فوائد الأصول - ج ١ - ٢

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني

فوائد الأصول - ج ١ - ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد علي الكاظمي الخراساني


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦١٣
الجزء ١ - ٢ الجزء ٣ الجزء ٤

كلمة الناشر

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله

الطاهرين المعصومين ...

اما بعد ، فإنه لما كان ما ألقاه فخر المتأخرين وقبلة المشتغلين صفوة الفقهاء والمجتهدين آية الله العظمى في العالمين « الميرزا محمد حسين الغروي النائيني » أعلى الله مقامه الشريف في المباحث الأصولية من أتقن المباني في هذا الفن وأحكمها ، وان المحقق الجليل والفقيه النبيل آية الله « الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني » قدس‌سره الشريف من أقدم تلامذته وحافظي دقائق انظاره ، وما قرره من أبحاث أستاذه الجليل من أحسن ما صنف في طريقه واليه مراجعة أهل النظر في تحقيق مباني المحقق الأستاذ ، فلذا بذلنا جهدنا في نشر هذا السفر الجليل المسمى ب‍ « فوائد الأصول » بصورة جديدة وأسلوب حديثه مع ما تمتاز به من الطبعة الأولى من التصحيح والتعليق واخراج المصادر وتنظيم الفهرس التفصيلي المبين لمباني الأستاذ في كل مبحث.

وقد تصدى الاخراج مصادر الأقوال والكلمات ، الفاضل الجليل حجة الاسلام « السيد محمد جواد العلوي الطباطبائي » ولمصادر الآيات والاخبار واعجام الكتاب وتشكيله بأسلوب جديد ( بوضع النقط وعلامة البيان وعلامة السؤال وغيرها من العلائم العصرية المتداولة ) وتنظيم الفهرس ، الفاضل النبيل حجة الاسلام

١

« الشيخ رحمت الله الرحمتي الآراكي » شكر الله سعيهما وجعل جهدهما وجهدنا ذخيرة ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم. ونسئل الله التوفيق لنشر ساير مجلدات الكتاب ومنه التوفيق وعليه التكلان.

مؤسسة النشر الاسلامي

التابعة لجماعة المدرسين في قم المقدسة

٢٠ ذي حجة الحرام ١٤٠٤

٢

مقدمة الأستاذ المحقق محمود الشهابي

الخراساني

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. والصلاة على رسوله وعلى آله الطاهرين.

ـ ١ ـ

كان الناس أمة واحدة وفي غمرات من الجهالة والضلالة ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وانزل معهم الكتاب واصطفى لهم الدين ، وأكمل عليهم الرحمة والهدى ، فأرسل رسله تترى واتبع بعضهم بعضا.

تلك الرسل وان لم يفرق الله بين أحد منهم في أصل الرسالة ، لكنه فضل بعضهم على بعض بما آتاهم من الكمال في الشريعة حتى جاء بأفضلهم فرقا وجمعا وأشرفهم أصلا وفرعا وأكملهم دينا وشرعا. فختم بارساله دور النبوة والرسالة. وحتم على كافة الناس اتباعه إلى يوم القيمة. وأرسله شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله باذنه وسراجا منيرا.

وأشار إلى هذا الختم والا تمام بالحصر في قوله تعالى : « ان الدين عند الله الاسلام » بل صرح بذلك وأكده بالتأبيد حيث قال عزوجل : « ومن يبتغ غير الاسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين » (١).

__________________

١ ـ آل عمران : ٨٥

٣

ـ ٢ ـ

الدين الاسلامي بما انه خاتم للشرائع الإلهية يشتمل على جميع ما يجب أو يناسب ان يقصده الشارع في وضع الشريعة : من المقاصد ، والحاجيات ، والكماليات فليس شيء مما يتوقف عليه حفظ مصالح الدين والدنيا من الضروريات الخمس التي هي المقاصد الا وقد شرع له في الاسلام ما يقوم به أركانها ويحفظ وجودها وكيانها ، وما يدفع به عما يورث اختلالها ويمكن ان يؤثر في زوالها.

وكذلك الشأن في الحاجيات ، فليس امر يحتاج إليه في التوسعة على الناس الا وقد ثبت له في الشريعة السمحة السهلة مواد ، وانتفى التضييق فيه برفع العسر ، والحرج ، والمشقة ، والضرر عن العباد ، ووسع عليهم فيما لا يعلمون. ورفع عنهم المؤاخذة في الخطاء ، والنسيان ، وما اضطروا إليه ، وما استكرهوا عليه ، وما لا يطيقون .. الخ.

وهكذا الامر في الكماليات ومحاسن العادات ، فليس شيء يصلح لان يجعل ذريعة إلى تحصيل مكارم الأخلاق ، ويناسب ان يتوسل به إلى تطهير الأعراق الا وقد أرشد إليه أئمة الاسلام. وتوصل إلى رعايته بتعليم الآداب ومندوبات الاحكام. وبالجملة ، الدين الاسلامي جامع لكل ما يحتاج الانسان إليه ، أو ينفعه ، أو يحسن له في نشأتيه.

ـ ٣ ـ

صدر من الشارع في بيان وظائف الأمة احكام من طريق الكتاب والسنة ، لكنها غير مجتمعة بالتدوين ، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم والدين ، ومع ذلك كان تحصيل العلم بالأحكام في ذلك العصر ، عصر السعادة وخير القرون. سهلا ميسورا إذا كان باب العلم على الأمة مفتوحا. والمسألة عن الرسول للمؤمنين مقدورا.

انقضى عصر الوحي والتنزيل ، وخضع الناس لسلطان الاسلام وإطاعة الاحكام جيلا بعد جيل ، وانبسط حكم الشريعة على البلاد البعيدة والأمم المختلفة من حيث الخلق والعادة والعقيدة. فانعطف توجه الزعماء من الصحابة إلى جمع

٤

القرآن أولا ، والبحث عن الاحكام وأدلتها ثانيا ، فحصل لبادئ بدء طور جديد في الاحكام ، طور الاستنباط والاستدلال.

طلعت غرة هذا الطور في أوائل القرن الأول من الاسلام. وبادرت مسرعة نحو التقدم بالانتظام. فما انسلخ ذلك القرن الا عن البشارة بحدوث علم في العالم الاسلامي كافلا لجميع ما يحتاج الانسان إليه في معاشه ومعاده. ضامنا لسعادة من يعمل بمتضمنه ومفاده.

الا وهو علم الفقه.

ـ ٤ ـ

وجد في العالم أنحاء شتى من القوانين ، يجمعها قسمان أصليان وهما :

١ ـ الشرائع السماوية.

٢ ـ الشرائع المدينة.

لا يهمنا هنا استقصاء ما يكون بين القسمين من وجوه الفرق. لكن ما يجدر بان لا يهمل ذكره هنا وجهان أساسيان :

الأول ـ ان الشرائع الإلهية ناظرة إلى حفظ جميع الصالح. سواء كانت متعلقة بالفرد أم بالمجتمع. وعلى تعلقه بالفرد سواء كانت من حيث جسمه أم روحه ، وسواء كانت باعتبار نشأته الفانية أم باعتبار حياته الباقية الخالدة. على أن حيثية مناسبات هذه الشؤون بينها ملحوظة في تلك الشرايع.

الثاني ـ ان مقصود المعتقد المتعبد بتلك الشرائع ليس رفع المسؤولية تجاه الشرع واسقاط التكليف فحسب ، بل يولى وجه دقته شطر « الواقع » ليحرزه ويصرف عنان همته نحو ما خوله الشارع ليحفظه ، وذلك لان الاحكام عنده تابعة للمصالح والمفاسد ، والشرعيات في نظره الطاف في العقليات من العوائد والفوائد.

على أن نفسه مطمئنة بان الشارع أصاب الواقع ولا بتخلف حكم من احكامه عما يكون هوله تابع.

هذا الفرق الثاني هو الذي حمل حماة الدين وحملة الفقه على أنحاء من البحث في نواحي أدلة الاحكام ومناحيها ، فبحثوا عن الأوامر ومعانيها ، وعن

٥

النواهي ومطاويها. وعن مداليل هذه الكلمات ، وعن المنطوق والمفهوم ، وعن العموم والخصوص والتخصيص ، وعن الاطلاق والتقييد ، وعن الاجمال والتبيين ، وعن حقيقة النسخ وكيفية الناسخ والمنسوخ ، وغير ذلك مما لا يستغنى عن تحقيقه من يتصدى لاستنباط « الواقع » واستخراجه من الأدلة التفصيلية التي اعتبرها الشارع واعتمد عليها التابع.

فتحصل عن جميع هذه المباحث علم جديد في عالم الاسلام ، علم أوجده كثرة العناية بأحكام الدين وشدة العلاقة باحراز « الواقع » من طريق القطع واليقين.

علم يحتاج إلى الانتفاع بمضامينه والاستناد إلى أصوله وقوانينه كل من كان له مساس القانون باقسامه وأفانينه ، علم لا يختص « المنفعة » فيه بحملة الفقه وان اختص الفقيه بالاستفادة منه ، علم ابتكره الاسلام ويكون تأسيسه من مفاخر الاعلام.

الا وهو علم أصول الفقه.

ـ ٥ ـ

وجود علل أشرنا إلى بعضها آنفا أنتج حدوث علم في العلوم الاسلامية لتحقيق أدلة الاستنباط ومداركها ، وتنقيح مسائل الفقه وتوضيح مسالكها.

وقد بحثنا في مقدمة مختصرة علقناها على تقريراتنا الأصولية عن تلك العلل والعوامل. وفحصنا عن زمان حدوث هذا النسخ من المباحث والمسائل ، وشخصنا البصر لتشخيص أول من شرع في تدوين هذا العلم الحادث ، ودرسنا تاريخ العلم للاطلاع على أول عصر توجه فيه اعتماد فقهاء الشيعة نحو هذه المباحث ، وأتممنا الدراسة بالحديث عن كيفية مجاراتهم مع هذا العلم بتتابع البحث وسرد التصنيف والتأليف من بادئ بدء الاستناد به ، والانتحاء لتدوين مطالبه إلى عصرنا الحاضر وبالوضع الموجود ، وألممنا في ختام الكلام بما الف في عصرنا من المؤلفات المهام ، واما الآن فلما لا يساعدني الحال ، ولا يسعني المجال لبسط المقال ، فلنقتصر بالإشارة إلى بعض تلك الأحوال.

٦

فنقول وعلى الله الاتكال (١) :

ـ ٦ ـ

اعلم أن بعض مباحث الأصول كانت في القرن الأول كما أشرنا موردا للبحث والنظر ولكنه لم يخرج الأصول إلى عرصة التدوين والتأليف الا بعد مضى النصف الأول من القرن الثاني.

وقد صرح جمع من الجهابذة كابني خلكان وخلدون. وصاحب كشف الظنون بان أول من صنف في أصول الفقيه محمد بن إدريس الشافعي ، بل نقل عن كتاب « الأوائل » للسيوطي اطباقهم على ذلك حيث قال : « أول من صنف في أصول الفقه ، الشافعي بالاجماع ».

لكني لست على يقين من ذلك ، بل المحتمل عندي ان يكون أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم ، وهو أول من لقب ب‍ « قاضي القضاة » سابقا على الشافعي بتأليف الأصول ، لان القاضي توفى في سنة ( ١٨٢ ه‍. ق ) والشافعي مات في سنة ( ٢٠٤ ه‍. ق ) وقد قال ابن خلكان في ترجمته : ان أبا يوسف « أول من صنف في أصول الفقه وفق مذهب أستاذه أبي حنيفة ».

وهكذا يحتمل جدا ان يكون محمد بن حسن الشيباني فقيه العراق ، الذي لما مات هو والكسائي في يوم واحد بري وكانا ملازمين للرشيد في سفره إلى خراسان قال في حقه الرشيد : « دفنت الفقه والأدب بر نبوية (٢) » مقدما على الشافعي في تأليف الأصول لان الشيباني توفى ( سنة ١٨٢ ه‍. ق أو سنة ١٨٩ ) وقد صرح ابن النديم في « الفهرست » بان للشيباني من مؤلفاته الكثيرة تأليف يسمى ب‍ « أصول الفقه » وتأليف سماه « كتاب الاستحسان » وتأليف « كتاب اجتهاد الرأي ». على أن الشافعي ، بتصريح من ابن النديم ، لازم الشيباني سنة كاملة و

__________________

١ ـ ومن أراد اطلاعا أزيد فعليه بمراجعة التعليقة المزبورة ، وإذا شاء إحاطة كاملة على الموضوع فليسئل الله ان يوفقنا لاتمام طبع كتاب ألفناه في تاريخ الفقه الاسلامي ونحولاته ، وقد طبع منه إلى الان عدة صفحات.

٢ ـ وهي على ما في معجم البلدان قرية كانت قرب الري.

٧

استنسخ في المدة لنفسه من كتب الشيباني ما استحسن وقد أذعن الشافعي نفسه بذلك ، وأعلن فقال من غير نكير « كتبت من كتب الشيباني حمل بعير ».

وكيف كان فان لم يحصل اليقين بتقدم القاضي والشيباني على الشافعي في التأليف ، فلا أقل من أن لا يحصل لنا يقين بتقدمه عليهما. فالحكم البات بكون الشافعي « أول من صنف في أصول الفقه » كما ترى.

ـ ٧ ـ

هذا بالنسبة إلى حدوث العلم والاستناد به على نحو الاطلاق ، اما بدء الاستناد به في خصوص مذهب التشيع فهو كما احتملناه وعللناه في التعليقة المزبورة لا يتقدم على الغيبة الكبرى ( ٣٢٩ ه‍. ق ).

أول من انتحى إلى أصول الفقه واعتمد عليه في مقام الاستنباط واستمد منه الشيخ الثقة الجليل حسن بن علي بن أبي عقيل (١) صاحب كتاب « المتمسك بحبل آل الرسول » في الفقه ، وهو أيضا « أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر ، وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى ».

ثم اقتفى اثر ابن أبي عقيل واستحسن آرائه أبو على محمد بن أحمد بن جنيد الإسكافي الذي قال السيد الاجل بحر العلوم بعد عنوانه في ترجمته : « من أعيان الطائفة وأعاظم الفرقة وأفاضل قدماء الامامية. وأكثرهم علما وفقها وأدبا ، وأكثرهم تصنيفا وأحسنهم تحريرا ، وأدقهم نظرا متكلم فقيه محدث أديب واسع العلم. صنف في الفقه والكلام والأصول والأدب وغيرها تبلغ مصنفاته ، عدا أجوبة مسائله ، من نحو خمسين كتابا منها كتاب « تهذيب الشيعة لاحكام الشريعة » كتاب كبير من نحو عشرين مجلدا يشتمل على جميع كتب الفقه ، وعدة كتبه تزيد على مائة وثلاثين كتابا ، وكتاب « المختصر الأحمدي في الفقه المحمدي » مختصر كتاب التهذيب وهو الذي وصل إلى المتأخرين ومنه انتشرت مذاهبه وأقواله .. »

__________________

١ ـ كان ابن أبي عقيل من مشايخ جعفر بن محمد بن قولويه ، أحد شيوخ العالم السديد المعروف بابن المعلم والملقب بالشيخ المفيد.

٨

إلى أن قال السيد العلامة بعد تعديد كتبه وأجوبة مسائلة : « وهذا الشيخ على جلالته في الطائفة ورئاسته وعظم محله قد حكى القول عنه بالقياس ، ونقل ذلك عنه جماعة من أعاظم الأصحاب ، وعلى ذلك فقد اثنى عليه علماؤنا وبالغوا في اطرائه ومدحه وثنائه .. ».

كان هذا الشيخ الجليل شيخا وأستاذا للشيخ المفيد ومعاصرا للشيخ الكليني وتوفى ، على ما ذكره المحدث القمي (ره) ( سنة ٣٨١ ه‍. ق ) في الري.

ـ ٨ ـ

ثم وصل دور البحث عن عوارض أدلة الاحكام إلى أبى عبد الله محمد بن محمد بن نعمان بن عبد السلام الملقب ب‍ « المفيد » عند الاعلام ، المتولد ( سنة ٣٣٦ ) والمتوفى ( ٤١٣ ه‍. ق ) فالشيخ المفيد تبع أستاذه ابن الجنيد وابن أبي عقيل في الاعتماد على الأصول وان لم يتلق كل ما قاله ابن الجنيد بالقبول ، بل وكتب على رده ونقضه كما هو المنقول.

نقل صاحب « الذريعة » عن النجاشي ذكر كتاب للشيخ المفيد في الأصول مشتمل مع اختصاره على أمهات المباحث والفصول. ونقل أيضا ان العلامة الكراجكي ضمن ذلك في كتابه المسمى ب‍ « كنز الفوائد ».

حدث الاستناد بالأصول من زمن ابن أبي عقيل وتوجه نحو التكامل في أيام ابن جنيد ودخل ذلك العلم في طور البحث والتأليف في عصر المفيد. فرج في عصره وشاء وانتشر صيته وذاع ، وذلك لان الشيخ المفيد كان يفيد العلم على تلامذة له ، كلهم أساتذة وفي نقد العلوم جهابذة ، منهم السيد السند والأجل الأوحد السيد المرتضى الملقب ب‍ « علم الهدى » توفى السيد سنة « ٣٣٦ ه‍. ق » ومنهم تلميذه أستاذ الفرقة وشيخ الطائفة أبو جعفر محمد بن حسين بن علي الطوسي ( المتوفى ٤٦٠ ه‍. ق ) ومنهم سلار « معرب سالار » بن عبد العزيز الديلمي صاحب كتاب « التقريب » في أصول الفقه ( المتوفى ٤٣٦ ه‍. ق ) وغيرهم من أساطين العلم وأساتيذ الفن.

فقد صنف السيد في الأصول كتبا شريفة ورسائل منيفة ، قال السيد

٩

الاجل بحر العلوم في فوائده الرجالية « .. ومن مصنفاته في أصول الفقه كتاب « الذريعة إلى الأصول الشريعة » وهو أول كتاب صنف في هذا الباب ، ولم يكن للأصحاب قبله الا رسائل مختصرة ، كتاب مسائل الخلاق في الأصول أثبته الشيخ والنجاشي قال الشيخ ولم يتمه. رسالة في طريقة الاستدلال موجودة عندنا. كتاب المنع من العمل باخبار الآحاد تعرف بالمسائل التبانية وهي أجوبة الشيخ الفاضل محمد بن عبد الملك التبان في ما عمله في انتصار حجية الاخبار تشتمل على عشرة فصول قد بسط السيد القول فيها. رسالة أخرى عندنا في المنع من خبر الواحد منقولة من خط الشهيد الثاني طاب ثراه .. ».

وقد صنف الشيخ الطوسي كتاب « عدة الأصول » الذي قال في شانه بحر العلوم : « وهو أحسن كتاب صنف في الأصول ».

وبالجملة فصار علم الأصول ( بعد ما صار في أواسط النصف الأول من القرن الرابع موردا للاستناد وعمدة في الاجتهاد ) في أواخر القرن الرابع موضوع البحث والدرس والتأليف ، وتوجه إليه أمثال هذه الفحول وصنفوا فيها ، لا رسائل مختصرة فقط ، بل كتبا قيمة مرتبة على أبواب وفصول.

ـ ٩ ـ

ثم لعله توقف سير الاجتهاد في مسائل الفقه بعد الشيخ الطوسي مدة تقرب من قرن ، وذلك لحسن ظن من تلامذة الشيخ بما استنبطه وأفتى به في كتبه ، فكانوا بالحقيقة في تلك المدة ، على ما قيل « مقلدين » ( بل لقبوا به ) لما استنبط ، ومقتفين اثره في ما اجتهد واعتقد ، لا يتجاوزون عما قال ، ولا يتكلفون البحث في المقال حتى قام بأعباء الاجتهاد وأقام سوق البحث والانتقاد الفقه الفحل الأوحد محمد بن أحمد ، سبط الشيخ الطوسي الأمجد وحفيد ابن إدريس الممجد ، فألف في الفقه الاستدلالي كتابه السامي « السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى » ( توفى هذا الفقه سنة ٥٩٨ ه‍. ق ).

انفتح باب البحث والاجتهاد بعد ما وقع فيه الانسداد أو كاد. فانتحى تلامذة ابن إدريس ، تبعا لأستاذ ، نحو الأصول بالاستناد. ثم تلاميذ تلامذته

١٠

كالمحقق الحلي صاحب « شرايع الاسلام » أبى القاسم نجم الدين جعفر بن حسن بن يحيى بن سعيد ( تولد المحقق سنة ٦٠٢ وتوفى سنة ٦٧٦ ه‍. ق ) وألفوا فيه كتبا نفيسة ، فمما الفه المحقق كتاب « نهج الوصول إلى معرفة الأصول » وكتاب « المعارج ».

انتقل الدور بعد المحقق إلى تلميذه وابن أخته الذي انتشر صيت علمه في الآفاق واشتهر له لقب « العلامة » على الاطلاق آية الله بالاستحقاق أبو منصور جمال الدين حسن بن يوسف بن علي بن مطهر ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه‍. ق ) فاحكم أساس البحث والنظر ، ونظر في كتب القوم ما تقدم منها وما تأخر ، فهذبها وحرر. أرشد العلامة إلى نهج الوصول ومنتهاه لمن أراد السلوك إلى هذه الأصول وتمناه فألف كتاب « النكت البديعة في تحرير الذريعة » وكتاب « تهذيب الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « نهج الوصول إلى علم الأصول » وكتاب « منتهى الوصول إلى علمي الكلام والأصول » وكتاب « غاية الوصول .. » وكتاب « مبادئ الوصول إلى علم الأصول » وصادف ما كتبه العلامة في الأصول كسائر ما الفه في المعقول والمنقول اقبالا خاصا ، يليق بشأنها ، من العلماء الفحول ولا سيما كتابه الذي سماه « نهج الوصول .. » فقد تصدى لشرح هذا الكتاب جمع من فضلاء الأصحاب كالسيد عميد الدين عبد المطلب بن محمد الحسيني ( ٦٨١ ـ ٧٥٤ ) ، وأخيه السيد ضياء الدين عبد الله بن محمد ابني أخت العلامة وتلميذيه وشيخي الإجازة للأول من الشهيدين وكفخر المحققين أبو طالب محمد بن العلامة ( ٦٨٢ ـ ٧٧١ ه‍. ق ) وكالأمير جمال الدين عبد الله الحسيني الاسترآبادي صدر دولة السلطان الاجل الشاه إسماعيل الصفوي الأول.

وهذا الشرح الأخير على ما قال صاحب الروضات أحسن من شرح الاميدي والضيائي والفخري والمنصور ( تأليف الفقيه الفاضل منصور بن عبد الله الشيرازي المشتهر ب‍ « راستگو » والمعاصر للشهيد الثاني ، وقد فرغ الشارح من تأليف هذا الشرح سنة ٩٢٩ ه‍. ق ).

جمع الفقيه الاجل محمد بن مكي المشهور بالشهيد الأول ( الفائز بالشهادة

١١

سنة ٧٨٦ ه‍. ق ) بين شرحي العميدي والضيائي ، وهذا الجمع بالحقيقة شرح آخر على كتاب التهذيب.

وخلاصة القول ان من زمان العلامة إلى زمان الشهيد الثاني ، أي في القرن الثامن والتاسع وشطر من القرن العاشر ، كان أكثر مدار البحث والدرس في الأصول على ما الفه العلامة.

نعم كان للمختصر الحاجبي الذي الفه أبو عمر وعثمان بن عمر بن أبي بكر ( المعروف بابن الحاجب المتوفى سنة ٦٤٦ ه‍. ق ) في القرن السابع أيضا شأن عند علماء المذهب. فقد كانوا يدرسونه ويشرحونه ويعلقون عليه الحواشي ، ويرفعون عن وجوه مقاصده الغواشي.

ـ ١٠ ـ

كان جريان الامر في تلك القرون على ما حدد ، حتى مهد العالم الرباني زين الدين بن نور الدين المشهور بالشهيد الثاني ( توفى شهيدا سنة ٩٦٦ ) قواعد الاستنباط للمجتهد وسماه « تمهيد القواعد ».

ثم الف أبو منصور جمال الدين حسن بن زين الدين ( ابن الشهيد الثاني المتوفى سنة ١٠١١ ه‍. ق ) كتابه الموسوم ب‍ « معالم الدين ». كتاب المعالم في الأصول لسلاسة تعبيره وسلامة تنظيمه وجودة جمعه وتأليفه صار سهل التناول كثير التداول بحيث انسى ما كتبه السلف ، وما اغنى عنه ما الفه الخلف. صنف المعالم وتداول فيه البحث والدرس بين الأعاظم ، فاقبلوا عليه بالتحشية والتعليق وامعنوا في مباحثه بالتدقيق والتحقيق.

من أحسن تلك التعاليق وأمتنها وأدقها وأتقنها ما علقه عليه العالم الأصول الشيخ محمد تقي ( المتوفى ١٢٤٨ ه‍. ق ) وسماه ب‍ « هداية المسترشدين ».

بعد القرن العاشر إلى عصرنا الحاضر ألفت في الأصول كتب كثيرة مشهورة وغير مشهورة. لكنه كانت مدارسة كتاب المعالم في جميع المدة معمولة ، ولعله يكون كذلك متى كان قلوب طلاب العلم بتحصيل الأصول مشغولة.

١٢

ـ ١١ ـ

ومما ينبغي ان لا يترك هنا الإشارة إليه والتنبيه عليه ، ان للأصول في سيره من زمان تأليف المعالم إلى عصرنا الحاضر ثلث مراحل :

الأولى : مرحلة البطؤ أو التوقف.

الثانية : مرحلة البسط والتقدم.

الثالثة : مرحلة التحرير والتلخيص. فهذه ثلاثة أدوار حصلت للأصول في تلك القرون.

الدور الأول من الأدوار الثلاثة استوعب القرنين ، الحادي عشر والثاني عشر ، فكان أكثر مدار البحث والدرس في ذينك القرنين على كتاب المعالم ، ولم يؤلف فيهما مؤلفات مهمة تقع من حيث المدارسة في عرض المعالم أو في طوله ، ولعله كان ذلك ناشئا عن كثرة الاقبال على الاخبار وغلبة علمائنا الأخباريين الأخيار.

وكان الدور الثاني في القرن الثالث عشر ، فجدد فيه أساس البحث والنظر وحصل في هذا الدور للأصول صولة للأصوليين في ميدان التصنيف والتأليف والتحقيق جولة. فصار هذا الدور دور البسط والتفصيل بل دور الاطناب والتطويل ، وناهيك ما ترى من كتاب « هداية المسترشدين » ( حاشية على المعالم ) وكتاب « قوانين الأصول » للمحقق الجيلاني القمي ( المرزا أبو القاسم المتوفى ١٢٣١ ه‍. ق ) وكتاب « الفصول » للشيخ محمد حسين ( تلميذ الشيخ محمد تقي وأخيه المتوفى ١٢٦١ ه‍. ق ) ، وكتاب « بحر الفوائد » للاشتياني ( الحاج مرزا حسن المتوفى ١٣١٩ ه‍. ق ) حاشية على « فرائد الأصول » تأليف أستاذه الأنصاري ( أول من أدرك الأصول في هذا الدور بالتنقيح والتهذيب ، ورتبه على ترتيبه الأنيق المتين الشيخ المطلق في لسان المتأخرين الحاج شيخ مرتضى بن محمد أيمن المتوفى ١٢٨١ ) وغيرها من الكتب المؤلفة في ذلك القرن.

كان هذا التحول في سير الأصول من آثار الأصولي الفحل ما لك أزمة الفضل الأستاذ الأكبر المولى الاجل الأفضل آقا محمد باقر بن محمد أكمل ( المتوفى سنة ١٢٠٦ أو ١٢٠٨ ه‍. ق ) إذ لأستاذ بقوة تقريره وجودة تحريره في مناظراته

١٣

المكررة ومراسلاته المحررة برع على خصماء الأصول وجعل دعاويهم كعصف مأكول.

ـ ١٢ ـ

شرع الدور الثالث من ابتداء القرن الرابع عشر ، وانعكس طور التأليف في هذا الدور فتلخص وتحرر. أول من بادر إلى تحرير الأصول عن الفضول تدريسا وتدوينا وهيج الأشواق إلى سلوك هذا السبيل تدريبا وتمرينا ، هو أستاذ المتأخرين على الاطلاق شيخ المجتهدين المعاصرين في الآفاق الذي لخص المقاصد والمعاني ، وأسس في الأصول جملة من المباني المولى محمد كاظم الخراساني ( المتوفى ١٣٢٩ ه‍. ق ).

خلب المحقق الخراساني قلوب طلبة العلم بمعاليه ، وجلب عقول حملته من تلامذته ومعاصريه بما أنعم الله عليه من لباقة تقرير لا يعادله فيها أحد وأناقة تحرير لا يسهل تحديدها بحد ، فاقتفوا في التلخيص والتحرير اثره ، وآثروا في ايراد ما اصطلح عليه أرباب المعقول والاستناد به في تآليفهم الأصولية فكره.

صار كتاب « كفاية الأصول » الذي الفه المحقق الخراساني كتابا نهائيا لمدارسة الأصول.

جملة الكلام ، ان أهل العلم في القرن حملوا العناء وبذلوا العناية لا في التلخيص والتحرير فحسب ، بل في الدقيق والتحقيق ، وأيضا في التنسيق والتانيق.

ـ ١٣ ـ

ممن تابع في تنقيح مطالب الأصول وتوضيح مآربه أئمته والقى إليه التحقيق في هذا العصر أزمته. العالم العليم الأستاذ الأعظم المرزا محمد حسين الغروي الناييني فهو قد أكب مجاهدا على تهذيب الأصول بالبحث ، والب لتدريب الفضلاء وتعليمهم على الدرس ، فتخرج من معهد بحثه ومجلس درسه علماء جلة وفضلاء أولى تجلة يوعون ما يسمعون ويكتبون ما يستفيدون ويوعون.

١٤

وهذه المكتوبات هي التي اصطلح عليها عنوان « التقريرات » (١)

ـ ١٤ ـ

من جملة ما عرف بعنوان التقريرات هذا الكتاب ( كتاب فوائد الأصول ) الذين يريه الناظر حاضرا بين يديه ، وتهوى أفئدة عشاق الفضل إليه الفه قرة عين الأستاذ الاجل وغرة وجه العلم والعمل الشيخ محمد على الكاظمي الخراساني ، الذي مات (ره) ولم تظهر أسرار دفائنه ولم تفتح اغلاق خزائنه ( توفى سنة ١٣٦٥ ه‍. ق ).

هذا التأليف ان لم يكن أحسن ما كتب من دروس الأستاذ على الاطلاق فهو من أحسنها تنقيحا وأجودها توضيحا وأمتنها تعبيرا وأكثرها تحريرا ، وكيف لا؟ وقد أفاد الأستاذ في شأن المؤلف وما أفاد عين هذه الكلمات وهي ترشدنا إلى الفرق بينه وبين غيره « .. فان من أعظم ما أنعم به سبحانه وتعالى على العلم وأهله ، هو ما حباه من التوفيق والتأييد لقرة عيني العالم العلم العلام والفاضل البارع الهمام الفائز بأسنى درجات الصلاح والسداد بجهده والفائز بأسنى رتبة الاستنباط والاجتهاد بجده ، صفوة المجتهدين العظام وركن الاسلام ، والمؤيد المسدد التقى الزكي جناب الاغا الشيخ محمد على الخراساني الكاظمي أدام الله تعالى تأييده وأفضاله وكثر في العلماء الاعلام أمثاله.

« فقد أودع في هذه الصحائف الغر ما نقحناه في أبحاثنا مجدا في تنقيحه مجيدا في توضيحه ببيان رائق وترتيب فائق فلله دره وعليه سبحانه اجره .. » هكذا كان سير الأصول في تلك القرون الاسلامية إلى زماننا الحاضر ، و

__________________

١ ـ في القرون الأولية من الاسلام قد يلقون الأساتذة على تلاميذهم عبارات مربوطة بالكتاب أو السنة أو غير ذلك فيملونها وسمى تلك المكتوبات ب‍ « الأمالي » ومن ذلك أمالي الصدوق والمفيد والطوسي.

وفى القرن الأخيرة ولا سيما في القرن الثالث عشر كان التلامذة يكتبون بعد درس الأستاذ ما يستفيدون مما حقق وأفاد ويعرضونه عليه للبحث والانتقاد ، وتسمى تلك المكتوبات ب‍ « التقريرات ».

أول ما اشتهر بذلك العنوان على ما أظن ، كتاب « مطارح الأنظار » الذي الفه المحقق العالم الميرزا أبو القاسم ( المشهور بكلانتري المتوفى ١٢٩٢ ه‍. ق ) من إفادات أستاذه وأستاذ الكل الشيخ الأنصاري.

١٥

على ما دريت صار هذا العلم منتقلا من الغابرين إلى المعاصرين ، فلله در المجتهدين من العلماء ، وجزاهم الله عن الاسلام والعلم خير الجزاء.

هذا ما قصدنا ايراده على سبيل الاستعجال وطريق الاجمال مقدمة على الكتاب ، حسب ما أشار على بذلك من عنى بطبع هذا المجلد الأول وهو صديقي الممجد المبجل العالم العامل والفاضل الكامل حجة الاسلام الشيخ نصر الله المشتهر بالخلخالي بين الاعلام أدام الله بركاته وزاد ، تبارك وتعالى ، في حسناته.

والحمد لله أولا وآخرا وظاهرا وباطنا

طهران ٢٠ ربيع الثاني ١٣٦٨

محمود الشهابي الخراساني

١٦

الجزء الأول من كتاب

فوائد الأصول

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف بريته وعلى اله الطيبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

وبعد ، فيقول العبد المذنب الراجي عفو ربه محمد على الكاظمي ابن المرحوم الشيخ حسن الكاظمي قدس‌سره : انى لما حضرت مجلس بحث المولى خاتمة المجتهدين فريد عصره وفقيه زمانه ، من إليه انتهت الرياسة العامة ، شيخنا وملاذنا آية الله حضرة الميرزا محمد حسين الغروي النائيني متع الله المسلمين ببقائه ، رأيت أن بحثه الشريف ذو فوائد جليلة ، بحيث ينتفع منه المنتهى من أهل العلم فضلا عن المبتدي ، ويستفيد منه من كثر باعه فضلا عمن قصر ، فأحببت تزيين هذه الأوراق بما استفدته من إفاداته الشريفة حسبما يسعني ويؤدى إليه فهمي القاصر.

فأقول : ومن الله استمد.

القول في أصول الفقه

وتنقيح البحث عن ذلك يستدعى رسم مقدمة ، ومقاصد ، وخاتمة.

اما المقدمة : ففي بيان نبذة من مباحث الألفاظ

ولما كان داب أرباب العلوم عند الشروع في العلم ذكر موضوع العلم ، وتعريفه ، وغايته ، فنحن أيضا نقتفي أثرهم. وينبغي قبل ذلك بيان مرتبة علم

١٧

الأصول وموقعه ، إذ لعله بذلك يظهر تعريفه وغايته.

فنقول : لا اشكال في أن العلوم ليست في عرض واحد ، بل بينها ترتب وطولية ، إذ رب علم يكون من المبادئ لعلم اخر ، ولأجل ذلك دون علم المنطق مقدمة لعلم الحكمة ، وكذلك كان علم النحو من مبادئ علم البيان ، ومن الواضح ان جل العلوم تكون من مبادئ علم الفقه ومن مقدماته حيث يتوقف الاستنباط على العلوم الأدبية : من الصرف ، والنحو ، واللغة ، وكذا يتوقف على علم الرجال ، وعلم الأصول ، ولكن مع ذلك ليست هذه العلوم في عرض واحد بالنسبة إلى الفقه ، بل منها ما يكون من قبيل المقدمات الاعدادية للاستنباط ، ومنها ما يكون من قبيل الجزء الأخير لعلة الاستنباط. وعلم الأصول هو الجزء الأخير لعلة الاستنباط بخلاف سائر العلوم ، فإنها من المقدمات ، حتى علم الرجال الذي هو أقرب العلوم للاستنباط ، ولكن مع هذا ليس في مرتبة علم الأصول بل علم الأصول متأخر عنه ، وعلم الرجال مقدمة له.

والحاصل

ان علم الأصول يقع كبرى لقياس الاستنباط وسائر العلوم تقع في صغرى القياس. مثلا استنباط الحكم الفرعي من خبر الواحد يتوقف على عدة أمور فإنه يتوقف على معرفة معاني الألفاظ التي تضمنها الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة أبنية الكلمات ومحلها من الاعراب ليتميز الفاعل عن المفعول والمبتدأ عن الخبر ، ويتوقف أيضا على معرفة سلسلة سند الخبر وتشخيص رواته وتمييز ثقتهم عن غيره ، ويتوقف أيضا على حجية الخبر ، ومن المعلوم : ان هذه الأمور مترتبة من حيث دخلها في الاستنباط حسب ترتبها في الذكر والمتكفل لاثبات الامر الأول هو علم اللغة ، ولاثبات الثاني هو علم النحو والصرف ، ولاثبات الثالث هو علم الرجال ، ولاثبات الرابع الذي به يتم الاستنباط هو علم الأصول ، فرتبة علم الأصول متأخرة عن جميع العلوم ، ويكون كبرى لقياس الاستنباط. فيقال : الشيء الفلاني مما قام على وجوبه خبر الثقة ، وكلما قام على وجوبه خبر الثقة يجب ، بعد البناء على حجية خبر الواحد الذي هو نتيجة البحث في مسألة حجية خبر الواحد ، فيستنتج من تأليف

١٨

القياس وجوب الشيء الفلاني.

بما ذكرنا من مرتبه علم الأصول يظهر الضابطة الكلية لمعرفة مسائل علم الأصول ، وحاصل الضابط : ان كل مسألة كانت كبرى لقياس الاستنباط فهي من مسائل علم الأصول.

وبذلك ينبغي تعريف علم الأصول ، بان يقال : ان علم الأصول عبارة عن العلم بالكبريات التي لو انضمت إليها صغرياتها يستنتج منها حكم فرعى كلي ، فان ما عرف

به علم الأصول : من أنه العلم بالقواعد الممهدة لاستنباط الخ ـ لا يخلو عن مناقشات عدم الاطراد وعدم الانعكاس ، كما لا يخفى على من راجع كتب القوم.

وهذا بخلاف ما عرفنا به علم الأصول ، فإنه يسلم عن جميع المناقشات ، ويدخل فيه ما كان خارجا عن تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون داخلا ، ويخرج منه ما كان داخلا في تعريف المشهور مع أنه ينبغي ان يكون خارجا.

ثم إن المايز بين المسألة الأصولية والقاعدة الفقهية بعد اشتراكهما في أن كلا منهما يقع كبرى لقياس الاستنباط ، هو ان المستنتج من المسألة الأصولية لايكون الا حكما كليا ، بخلاف المستنتج من القاعدة الفقهية ، فإنه يكون حكما جزئيا وان صلحت في بعض الموارد لاستنتاج الحكم الكلي أيضا الا ان صلاحيتها لاستنتاج الحكم الجزئي هو المايز بينها وبين المسألة الأصولية ، حيث إنها لا تصلح الا لاستنتاج حكم كلي ، كما يأتي تفصيله في أوايل مباحث الاستصحاب (١) انشاء لله ، ويأتي هناك أيضا ان المسألة الأصولية قد تقع أيضا صغرى لقياس الاستنباط وتكون كبراه مسألة أخرى من مسائل علم الأصول ، الا انه مع وقوعها صغرى لقياس الاستنباط تقع في مورد اخر كبرى للقياس.

وهذا بخلاف مسائل سائر العلوم ، فإنها لا تقع كبرى لقياس الاستنباط أصلا فراجع. وعلى كل حال ، فقد ظهر لك مرتبة علم الأصول وتعريفه.

__________________

١ ـ الجزء الرابع من فوائد الأصول ، الامر الثاني

١٩

واما غايته

فهي غنية عن البيان ، إذ غايته هي القدرة على استنباط الأحكام الشرعية عن مداركها.

بقى الكلام في بيان موضوعه

وقد اشتهر ان موضوع كل علم ما يبحث فيه عن عوارضه الذاتية ، وقد أطالوا الكلام في البحث عن العوارض الذاتية والفارق بينها وبين العوارض الغريبة ، وربما كتب بعض في ذلك ما يقرب من الف بيت أو أكثر.

وقد يفسر العرض الذاتي بما يعرض الشيء لذاته ، أي بلا واسطة في العروض وان كان هناك واسطة في الثبوت. والمراد من الواسطة في العروض ، هو ما كان العرض أولا وبالذات يعرض نفس الواسطة ويحمل عليها ، وثانيا وبالعرض يعرض لذي الواسطة ويحمل عليه ، كحركة الجالس في السفينة ، فان الحركة أولا وبالذات تعرض السفينة وتستند إليها ، وثانيا وبالعرض تعرض الجالس وتستند إليه وتحمل عليه ، من قبيل الوصف بحال المتعلق.

وهذا بخلاف ما إذا لم يكن هناك واسطة في العروض ، سواء لم يكن هناك واسطة أصلا ـ كادراك الكليات بالنسبة إلى الانسان ، فان ادراك الكليات من لوازم ذات الانسان وهويته ، ويعرض على الانسان بلا توسيط شيء أصلا ، وليس ادراك الكليات فصلا للانسان ، بل الفصل هو الصورة النوعية التي يكون بها الانسان انسانا ، ومن لوازم ذلك ادراك الكليات ، الا انه لازم نفس الذات بلا واسطة ـ أو كان هناك واسطة الا انها لم تكن واسطة في العروض ، بل كانت واسطة في الثبوت ، سواء كانت تلك الواسطة منتزعة عن مقام الذات ، كالتعجب العارض للانسان بواسطة ادراكه الكليات الذي هو منتزع عن مقام الذات ، حيث كان ذات الانسان يقتضى الادراك كما عرفت ، أو كانت الواسطة أمرا خارجا عما يقتضيه الذات كالحرارة العارضة للماء بواسطة مجاورة النار.

والسر في تفسير العرض الذاتي بذلك ، أي بان لايكون هناك واسطة في العروض ، مع أن هذا خلاف ما قيل في معنى العرض الذاتي : من أن العرض الذاتي

٢٠