تسهيل السبيل بالحجّة

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]

تسهيل السبيل بالحجّة

المؤلف:

محمّد بن المرتضى [ الفيض الكاشاني ]


المحقق: حامد الخفّاف
الموضوع : الأخلاق
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٥

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

لا يختلف اثنان في أنّ ما قدّمه السيد ابن طاوس رضوان اللّه عليه من تراث خالد ـ عبر تصانيفه القيّمة ـ يعدّ من مفاخر التراث الإسلامي ، إذا أخذنا بنظر الاعتبار خصوصيّة ما خلّفه من أثر دعائيّ وعرفانيّ وأخلاقيّ يصل القمة في كثير من مراحله ، بالإضافة إلى ما كان يتمتع به من يراعة سيالة وأسلوب متين يمكن اعتباره منهجا خاصا في التأليف تميّزت به تصانيفه قدس سره .

وكتاب « كشف المحجة لثمرة المهجة » مجموعة وصايا من السيد ابن طاوس رحمه اللّه إلى ولده محمد ضمّنها من نوادر العظات وفوائد المقالات ما لا يستغنى عنه ، وكأنّه يعبّد طريق المعرفة بأبسط بيان ، ويفتح له أبواب السلوك بمقال العرفان .

يقول السيد ابن طاوس عن كتابه هذا : « فإنّ له في هذه الرسالة على ما يدل المصحف الشريف عليه ، في معرفة صاحب الجلالة والمؤيد بالرسالة وما يريد منه ، وله السعادة الباهرة وحفظ النعم الباطنة والظاهرة ، وأخصّه في هذا الكتاب بما يكون كالسيف الذي يدفع به أعداء مولاه ، الذين يريدون أن يشغلوه عن رضاه ، وبما يكون كالخاتم الذي يختم به أفواه قدرة الناطقين بالشواغل عن معاده ، ويختم به على جوارحه أن تسعى في غير مراده ، وبما يكون منها كالخلع التي خلعها اللّه جلّ جلاله على مهجتي ليسلمني بها من الحرّ والبرد ، ويصون بها ضرورتي ، فأوثره من الخلع الشريفة والملابس المنيفة التي خلعها اللّه جلّ جلاله على الألباب وجعلها جننا ودروعا واقية من العذاب والعار ، وجعل منها ألوية للملوك الركاب إلى دوام نعيم دار الثواب ، ومن خلع السرائر والخواطر والقلوب ما يبقي جمالها عليه مع فناء ملبس مسلوب » (١) .

وقال المحقق الفيض قدّس سرّه في مقدمة كتابه « تسهيل السبيل » : « هذا منتخب من

______

( ١ ) كشف المحجة : ٦ .

١

كتاب كشف المحجة لثمرة المهجة من مصنّفات السيّد الإمام العالم الفقيه الكامل الزاهد العابد الورع المجاهد رضيّ الدين جمال العارفين أفضل السادة أبي القاسم علي بن موسى بن جعفر ابن محمد الطاوس العلويّ الفاطميّ الحسينيّ الداوديّ السليمانيّ طاب ثراه ، الذي وصى به أكبر أولاده محمدا رحمه اللّه ، وذكر فيه ما لا يكاد يوجد في كتاب آخر من مصنّفات أصحابنا العلماء رضوان اللّه عليهم من طرق تحصيل العلم والعمل » (١) .

ومن خلال ما تقدّم نرى من الطبيعي أن يكون كتاب « كشف المحجّة » محطّ رحال العلماء ، وموضع تأمّلهم ، لا سيّما الحكيم المتألّه المحدّث الفيض رضوان اللّه عليه ، الذي تناوله بالاختصار والانتخاب ، والشرح والتعليق ، يقول قدس سره بعد كلامه عن كتاب كشف المحجة : « أوردت فرائده المبتكرة وأبقيت فوائده المشهرة ، وأيّدت بعضه بتأييدات ، وأضفت إليها تنبيهات ، وجعلته في فنّين وفصول ، وسمّيته : ( تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجّة لثمرة المهجة ) واللّه يهدي السبيل وهو يلهم الحجة » (٢) .

وعنونه الشيخ الطهراني في الذريعة قائلا : « تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة » في تسع مائة بيت ، للمولى المحقق الفيض الكاشاني ، المتوفى ١٠٩١ ه ، فرغ منه سنة ١٠٤٠ ه » (٣) ، وذكره ثانية بعنوان آخر قائلا : « منتخب كشف المحجة للمحقق الفيض ، اسمه تسهيل السبيل » (٤) .

وقال الشيخ يوسف البحراني في لؤلؤة البحرين ـ بعد ترجمته للفيض ـ : « له تصانيف أفرد لها فهرسا على حدة ، ونحن ننقل ذلك عنه ملخصا : . . . تسهيل السبيل بالحجة في انتخاب كشف المحجة للسيد ابن طاوس العلويّ ، يقرب من تسع مائة بيت ، في سنة أربعين بعد الألف » (٥) .

ويمكننا القول أنّ رسالة « تسهيل السبيل » للمحقق الفيض قدّس سره ـ على صغر حجمها ـ ذات مداليل مهمّة لا يستهان بها ، بل ربّما تعتبر مادة قيّمة لدراسة موضوعية تتناول بعض جوانب حياة المحدّث الفيض ، منها مثلا :

١ ـ دراسة الخطوط المشتركة للمتبنّيات الفكرية بين السيد ابن طاوس والمحقق الفيض

______

( ١ ) تسهيل السبيل : ٩ .

( ٢ ) تسهيل السبيل : ٩ .

( ٣ ) الذريعة ٤ : ١٨٢ / ٩١٠ .

( ٤ ) الذريعة ٢٢ : ٤٢٣ / ٧٧١١ .

( ٥ ) لؤلؤة البحرين : ١٢٥ .

٢

على صعيد المواضيع التي تناولتها الرسالة ، التي ربما فتحت بابا عريضا يؤدي إلى المقارنة بين مؤلفات السيد ابن طاوس ومصنّفات الفيض .

٢ ـ من تأريخ ختم الرسالة الذي أشار إليه المصنف قدّس سره في أواخرها وهو ( ختم ) ، أي سنة ١٠٤٠ ه على حساب الجمّل ، نعرف أنّه ألّفها في مقتبل حياته العلمية ، وبالتالي فهي معلم واضح لقياس نسبة النهوض العلمي والنضوج الفكري في مصنّفاته رضوان اللّه عليه حتى أواخر حياته الشريفة .

١ ـ النسخة المحفوظة في خزانة المكتبة الرضوية برقم ( ٣٥٢١ ) ، كتبها ابن المرحوم محمد باقر محمد الشهر بيني في يوم الخميس الخامس من شهر ربيع الأول في سنة خمس وسبعين بعد الألف من الهجرة ، بخط النستعليق ، تقع في ٤٠ صفحة ، بطول ٢٣ وعرض ١٠ سم ، في كلّ صفحة ١٩ سطر تقريبا ، وقد رمزنا لها ب ( ر ) .

٢ ـ النسخة الحجرية المطبوعة مع كتاب تحف العقول سنة ١٣١١ ه ، والتي أشار إليها الشيخ الطهراني مرّتين في الذريعة ، وقد رمزنا لها ب ( ح ) .

اعتمدت في تحقيق هذه الرسالة طريقة التلفيق بين النسختين المذكورتين آنفا من أجل إثبات نصّ صحيح للكتاب بقدر الوسع ، متمسكين في ذلك بأحدث قواعد فنّ التحقيق ، وإليك سردا موجزا عن منهجية العمل التحقيقي في هذا الكتاب :

١ ـ مقابلة النسختين ، وإثبات نص صحيح ، مع الإشارة إلى موارد الاختلاف في حالات خاصة .

٢ ـ مقابلة متن كتاب « كشف المحجة » الوارد في هذه الرسالة مع أصل الكتاب المطبوع حروفيا .

٣ ـ تخريج الآيات القرآنية ، وضبطها بالشكل .

٤ ـ تخريج أحاديث الكتاب ، باستثناء ما نقله السيد ابن طاوس في كتابه كشف المحجة عن مصادر غير متوفرة لدينا .

٥ ـ كتابة ترجمة لبعض الأعلام دون غيرهم ، حسب ما رأيناه مهمّا ، كمؤمن الطاق والحمصيّ .

٦ ـ شرح الألفاظ اللغوية الصعبة .

٣

٧ ـ كل ما أثبتناه في المتن بين المعقوفتين [ ] من دون الإشارة له في الهامش ، فهو من كتاب كشف المحجة للسيد ابن طاوس .

٨ ـ نظرا لأهمية الفهرسة في تسهيل المطالب للمراجع ، تمّ صنع سبعة فهارس فنية للرسالة ارفقت في نهايتها .

وفي الختام نود أن نشير إلى أنّ مشاركة مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث في مؤتمر الفيض الكاشاني المنعقد بمناسبة مرور أربع مائة عام على ميلاده عبر تحقيق عدّة رسائل للمحقق الفيض قدّس سره ـ منها هذه الرسالة ـ يأتي من إيمانها العميق بالمنهجية الفكرية التي خطّتها لتحركها العلمي والثقافي ، وهو بعث روح العلم والثقافة التراثية في الأمّة من خلال إحياء تراث علمائها وقادتها ومفكريها ، الذين تغذّوا من مدرسة آل البيت عليهم السلام حبّ الخير والصلاح ، وارتشفوا من تراث أئمتهم عليهم السلام رحيق الحبّ والسعادة الأبدية ، واللّه الموفق للسداد ، إنّه نعم المولى ونعم النصير .

حامد الخفّاف ١ رجب ١٤٠٧ ه قم المشرفة

٤

الصفحة الأولى من النسخة المحفوظة في خزانة المكتبة الرضوية .

٥

الصفحة الأخيرة من النسخة المحفوظة في خزانة المكتبة الرضوية

٦

 [ خطبة ]

بسم اللّه الرحمن الرحيم

وبه نستعين الحمد للّه الذي سهّل السبيل وأوضح الدليل ، وإن كان أكثر الناس عن المحجّة لفي تضليل ، والصلاة على محمد الذي هو خير هاد إلى خير مهديّ إليه بأحسن هداية في أسهل سبيل ، وعلى آله الهادين لامّته بأسهل تيسير وأيسر تسهيل .

أمّا بعد فيقول الفقير إلى اللّه محمد بن مرتضى المدعو بمحسن عفى اللّه عنه : هذا منتخب من كتاب كشف المحجّة لثمرة المهجة ، من مصنّفات السيد الإمام العالم العامل الفقيه الكامل الزاهد العابد الورع المجاهد رضي الدين ، جمال العارفين ، أفضل السادة أبي القاسم عليّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن الطاوس العلويّ الفاطميّ الحسني الداوديّ السليمانيّ طاب ثراه ، الذي وصّى به أكبر أولاده محمدا رحمه اللّه ، وذكر فيه ما لا يكاد يوجد في كتاب آخر من مصنّفات أصحابنا العلماء رضوان اللّه عليهم من طرق تحصيل فنّي العلم والعمل ، أوردت فرائده المبتكرة وأبقيت فوائده المشتهرة ، وأيّدت بعضه بتأييدات ، وأضفت إليها تنبيهات ، وجعلته في فنّين وفصول ، وسميته « تسهيل السبيل بالحجّة في انتخاب كشف المحجة لثمرة المهجة » واللّه يهدي السبيل وهو يلهم الحجة .

قال السيد رحمه اللّه : « اعلم يا ولدي محمد وجميع ذريّتي وذوي مودّتي أنّني وجدت كثيرا ممّن رأيته وسمعت به من علماء الإسلام قد ضيّقوا على الأنام ما كان سهّله اللّه جلّ جلاله ورسوله صلّى اللّه عليه وآله من معرفة مولاهم ومالك دنياهم وأخراهم ، فإنّك تجد كتب اللّه جلّ جلاله السالفة والقرآن الشريف مملوءة من التنبيهات على الدلالة (١) على معرفة محدث الحادثات

______

( ١ ) ـ في كشف المحجّة : الدلالات .

٧

ومغيّر المتغيّرات ومقلّب الأوقات ، وترى علوم سيدنا خاتم الأنبياء وعلوم من سلف من الأنبياء صلوات اللّه عليه وعليهم على سبيل كتب اللّه جلّ جلاله المنزلة عليهم في التنبيه اللطيف والتشريف بالتكليف ، ومضى على ذلك الصدر الأول من علماء المسلمين إلى أواخر أيام من كان ظاهرا من الأئمة المعصومين صلوات اللّه عليهم أجمعين ، فإنّك تجد من نفسك بغير إشكال أنّك لم تخلق جسدك ولا روحك ولا حياتك ولا عقلك ولا ما خرج من اختيارك من الآمال والأحوال والآجال ، ولا خلق ذلك أبوك ولا أمّك ولا من تقلّبت بينهم من الآباء والامّهات ، لأنّك تعلم يقينا أنّهم كانوا عاجزين عن هذه المقامات ، ولو كان لهم قدرة على تلك المهمّات ما كان قد حيل بينهم وبين المرادات وصاروا من الأموات ، فلم يبق مندوحة أبدا عن واحد منزّه عن إمكان المتجددات خلق هذه الموجودات ، وإنّما تحتاج إلى أن تعلم ما هو عليه جلّ جلاله من الصفات .

ولأجل شهادة العقول الصريحة والأفهام الصحيحة بالتصديق بالصانع أطبقوا جميعا على فاطر وخالق ، وإنّما اختلفوا في ماهيّته وحقيقة ذاته وفي صفاته بحسب اختلاف الطرائق » (١) .

أقول : ولأجل ذلك أيضا ترى الناس عند الوقوع في الأهوال وصعاب الأحوال يتوكّلون بحسب الجبلّة على اللّه ، ويتوجهون توجّها غريزيّا إلى مسبّب الأسباب ومسهّل الأمور الصعاب وإن لم يتفطّنوا لذلك ، قال اللّه تعالى : « وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ » (٢) ، وقال عزّ وجلّ : « قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ » (٣) .

وفي « تفسير مولانا العسكري عليه السلام » : « أنّه سئل الصادق عليه السلام عن اللّه تعالى ، فقال للسائل : يا عبد اللّه ، هل ركبت سفينة قط ؟ قال : بلى ، قال : فهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك ولا سباحة تغنيك ؟ قال : بلى ، قال : فهل تعلّق قلبك هناك أنّ شيئا من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ قال : بلى ، قال الصادق عليه السلام : فذلك الشيء هو اللّه القادر على الإنجاء حين لا منجي ، وعلى الإغاثة حين لا مغيث » (٤) .

قال السيّد رحمه اللّه : « وإنّني وجدت قد جعل اللّه جل جلاله في جملتي حكما أدركته

______

( ١ ) ـ كشف المحجّة : ٧ .

( ٢ ) ـ لقمان ٣١ : ٢٥ .

( ٣ ) ـ الأنعام ٦ : ٤٠ ـ ٤١ .

( ٤ ) ـ تفسير الإمام العسكري عليه السلام : ٧ ، معاني الأخبار : ٤ / ٢ .

٨

عقول العقلاء ، فجعلني من جواهر وأعراض وعقل روحاني ونفس وروح ، فلو سألت بلسان الحال الجواهر التي في صورتي : هل كان لها نصيب في خلقي وفطرتي ؟ لوجدتها تشهد بالعجز والافتقار ، وأنّها لو كانت قادرة على هذا المقدار ما اختلفت عليها الحادثات والتغيّرات والتقلّبات ، ووجدتها معترفة أنّها ما كان لها حديث (١) في تلك التدبيرات ، وأنّها ما تعلم كيفية ما فيها من التركيبات ، ولا عدد ولا وزن ما جمع فيها من المفردات .

ولو سألت بلسان الحال الأعراض ، لقالت : أنا أضعف من الجواهر لأنّني فرع عليها ، فأنا أفقر منها لحاجتي إليها .

ولو سألت بلسان الحال عقلي وروحي ونفسي ، لقالوا جميعا : أنت تعلم أنّ الضعف يدخل على بعضنا بالنسيان وبعضنا بالموت وبعضنا بالذلّ والهوان ، وأنّنا تحت حكم غيرنا ممّن يقلّبنا كما يريد من نقص إلى تمام ومن تمام إلى نقصان ، ويقلبنا كما يشاء مع تقلّبات الأزمان .

فإذا رأيت تحقيق هذا من لسان الحال ، وعرفت تساوي الجواهر والأعراض ، وتساوي معنى العقول والأرواح والنفوس في سائر الموجودات والأشكال ، تحقّقت أنّ لها جميعا فاطرا وخالقا منزّها عن عجزنا وافتقارنا وتغيراتنا وانتقالاتنا وتقلّباتنا ، ولو دخل عليه نقصان في كمال أو زوال كان محتاجا ومفتقرا مثلنا إلى غيره بغير إشكال ، وقد تضمّن ما ذكرت لك كتاب اللّه جلّ جلاله وكتبه التي وصلت إلينا وكلام رسول ربّ العالمين وكلام أبيك أمير المؤمنين وكلام عترتهما الطاهرين من التنبيه على دلائل معرفة اللّه جلّ جلاله بما في بعضها كفاية لذوي الألباب وهداية إلى أبواب الصواب .

فانظر في كتاب « نهج البلاغة » وما فيه من الأسرار ، وانظر « كتاب المفضل بن عمر » الذي أملاه عليه مولانا الصادق عليه السلام فيما خلق اللّه جلّ جلاله من الآثار ، وانظر « كتاب الإهليلجة » وما فيه من الاعتبار ، فإن الاعتناء ( بقول سابق ) (٢) الأنبياء والأوصياء والأولياء عليهم أفضل السلام موافق لفطرة العقول والأحلام .

قال السيّد رحمه اللّه : وإيّاك وما عقدت المعتزلة ومن تابعهم على طريقتهم البعيدة من اليقين ، فإنّني اعتبرتها (٣) فوجدتها كثيرة الاحتمال لشبهات المعترضين ، إلّا قليل منها سلكه أهل الدين .

______

( ١ ) ـ في كشف المحجّة زيادة : يفترى .

( ٢ ) ـ في « ر » و « ح » : بسابق ، وما أثبتناه من كشف المحجّة .

( ٣ ) ـ في كشف المحجّة : قرأتها .

٩

وبيان ذلك : أنّك تجد ابن آدم إذا كان له من نحو سبع سنين وإلى قبل بلوغه إلى مقام المكلّفين لو كان جالسا مع جماعة فالتفت إلى ورائه فجعل واحد منهم بين يديه شيئا مأكولا أو غيره من الأشياء ، فإنّه إذا رآه سبق إلى تصوره والهامة أنّ ذلك المأكول أو غيره ما حضر بذاته وإنّما أحضره غيره ، ويعلم ذلك على غاية عظيمة من التحقيق والكشف والضياء والجلاء .

ثم إذا التفت مرة أخرى إلى ورائه فأخذ بعض الحاضرين ذلك من بين يديه ، فإنّه إذا عاد والتفت إليه ولم يره موجودا فلا يشكّ أنّه أخذه أحد ، ولو حلف له كلّ من حضر أنّه حضر ذلك الطعام بذاته وذهب بذاته كذّب الحالف وردّ عليه دعواه .

فهذا يدلّك على أنّ فطرة ابن آدم ملهمة معلّمة من اللّه جلّ جلاله بأنّ الأثر ذاك دلّ دلالة بديهيّة على مؤثّره بغير ارتياب ، والحادث دالّ على محدثه بدون حكم [ اولي ] الألباب ، فكيف جاز أن يعدل ذوو البصائر عن هذا التنبيه الباهر القاهر عند كمال العقول إلى أن يقولوا للإنسان الكثير الغفول ـ وقد علموا أنّه قد نشأ في بلاد الإسلام ، ورسخ في قلبه حب المنشأ لدين محمّد صلّى اللّه عليه وآله ، وأنس بسماع المعجزات والشرائع والأحكام ، وصار ذلك له عادة ثابتة قوية معاضدة لفطرته الأزلية ـ : أنّك مالك طريق إلى معرفة المؤثر والصانع الذي قد كان عرفه معرفة مجملة بأثره قبل إرشاده إلّا بنظره في الجوهر والجسم والعرض ، وتركيب ذلك على وجوه يضعف عنها كثير من اجتهاده .

ثمّ إنّ أستاذه أو الذي يقول له هذا القول معتقد لدين المسلمين ، ويدّعي أنّه من العلماء والمعلمين ، وهو يجد في القرآن الشريف :

« فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها » (١) هل ترى يا ولدي محمّد أنّه يجوز لمسلم أن ( يطعن بعد هذه ) (٢) الدلالة المشار إليها ويسترها عمّن هو محتاج إلى التنبيه عليها ويعلم من ولد على الفطرة ولا يعرّفه المنة عليه في تلك الهداية التي منّ اللّه عليها (٣) ، ثمّ هو يتلو أو يسمع أو يعلم أن اللّه جلّ جلاله يقول لسيد المرسلين : « يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » (٤) وقال اللّه جلّ جلاله : « وَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً » (٥) فهل ترى يا ولدي المعرفة باللّه إلّا من اللّه وباللّه ، وأنّه جلّ جلاله هو الذي هدى للإيمان

______

( ١ ) ـ الروم ٣٠ : ٣٠

( ٢ ) ـ كذا في النسخ ، والظاهر أن الصواب : يضن بهذه .

( ٣ ) ـ كذا ، والظاهران الصواب : بها عليه .

( ٤ ) ـ الحجرات ٤٩ : ١٧ .

( ٥ ) ـ النور ٢٤ : ٢١ .

١٠

بمقتضى القرآن ، وأنّه هو صاحب المنّة في التعريف وأنّه لولا فضله ورحمته ما زكى من أحد في تكليف .

قال : وممّا يدلّك يا ولدي إلى أنّ المعرفة محكوم بحصولها للإنسان بدون ما ذكره أصحاب اللسان أنّهم لو عرفوا من مكلّف ولد على الفطرة حرّ عاقل عقيب بلوغ رشده بأحد أسباب الرشاد ، أنّه قد ارتدّ بردّة يحكم فيها ظاهر الشرع بأحكام الارتداد ، أشاروا بقتله وقالوا :

قد ارتدّ عن فطرة الإسلام ، وتقلّدوا إباحة دمه وماله ، وشهدوا أنّه كفر بعد إسلامه.

فلو لا أنّ العقول قاضية بالاكتفاء والغناء بإيمان الفطرة دون ما ذكروه من طول الفكرة ، كيف كان يحكم على هذا بالردّة ؟ وقد عرفوا أنّه ما يعلم حقيقة من حقائقهم ، ولا سلك طريقا من طرائقهم ، ولا تردّد إلى معلم من علماء المسلمين ، ولا فهم شيئا من ألفاظ المتكلمين ، ولو اعتذر إليهم عن معرفة الدليل بالأعذار التي أوجبوها عليه من النظر الطويل ما قبلوها منه ، ونقضوا ما كانوا أوجبوه وخرجوا عنه .

وكيف كان اللّه جلّ جلاله مبيح دمه وماله وما أحسن به إليه ، وما مضى عليه من الزمان بعد بلوغ رشاده ما يكفيه لتعلّمه من أستاذه ، ومن ملازمته وتردده ، واللّه جلّ جلاله أرحم من الخلق كلّهم بعباده ، وما أباح دمه إلّا وقد اكتفى منه بما فطره عليه وبما يسعه بأقلّ زمان بعد رشاده لاعتقاده .

قال : ومما يدلّك يا ولدي على أنّ القوم يتوافقون ، وإنّما يقولون قولا ما أعلم عذرهم فيما يقولون أنّنا رأينا وسمعنا وعرفنا عنهم إذا بقوا بعد البلوغ والتكليف مدة من أعمارهم على الفطرة الأزليّة والمعرفة الصادرة عن التنبيهات العقليّة والنقليّة ، ثمّ اشتغلوا بعد مدة طويلة بعلم الكلام ، وبما تجدّد بعد الصدر الأول من قواعدهم في الإسلام ، وعلموا منه ما لم يكونوا يعلمونه ، فإنّا نراهم أو نعلم من حالهم أنّهم لا يبطلون شيئا من تكليفهم الأول بالشرعيات ولا ينقضونه ، فلو كانت معرفتهم باللّه جلّ جلاله ما صحّت لهم إلّا بنظرهم الآنف كان مقتضى جهلهم باللّه مع تفريطهم الأول في معرفته مع إظهارهم لشعار الإسلام يلزم منه قضاء ما عملوا من التكليف السالف .

قال : ومما يدلّك يا ولدي [ على ] أنّ معرفة اللّه جلّ جلاله من جوده لتطلبها من باب الزيادة عليه مع وفوده أنّك تجد أكثر العارفين لا يعرفون وقت معرفتهم به جلّ جلاله ، ولا يوم ذلك ، ولا ليله ولا شهره ولا سنته ، ولو كان بمجرد كسبهم ونظرهم قد عرفوه لكان وقت ذلك أو ما قاربه قد فهموه ، لأنّك تجد العقل شاهدا أنّ من عرف سلطانا عظيما بعد أن كان جاهلا

١١

بمعرفته ، وكان وجه التعريف من جهة لا يدركها الإنسان باجتهاده وهمّته فإنّه يعرف وقت المعرفة بذلك السلطان أو ما قارب ذلك الزمان ، وإنّما اللّه جلّ جلاله يسلك بالعبد الضعيف إلى التعريف تسليكا يقصر فهمه عنه ، فلذلك لا يعرف وقت المعرفة ولا ما قرب منه .

قال : واعلم أنّ قولي هذا هو ممّا أقصد به أنّ النظر في الجواهر والأجسام والأعراض لا يجوز أو أنّه ما هو طريق إلى المعرفة على بعض الوجوه والأغراض ، بل هو من جملة الطرق البعيدة والمسالك الخطيرة الشديدة التي لا يؤمن معها ما يخرج بالكلية منها .

وقد كان لنا صديق فاضل من المتعلّمين بعلم الكلام ـ رحمه اللّه ورضي عنه ـ يحضر عندنا ونحدّثه ونعرّفه أنّ طرق المعرفة باللّه جلّ جلاله بحسب معلوماته ومقدوراته على الأنام ولا ينحصر عددها بالافهام ، فتعجّب لأجل ما قد ألفه من أنّ معرفة اللّه جلّ جلاله لا طريق إليها إلّا بنظر العبد .

فقلت له يوما : ما تقول في عيسى بن مريم عليهما السلام لما قال في المهد : « إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا » (١) كانت معرفته باللّه جلّ جلاله في مهده بنظره ؟ فتحيّر وعجز عن الجواب .

وقلت له يوما : ما تقول في الناظر في معرفة اللّه جلّ جلاله أما يكون في أول نظره شاكا في اللّه جلّ جلاله ؟

قال : بلى .

قلت : أفتقول أنّ النبي محمدا ووصيّه عليا عليهما السلام مضى عليهما زمان شكّ في اللّه جل جلاله ؟

فقال : غلبتني ما أقدر أقول هذا ، وهو خلاف المعلوم من حالهما .

فقلت له : وأقول زيادة ، هب أنّك توقفت عن موافقتي لأجل اتباع عادتك أما تعلم أنّ العقل ـ الذي هو النور الكاشف عن المعارف ـ ما هو من كسبك ولا من قدرتك ، وأنّ الآثار التي تنظر فيها ما هي من نظرتك ، وأنّ العين التي تنظر بها ما هي من خلقتك ، وأنّ البقاء الذي تسعى فيه لنظرك وكلّ ما أعانك على تفكرك (٢) ما هو من تدبيرك ولا من مقدورك ، وأنّه من اللّه جلّ جلاله .

قال : بلى ، ثمّ قال : ولكن متى قلت أنّ المعرفة باللّه جلّ جلاله لا تكون بنظر العبد ما يبقى له

______

( ١ ) ـ مريم ١٩ : ٣٠ .

( ٢ ) ـ في « ح » وكشف المحجة : نظرك .

١٢

عليها ثواب .

فقلت : وإذا كانت المعرفة باللّه جلّ جلاله بنظر العبد فيلزم عليها أيضا أنّه لا ثواب عليها ، فاستعظم ذلك وقال : كيف قلت ؟

فقلت ما معناه : لأنّك قبل أن تعرفه وشرعت تنظر في المعرفة بنظرك في الجواهر والأجسام والأعراض ، ما تدري نظرك هل يفضي إلى الإقبال على تصديق المعرفة ، أو الإدبار عنها أو الإعراض ، فلا تكون قاصدا بنظرك التقرّب إلى اللّه جلّ جلاله لأنّك ما تعرفه (١) ، وإنّما تعرفه على قولك في آخر جزء من أجزاء نظرك ، وقد فات نظرك كلّه بغير معرفة وغير ثواب ، فانقطع عن الجواب .

وقلت له : إنّ المعرفة باللّه جلّ جلاله سواء كانت من اللّه جلّ جلاله أو من العبد أو منهما ، فإنّما يكون الثواب على استمرار العبد عليها ، ولزوم ما يراد منه بها ولها .

وقد كان ينبغي يا ولدي محمد إذا أراد العالم باللّه جلّ جلاله وبرسوله صلّى اللّه عليه وآله وبالأئمة من عترته وبشريعته أن يعرّف المبتدي ممّن ولد على فطرة الإسلام ما يقوّي عنده ما في فطرته ، ويوثقه بكرم (٢) اللّه جلّ جلاله ورحمته ، وتعلّق أمله بفضله ، ويدخله تحت ظلّه ، يقول له : قد عرفت محققا قبل بلوغك وبعد بلوغك أنّك عالم ببديهيات ، وعالم بكليات وجزئيات ما سعيت في تحصيلها ، ولا عرفت كيف كان تدبير اللّه جلّ جلاله في وصولها إلى عقلك وقلبك وحلولها ، ولا ساعة ورودها على سرائرك ولا بأيّ الطرق سلك اللّه جلّ جلاله بها إلى ضمائرك ، فكن واثقا بذلك الواهب ، وعلّق آمالك وسؤالك به في طلب المواهب ، وقل له : يا من أنعم عليّ بنور العقل قبل سؤاله ، وابتدأني بنواله وأفضاله ، هب لي مع السؤال والوفادة بالآمال ما تريد منيّ من معرفتك ولزوم حرمتك ، وشرّفني بمراقبتك ، وعرّفني أنّ ذلك صادر عن ابتدائك لي برحمتك ونعمتك ، حتى أنهض بك إليك ، وأقف بك بين يديك ، وأقبل بك عليك ، وأقدم بك إليك (٣) » (٤) .

ثمّ قال رحمه اللّه : « واعلم يا ولدي محمد ومن يقف على هذا الكتاب ، أنّني ما قلت هذا جهلا بعلم الكلام وما فيه من السؤال والجواب بل قد عرفت ما كنت محتاجا (٥) إلى معرفته

______

( ١ ) ـ في « ح » : لا تعرفه .

( ٢ ) ـ في « ر » من كرم .

( ٣ ) ـ في « ر » : عليك .

( ٤ ) ـ كشف المحجة : ٨ ـ ١٥ .

( ٥ ) ـ في « ر » : أحتاج .

١٣

منه ، وقرأت منه كتبا ، ثمّ رأيت ما أغنى عنه ، وقد ذكرت في خطبة كتاب « البهجة لثمرة المهجة » كيف اشتغلت فيه وعلى من اشتغلت في معانيه ، وما الذي صرفني عن ضياع عمري في موافقة طالبيه ، ولكن اعرف يا ولدي انّ المبتدي إذا قال له الأستاذ : لا طريق لك إلى معرفة اللّه إلّا بنظرك في الجوهر والجسم والعرض ـ كما كنّا أشرنا إليه ـ وأنّ حدوث الجسم لا يثبت إلّا بالحركة والسكون ، فإنّ المبتدئ أيضا ما يفهم بفطرته زيادة هذه الأعراض على الأجسام ، ولا له دربة بهذا الكلام ولا يرى بعين رأسه وإحساسه زيادة الحركة والسكون على الجسم المنتقل في الجهات ، إلّا بأن يتعب في إنفاق كثير من الأوقات في تصوّر حد الجسم ، وتصور العرض وتحقيق زيادته على الأجسام ، وحفظ ما يتعلق بذلك كلّه من معنى وكلام .

وربما وجدت الأستاذ عاجزا في حدود هذه المعاني المذكورة غير أن يعبر بألفاظها المعهودة المذخورة حتى يكاد أن يقلّد قائلها وناقلها ، ويحتجّ بأنّها قول فلان وفلان وقولهم كالحجّة في معانيها ، ثمّ إذا فهم من أستاذه زيادة الحركة على الأجسام فإنّه ما يكاد يفهم زيادة السكون على الجسم في ظاهر أوائل الأفهام ، ولا يدرك على التعجيل من أن يلزم من حدوث الحركة والسكون حدوث الجسم العريض الطويل العميق ، فلا يزال غالب حاله يخبط خبط عشواء في أدلّتهم ومعارضتها بشبهات احتمالات الأهواء ، حتى يتمخّض اجتهاده عن رجحان ظن أو اعتقاد ضعيف ، ومتى عرض له طعن قوي أعاده ذلك الطعن إلى الاستدلال والتكشيف ، فتراه متردّدا في العقائد بين ساكن وعائد ، إلى أن يموت لعلّه يجوز حدوث القوادح وقد كان [ له ] (١) قبل ذلك التعليم ـ لسكونه إلى معرفة اللّه (٢) جملة ـ سكون اعتقاد قوي راجح ، وكان آمنا كما صار لا يأمن من تجدّد المطاعن والمعارضات والقوادح .

قال رحمه اللّه : وممّا ينبّهك يا ولدي على ما ذكرت بالعقل من طريق النقل عن سلفك الطاهرين أئمة الفضل ، ما رويته من « كتاب أبي محمد عبد اللّه بن حماد الأنصاريّ » من أصحاب مولانا الكاظم عليه السلام ، ونقلته من أصل قري على الشيخ الصدوق ، الذي ذكر جدك أبو جعفر الطوسي أنّه لم يكن له نظير في زمانه ، وهو هارون بن موسى التلعكبري تغمّده اللّه جلّ جلاله برضوانه ، تاريخه سنة ستّ وسبعين وثلاثمائة ، وهو أستاذ الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان ضاعف اللّه جلّ جلاله لهما تحف الرضوان ، أروي كلّ ما رواه بعدّة طرق ، منها : من أصل « كتاب عبد اللّه بن حماد » المشار إليه ما هذا لفظه :

______

( ١ ) ـ أثبتناه ليستقيم السياق .

( ٢ ) ـ في كشف المحجة : المؤثر

١٤

عن عبد اللّه بن سنان قال : أردت الدخول على أبي عبد اللّه عليه السلام ، فقال لي مؤمن الطاق (١) : استأذن لي على أبي عبد اللّه عليه السلام فقلت : نعم ، فدخلت عليه فأعلمته مكانه ، فقال : « لا تأذن له عليّ » فقلت : جعلت فداك تعلم انقطاعه إليكم وولاءه لكم وجداله فيكم ، ولا يقدر أحد من خلق اللّه أن يخصمه ، فقال : « بل يخصمه صبيّ من صبيان الكتّاب » فقلت :

جعلت فداك هو أجدل (٢) من ذلك ، وقد خاصم جميع أهل الأديان فخصمهم ، فكيف يخصمه غلام من الغلمان وصبيّ من الصبيان ؟ فقال : « يقول له الصبي : أخبرني عن إمامك ، أمرك أن تخاصم الناس ؟ فلا يقدر أن يكذب عليّ ، فيقول : لا ، فيقول له : فأنت تخاصم الناس من غير أن يأمرك إمامك (٣) فأنت عاص له ، فيخصمه .

يا بن سنان لا تأذن له عليّ ، فإنّ الكلام والخصومات تفسد النيّة وتمحق الدين » .

ومن الكتاب المذكور : عن عاصم الحنّاط ، عن أبي عبيدة الحذّاء ، قال : قال لي أبو جعفر عليه السلام ـ وأنا عنده ـ : إيّاك وأصحاب الكلام والخصومات ومجالستهم ، فإنّهم تركوا ما أمروا بعلمه ، وتكلّفوا ما لم يؤمروا بعلمه ، حتى تكلّفوا علم السماء .

يا أبا عبيدة ، إنّا لا نعدّ الرجل فقيها عالما حتى يعرف لحن القول ، وهو قول اللّه تعالى :

« وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ » (٤) .

ووجدت في « كتاب عبد اللّه بن حماد الأنصاريّ » في النسخة المقروّة على هارون بن موسى التلعكبري رحمه اللّه ما هذا لفظه :

عن جميل بن درّاج قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : « متكلّمو هذه العصابة من شرارهم » (٥) .

ويحتمل أن يكون المراد بهذا الحديث ـ يا ولدي ـ المتكلّمين الذين يطلبون بكلامهم وعلمهم ما لا يرضاه اللّه جلّ جلاله ، أو يكونون ممّن يشغلهم الاشتغال بعلم الكلام عمّا هو

______

( ١ ) ـ أبو جعفر محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي مولى الأحوال ، كوفي صيرفي ، كان شيعيا ثقة ، متكلما حاذقا حاضر الجواب ، يلقب « مؤمن الطاق » و « صاحب الطاق » و « الطاقي » وهي نسبة إلى سوق في طاق المحامل بالكوفة كان يجلس للصرف بها ، روى عن علي بن الحسين وأبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهم السلام ، انظر « رجال النجاشي : ٣٢٥ / ٨٨٦ ، رجال الشيخ : ٣٠٢ / ٣٥٥ ، لسان الميزان ٥ : ٣٠٠ / ١٠١٧ ، الكنى والألقاب ٢ : ٣٩٨ » .

( ٢ ) ـ في كشف المحجة : أجل .

( ٣ ) ـ ليس في « ر » .

( ٤ ) ـ محمد ٤٧ : ٣٠ .

( ٥ ) ـ في « ر » : من شرار من هم منهم .

١٥

أوجب عليهم من فرائض اللّه جلّ جلاله ، ولقد رأيت في عمري ممّن ينسب إلى علم الكلام وقد أعقبهم ذلك العلم شكوكا في مهمّات من الإسلام .

وممّا يؤكد تصديق الروايات بالتحذير من علم الكلام وما فيه من الشبهات أنّني وجدت الشيخ العالم في علوم كثيرة القطب الراوندي ـ واسمه سعيد بن هبة اللّه ـ رحمه اللّه ـ قد صنّف كرّاسا وهي عندي الآن في الخلاف الذي تجدّد بين الشيخ المفيد والمرتضى رحمهما اللّه ، وكانا من أعظم أهل زمانهما ، وخاصة شيخنا المفيد ، فذكر في الكرّاس نحو خمس وتسعين مسألة قد وقع الخلاف بينهما فيها في علم الأصول ، وقال في آخرها : « لو استوفيت ما اختلفا فيه لطال الكتاب » وهذا يدلّك على أنّه طريق بعيد في معرفة ربّ الأرباب » (١) .

أقول : وممّا يزيد ذلك تأكيدا التعليقات التي كتبها الشيخ المفيد رحمه اللّه على إعتقادات الصدوق أبي جعفر بن بابويه طاب ثراه ، فإنّه خالفه فيها في كثير من العقائد الدينية وطعن فيه لأجلها ، وبالغ في ذلك (٢) .

وممّا يدلّ على مذمّة الكلام ، ما قاله أمير المؤمنين علي عليه السلام : « من طلب الدين بالجدل نزندق » (٣) .

وقال الصادق عليه السلام : « يهلك أصحاب الكلام وينجو المسلّمون ، إنّ المسلّمين هم النجباء » (٤) .

وعن محمد بن عيسى قال : قرأت في كتاب عليّ بن هلال (٥) أنّه سأل (٦) الرجل ـ يعني أبا الحسن عليه السلام ـ [ أنّه روي عن آبائك عليهم السلام ] (٧) أنّهم نهوا عن الكلام في الدين ، فتأوّل مواليك المتكلّمون بأنّه إنّما نهي من لا يحسن أن يتكلّم فيه ، فأمّا من يحسن أن يتكلّم فيه

______

( ١ ) ـ كشف المحجّة : ١٦ ـ ٢٠ .

( ٢ ) ـ انظر على سبيل المثال ص ٢٧ و ٣٤ و ٣٩ و ٥٩ و ٦٣ من كتاب تصحيح الاعتقاد بصواب الانتقاد .

( ٣ ) ـ رواه الشيخ الصدوق في الاعتقادات : ٧٤ ، ونقله المصنف في المحجة البيضاء ١ : ١٠٧ .

( ٤ ) ـ رواه الصفار في بصائر الدرجات : ٥٢١ / ٤ ، والصدوق في التوحيد : ٤٥٨ / ٢٢ ، وأخرجه المجلسي في بحار الأنوار ٢ .

١٣٢ / ٢٢ .

( ٥ ) ـ كذا في « ر » و « ح » ، وفي توحيد الصدوق : علي بن بلال ، والظاهر هو الصواب ، وهو علي بن بلال البغدادي ، انتقل إلى واسط ، روى عن أبي الحسن الثالث وله كتاب ، وثقه الشيخ وعدّه في رجاله من أصحاب الرضا والجواد والهادي والعسكري عليهم السلام ، انظر « رجال النجاشي : ٢٧٨ / ٧٣٠ ، رجال الطوسي : ٤٠٤ / ١٧ و ٤١٧ / ٦ و ٤٣٢ / ٤ ، رجال الكشي :

٥١٢ / ٩٩١ ، معجم رجال الحديث ١١ : ٢٨١ » .

( ٦ ) ـ في « ر » و « ح » والمحجّة البيضاء زيادة : عن ، وما في المتن موافق لتوحيد الصدوق .

( ٧ ) ـ ما بين المعقوفين أثبتناه من توحيد الصدوق .

١٦

فلم ينه ، فهل ذلك كما تأوّلوا أولا ؟ فكتب عليه السلام : « المحسن وغير المحسن لا يتكلّم فيه ، فإنّ إثمه أكبر من نفعه » (١) .

قال السيد رحمه اللّه : « إنّني وجدت مثال شيوخ المعتزلة ومثال الأنبياء عليهم السلام مثل رجل أراد أن يعرّف غيره أنّ في الدنيا نارا موجودة ، وذلك الرجل الذي يريد أن يعرف وجودها قد رأى النار في داره وفي البلاد ظاهرة كثيرة بين العباد ، وما يحتاج من رآها في (٢) المعرفة بها إلى نظر ولا اجتهاد ، فقال له : هذا يحتاج في معرفته إلى إحضار حجر النار وهو في طريق مكة ، لأنّه ليس كل حجر في باطنه نار ويحتاج إلى مقدحة ويحتاج إلى حراق (٣) ، وأن يكون الإنسان في موضع سليم من شدّة الهواء لئلّا يذهب بالحراق ويطفئ ما يخرج من الحجر من النار ، فاحتاج هذا المسكين إلى تحصيل هذه الآلات من عدّة جهات وبعدّة توسّلات ، ولو كان قد قال له من مبدأ الأمر : هذه النار الظاهرة بين العباد هي النار الكامنة في الحجر والشجر ، كان قد عرف وجود النيران على العيان والوجدان ، واستغنى عن ترتيب الدلالة (٤) وتحصيل البرهان .

وكلّ من عدل في التعريف عن الأمر المكشوف إلى الأمر الخفيّ اللطيف فهو حقيق أن يقال : قد أضلّ ولا يقال : قد هدى ولا قد أحسن فيما استدل .

قال : وكلّ عاقل يعلم فيما عاينه من زيادات الأجسام في الإنسان والشجر وكلّما يزداد عظما وكبرا بين الأنام مثل النطفة التي يصير منها إنسان ، ومثل النواة التي يكون منها نخلة عظيمة الشأن ، ومثل نوى الشجرة يصير منها شجرة كبيرة عظيمة الأغصان ، فكلّ عارف بها بالمشاهدة يعلم أنّ هذه الزيادات حادثات بالضرورة ، فكيف يعدل عن تعريف حدوثها بمثل هذا التحقيق إلى الحركة والسكون ، وهما عرضان غير مشاهدين ، ولا يعرف حقائقهما وما يلزم من حدوثهما إلّا بنظر دقيق ، وقطع عقبات قليلة التوفيق .

وإنّما كان يحتاج الإنسان مع ما يعرفه من حدوث الأجسام [ الظاهرة بالعيان الزائدة إلى ثبوت تماثل الأجسام ] ليعلم أنّ الذي حضر منها وغاب كلّه حادث بشهادة العقول والأفهام ، وذلك يعرف بأدنى تعريف ، وما يحتاج إلى التطويل في التكشيف ، لأنّ العقل شهد أن كلّ جسم مؤلّف ، وكلّ مؤلّف فإنّه لا بدّ أن يكون عريضا عميقا بحسب تأليفه ، ومتى خرجت حقيقة

______

( ١ ) ـ رواه الصدوق في التوحيد : ٤٥٩ / ٢٦ ، ونقله المصنف « قدّس سرّه » في المحجّة البيضاء ١ : ١٠٨ .

( ٢ ) ـ في كشف المحجّة : إلى .

( ٣ ) ـ الحرّاق والحراقة : ما تقع فيه النار عند القدح ، والعامة تقوله بالتشديد « الصحاح ـ حرق ـ ٤ : ١٤٥٨ » .

( ٤ ) ـ في كشف المحجّة : الآلات .

١٧

الأجسام عن حقيقة التأليف كانت غير أجسام ، ولم تدخل في اسم الجسم بعرف ولا عقل ولا شرع ولا بوصف ، ثمّ كلّ جسم محتاج إلى مكان يحلّ فيه ، ويكون المكان متقدّما عليه ـ كمّا قدّمناه ـ فالجسم بالضرورة متأخر عن المكان ، فهل يبقى شكّ في أنّ كلّ جسم حادث عند كلّ من له أدنى نظر يعتمد عليه ؟ ! فكان ثبوت حدوث الأجسام على هذا الوصف الواضح كافيا في الدلالة على أنّ لها مؤلّفا جلّ جلاله محدثا لها ومدبّرا لأمرها بحسب المصالح ، فأشار الأنبياء صلوات اللّه عليهم والكتب المنزلة عليهم إلى نحو هذه التنبيهات على هذه الدلالات الظاهرات ، فعدل شيوخ المعتزلة بالخلائق إلى غير تلك الطرائق (١) ، وضيّقوا عليهم سبيل الحقائق ، كما عدل من أراد تعريف حقيقة النار المعلومة بالاضطرار إلى استخراجها من الشجر والحراق والأحجار ، وهذا مثال يعرف أهل الإنصاف أنّه حق وصحيح ، وما يحتاج إلى زيادة استكشاف .

وكان مثالهم مع المتعلّم منهم ومثاله معهم أيضا كمثل إنسان كان بين يديه شمعة مضيئة إضاءة باهرة ، فأخذها أستاذه من بين يديه وأبعدها عنه مسافة بعيدة ، كثيرة الحوائل والموانع من النظر إلى تلك الشمعة التي كانت حاضرة [ عنده ] ، وقال له : تجهّز للسفر بالزاد والرفقاء والعدّة والأدلاء ، حتى تصل إلى معرفة تلك الشمعة ، وتنظر حقيقة ما هي عليه من الضياء ، فقبل ذلك الغير المتعرّف من ذلك الأستاذ المتكلّف ، وسافر مدّة من الأوقات ، فتارة يرى جبالا وعقبات فلا يظهر له من حقيقة (٢) الشمعة كثير ولا قليل ، وتارة يرى ضوءا فيقول : لعلّه ضوء تلك الشمعة ، ويستنجد بمساعدة الرفيق والدليل ، فإن عجز من تمام المسافة وقطع الطريق بما يرى فيها من العقبات في التطويل والتضييق ، هلك المسكين ورجع خاسرا للدنيا والدين .

فأوصيك يا ولدي ومن بلغه كتابي هذا ممّن يعلّم المسترشدين إلى معرفة ربّ العالمين أن يقوّي ما عندهم في الفطرة الأوليّة بالتنبيهات العقليّة والقرآنية والهدايات الإلهيّة والنبويّة ، ويقول للمسترشد : انما تحتاج إلى معرفة صفات هذا المؤثّر والصانع ، ويثبت صفاته عنده بأسهل ما يريد منه مولاه جلّ جلاله من تكليفه بتدبير صاحب الشرائع ، وتسليمه من القواطع ، ومن خسارة عمر ضائع .

ثمّ يسلك به سبيل معرفة النبوّة والإمامة على قاعدة تعريف النبيّ والأئمة صلوات اللّه عليهم ،

______

( ١ ) ـ في كشف المحجّة : الصراط .

( ٢ ) ـ في « ر » و « ح » : حديث ، وما أثبتناه من كشف المحجّة .

١٨

ومن سلك سبيلهم من أهل الاستقامة ، فهذا كان كافيا لمن يريد تحصيل السلامة وسعادة الدنيا ويوم القيامة .

وأمّا حفظ الألفاظ الحادثة بين المتكلّمين ، وما ذكروا أنّه صفات المتجادلين ، فهو شغل من فرغ من فروض اللّه جلّ جلاله المتعيّنة المتضيّقة عليه ، ويريد أن يخدم اللّه جلّ جلاله خالصا لوجهه بالردّ على أهل الضلال من الأمم الحائلة بين عباده تعالى جلّ جلاله وبين المعرفة [ به ] والوصول إليه ، ويكون حامل هذا العلم العريض العميق لازما سبيل التوفيق ، ويناظر مخالفيه مناظرة الرحيم الشفيق ، حتى يسلم من خطر الطريق ، وإلّا فهو هالك على التحقيق .

ثمّ قال : إنّني ما منعت من النظر ، بل النظر واجب على المكلّف في كل ما يجب عليه فيه نظره ممّا لا يدركه إلّا بالنظر والتكشيف .

فأقول : لو فرضنا أنّ عبدا من عباد اللّه تعالى ما جعل له في فطرته الأوليّة أنّ الأثر دالّ على مؤثره بالكليّة ، ولا نبّهه بعد بلوغه وكمال عقله على معرفته ، ولا على ما يجب عليه من المعارف بشيء من ابتداء فضله ورحمته ، فإنّه يجب على هذا العبد النظر فيما يجب عليه من التكليف ، والتوسل (١) في التعريف بكلّ طريق من طريق التحقيق ، وعلى كلّ وجه وسبيل من سبل التوفيق ، ومتى وصل إلى غاية هداه على صانع لوجوده فإياه أن يصرف هذا الناظر خاطره ، أو يخلي سرائره من الاعتماد على مراحم ومكارم صانعه وجوده ، فإنّ القادر بذاته يفتح إذا شاء على قدر قدرته الباهرة ، والعبد الناظر القادر بغيره لا يفتح بنفسه إلّا بقدر قدرته القاصرة ، وذلك الفتوح الإلهي أقوى اتصالا ، وأبقى كمالا ، وأتمّ نورا ، وأعمّ سرورا ، وأوسع في الاطّلاع على الأسرار ، وأرجح في عمارة الأفكار .

قال : ومتى اشتبه عليك شيء من نتائج العقول ، فالزم الصوم والخلوة والتذلّل للقادر على كلّ مأمول فإنّك تجده جلّ جلاله كاشفا لك ما اشتبه عليك ، وباعثا إلى عقلك وقلبك من أنوار هدايته ما يفتح أبواب الصواب لديك ، وإيّاك أن تستبطئ إجابته ، وأن تتّهم رحمته ، فإنّ العبد ما يخلو من تقصير في مراقبة مولاه ، ويكفيه أنّه يغضب لنفسه ولمن يعزّ عليه أكثر ممّا يغضب للّه جلّ جلاله المحسن إليه ، ويكفيه أنّه ما هو راض بتدبير مالكه جلّ جلاله بالكليّة ، وأنّه يعارضه بخاطره وعقله وقلبه معارضة المماثل والشريك ، أو العبد السيئ العبودية .

وإذا تأخرت عنك إجابة الدعاء وبلوغ الرجاء فابك على نفسك بكاء من يعرف أنّ الذنب

______

( ١ ) ـ في « ر » وكشف المحجة : والتوصّل .

١٩

له ، وأنّه يستحق لأكثر من ذلك الجفاء ، فكم رأينا ـ واللّه ـ يا ولدي عند هذه المقامات من فتوح السعادات والعنايات ما أغنانا عن سؤال العباد وعن كثير من الاجتهاد » (١) .

ثمّ ذكر رحمه اللّه في بيان إثبات النبوّة والإمامة ما يقرب من ذلك البيان ، وسلك نحو المسلك المذكور في معرفة اللّه تعالى ، وأحال معرفة الأئمة المعصومين عليهم السلام ومعرفة إمامتهم إلى كتاب « الطرائف » واقتصر في هذا الكتاب على جمل منها .

ونحن بعون اللّه وتوفيقه قد جمعنا التنبيهات القرآنيّة والهدايات النبويّة والإرشادات الولوية والشواهد العقلية على العقائد الدينيّة والمسائل من العلم باللّه وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، وتفاصيل ذلك أجمع من غير بحث كلامي ، ولا جدل عامي ، ولا نقل آراء ، وحكاية ظنون وأهواء ، في كتابنا الموسوم ب « علم اليقين في أصول الدين » فمن أراد شيئا من ذلك فليطلبه من هنالك .

أقول : وكما أنّ المتكلّمين ضيّقوا على الأنام ما كان سهّله اللّه تعالى من معرفته ومعرفة أنبيائه ورسله واليوم الآخر ، كما ذكره السيد رحمه اللّه وبيّنه ، فكذلك الفقهاء والمجتهدون ولا سيّما المتأخرين منهم ، ضيّقوا على الناس ما سهّله اللّه عزّ وجلّ من معرفة شرائعه وحلاله وحرامه وفرائضه وأحكامه ، وإن كان وسّعوا عليهم من وجه آخر ولكنّه على طريقة لم يرد فيها إذن من الشارع .

وبيان ذلك انّ اللّه سبحانه بيّن جميع أحكام الشرع من الأصول والفروع في الكتاب وقال :

« ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ » (٢) وقال : « وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ » (٣) فمنه آيات محكمات يجب الأخذ بها ، واخر متشابهات قد أمر اللّه عزّ وجلّ الناس أن يرجعوا فيها إلى أهل الذكر والراسخين في العلم ، فقال : « فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (٤) وقال : « وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » (٥) وقال : « وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ » (٦) وهم الأئمة المعصومون عليهم السلام كما ورد في أخبار

______

( ١ ) ـ كشف المحجة : ٢٠ ـ ٢٨ .

( ٢ ) ـ الأنعام ٦ : ٣٨ .

( ٣ ) ـ الأنعام ٦ : ٥٩ .

( ٤ ) ـ النحل ١٦ : ٤٣ ، الأنبياء ٢١ : ٧ .

( ٥ ) ـ آل عمران ٣ : ٧ .

( ٦ ) ـ النساء ٤ : ٨٣ .

٢٠