معاوية ، كشف له فيه عن سر تمرّده على القيادة الشرعية ، المتمثل في انحرافاته النفسية ، فقال له : « فإنَّ نفسك قد أولجتك شرا ، وأقحمتك غيّا ، وأوردتك المهالك ، وأوعرت عليك المسالك » (٢).

فالانحراف النفسي له عواقب جسيمة ، وخاصة من الذين يتصدّون لدفّة القيادة بدون شرعية وجدارة.

وكان أهل البيت عليهم‌السلام مع عصمتهم المعروفة يطلبون من اللّه تعالى العون على أنفسهم ، تعليما وتهذيبا لغيرهم ، وممّا جاء من دعاء الإمام زين العابدين عليه‌السلام : « ... وأوهن قوّتنا عمّا يُسخطك علينا ، ولا تخلِّ في ذلك بين نفوسنا واختيارها ، فإنها مختارة للباطل إلاّ ما وفّقت ، أمّارة بالسوة إلاّ ما رحمت » (٣).

ونستنتج من كلِّ ذلك ، أنّه لا يتم بناء الإنسان إلاّ بالسيطرة على النفس وهو ما سيأتي الحديث عنه.

ثالثا : إنّ العقيدة الإسلامية حرَّرت الإنسان من عبادة الطبيعة ومن تقديس ظواهرها ، ومن الخوف منها ، يقول تعالى : « ومِن آياتِهِ الليلُ

__________________

(١) نهج البلاغة : ٤٧٤.

(٢) نهج البلاغة : ٣٩٠.

(٣) في ظلال الصحيفة السجادية ، للشيخ مغنية : ١٠٠ ـ دار التعارف للمطبوعات ط٢.

١٩

والنَّهارُ والشَّمسُ والقَمرُ لا تسجُدوا للشمسِ ولا للقمرِ ... ) (١).

لقد مرَّ الإنسان بمرحلة الحيرة والتساؤل والقلق من مظاهر الطبيعة من حوله ، فهو لا يعرف شيئا من أسرارها وأسباب تقلّب أحوالها ، فأخذ يقدّسها ويقدّم لها القرابين بسخاء ، متصورا أنّه سوف يأمن بذلك من ثورات براكينها الملتهبة وزلازلها المدمّرة وسيولها الجارفة وصواعقها المحرقة ، فعملت العقيدة على تنقية العقول من غواشيها ، وفتحت الطريق أمامها واسعا لاستثمار الطبيعة والتسالم معها ، عندما رفعت ما كان من حجب كثيفة بين الإنسان والطبيعة ، وانكشف له بأنّ الطبيعة ومظاهرها وما فيها من مخلوقات وحوادث كلها صادرة عن اللّه تعالى ، وهي مخلوقات مسخّرة لخدمته ، وما عليه إلاّ أن ينتفع بها ويتفكر فيها وبأصلها حتى يصل عن طريقها إلى الخالق : ( أفلا يَنظُرونَ إلى الإبلِ كيفَ خُلقت * وإلى السَّماء كيفَ رُفِعت * وإلى الجِبالِ كيف نُصِبت * وإلى الأرضِ كَيفَ سُطِحت ) (٢).

ولا بدَّ من الاشارة إلى أنّ منهج العقيدة في بناء الإنسان « منهج شمولي » يُنظّم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه وبالطبيعة من حوله ، وكل توثيق أو تطور في العلاقة بين الإنسان وربّه فسوف ينعكس إيجابيا على علاقته مع الطبيعة المسخّرة بيد اللّه تعالى ، فتجود على الإنسان المؤمن بالخير والعطاء ، لذلك طلب النبي « هود » عليه‌السلام من قومه ـ الذين ابتعدوا عن منهج السماء فحُبس عنهم المطر ثلاث سنين وكادوا يهلكون ـ أن يستغفروا

__________________

(١) فصلت ٤١ : ٣٧.

(٢) الغاشية ٨٨ : ١٧ ـ ٢٠.

٢٠