تراثنا ـ العدد [ 142 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 142 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣١٨

١

تراثنا

العدد الثاني [١٤٢]

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

السنـة السادسة والثلاثون

محتـويات العـدد

* توجيه دلالات التعبير عند البحراني في شرحه على نهج البلاغة.

........................... د. هاشم جعفر حسين والأستاذ أحمد راضي جبر ٧

* تاريخ الحوزات العلمية والمدارس الدينية عند الشيعة الإمامية (١).

............................................ الشيخ عدنان فرحان القاسم ٤١

* (الفَوائِدُ الحِسانُ الغَرائِبُ) روايةُ (ابنِ الجندي) (٣٠٥ ـ ٣٩٦هـ) (٤).

.............................................. الشيخ أمين حسين پوري ٨٤

٢

ربيع الآخر ـ جمادى الآخر

١٤٤١ هـ

* المنهج الموسوعي في الفقه الإمامي (الحدائق والجواهر أنموذجاً) (٤).

............................................... الشيخ مهدي البرهاني ١٢٤

* من ذخائر التراث :

* حاشية الميرزا أبي طالب الإصفهاني على شرح سَعْد التفتازاني لتصريف الزنجاني.

............................................ تحقيق : محسن خدايوندي ١٧١

* من أنباء التراث.

....................................................... هيـئة التحرير ٣٠٦

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة (حاشية الميرزا أبي طالب الإصفهاني على شرح سَعْد التفتازاني لتصريف الزنجاني) والمنشورة في هذا العدد.

 

٣

 

٤

٥
٦

توجيه دلالات التعبير عند البحراني

في شرحه على نهج البلاغة

د. هاشم جعفر حسين الموسوي

الأستاذ أحمد راضي جبر

بسم الله الرحمن الرحيم

توطئة :

الحمد لله ربّ العالمين ، الذي خلق فسوّى ، وقدّر فهدى ، أحمده حمداً كثيراً ، يوازي نعمه ، الحمد لله كما هو أهله. والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين ، وأفضل من نطق بالضاد ، محمّد بن عبد الله ، وعلى آله الطيّبين الطاهرين ، مصابيح الدُّجى ، وسفن النجاة ، اللهمَّ صلّ عليهم صلاة باقية دائمة بدوام ملكك.

أمّا بعدُ ... فلا يخفى على أحد منزلة نهج البلاغة ، إذ وصف بأنّه دون كلام الخالق ، وفوق كلام المخلوقين ، هذا الكتاب الذي جمعه الشريف الرضي ، وهو

 

٧

عبارة عن خطب الإمام عليه‌السلام ورسائله وكتبه وحكمه ، مقسَّمةً على ثلاثة أقسام ، هي :

١ ـ الخطب ، واختار منها ٢٤٢ خطبة.

٢ ـ الكتب والرسائل ، واختار منها ٧٨ كتاباً ، منها الطويل ومنها القصير.

٣ ـ الحكم أو قصار الكلم ، واختار منها ٤٩٨ عبارة أو كلمة قصيرة.

وقد سمّاه نهج البلاغة ، وهو اسم يدلّ على مسمّاه ، يقول محمّد عبده (١٣٢١هـ) : «ولا أعلم اسماً أليق بالدلالة على معناه منه ، وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد ممّا دلّ عليه اسمه ، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيّته فوق ما أتى به صاحب الاختيار»(١). وقد شرح النهج أكابر العلماء ، فقد شحذ الشريف الرضيّ بجمعه مادّة نهج البلاغة هممهم ، وبرى أقلامهم ، بعد أن سبقهم للتعليق على بعض الخطب ، فأقبلوا على النهج يشرحون متنه ، وينهلون من معارفه ، ثمّ تتابعت حركة التأليف هذه عبر القرون ، حتّى فاقت شروح النهج مائتي شرح ، قسم منها عربي ، والقسم الآخر بلغات أخر ، على أنّ تلك الشروح لم يصل إلينا منها إلاّ القليل ، إذ عَدَت عليها عوادي الزمن ، وما وصل منها أغلبه مخطوط ، وأقلّه مطبوع ، ومن شاء أن يطّلع على ذلك فليراجع كتاب مصادر نهج البلاغة للسيّد عبد الزهراء الخطيب ، فقد جمع فيه معظم ما ألّف في نهج البلاغة(٢).

ومن أشهر الشروح المطبوعة شرح نهج البلاغة لكمال الدين ميثم بن علي ابن ميثم بن المعلّى ، أبي الفضل البحراني(ت٦٧٩هـ) ، من علماء البحرين الأجلاّء ،

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٤.

(٢) ينظر : مصادر نهج البلاغة ١ / ٢٠٠ ـ ٢٧٣.

           

٨

ولد فيها سنة (٦٣٦هـ) ، وتوفّي فيها رحمه‌الله سنة (٦٧٩هـ)(١) ظهر شأنه في بلاده ، وعلا صيته فوصل إلى مسمع علماء العراق ، فكاتبه علماء النجف والحلّة ، يعتبون عليه لعدم زيارته لهم ، واعتزاله الناس ؛ لانشغاله بالتأليف والتحقيق ، فارتحل إلى العراق ، وألّف الكثير من الكتب النافعة في مجالات متنوّعة من العلوم الشرعية والفقهية والعرفانية واللغوية والأدبية(٢) ، فكان ما ترك موسوعة علمية ثرة يستحقّ عليها الثناء العاطر وتستوجب منّا التنقيب عنها ودراستها. وقد وقع الاختيار من زاد البحراني العلمي النافع على شرحه الكبير لنهج البلاغة ، فاستعنّا بالله لدراسة توجيه البحراني لدلالات التعبير في نصوص النهج ، وكان من دواعي هذه الدراسة :

١ ـ كثرة المادّة النحوية المبثوثة في صفحات هذا الشرح الذي يقع في سبعة أجزاء في طبعة ، وخمسة أجزاء في أخرى.

٢ ـ أنّ للشارح البحراني مشاركة واسعة في هذه المادّة النحوية التي ضمّت أقوال الشارحين السابقين عليه وآراءهم ، ثمّ إنّه وجّه هذه المادّة وجهة دلالية تكشف عن دلالات متعدّدة للنصّ ، بحسب السياقين الداخلي والخارجي.

٣ ـ أنّ شرح البحراني من أقدم شروح نهج البلاغة التي وصلت إلينا.

__________________

(١) ينظر : أنوار البدرين : ٦٢ ؛ تأسيس الشيعة ١ / ٦٩ ؛ أعيان الشيعة ١ / ١٦٦ ؛ معجم رجال الحديث ١٩ / ٩٤.

(٢) ينظر : الكنى والألقاب ٣ / ٣٥٠ ؛ طبقات أعلام الشيعة ٢ / ١٦٨ ؛ روضات الجنّات ٧ / ٢١٦ ؛ تنقيح المقال ٣ / ٢٦٢.

           

٩

٤ ـ منزلة الشارح البحراني بين العلماء ، إذ هو قمّة بين جبلين شامخين ، فهو من جهة تلميذ شيخ الطائفة نصير الدين الطوسي (٦٧٢ هـ) ، وتلمّذ على البحراني الحسن بن يوسف بن علي بن المُطَهَّر الأسدي المعروف بالعلاّمة الحلّي ، وبابن المطهّر (٧٢٦هـ)(١).

أمّا عن النهج الذي انتهجه الشارح في شرحه ، فكان يبدأ بذكر قول الإمام عليه‌السلام وكثيراً ما كان يُقَسِّم الخطبة الواحدة أقساماً بحسب وحدة الموضوع ، ومن ثَمَّ يبدأ بتوضيح بعض الكلمات غير واضحة المعنى ، دون أن يشير إلى أصحاب المعاجم. وبعد ذلك يبدأ بذكر المعنى العامّ للخطبة ، مع ذكر مناسبة الخطبة ، وأخيراً شرح الخطبة ، جملةً جملةً. والناظر في هذا الشرح يجد فيه صبغةً عرفانية وفلسفية ، وهو ما عُرِف به هذا الشارح ، فهو من العلماء العرفانيّين والمتكلّمين ، وقد ضمَّنَ معرفته الفلسفية شرحه هذا ، ممّا يجد معه الباحث مشقّةً كبيرةً في تفسير عبارات الشرح التي يكتنفها الغموض. ثمّ إنَّه لجأ إلى التلخيص الشديد ، ولاسيّما في مقدّمته البلاغية التي قدَّم بها للشرح التي جاوزت مائة وخمسين صفحة ، والتي يلفّها الكثير من المصطلحات الأصولية والفلسفية الصعبة ، ممّا زاد في صعوبة فهم الكثير من عباراته ، وآرائه(٢).

وشرح نهج البلاغة للبحراني شرح كبير يقع في خمسة أجزاء بطبعة إيران ، وقد تجمّعت من استقرائه مادّة نحوية دلالية كثيرة لا تسع هذه الصفحات

__________________

(١) ينظر : أنوار البدرين : ٦٢ ؛ أعيان الشيعة ١ / ١٦٦.

(٢) ينظر : شرح نهج البلاغة (البحراني) ١ / ١٩ ـ ١٦٢.

           

١٠

تفاصيلها وسنقتصر منها على أمثلة تشتمل على توجيه البحراني لدلالات التعبير في نصوص النهج العلوي في مباحث ثلاثة :

أوّلها : توجيه الدلالة الإعرابية. وثانيها : توجيه الدلالة التركيبية. وثالثها : توجيه دلالة الأدوات.

أمّا النهج الذي سرنا عليه في دراسة هذا الموضوع ، والوصول إلى النتائج المتوخّاة منه ، فيمكن إجماله بالآتي :

استقراء المادّة النحوية المبثوثة في هذا الشرح ، والملاحظ فيها أنّ البحراني لم يلتزم منهجاً واحداً في عرضها.

وصف هذه المادّة التي وردت عند البحراني ، وموازنتها بما ورد عند الشرّاح السابقين له واللاحقين.

تحليل هذه المادّة ، ومناقشة ما ورد فيها من أقوال ، ومحاولة استنباط حكم ما ، بما يترجّح من قرائن متنوّعة.

المبحث الأوّل : توجيه الدلالة الإعرابية :

حفل شرح نهج البلاغة للبحراني بآراء عديدة في الإعراب والوظيفة التي يؤدّيها هذا الإعراب ، فلم يقف البحراني عند حدِّ الإعراب اللفظي ، وإنّما بحث في الوظيفة التي تؤدّيها الحركة الإعرابية في المعنى ، فنجده يرجّح رواية على رواية تبعاً للمعنى المتحصّل من هذه الحركة أو تلك ، ونجده كذلك في شرحه يجتهد في أحيان كثيرة ، لبيان دلالات أحوال الإعراب من نصب ، ورفع ، وجرّ ، إمّا

 

١١

برأي ينفرد به ، أو بترجيح مِنْ بين أقوال شرّاح النهج ، أو بزيادة استدلال على رأي مَن تابعهم من الشرّاح ، ومن أمثلة ذلك :

١ ـ قال عليه‌السلام في ذمّ أتباع إبليس : «دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحْوَكُمْ ، فَأَقْحَمُوكُمْ وَلَجَاتِ الذُّلِّ ، وَأَحَلُّوكُمْ وَرَطَاتِ القَتْلِ ، وأَوْطَؤوكُمْ إِثْخَانَ الجِرَاحَةِ ، طَعْناً فِي عُيُونِكُمْ ، وحَزّاً فِي حُلُوقِكُمْ ، ودَقّاً لِمَنَاخِرِكُمْ ، وقَصْداً لِمَقَاتِلِكُمْ ، وسَوْقاً بِخَزَائِمِ اَلْقَهْرِ إِلَى النَّارِ المُعَدَّةِ لَكُمْ»(١).

وقد عرض البحراني في شرحه قول الإمام عليه‌السلام هذا للتوجيهات النحوية التي ذكرها الشرّاح قبله في توجيه نصب (إثخان) ، ونصب المصادر الخمسة (طعناً وحزّاً ودقّاً وقصداً وسوقاً) فقال : «وانتصبَ (إثخان الجراحة) على أنَّه مفعول ثان لـ : (أوطؤوكم). قال بعض الشارحين : انتصب (طعناً وحزّاً ودقّاً وقصداً وسوقاً) على المصادر عن أفعالها المقدّرة ، ومَن روى (لإثخان الجراحة) ـ بوجود اللام ـ فيحتمل أن يجعل (طعناً) مفعولاً ثانياً لـ : (أوطؤوكم) ويكون اللام في (الإثخان) لامَ الغرض ، أي : أوطؤوكم طعناً وحزّاً ودقّاً ليثخنوا الجراحة فيكم ، قال : ويكون (قصداً وسوقاً) خالصين للمصدرية ، لبُعدِهما عن المفعول به ، والأظهرُ هو الوجهُ الأوّل ، أعني : كون كلّ منها مصدراً لفعله»(٢). ونلحظ من نصّ البحراني توجيهات نحوية مختلفة لم ينسبها إلى أصحابها ، ومحاولة منه لاستظهار وجه من هذه الوجوه وترجيحه ، ويمكن تفصيل هذه الآراء ونسبتها إلى مَن قالها على النحو

__________________

(١) نهج البلاغة (الخطبة ١٩٢) : ٣٨٧.

(٢) شرح نهج البلاغة ٤ / ٢٩٧.

           

١٢

الآتي :

في نصب (إثخان) ذهب الراوندي إلى أنّه منصوب بنزع الخافض ، والأصل : «أوطؤوكم لإثخان الجراحة ، أو : بإثخان الجراحة» ، فنزع حرف الخفض الذي يفيد السبب ـ أو الغرض بتعبير البحراني ـ ونصب المجرور توسّعاً ، واحتجّ لذلك بدليل نقلي هو أنّ (إثخان) قد رُوِي مجروراً باللام أيضاً ، وهذا يعضد أنّه في رواية النصب إنّما نُصِب بنزع الخافض ، واستدلّ أيضاً بأنّ المعنى يتطلّب حرف الجرّ السببي ، ذلك أنّ وطأهم إنّما يتمّ بإثخان الشيطان لهم(١).

ويبدو من نصّ البحراني أنّه لم يوافق الراوندي في نصب (إثخان) بنزع الخافض ، بل ذهب إلى أنّه منصوب على أنَّه مفعول ثان لـ : (أوطؤوكم) ، وعليه يكون الضمير المتّصل (الكاف في أوطؤوكم) هو المفعول الأوّل ، ويكون معنى إيطاء الشيطان ببني آدم هو إلقاؤه إيّاهم فيه ، وتوريطهم وحمله لهم عليه ، أي : جعلكم الشيطان وجنوده واطئين للإثخان.

على حين أنكر التستري هذا الرأي مستدلاًّ بأنّ هذا المعنى لا يوائم معنى ذمِّهم ولذا قال في إنكار هذا الرأي : «إنّه لا معنى للكلام ، فإذا كانوا واطئين للإثخان ، أىُّ نقص في ذلك حتّى يكون من قبيل فأقحموكم ولجات الذلّ وأحلّوكم ورطات القتل»(٢).

ويبدو أنّ حبيب الله الخوئي قد التفت إلى ما في هذا الرأي من إشكال

__________________

(١) ينظر : منهاج البراعة ٢ / ٢٤٠.

(٢) بهج الصباغة ١٤ / ٢٥٥.

           

١٣

فقَلَب الإعراب بأنْ جَعَلَ (إثخان) المفعول الأوّل ، والضمير المتّصل (الكاف) المفعول الثاني ، أي : جعلوا إثخان الجراحة واطئاً لهم ، لا أنَّهم واطئون له(١).

والبحث يركن إلى هذا التوجيه في نصب (إثخان) ، ذلك أنّ الفعل (أوطأ) إن رُدَّ إلى المجرّد اتّضح المعنى جليّاً ، فيكون (إثخان) فاعلاً و (الناس) مفعولاً به ، والتقدير : (وَطِئَ إثخانُ الجراحة الناس) ، ومع زيادة الهمزة يكون التقدير : أوطأ الشيطان إثخانَ الجراحة الناس ، و (الإثخان) فيه مفعول أوّل لا مفعول ثان(٢).

في نصْب المصادر الخمسة (طعناً وحزّاً ودقّاً وقصداً وسوقاً)

رجّح البحراني أنّها منصوبة على المصدرية ، وأنّ أفعالَها محذوفة يدلُّ عليها السياقُ ، أي : طعنوكم في عيونكم طعناً ، وحزّوا حلوقكم حزّاً ، ودقّوا مناخركم دقّاً ، وقصدوا مقاتلكم قصداً ، وساقوكم بخزائم القهر سوقاً إلى النار المعدّة لكم ، واستدلّ على ذلك بأنّ هذه المصادر كلّها وردت في سياق واحد ، لمعنى واحد هو الذمُّ(٣).

ولم ينسب البحراني هذا الرأي إلى قائله ، واكتفى بعبارة : «وقال بعض الشارحين» ، ومِن تتبّعِ آراء مَن سبقه اتّضح أنّ هذا الرأي لابن أبي الحديد(٤). في حين فرّق حبيب الله الخوئي بين هذه المصادر في الإعراب ، فذهب إلى أنّ (طعناً ،

__________________

(١) ينظر : منهاج البراعة ١١ / ٢٨٤.

(٢) ينظر : المباحث الدلالية في شروح نهج البلاغة دراسة موازنة : ٢٧٩.

(٣) ينظر : شرح نهج البلاغة ٤ / ٢٩٧.

(٤) ينظر : شرح نهج البلاغة ١٣ / ١٤٣.

           

١٤

وحزّاً ، ودقّاً) مبدلات من (إثخان الجراحة) لقرب المعنى بينهما ، فـ : (طعن العيون ، وحزّ الحلوق ، ودقّ المناخر) بمعنى (إثخان الجراحة) قطعاً ، وأنّ (قصداً ، وسوقاً) منصوبان على المفعولية المطلقة ، وعاملاهما محذوفان بتقدير : قصدوا إليكم قصداً ، وساقوكم سوقاً(١).

وأغرب التستري في توجيه نصب هذه المصادر ، ولم يتقبّلْ ما ذكره السابقون له ، واستظهر ثلاثة أوجه لنصبها ، هي(٢) :

الأوّل : أنّها منصوبة على الحال المؤوّلة باسم الفاعل ، والتقدير : طاعنين في عيونكم ، وحازّين حلوقكم ، وداقّين مناخركم ، وقاصدين لمقاتلكم ، وسائقيكم بخزائم القهر ، وهو بهذا موافق لرأي النحويّين في جواز مجيء الحال مصدراً على خلاف الأصل مؤوَّلاً باسم مشتقّ ، إذ قال سيبويه : «وذلك قولك : قتلتُه صبراً ، ولقيتُه فجاءةً ومفاجأةً ، وكلّمْتُه مشافهةً ، وليس كلّ مصدر إنْ كان في القياس مثل ما مضى من هذا الباب يوضع هذا الموضع ، لأنّ المصدر ها هنا في موضع فاعل إذا كان حالاً»(٣). والأصل في الحال أن يكون وصفاً ، لأنّه يتضمّن الحدث وفاعل الحدث ، أمَّا المصدر فيتضمّن الحدث فقط من دون فاعله ، لذا لا يكون وصفاً لصاحبه.

__________________

(١) ينظر : منهاج البراعة ١١ / ٢٨٤.

(٢) ينظر : بهج الصباغة ١٤ / ٢٥٦.

(٣) كتاب سيبويه ١ / ٣٧٠ ؛ وينظر : المقتضب ٣ / ٢٦٩ و٤ / ٣١٢ ؛ الأصول في النحو ١ / ١٦٣ ؛ وشرح الرضي على الكافية ١ / ٣٣٠.

           

١٥

الثاني : أنّها تعرب مفاعيل لأجلها ، وعواملها (أوطؤوكم ، وأحلّوكم ، وأقحموكم).

الثالث : أنّها تعرب تمييزات.

ونلحظ أنّ التستري لم يفصِّل في ما جوّزه من آراء ومناسبتها لمعنى كلام الإمام عليه‌السلام ، ولعلّ مردّ ذلك إلى ما في كلامه من بُعد التأويل ، فقوله : إنّ المصادر هنا منصوبة على الحال بتأويل اسم الفاعل فيه الدلالة على الوصف العارض ، وهو ممّا لا يناسب مقام كلام أمير المؤمنين هنا ، وأمّا نصب هذه المصادر على أنّها أعذار لما قبلها فيردُّه أنّها نتائج للوطء لا أسباب له ، ويُردّ كون هذه المصادر تمييزات أنّها ليست جامدة.

ويمكن القول : إنّ ما ذهب إليه ابن أبي الحديد والبحراني من أنّ هذه المصادر منصوبة على المفعولية المطلقة ، وأنّ أفعالَها محذوفات وجوباً يدلّ عليها السياق ، أي : فعلوا بكم هذه الأفعال فطعنوكم في عيونكم طعناً ، وحزُّوا حلوقكم حزّاً ، وكذا بقية المصادر ، هو الرأي الجدير بالقبول ، ذلك أنّ المعنى يتطلّب التوكيد هنا ، وهذه المصادر دالّة على التوكيد مطلقاً ، فضلاً عن أنّ التعبير (أوطوؤكم إثخان الجراحة) تعبير مجمل تفصيله هذه المصادر الخمسة التي تُبيِّن أنواعاً في إثخان الجراحة توافق الإثخان معنًى وإعراباً.

٢ ـ في قوله عليه‌السلام يحثُّ الناسَ على التقوى : «عِبَادَ اَللَّهِ ، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَعَزِّ الأَنْفُسِ عَلَيْكُمْ ، وَأَحَبِّهَا إِلَيْكُمْ ، فَإِنَّ اَللَّهَ قَدْ أَوْضَحَ لَكُمْ سَبِيلَ الحَقِّ ، وأَنَارَ طُرُقَهُ ،

 

١٦

فَشِقْوَةٌ لاَزِمَةٌ ، أَوْ سَعَادَةٌ دَائِمَةٌ ، فَتَزَوَّدُوا فِي أَيَّامِ الفَنَاءِ لأيَّامِ البَقَاءِ»(١).

وقف البحراني عند إعراب (شقوة ، وسعادة) وما يحتملانه من دلالة تناسب السياق فوجّههما على أنّهما خبر لمبتدأ محذوف ، تقديره : فغايتكم ، ورأى أنّ في ذلك تنبيهاً على غايتَي سبيل الحقّ ، وسبيل الباطل ، قال : «نبّه على غايتَي سبيلِ الحقِّ وسبيلِ الباطلِ بشِقْوَة لازمة وسعادة دائمة»(٢) ، ويُفْهَمُ من توجيهِهِ هذا أنّ الجملةَ هنا جملة اسمية دالّةٌ على ثبات الشقوة أو ثبات السعادة ، لأنَّ الجملةَ الاسمية دالّةٌ على الثبات ، فضلاً عن نعتها بـ : (لازمة) و (دائمة) فظهر من تقديره أنّه قسّم الجزاء قسمين : إمّا العذاب أبداً ، أو النعيم أبداً ، وقد تابعه في رأيه هذا أكثر الشرّاح المتأخّرين(٣).

ولم يخالف هذا الرأي إلاّ حبيب الله الخوئي والتستري ، أمّا الخوئي فذهب إلى أنّ (شقوة ، وسعادة) مبتدآن محذوفا الخبر ، ولا يضرّ تنكيرهما ، لكونهما نكرة موصوفة ، والتقدير : «فشقوةٌ لازمةٌ لِمَنْ نكبَ عنها ، أو سعادةٌ دائمةٌ لمَنْ سلكها»(٤) ، ثمّ جوّز «أن يكونا فاعلين لفعل محذوف»(٥).

وأمّا التستري فأنكر رأي الخوئي ، الذي جوّز فيه رفع (شقوة وسعادة) على

__________________

(١) نهج البلاغة (الخطبة ١٥٧) ٢٩٠.

(٢) شرح نهج البلاغة ٣ / ٢٧٠.

(٣) ينظر : شرح نهج البلاغة (محمّد عبده) ١ / ٣٦ ؛ في ظلال نهج البلاغة ٢ / ٤١٢ ؛ شرح نهج البلاغة (محمّد أبو الفضل إبراهيم) ١ / ١٥٨ ؛ توضيح نهج البلاغة ٢ / ٤١١.

(٤) منهاج البراعة ٩ / ٣١٥.

(٥) المصدر نفسه ٩ / ٣١٥.

           

١٧

أنّهما فاعلان لفعل محذوف ، واستدلّ التستري بأنّ الفعل لا يقدّر إلاّ بعد (إنْ وإذا) الشرطيّتين ، كما هو معلوم من مذهب البصريّين(١). وخلُص التستري إلى أنّ (شقوة ، وسعادة) كليهما يحتمل الرفع على أنّه مبتدأ ، فيقدّر له خبر ، أو خبر يقدّر له مبتدأ ، وقرن ذلك بإعراب قوله تعالى : (فَصَبْرٌ جَمِيْلٌ)(٢). فـ : (صبر) خبر أو مبتدأ ، لكونه موصوفاً ، أي : فأمري صبري جميلٌ ، أو فصبرٌ جميلٌ أمثل ، والصبر الجميل : الذي لا شكوى فيه إلى الخلق(٣). ولنا أن نناقش هذه الأقوال في الأمور الآتية :

إنّ ردّ التستري على حبيب الله الخوئي لا يستقيم على إطلاقه ، لأنّ حذف الفعل مع (إنْ ، وإذا) الشرطيّتين إنّما يكون في حال الحذف الواجب ، والخوئي لم يحدّد هنا أنّ الحذفَ حذفٌ واجب ، إذ يجوز حذف الفعل إذا دلّ عليه دليل.

لمّا كان كلام الإمام عليه‌السلام أكثره مقتبس من معاني النصوص القرآنية ، كان الاحتمال الأقرب للحذف هو حذف الخبر ، والتقدير : فشقوة لازمة لأنفسكم ، أو سعادة دائمة لها ، بدلالة قوله تعالى(يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمٌ نَفْسٌ إلاّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ)(٤) مع إرادة القول بمنع الحذف وتقديره يمكن الاستدلال بأنّ (شقوة لازمة) مبتدأ نكرة موصوفة مكتف عن الخبر ، لردفه بمبتدأ ثان موصوف

__________________

(١) ينظر : المقتضب ٢ / ٧٤ ، ٧٩ ؛ الإنصاف (م٢) / ٦١٥ ـ ٦٢٠.

(٢) سورة يوسف / من الآية ١٨.

(٣) ينظر : معاني القرآن وإعرابه ٣ / ٧٨ ؛ إعراب القرآن (النحّاس) ٢ / ٣٠٨ ؛ الكشّاف ٢ / ٤٥٢ ؛ التبيان في إعراب القرآن ٢ / ٧.

(٤) سورة هود / الآية ١٠٥.

           

١٨

(سعادة دائمة) فقام كلٌّ منهما مقام الخبر عن الثاني ، فتمّ الكلام بهما من دون تقدير أو حذف.

٣ ـ في قوله عليه‌السلام يصف الدنيا : «أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمَارَ ، وغَداً السِّبَاقَ ، السَّبَقَةُ اَلْجَنَّةُ ، والغَايَةُ النَّارُ»(١).

نقل الشرّاح أنّ (المضمار ، والسباق) فيهما روايتان : الرفع على أنّهما خبران لـ : (إنّ) و (اليوم وغداً) اسماها ، ورجّحه الراوندي ، فقال : «الأحسن أن يجعلَ (اليوم) اسماً صريحاً ، ويكونُ اسمَ (إنّ) ويُرْفَعُ المضمارُ على أنَّه خبرُ (إنّ) وعلى هذا إعراب (وغداً السباق)»(٢) ، واختار ابنُ أبي الحديدِ نَصْبَ (المضمار والسباق) على أنّهما اسما (إنّ) ، فيكون الظرفانِ خبرينِ ، وموضعُهما الرفعُ ، لأنّ «ظرفَ الزّمان يجوزُ أنْ يكونَ خبراً عن الحدثِ»(٣).

أمّا البحراني فجوّز الإعرابين دونما اختيار لأحدهما ، وأشار إلى اختلاف المعنى بين رفعِ (المضمار والسباق) ونصبهما ، فَفَهِم من رأي الراوندي الذي اختار رفعَهما أنَّه جَعَلَ (اليوم ، وغداً) اسمينِ صريحينِ ، فاليوم كنايةٌ عن أيّام الإنسان الباقية من عمره ، وقد خَرَج عنِ الظرفية المبهمةِ إلى المعرفةِ ، والأمرُ كذلك في (غداً) التي هي كنايةٌ عمّا بعدَ الموت ، أي : يوم الحساب ، فصلُح مجيءُ الظرفين في موضعِ الابتداءِ ، قالَ : «وليس (اليوم) هنا دالاًّ على الظرفية ، وإنَّما قُصِد

__________________

(١) نهج البلاغة (الخطبة ٢٨) ٦١.

(٢) منهاج البراعة ١ / ٢١٨.

(٣) المصدر نفسه ١ / ٢١٨.

           

١٩

به حياةُ الإنسانِ ، فَخَرَجَ الظرفُ من ظرفيّتِه إلى الاسمية فصار (اليوم) اسمَ (إنّ) و (المضمارُ) خبرَها»(١).

وأمّا نصب الاسمين على ما اختاره المعتزلي ، فرأى البحراني أنّ فيه إشكالاً في (إنّ اليوم المضمار) قال : «اليوم زمان ، والمضمار زمان ، فكيف يُخبَر عن المضمار باليوم؟ فيستلزم وقوعَ زمان في زمان آخر ويكون أحدهما محتاجاً إلى زمان آخرَ وذلك محالٌ»(٢). ويُفهَم من كلامِه أنّ الإشكالَ واقع في أنّ كلاًّ من المبتدأ والخبر زمانٌ ، فالمضمار اسمٌ يُطْلَقُ على الوقتِ أي : «الأيّام التي تُضَمَّرُ فيها الخيلُ للسباقِ أَو للركضِ إِلى العَدُوِّ ، وتَضْميرُها أَن تُشَدَّ عليها سُروجُها وتُجَلَّل بالأَجِلَّة ، حتّى تَعْرقَ تحتها فيذهب رَهَلُها ، ويشتدّ لحمُها ، ويُحْمَل عليها غِلمانٌ خِفافٌ يُجْرُونها ، ولا يَعْنُفونَ بها»(٣) ، ويقدّر هذا الوقت بأربعين ليلة(٤). وقد استعار الإمام عليه‌السلام المضمار هنا إلى حياة الإنسان لما بينهما من تشابه ، فالإنسان يستعدّ بالتقوى والأعمال الصالحة ليكون من السابقين إلى لقاء الله تعالى ، كما يستعدُّ الفرسُ للسباقِ بالتضميرِ وهو التسمينُ ثمّ القوت(٥). وأمّا اليوم فزمانٌ معلوم ، فلا يصحُّ بعد الإخبار بوقوع الزمانِ في الزمان ، لأنَّه يلزم منه أنّ الزمانَ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة ٢ / ٦٢.

(٢) شرح نهج البلاغة ٢ / ٦٣.

(٣) لسان العرب (ضمر).

(٤) ينظر : القاموس المحيط : (ضمر) ؛ تاج العروس (ضمر).

(٥) ينظر : حدائق الحقائق ١ / ٢٤٣ ؛ شرح نهج البلاغة (البحراني) ٢/٦٣.

           

٢٠