كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي

كاشفة الحال عن أحوال الإستدلال

المؤلف:

الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي


المحقق: أحمد الكناني
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة اُم القرى للتحقيق والنشر
المطبعة: مطبعة القدس
الطبعة: ١
الصفحات: ١٨٨

١
٢

٣
٤

قائمة المحتويات

كلمة المؤسسة................................................................... ٩

مقدمة التحقيق................................................................. ١٣

الشيخ ابن أبي جمهور............................................................ ٢٦

صور النسخ الخطية............................................................. ٣٧

تمهيد......................................................................... ٥١

المقدمة........................................................................ ٥٢

معرفة كيفية الاستدلال.......................................................... ٥٣

الغرض من الاستدلال........................................................... ٥٣

الحاجة إلى الاستدلال........................................................... ٥٤

الفصل الأول

العلوم التي لا بد منها في الاستدلال

النوع الأول.................................................................... ٦١

العلوم الأدبية............................................................. ٦١

اللغة..................................................................... ٦٢

الصرف.................................................................. ٦٢

النحو.................................................................... ٦٤

النوع الثاني.................................................................... ٦٣

العلوم العقلية............................................................. ٦٣

المنطق................................................................... ٦٥

٥

الكلام................................................................... ٦٥

الاصول.................................................................. ٦٥

النوع الثالث................................................................... ٦٧

العلوم النقلية.............................................................. ٦٧

التفسير.................................................................. ٦٩

الحديث.................................................................. ٦٩

الرجال................................................................... ٧٠

تتمة.......................................................................... ٧١

العلوم المكملة.................................................................. ٧١

علم المعاني..................................................................... ٧٣

العلم بالوفاق والخلاف.......................................................... ٧٣

العلم بالفقه.................................................................... ٧٤

الفصل الثاني

في القدر المحتاج إليه من هذه العلوم في الاستدلال على المطالب الشرعية

اللغة.......................................................................... ٧٧

الصرف....................................................................... ٧٩

النحو......................................................................... ٨٠

المنطق......................................................................... ٨١

الكلام........................................................................ ٨٤

الاصول....................................................................... ٨٥

التفسير....................................................................... ٨٦

الحديث....................................................................... ٨٩

الرجال........................................................................ ٩٢

المعاني......................................................................... ٩٣

٦

العلم بالوفاق والخلاف..................................................... ٩٤

العلم بالفقه............................................................... ٩٧

الفصل الثالث

في كيفية الاستدلال

في الأدلة.................................................................... ١٠٣

الكتاب................................................................ ١٠٥

السنّة.................................................................. ١٠٥

الإجماع................................................................. ١٠٧

أدلة العقل.............................................................. ١٠٩

في ترتيب الأدلة حالة الاستدلال................................................ ١١٣

الفصل الرابع

فيما يقع فيه الاستدلال والاجتهاد

مسائل وأحكام ليست محلا للاستدلال.......................................... ١٣١

ما دل عليه الكتاب........................................................... ١٣١

ما دلت عليه السنّة........................................................... ١٣٢

الأحكام الإجماعية............................................................ ١٣٣

في تحصيل الإجماع............................................................ ١٣٣

الاجتماع المنقول بخبر الواحد................................................... ١٣٣

فيما يقع فيه الاستدلال والاجتهاد.............................................. ١٣٤

طريقة الأخذ بالأخبار......................................................... ١٣٨

مذهب العلامة الحلي.......................................................... ١٣٩

٧

الفصل الخامس

في المستدل وشرائطه

المستدل..................................................................... ١٤٥

اشتراط العدالة في المفتي................................................... ١٤٦

صحة كون المفتي قاضيا................................................... ١٤٧

الافتاء واجب على الكفاية بآية النفر....................................... ١٤٨

اشتراط الحياة في المفتي.................................................... ١٤٨

المستفتي..................................................................... ١٤٩

أرجحية الاعلم على الأورع..................................................... ١٥٠

الأقوال في رجوع المحصل إلى المفتي............................................... ١٥٠

ما يصح الاستفتاء فيه.................................................... ١٥١

الخاتمة

نصائح ومواعظ............................................................... ١٥٢

الفهارس العامة

فهرس الأعلام................................................................ ١٥٩

فهرس الكتب................................................................ ١٦٩

فهرس الأماكن............................................................... ١٧٩

مصادر التحقيق.............................................................. ١٨٣

٨

كلمة المؤسسة

تراثنا والحاجة إلى إحيائه

ليس من الترف الفكري والعلمي تعاملنا مع مسائل التراث الإسلامي من إحيائه وتحقيقه وحفظه وفهرسته وترجمة سيرة العلماء الماضين الذين ساهموا في خدمة العلم والدين.

ذلك لأن في التراث ذخائر مجهولة وكنوز مغمورة ودرر ولآلي ثمينة ومجوهرات نفيسة لا تقدر بثمن.

ولأن في التراث الوجه المشرق لحضارتنا الإسلامية التي نعتز بها ، كيف لا وتراثنا الذي ورثناه من علماء السلف أتباع مدرسة آل البيت عليهم‌السلام هو الثقل الثاني بعد القرآن الكريم إلا وهو تراث العترة الطاهرة ، ما إن تمسكنا بهما ـ أي القرآن والعترة ـ لن نضل أبدا ، لأن وظيفة الأئمة الهداة عليهم‌السلام تفسير القرآن الكريم عبر أقوالهم وأحاديثهم وسيرتهم المباركة وإقراراتهم المعتبرة وهي بذلك تنير لنا الطريق في عصر نحن بأمس الحاجة إلى الاستنارة بهم. ولم يتسن لنا ذلك إلا بعد جهود بذلها علماؤنا ـ قدس الله أنفسهم ـ إلى تدوين السنة الشريفة والأحاديث الصادرة عنهم وكتابة سيرتهم التأريخية ، رغم صعوبة الكتابة آنذاك.

إننا نعتز ونفتخر بجهود العلماء الأعلام أمثال شيخ الطائفة الطوسي والصدوق والمفيد والمرتضى وغيرهم من العلماء الأعلام

٩

ـ رضوان الله عليهم ـ الذين أسهموا في تجلّي وتبلور الفكر الإسلامي الشيعي في صورة المختلفة من خلال تأسيس اطار علمي لاصول فقه آل البيت عليهم‌السلام واطار فكري لعلم الكلام وما يرتبط بهما من علوم القرآن والتفسير والحديث ومعرفة رجال الحديث وغيرها من العلوم ، ولم تصلنا هذه العلوم إلّا من خلال جهود العلماء في حفظ التراث وإحيائه وتدريسه ونشره والعمل به.

ومن جملة التراث الموجود بين ظهرانينا ، تراثنا المنسي في الخزانات الخطية المنتشرة هنا وهناك ألا وهو تراث علماء البحرين أو هجر وبالخصوص علماء الاحساء والقطيف الذين كان لهم الدور الرائد في الحركة العلمية في نشر معارف أهل البيت عليهم‌السلام في القرن الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر.

كانت هجر آنذاك حاضرة العلم والدين رغم ظروفها الصعبة ورغم الأحداث التي مرت بها. رغم هذا وذاك خرج منها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه علماء يشار إليهم بالتقوى والفضيلة انتشروا في الأوساط الشيعية وفي الحوزات العلمية في كل من العراق وإيران وجبل عامل والهند والمدينة المنورة ومكة المكرمة أمثال العلامة أحمد بن فهد الاحسائي المعاصر لابن فهد الحلي وابن أبي جمهور الاحسائي والشيخ الفاضل ابراهيم القطيفي المعاصر للمحقق الكركي والعلامة محمد بن عبد علي آل عبد الجبار القطيفي والشيخ الأوحد أحمد بن زين الدين الاحسائي والعارف الشيخ ابراهيم آل عرفات القطيفي وغيرهم من العلماء الأعلام ـ قدس الله أسرارهم الشريفة ـ.

لذا ومن المنطلق الأخلاقي ، نجد اننا ملزمون بنشر آثارهم الخالدة

١٠

وهذا أقل ما نستطيع تقديمه لهم ، تقديرا لتلك الجهود المباركة التي اسهموا بها. ولهذا تبلورت فكرة ان تكون هناك مؤسسة تهتم بإحياء تراث علماء الاحساء والقطيف يكون على عاتقها تحقيق ونشر كل ما يرتبط بتراثهم خصوصا الموجود في خزانات الكتب الخطية الإيرانية والتي يسهل علينا تناوله.

ولله الحمد استطعنا ان نستنسخ عدة مخطوطات بأجهزة التصوير لغرض تحقيقها ثم نشرها ، ومن جملة ما تم تصويره :

١ ـ رسالة في اصول الدين أو ما يعبّر عنها ب (زاد المسافرين) لابن أبي جمهور الاحسائي وقد تم تحقيقها وطبعها.

٢ ـ منظومة شعرية أخلاقية فيها مواعظ ووصايا قيمة من الناظم لابنه وهي تحت عنوان «خير الوصية» للشيخ محمد آل رمضان الاحسائي وقد تم تحقيقها وطبعها بحلّة جميلة.

٣ ـ الأربعون حديثا للشيخ محمد بن عبد علي آل عبد الجبار الخطي قيد التحقيق الآن وسينشر قريبا.

٤ ـ المجلي للشيخ ابن أبي جمهور الاحسائي قيد التحقيق.

٥ ـ الكشكول للشيخ ابراهيم آل عرفات القطيفي كانت لدينا نيّة بتحقيقه ولكن وصلت لنا معلومات ان أحد أحفاده مشغول بتحقيقه وقد أرسل لنا مؤخرا ترجمة عن المصنف.

ونحن عازمون على تحقيق كل من :

١ ـ ردود ونقود وهي حاشية مختصرة على الفتوحات المكيّة للشيخ ابراهيم آل عرفات القطيفي وقد تقدمنا بطلب إلى إدارة مكتبة الإمام الرضا عليه‌السلام لغرض تصوير المخطوطة أعلاه.

١١

٢ ـ درر الآلي العمادية في الأحاديث الفقهية لابن أبي جمهور وهي دورة فقهية حديثية كاملة ربما تقع في ٥ أجزاء عند تحقيقها حيث نسأل المولى أن يوفقنا لذلك.

وأخيرا بين أيدينا رسالة «كاشفة الحال عن أحوال الاستدلال» لابن أبي جمهور الاحسائي وهي رسالة مبسوطة في اصول الفقه اعدت للطلبة آنذاك قام بتحقيقها مشكورا الأخ الاستاذ أحمد الكناني فجزاه الله خير الجزاء على هذا العمل القيم والمجهود المبارك ، وكذلك نشكر فضيلة الشيخ عبد المجيد العيسى على مراجعتها وإبداء بعض الملاحظات.

ولا يفوتنا ان نتقدم بجزيل الشكر إلى سماحة المحقق السيد هاشم الشخص الذي استمر في تقديم العون والتشجيع المتواصل في تبنّي ونشر هذه الرسالة.

وفي الختام نسأل المولى تعالى أن يمنّ علينا بالتوفيق وأن يجعل عملنا هذا في طاعته انه سميع عليم.

عن الهيئة المشرفة في المؤسسة

علي باقر الموسى

قم المقدسة ـ الحوزة العلمية

٦ / ذي القعدة / ١٤١٥ ه

١٢

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

يمثّل الإسلام الرسالة الخاتمة للرسالات السماوية ، لما تتضمن من انسجام تام مع فطرة الإنسان ، وانفتاح وشمول لكل أبعاده ، فلم تكن مهتمة بالجانب العبادي والأخلاقي فحسب ، إنّما تعدت ذلك إلى الجانب الحياتي للانسان ، معطية لهذا الجانب الأولوية في انطباق المعيار الإسلامي كأساس للتفاضل بين أفراد الجنس الإنساني. فالنموذج الأمثل في نظر الإسلام ، ليس من كان مهتما بالجانب العبادي ، مكثرا من الصلاة والتهجّد فقط ، إنّما الأمثلية في تأثير ذلك على صحة معاملاته الخارجية ، بل ان تشريع الجانب العبادي في الإسلام ما هو إلّا للتوصّل إلى صحة المعاملات والتصرفات في الخارج.

ويظهر انعكاس ذلك بكل وضوح على الشريعة الإسلامية ، فهي شريعة ومنهاج مستوعبة لكل ميادين الحياة بلا عسر ولا حرج.

والمصدر الرئيسي للشريعة الإسلامية هو الكتاب الكريم ، والسنّة الشريفة ، فما لم يكن مبينا ومحدد الابعاد من الأحكام التي تضمنها الكتاب ، جاءت السنة الشريفة لتبينه وتحدد أبعاده ، فالكتاب الكريم. والسنة الشريفة ، يحويان بين دفتيهما مجموعة من الأحكام المبيّنة والمحدّدة ، إلّا أنّها لم تكن بهذه الصورة من البيان والتحديد بالشكل الذي يكون الأخذ به متيسرا لكل أحد ، إنّما جاءت متناثرة في مجموع الكتاب والسنة ، وبصورة تفرض الحاجة إلى جهد علميّ في دراستها والمقارنة بينها واستخراج النتائج النهائية منها.

١٣

والذي يوضح ذلك ما في الكتاب والسنة من الناسخ والمنسوخ ، والعام والخاص ، والمجمل والمبين ، والمحكم والمتشابه ، وغير ذلك مما يزيد المسألة صعوبة وتعقيدا ، ويجعل أخذ الأحكام مباشرة من الكتاب والسنة أمرا في غاية الصعوبة والإشكال.

فعلى سبيل المثال. الآية المباركة (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ ...) تثبت العدالة لجميع من كان مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من أصحابه ، مع ملاحظة تكملة الآيات المباركات ، وذلك بقوله (وَالَّذِينَ مَعَهُ) فهو اسم موصول مبهم ، والأصل في الكلام أن يكون لمخاطب معين ، وإيراده مبهما لأغراض منها إرادة العموم (١).

إلّا ان ذيل الآيات (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) يكون قرينة على أن المراد بقوله «والذين معه» بعضهم لا جميعهم. لمكان من التبعيضية من قوله «منهم».

وكقوله تعالى (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ...) الظاهر في إثبات القطع لجميع اليد.

وكقوله تعالى (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ) الشامل لكل أنواع البيوع حتى الربوي منه.

وكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ، و «لا صلاة لمن جاره. المسجد إلّا في المسجد ..» وأمثال ذلك من المركبات التي تشتمل على كلمة لا التي لنفي الجنس ، التي ظاهرها نفي كل افراد الجنس (٢).

وأمثال ذلك كثير جدا في الكتاب والسنة ، وقد ضبطت في مظانها ، وغرضنا من إيرادها هنا بيان المثال فقط.

فظهر من ذلك كلّه ، ان عملية أخذ الأحكام من الكتاب والسنة ، تتطلب جهودا علمية ضخمة ، تتمثل بالإحاطة الكاملة لاستعمالات

__________________

(١) المطول لسعد الدين التفتازاني : ص ٧١ (طبع مكتبة الداوري قم).

(٢) اصول الفقه لمحمد رضا المظفر : ج ١ ص ١٨٠ (طبع قم ١٤٠٥).

١٤

العرب ، والوقوف على دقائق اللغة العربية ، مع فهم كامل لأحكام القرآن ، والوقوف على ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ... ويزداد هذا الجهد العلمي ضرورة ، وتتنوع وتتعمق متطلباته وحاجاته أكثر فأكثر ، كلّما ابتعد الشخص عن زمن صدور النص ، وامتد الفاصل الزمني بينه وبين عصر الكتاب والسنة ، بكل ما يحمله هذا الامتداد من مضاعفات ، كضياع جملة من الأحاديث ، وتغير كثير من أساليب التعبير ، وقرائن التفهيم ، والملابسات التي تكتنف الكلام ، ودخول شيء كثير من الدس والافتراء في المجاميع الحديثية ، الأمر الذي يتطلب عناية بالغة في التمحيص والتدقيق في أسانيد الروايات ، وفي دلالاتها.

يضاف إلى كل ذلك ، تطور الحياة الذي يفرض عددا كبيرا من الوقائع والحوادث الجديدة التي لم يعشها النص ، ولم يرد فيها الحكم الخاص ، فلا بد من استنباط حكمها على ضوء القواعد العامة ، وبطبيعة الحال ، فإن ذلك يتطلب تخصص علمي في فهم تلك المصادر ، واستخراج الأحكام الشرعية منها (١).

ومن هنا نشأت الحاجة إلى الاستدلال على الأحكام الشرعية ، والمعبّر عن هذه العملية «بالاجتهاد» : وهي عبارة عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره ، وهو مأخوذ من المعنى اللغوي للاجتهاد الذي هو بذل الوسع للقيام بعمل ما.

فكل عملية لاستنباط الحكم الشرعي تسمى بالاجتهاد ـ سواء كان هذا الاستنباط مستندا إلى ظواهر النصوص أو لم يكن مستندا ، كما لو مارس الفقيه عملية استنباط للحكم الشرعي عن طريق تحديد موقف عملي طبقا للاصول المقررة عندهم ، سمي ذلك اجتهادا أيضا ، لما يستنبطه ذلك بذلا

__________________

(١) الفتاوى الواضحة للسيد محمد باقر الصدر : ص ٩٥ (بيروت ١٩٨١ ط ٧). وراجع ما كتبه الاستاذ الشيخ محمد إسحاق الفياض في النظرة الخاطفة في الاجتهاد : ص ٢٨ مؤسسة دار الكتاب قم : ١٤١٣ ه‍.

١٥

للجهد تجاه بيان الحكم الشرعي (١).

والاجتهاد بهذا المعنى هو الذي قرره أئمة المذهب عليهم‌السلام وأمروا أصحابهم به كما ورد عن الصادق عليه‌السلام ، فيما رواه زرارة «إنما علينا ان نلقي اليكم الأصول وعليكم ان تفرّعوا ...» (٢) كما سيأتي بيانه من المصنف رحمه‌الله في أوائل الكتاب ، وفي بحث أدلة العقل في أواخره ، وهذا المعنى هو الذي أثبته أعلام الطائفة في مصنّفاتهم في الرد على من أخذ عليهم بالاجتهاد.

والواقع ان الاجتهاد بالمعنى المتقدّم ، والذي يتبنّاه المذهب ليس من قبيل المصدر لتشريع الأحكام الشرعية في قبال الكتاب والسنة ، وإنما هو استنباط للأحكام الشرعية منها ، ورد للفروع إلى الاصول ، كما فسّر المصنف رحمه‌الله خبر معاذ بذلك فإنّه لما بعثه قاضيا إلى اليمن ، قال له : «بم تحكم يا معاذ؟ فقال بكتاب الله تعالى ، قال فإن لم تجد؟ قال فبسنّة رسول الله ، قال فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله الحمد لله الذي وفق رسول الله لاجتهاد الرأي» (٣). قال المصنف : وأراد معاذ رد أحكام تلك القضايا الجزئية ، التي لم يجدها منصوصة في الكتاب والسنة إليهما ، كما ستقف على تفصيل ذلك عند مطالعة هذه الرسالة.

أمّا الاجتهاد بمعنى أن الفقيه إذا اراد ان يستنبط حكما شرعيا ، ولم يجد نصا يدل عليه في الكتاب والسنة ، رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص ، هذا الاجتهاد يعتبر دليلا من أدلة الفقيه ، ومصدرا من مصادره ، في قبال الكتاب والسنة ، هذا ليس مطلوبا في المذهب ، وإنّما نادت به مدارس كبيرة في الفقه السنّي ، وعلى رأسها مدرسة الإمام أبي حنيفة ، ولقد لقي في نفس

__________________

(١) دروس في علم الاصول للسيد محمد باقر الصدر ، الحلقة الأولى : ص ٦٣ ، دار الكتاب اللبناني بيروت ط ١ ١٩٧٨.

(٢) وسائل الشيعة : ب ٦ من أبواب صفات القاضي ح ٥١ ، ٥٢ ، ج ١٨ ص ٤١.

(٣) مسند أحمد بن حنبل : ج ٥ ص ٢٣٠ (طبع دار صادر بيروت).

١٦

الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، والفقهاء المنتسبون إلى مدرستهم (١).

وتتبّع كلمة الاجتهاد يدل على ان الكلمة حملت هذا المعنى ، وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الائمة إلى القرن السابع ، فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تذم الاجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم ، وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضا. والرواة الذين حملوا آثارهم ، وكانت الحملة تستعمل كلمة الاجتهاد غالبا للتعبير عن ذلك

__________________

(١) دروس في علم الاصول للسيد محمد باقر الصدر الحلقة الأولى ص ٥٦. والروايات المنقولة عنهم عليهم‌السلام كثيرة متكثرة ، منها ما رواه (في بصائر الدرجات : ص ٣٢١ ح ٢) عن سعيد الأعرج قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : إن من عندنا ممن يتفقه يقولون : يرد علينا ما لا نعرفه في كتاب الله ولا في السنة نقول فيه برأينا. فقال عليه‌السلام : كذبوا ليس شيء إلّا وقد جاء في الكتاب وجاءت فيه السنة. ونقله في مستدرك الوسائل : ج ١٧ ص ٢٥٨ ح ٢١٢٧٩ (تحقيق مؤسسة آل البيت). ورواه الشيخ المفيد في الاختصاص : ص ٢٨١ ، بهذا السند مثله. وروى المؤلف رحمه‌الله في عوالي اللئالي ج ٤ ص ٦٥ ح ٢١. عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعيتهم السنن ان يحفظوها. فقالوا في الحلال والحرام برأيهم .. إلى آخر الرواية. ونقلها في المستدرك ج ١٧ ص ٢٥٦ ح ٢١٢٧٢. وقريب منه ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه‌السلام : ص ١٩ عن أمير المؤمنين عليه‌السلام. وبهذا المضمون ما رواه في دعائم الإسلام عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام ، ج ٢ ص ٥٣٦ ح ١٩٠٢ ، وعن جعفر بن محمد عليهما‌السلام ج ٢ ص ٥٣٥ ح ١٩٠٠. وأخرجهما المحدث النوري في المستدرك ج ١٧ ص ٢٥٤ ح ٢١٢٦٧ ، وص ٢٥٢ ح ٢١٢٦٢ من المجلد السابع عشر أيضا. وراجع أيضا ما كتبه العلامة الدكتور عبد الهادي الفضلي ، من موقف أهل البيت عليهم‌السلام من مدرسة الرأي تحت عنوان «نقد الرأي» في مقدمة كتابه «دروس في فقه الإمامية» ، عند تعرّضه للرأي كمصدر من مصادر التشريع الفقهي. ج ١ ص ٨٦ وما بعدها (نشر مؤسسة ام القرى ـ للتحقيق والنشر ـ ١٩٩٥).

١٧

المبدأ ، وفقا للمصطلح الذي جاء في الروايات.

فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتابا اسماه «الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس».

وصنف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني كتابا في الموضوع باسم «الرد على من رد آثار الرسول واعتمد على نتائج العقول».

وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه اسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد (١). كما نص النجاشي على ذلك في رجاله (٢).

ثم جاء الصدوق في أواسط القرن الرابع ليواصل تلك الحملة ورادّا على أهل الاجتهاد بقصة موسى والخضر ، وعدم ادراك موسى عليه‌السلام معنى أفعال الخضر عليه‌السلام وهو نبي فكيف يجوز ذلك لغيره.

ثم في أواخر القرن الرابع يأتي الشيخ المفيد فيسير على نفس الخط في كتابه المسمى «النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرأي».

وفي أوائل القرن الخامس نجد السيد المرتضى في الذريعة يذم الاجتهاد ويقول : «إن الاجتهاد باطل ، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرأي ولا الاجتهاد». وسار على نفس المنوال في كتابه الفقهي «الانتصار» معرّضا بابن الجنيد.

ثم من بعده الشيخ الطوسي في أواسط القرن الخامس ليثبت ذلك في كتابه «العدّة».

وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن ادريس في مسألة تعارض البيّنتين من كتابه السرائر عدد من المرجّحات لاحدى البيّنين ثم يعقّب بأن

__________________

(١) هداية الابرار إلى طريق الائمة الأطهار للشيخ حسن بن شهاب الدين الكركي المتوفي ١٠٧٦ ه‍ ص ١٨٧. بتحقيق رءوف جمال الدين.

(٢) رجال النجاشي : ج ١ ص ١٢٢. بتحقيق محمد جواد النائيني. دار الأضواء بيروت ١٩٨٨ م.

١٨

الاستحسان والاجتهاد باطل عندنا (١).

وتدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على ان كلمة الاجتهاد كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم. وهو جعله مصدرا للحكم الشرعي مستقلا ، وفي قبال الكتاب والسنة.

ويستفاد أيضا ان نفس كلمة الاجتهاد كانت ذات حساسية ، وتثير الاشمئزاز لأنها كانت مرادفة للقياس والاستحسان كما يظهر ذلك واضحا من العبارات المتقدمة لأعلام المذهب.

الّا ان مفهوم الاجتهاد أخذ بعدا آخر بعد ان تطور وتهذب وتبلور عما كان يحمله من رواسب الاقتران بالقياس والاستحسان ، وأخذ الاعلام يضمنونه لعباراتهم ، ولا يرون فيه أي حرج ، كما هو الملاحظ في عبارات المحقق الحلي في كتاب المعارج. وأيّ حرج فيه بعد ما كان موافقا مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي ويعبّر عن الجهد الذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره ، فلم يعد مصدرا من مصادر الاستنباط ، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه.

ولا يخفى ان الصراع المتقدّم ، والحرب الكلامية ضد الاجتهاد ، كانت ضد الاجتهاد بما هو لفظ الاجتهاد دون معناه ، لما يشم منه رائحة إبداء الرأي ، وهو مستهجن عندهم ، وإلّا فان الاجتهاد بمعناه الإمامي ، وهو استنباط الحكم مستندا إلى الكتاب والسنة ، أو إلى القواعد المتخذة منهما ، فقد ما رسوه فعلا حتى في زمن حضور الأئمة عليهم‌السلام بل ان الصحاح المروية عن زرارة والحوار الذي دار بينه وبين الإمام الباقر عليه‌السلام ، وإعطاء الإمام لزرارة قواعد كلية يمكن تطبيقها على كثير من الموارد اثناء الاستدلال ، وكذلك ما رواه محمد بن مسلم عن الإمام الصادق عليه‌السلام بما يرجع مضمونه إلى الحوار السابق ، كما وان إرجاع الأئمة عليهم‌السلام ـ بعض من سألهم من

__________________

(١) دروس في علم الاصول للسيد محمد باقر الصدر ، الحلقة الأولى ص ٥٦.

١٩

الأمصار البعيدة عن محل اقامتهم ـ إلى بعض الأصحاب ممن يراه الإمام أهلا للفتيا ، وأخذ معالم الدين عنه (١). كل ذلك يثبت بوضوح ان الاجتهاد بمعناه الشيعي ، ليس أمرا مستحدثا في عصر الغيبة بل هو موجود في عصر التشريع على طول الخط (٢).

حتى ان المؤلف رحمه‌الله في الفصل الثالث من هذه الرسالة ، في بحث أدلة العقل يذهب إلى وجوب الاجتهاد مع حضور الإمام ، عملا بمضمون النص المروي بطريق صحيح عن زرارة وأبي بصير عن الصادقين عليهما‌السلام : «علينا ان نلقي اليكم الاصول وعليكم ان تفرّعوا». ولفظه «على» إنما تستعمل للوجوب لظهور صيغة الامر في الوجوب كما هو مقرّر في

__________________

(١) للوقوف على بعض هذه الإرجاعات يراجع ما رواه عبد الله بن أبي يعفور عن أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وإرجاع الإمام إياه إلى محمد بن مسلم الثقفي ، (نقلها الكشي في الرجال ، ص ١٤٥ برقم ٦٧ ط مؤسسة الأعلمي). ورواية المفضل بن عمر عن الصادق عليه‌السلام أيضا وإرجاع الفيض بن المختار إلى زرارة بن أعين (الكشي : ص ١٢٣ برقم ٦٢). ورواية يونس بن يعقوب عن الصادق عليه‌السلام كذلك وارجاعه إلى الحارث بن المغيرة البصري. (الكشي : ص ٢٨٧ برقم ١٦٨). ورواية علي بن المسيب عن الرضا عليه‌السلام وإرجاعه إلى زكريا بن آدم القمي. (الكشي : ص ٤٩٦ برقم ٤٨٧). ورواية عبد العزيز بن المهتدي عن الرضا عليه‌السلام أيضا وإرجاعه إلى يونس بن عبد الرحمن (الكشي : ص ٤٥٩ رقم ٣٥١). ورواية محمد بن عيسى عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام كذلك. وإرجاعه إلى يونس بن عبد الرحمن أيضا. (الكشي : ص ٤١٤ برقم ٣٥١). ورواية أبو علي أحمد بن إسحاق عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وإرجاعه إلى العمري. وروى أيضا أنّه سأل أبا محمد عليه‌السلام عن مثل ذلك وأرجعه إلى العمري أيضا. (نقل ذلك محمد بن يعقوب الكليني في الكافي ج ١ ص ٣٣٠ ط طهران ١٣٨٨ ه‍). ورواية أبو حماد الرازي عن الهادي عليه‌السلام ... وفيها «فلما ودعته قال لي يا حماد : إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني ، وأقرأه مني السلام». (جامع أحاديث الشيعة : ج ١ ص ٢٢٤ برقم ٣٢٢).

(٢) النظرة الخاطفة في الاجتهاد للشيخ محمد إسحاق الفياض : ص ٢٧.

٢٠