معاني القرآن - ج ١

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء

معاني القرآن - ج ١

المؤلف:

أبي زكريا يحيى بن زياد الفرّاء


المحقق: أحمد يوسف نجاتي و محمد علي النجار
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٠٩
الجزء ١ الجزء ٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[به (١) الإعانة بدءا وختما ، وصلّى الله على سيّدنا محمد ، وعلى آله وصحبه وسلّم.

حدّثنا أبو منصور نصر مولى أحمد بن رسته ، قال : حدّثنا أبو الفضل يعقوب بن يوسف بن معقل النّيسابورىّ ، سنه إحدى وسبعين ومائتين ، قال : سمعت أبا عبد الله محمد بن الجهم بن هارون السّمّرىّ (٢) ، سنة ثمان وستين ومائتين ، قال] :

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله وبارك وسلّم على محمد خاتم النبيين ، وعلى آله ، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين. وإياه نسأل التوفيق والصواب ، وحسن الثواب ، والعصمة من الخطايا والزّلل ، فى القول والعمل. قال :

هذا كتاب فيه معانى القرآن ، أملاه علينا أبو زكريا يحيى بن زياد الفرّاء ـ يرحمه‌الله ـ عن حفظه من غير نسخة ، فى مجالسه أوّل النهار من أيام الثّلاثاوات والجمع فى شهر رمضان ، وما بعده من سنة اثنتين ، وفى شهور سنة ثلاث ، وشهور من سنة أربع ومائتين. [قال (٣)] :

حدّثنا محمد بن الجهم ، قال : حدّثنا الفرّاء ، قال :

تفسير مشكل إعراب القرآن ومعانيه

قال : فأوّل ذلك اجتماع القرّاء وكتّاب المصاحف (٤) على حذف الألف من «بسم الله الرّحمن الرّحيم» ، [وفى فواتح الكتب ، وإثباتهم الألف

__________________

(١) ما بين المربعين من نسختى ج ، ش. وتشديد ثانيه وفتحه ـ : بلد بين واسط والبصرة. ابن الجهم ، وهو أبو الفصل يعقوب بن يوسف.

(٢) هذه النسبة إلى «سمر» ـ بكسر أوّله.

(٣) سقط فى أ. والقائل هو الراوي عن محمد.

(٤) بهامش نسخة أ : «الكتب».

١

فى قوله (١)] : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ) (٢) ؛ [وإنما حذفوها من «بسم الله الرحمن الرحيم» أول السور والكتب] (٣) لأنها وقعت فى موضع معروف لا يجهل القارئ معناه ، ولا يحتاج إلى قراءته ، فاستخفّ طرحها ؛ لأن من شأن العرب الإيجاز وتقليل الكثير إذا عرف معناه. وأثبتت فى قوله : (فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ) لأنها لا تلزم هذا الاسم ، ولا تكثر معه ككثرتها مع الله تبارك وتعالى. ألا ترى أنك تقول : «بسم الله» عند ابتداء كلّ فعل تأخذ فيه : من مأكل أو مشرب أو ذبيحة. فخفّ عليهم الحذف لمعرفتهم به.

وقد رأيت بعض الكتّاب تدعوه معرفته بهذا الموضع إلى أن يحذف الألف والسين من «اسم» لمعرفته بذلك ، ولعلمه بأن القارئ لا يحتاج إلى علم ذلك. فلا تحذفنّ ألف «اسم» إذا أضفته إلى غير الله تبارك وتعالى ، ولا تحذفنّها مع غير الباء من الصفات (٤) ؛ وإن كانت تلك الصفة حرفا واحدا ، مثل اللام والكاف. فتقول : لاسم الله حلاوة فى القلوب ، وليس اسم كاسم الله ؛ فتثبت الألف فى اللام وفى الكاف ؛ لأنهما لم يستعملا كما استعملت الباء فى اسم الله. ومما كثر فى كلام العرب فحذفوا منه أكثر من ذا قولهم : أيش عندك ؛ فحذفوا إعراب (٥) «أىّ» وإحدى ياءيه ، وحذفت الهمزة من «شىء» ، وكسرت الشين وكانت مفتوحة ؛ فى كثير من الكلام لا أحصيه.

فإن قال قائل : إنما حذفنا الألف من «بسم الله» لأن الباء لا يسكت عليها ، فيجوز ابتداء الاسم بعدها. قيل له : فقد كتبت العرب فى المصاحف (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً) (٦) بالألف ؛ والواو لا يسكت عليها ؛ فى كثير من أشباهه. فهذا يبطل (٧) ما ادّعى.

__________________

(١) ما بين المربعين ساقط من ج ، ش. والذي فيهما : «بخلاف قوله «فسبح ...» إلخ.

(٢) آخر سورة الحاقة ، وآية ٧٤ من الواقعة.

(٣) مابين المربعين فى أ.

(٤) الصفة عند الكوفيين حرف الجرّ والظرف.

(٥) يريد بإعراب الحرف حركته.

(٦) آية ٣٢ سورة الكهف ، و ١٣ سورة يس.

(٧) فى ش : «تبطيل» ويبدو أنه تصحيف عما أثبتناه.

٢

اُمّ الكتاب

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ ...) (٢)

اجتمع القرّاء على رفع (الْحَمْدُ). وأمّا أهل البدو فمنهم من يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ). ومنهم من يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ). ومنهم من يقول : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) فيرفع الدال واللام.

فأما من نصب فإنه يقول : (الْحَمْدُ) ليس باسم إنما هو مصدر ؛ يجوز لقائله أن يقول : أحمد الله ، فإذا صلح مكان المصدر (فعل أو يفعل) (١) جاز فيه النصب ؛ من ذلك قول الله تبارك وتعالى : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ) (٢) يصلح مكانها فى مثله من الكلام أن يقول : فاضربوا الرقاب. ومن ذلك قوله : (مَعاذَ اللهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ) (٣) ؛ يصلح أن تقول فى مثله من الكلام : نعوذ بالله. ومنه قول العرب : سقيا لك ، ورعيا لك ؛ يجوز مكانه : سقاك الله ، ورعاك الله.

وأما من خفض الدال من (الْحَمْدُ) فإنه قال : هذه كلمة (٤) كثرت على ألسن العرب حتى صارت كالاسم الواحد ؛ فثقل عليهم أن يجتمع فى اسم واحد من كلامهم ضمّة بعدها كسرة ، أو كسرة بعدها ضمّة ، ووجدوا الكسرتين قد تجتمعان فى الاسم الواحد مثل إبل ؛ فكسروا الدال ليكون على المثال من أسمائهم.

__________________

(١) يريد الماضي أو المضارع ، والأمر عند الكوفيين قطعة من المضارع.

(٢) آية ٤ سورة محمد.

(٣) آية ٧٩ سورة يوسف.

(٤) يريد جملة الحمدلة. وإطلاق الكلمة على الجملة مجاز.

٣

وأمّا الذين رفعوا اللّام فإنهم أرادوا المثال الأكثر من أسماء العرب الذي يجتمع فيه الضمتان ؛ مثل : الحلم والعقب (١).

ولا تنكرنّ أن يجعل الكلمتان كالواحدة إذا كثر بهما الكلام. ومن ذلك قول العرب : «بأبا» إنما هو «بأبى» الياء من المتكلم ليست من الأب ؛ فلما كثر بهما الكلام توهّموا أنهما حرف واحد فصيّروها ألفا ليكون على مثال : حبلى وسكرى ؛ وما أشبهه من كلام العرب. أنشدنى أبو ثروان :

قال الجواري ما ذهبت مذهبا

وعبننى ولم أكن معيّبا

هل أنت إلّا ذاهب لتلعبا

أريت إن أعطيت نهدا كعثبا (٢)

أذاك أم نعطيك هيدا هيدبا (٣)

أبرد فى الظّلماء من مسّ الصّبا

فقلت : لا ، بل ذاكما يا بيبا (٤)

أجدر (٥) ألّا تفضحا وتحربا

«هل أنت إلّا ذاهب لتلعبا» (٦) ذهب ب «هل» إلى معنى «ما».

__________________

(١) العقب : العاقبة. ويقال فيه العقب بضم فسكون.

(٢) يصف الركب (أي الفرج). والنهد : المرتفع المشرف ؛ ومنه نهد الثدي (كمنع ونصر) نهودا ؛ إذا كعب وارتفع وأشرف. وكعثب نهد : ناتى مرتفع ؛ فإن كان لا صقا فهو هيدب. والكعثب والكثعب : الكرب الضخم الممتلى الشاخص المكتنز الناتئ. والكعثب أيضا صاحبته ؛ يقال : امرأة كعثب وكثعب ؛ أي ضخمة الركب.

(٣) الهيد الهيدب : الذي فيه رخاوة ؛ مثل ركب العجائز المسترخى لكبرها.

(٤) «يا بيبا» أصله : يا بأبى ، و «يا» للنداء المراد منه التنبيه ، وقد تستعمل فى موضعه «وا» كقول الراجز :

وا بأبى أنت وفوك الأشنب

(٥) فى الأصول : «أحذر» وهو تصحيف. «وتحربا» : أي تغضبا. وحرب كفرح : اشتدّ غضبه.

(٦) أعاد هذا الشطر ليتكلم على شىء فيه. يريد أن الغرض من الاستفهام النفي ؛ كقوله تعالى : (هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلَّا الْإِحْسانُ).

٤

(عَلَيْهِمْ) و (عَلَيْهِمْ) وهما لغتان ؛ لكل لغة مذهب فى العربية.

فأما من رفع الهاء فإنه يقول : أصلها رفع فى نصبها وخفضها ورفعها ؛ فأما الرفع فقولهم : «هم قالوا ذاك» ، فى الابتداء ؛ ألا ترى أنها مرفوعة لا يجوز فتحها ولا كسرها. والنصب فى قولك : «ضربهم» مرفوعة (١) لا يجوز فتحها ولا كسرها ؛ فتركت فى (عَلَيْهِمْ) على جهتها الأولى.

وأما من قال : (عَلَيْهِمْ) فإنه استثقل الضمّة فى الهاء وقبلها ياء ساكنة ، فقال : (عَلَيْهِمْ) لكثرة دور المكنى (٢) فى الكلام. وكذلك يفعلون بها إذا اتصلت بحرف مكسور مثل «بهم» و «بهم» ، يجوز فيه الوجهان مع الكسرة والياء (٣) الساكنة. ولا تبال أن تكون الياء مفتوحا ما قبلها أو مكسورا ؛ فإذا انفتح ما قبل الياء فصارت ألفا فى اللفظ لم يجز فى «هم» إلا الرفع ؛ مثل قوله تبارك وتعالى : (وَرُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ) (٤) ولا يجوز : «مولاهم الحقّ» ، وقوله (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ) (٥) لا يجوز : (فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ).

ومثله مما قالوا فيه بالوجهين إذا وليته (٦) ياء ساكنة أو كسرة ، قوله : (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) (٧) و (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً) (٨) يجوز رفع الألف من «أمّ» و «أمها» وكسرها فى الحرفين جميعا لمكان الياء. والكسرة مثل قوله تبارك وتعالى : (فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ) (٩) ، وقول من روى عن النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (أوصى امرأ بأمّه). فمن رفع قال : الرفع هو الأصل فى الأمّ

__________________

(١) كأن الأصل : «هى مرفوعة» فحذف المبتدأ للعلم به. والحديث عن الهاء.

(٢) يريد بالمكنى : الضمير.

(٣) أي فى «عليهم».

(٤) آية ٣٠ سورة يونس.

(٥) آية ٩٠ سورة الأنعام.

(٦) كذا فى الأصول. والولي : القرب والاتصال من قبل ومن بعد ، وإن اشتهر فيما يجىء بعد. فقوله : «وليته» أي اتصلت به ، والمقام يقضى أنها اتصلت به قبله.

(٧) آية ٤ من سورة الزخرف.

(٨) آية ٥٩ سورة القصص.

(٩) آية ١١ سورة النساء.

٥

والأمّهات. ومن كسر قال : هى كثيرة المجرى فى الكلام ؛ فاستثقل ضمة قبلها ياء ساكنة أو كسرة. وإنما يجوز كسر ألف «أمّ» إذا وليها (١) كسرة أو ياء ؛ فإذا انفتح ما قبلها فقلت : فلان عند أمّه ، لم يجز أن تقول : عند إمّه ، وكذلك إذا كان ما قبلها مضموما لم يجز كسرها ؛ فتقول : اتّبعت أمّه ، ولا يجوز الكسر. وكذلك إذا كان ما قبلها حرفا مجزوما لم يكن فى الأمّ إلا ضم الألف ؛ كقولك : من أمّه ، وعن أمّه. ألا ترى أنك تقول : عنهم ومنهم [واضربهم] (٢). ولا تقول : عنهم ولا منهم ، ولا اضربهم. فكل موضع حسن فيه كسر الهاء مثل قولهم : فيهم وأشباهها ، جاز فيه كسر الألف من «أمّ» وهى قياسها. ولا يجوز أن تقول : كتب إلى إمّه ولا على إمّه ؛ لأن الذي قبلها ألف فى اللفظ وإنما هى ياء فى الكتاب : «إلى» (٣) و «على». وكذلك : قد طالت يدا أمّه بالخير. ولا يجوز أن تقول : يدا إمّه. فإن قلت : جلس بين يدى أمّه ؛ جاز كسرها وضمها لأن الذي قبلها ياء. ومن ذلك أن تقول : هم ضاربو أمّهاتهم ؛ برفع الألف لا يكون غيره. وتقول : ما هم بضاربي أمّهاتهم وإمّهاتهم ؛ يجوز الوجهان جميعا (٤) لمكان الياء. ولا تبال (٥) أن يكون ما قبل ألف «أمّ» موصولا بها (٦) أو منقطعا منها ؛ الوجهان يجوزان فيه ؛ تقول : هذه أمّ زيد وإمّ زيد. وإذا ابتدأتها لم تكن إلا مرفوعة ، كما كانت «هم» لا تكون إلا مرفوعة فى الابتداء ، فأما «هم» فلا تكسر إلا مع حرف يتصل بها لا يفرق بينه وبينها مثل «بهم».

__________________

(١) كذا فى الأصول. وانظر ما كتب آنفا فى التعليق.

(٢) زيادة اقتضاها السياق.

وقوله بعد : «ولا اضربهم».

(٣) فى أ : «مثل إلى».

(٤) «جميعا» ساقط من أ.

(٥) فى ج ، ش : «يقال». وهو تحريف عما أثبت.

(٦) يريد الوصل والانقطاع فى الرسم والخط.

٦

وقوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ...) (٧)

بخفض (غَيْرِ) لأنها نعت للذين ، لا للهاء والميم من (عَلَيْهِمْ). وإنما جاز أن تكون (غَيْرِ) نعتا لمعرفة ؛ لأنها قد أضيفت إلى اسم فيه ألف ولام ، وليس بمصمود (١) له ولا الأوّل أيضا بمصمود له ، وهى فى الكلام بمنزلة قولك : لا أمرّ إلا بالصادق غير الكاذب ؛ كأنك تريد بمن يصدق ولا يكذب. ولا يجوز أن تقول : مررت بعبد الله غير الظريف إلا على التكرير ؛ لأن عبد الله موقّت (٢) ، و (غَيْرِ) فى مذهب (٣) نكرة غير موقتة ، ولا تكون نعتا إلا لمعرفة غير موقتة. (٤) والنصب جائز فى (غَيْرِ) ، تجعله قطعا (٥) من (عَلَيْهِمْ). وقد يجوز أن تجعل (الَّذِينَ) قبلها فى موضع توقيت ، وتخفض (غَيْرِ) على التكرير : «صراط (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ).

__________________

(١) أي لم يقصد به قصد قوم بأعيانهم ، لأن «الذين» مع كونه معرفة فتعريفه بالصلة ؛ فهو قريب من النكرة لأنه عام. و (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ ...) أيضا لم يقصد به معين فمن ثم صلح أن تكون (غير) وصفا للمعرفة. ويرى بعضهم أن (غيرا) وإن كانت فى الأصل نكرة إلا أنها هنا قريب من المعرفة ، لأنها إذا وقعت بين متضادين وكانا معرفتين تعرفت بالإضافة ، أو قربت من المعرفة ؛ كقولك : تعجبنى الحركة غير السكون ، فالحركة دأب الحي غير الميت ، وكذلك الحال هنا لأن المنعم عليهم والمغضوب عليهم متضادان معرفتان. ويجوز فى (غَيْرِ) فى الآية أن تكون بدلا من (الَّذِينَ) أو من الهاء فى (عَلَيْهِمْ).

(٢) يعنى كونه علما معينا معرّفا بالعلمية.

(٣) المذهب : مكان الذهاب ؛ يراد به الطريق. أي أن (غَيْرِ) فى طريق النكرة ، وهذا كناية عن أنها نكرة.

(٤) قال المبرد : والفراء يأبى أن يكون (غَيْرِ) نعتا إلا للذين لأنها بمنزلة النكرة ، وقال الأخفش : (غَيْرِ) بدل ؛ قال ثعلب : وليس بممتنع ما قال ، ومعناه التكرير ، كأنه أراد صراط غير المغضوب عليهم.

(٥) يريد بالقطع أنه منصوب حالا من الهاء فى (عَلَيْهِمْ) ؛ كأنه قيل : أنعمت عليهم لا مغضوبا عليهم. وجوز أن يكون منصوبا بالاستثناء من (الَّذِينَ) أو من الضمير فى (عَلَيْهِمْ) أي إلا المغضوب عليهم.

٧

وأما قوله تعالى : (وَلَا الضَّالِّينَ) (٧) فإن معنى (غَيْرِ) معنى (لَا) ؛ فلذلك ردّت عليها (وَلَا). هذا كما تقول : فلان غير محسن ولا مجمل ؛ فإذا كانت (غَيْرِ) بمعنى سوى لم يجز أن تكرّ عليها (لَا) ؛ ألا ترى أنه لا يجوز : عندى سوى عبد الله ولا زيد.

وقد قال بعض من (١) لا يعرف العربية : إن معنى (غَيْرِ) فى (الْحَمْدُ) (٢) معنى «سوى» ، وإن (لَا) صلة فى الكلام ، واحتجّ بقول الشاعر (٣) :

فى بئر لا حور سرى وما شعر

وهذا [غير] جائز ؛ لأن المعنى وقع على ما لا يتبين فيه عمله ، فهو جحد محض. وإنما يجوز أن تجعل (لَا) صلة إذا اتصلت بجحد قبلها ؛ مثل قوله :

ما كان يرضى رسول الله دينهم

والطيّبان أبو بكر ولا عمر (٤)

فجعل (لَا) صلة لمكان الجحد الذي فى أوّل الكلام ؛ هذا التفسير أوضح ؛ أراد فى بئر لا حور ، (لَا) الصحيحة فى الجحد ؛ لأنه أراد فى : بئر ماء لا يحير عليه شيئا ؛ كأنك قلت : إلى غير رشد توجه وما درى. والعرب تقول : طحنت الطاحنة فما أحارت شيئا (٥) ؛ أي لم يتبين لها أثر عمل.

__________________

(١) هو أبو عبيدة. وانظر اللسان (غير).

(٢) أي سورة الفاتحة. والحمد من أسمائها.

(٣) هو العجاج ، من أرجوزة له طويلة يمدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر ، وكان عبد الملك بن مروان وجهه لقتال أبى فديك الحروري فأوقع به وبأصحابه. ومطلعها :

قد جبر الدين الإله فجبر

وعور الرحمن من ولى العور

وقوله : «فى بئر لا حور» يريد فى بئر نقص سرى الحروري وما شعر ؛ يقول : نقص الحروري ومادرى. ويقال : فلان يعمل فى حور أي فى نقصان. وهذا على ما يرى أبو عبيدة. ويرى الفرّاء أن الحور الرجوع ولا للنفى ، أي سرى فى بئر غير رجوع ، أي بئر منسوبة إلى عدم الرجوع لأنها لا ترجع عليه بخير. والحور يأتى فى معنى النقصان ومعنى الرجوع ، فأخذ أبو عبيدة بالأول ، والفرّاء بالثاني. وانظر الخزانة ٢ / ٩٥ والبيت محرف فى الأصل والتصويب من ديوان العجاج.

(٤) من قصيدة لجرير فى هجو الأخطل. وانظر الديوان طبعة الصاوى ٢٦٣.

(٥) أي ما ردت شيئا من الدقيق ، والمراد أنه لم يتبين لها أثر عمل ؛ كما قال المؤلف.

٨

ومن سورة البقرة (١)

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى : (الم (١) ذلِكَ الْكِتابُ ...) (٢)

الهجاء موقوف فى كل القرآن ، وليس بجزم يسمّى جزما ، إنما هو كلام جزمه نيّة الوقوف على كل حرف منه ؛ فافعل ذلك بجميع الهجاء فيما قلّ أو كثر. وإنما قرأت القرّاء (الم اللهُ) فى «آل عمران» ففتحوا الميم ؛ لأن الميم كانت مجزومة لنيّة الوقفة (٢) عليها ، وإذا كان الحرف ينوى به الوقوف نوى بما بعده الاستئناف ، فكانت القراءة «ال م الله» فتركت العرب همزة الألف من «الله» فصارت فتحتها فى الميم لسكونها ، ولو كانت الميم جزما مستحقّا للجزم لكسرت ، كما فى (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) (٣). وقد قرأها رجل من النحويين ، ـ وهو أبو جعفر الرؤاسىّ وكان رجلا صالحا ـ «الم الله» بقطع الألف ، والقراءة بطرح الهمزة. قال الفراء : وبلغني عن عاصم أنه قرأ بقطع (٤) الألف.

__________________

(١) فى ج ، ش : فاتحة البقرة.

(٢) فى ج ، ش : «الوقف». فتح الميم فى «الم الله» أوّل سورة آل عمران هو قراءة العامة ؛ قال النحاس فى إعراب القرآن له : «وقد تكلم فيها النحويون القدماء ؛ فمذهب سيبويه أن الميم فتحت لالتقاء الساكنين ، واختاروا لها الفتح كى لا يجمع بين كسرة وياء وكسرة قبلها ...... وقال الكسائي : حروف التهجي إذا لقيتها ألف الوصل فحذفت ألف الوصل حركتها بحركة الألف فقلت : الم الله ، والم اذكر ، والم اقتربت».

وقال العكبري فى إعراب القرآن له : «وقيل فتحت لأن حركة همزة «الله» ألقيت عليها ، وهذا بعيد ؛ لأن همزة الوصل لا حظ لها فى الثبوت فى الوصل حتى تلقى حركتها على غيرها. وقيل الهمزة فى «الله» همزة قطع ، وإنما حذفت لكثرة الاستعمال ، فلذلك ألقيت حركتها على الميم لأنها تستحق الثبوت ، وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف «أل».

(٣) آية ٢٧ سورة يس.

(٤) قراءة عاصم كقراءة الرؤاسى ، وهذه القراءة على تقدير الوقف على «الم» كما يقدرون الوقف على أسماء الأعداد فى نحو واحد ، اثنان ، ثلاثة ، اربعة ؛ وهم واصلون.

٩

وإذا كان الهجاء أوّل سورة فكان حرفا واحدا ؛ مثل قوله (ص) و (ن) و (ق) كان فيه وجهان فى العربية ؛ إن نويت به الهجاء تركته جزما وكتبته حرفا واحدا ، وإن جعلته اسما للسورة أو فى مذهب قسم كتبته على هجائه «نون» و «صاد» و «قاف» وكسرت الدال من صاد ، والفاء من قاف ، ونصبت النون الآخرة من «نون» فقلت : «نون والقلم» و «صاد والقرآن» و «قاف» لأنه قد صار كأنه أداة ؛ كما قالوا رجلان ، فخفضوا النون من رجلان لأن قبلها ألفا ، ونصبوا النون فى «المسلمون والمسلمين» لأن قبلها ياء وواوا. وكذلك فافعل ب (يس وَالْقُرْآنِ) فتنصب النون من (يس) وتجزمها. وكذلك (حم) و (طس) ولا يجوز ذلك فيما زاد على هذه الأحرف مثل «طا سين ميم» لأنها لا تشبه الأسماء ، و (طس) تشبه قابيل. ولا يجوز ذلك فى شىء من القرآن مثل (الم) و (المر) ونحوهما.

وقوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ ...) (٢)

يصلح فيه (ذلِكَ) من جهتين ، وتصلح فيه «هذا» من جهة ؛ فأما أحد الوجهين من (ذلِكَ) فعلى معنى : هذه الحروف يا أحمد (١) ، ذلك الكتاب الذي وعدتك أن أوحيه إليك. والآخر أن يكون (ذلِكَ) على معنى يصلح فيه «هذا» ؛ لأن قوله «هذا» و (ذلِكَ) يصلحان فى كل كلام إذا ذكر ثم أتبعته بأحدهما بالإخبار عنه. ألا ترى أنك تقول : قد قدم فلان ؛ فيقول السامع : قد بلغنا ذلك ، وقد بلغنا هذا الخبر ، فصلحت فيه «هذا» ؛ لأنه قد قرب من جوابه ، فصار كالحاضر الذي تشير إليه ، وصلحت فيه (ذلِكَ) لانقضائه ، والمنقضى كالغائب. ولو كان شيئا قائما يرى لم يجز مكان (ذلِكَ) «هذا» ،

__________________

(١) فى ج ، ش «محمد».

١٠

ولا مكان «هذا» (ذلِكَ) وقد قال الله جل وعز : (وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ) إلى قوله : (وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ) ثم قال : (هذا ذِكْرُ) (١). وقال جلّ وعزّ فى موضع آخر : (وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ) ثم قال : (هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ) (٢). وقال جلّ ذكره : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ) ثم قال : (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) (٣). ولو قيل فى مثله من الكلام فى موضع (ذلِكَ) : هذا» أو فى موضع «هذا» : (ذلِكَ) لكان صوابا. وفى قراءة عبد الله بن مسعود «هذا فذوقوه» وفى قراءتنا (ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ) (٤).

فأما ما لا يجوز فيه «هذا» فى موضع (ذلِكَ) ولا (ذلِكَ) فى موضع «هذا» فلو رأيت رجلين تنكر أحدهما لقلت للذى تعرف : من هذا الذي معك؟ ولا يجوز هاهنا : من ذلك؟ لأنك تراه بعينه.

وأما قوله تعالى : (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢)

فإنه رفع من وجهين ونصب من وجهين ؛ إذا أردت ب (الْكِتابُ) أن يكون نعتا ل (ذلِكَ) كان الهدى فى موضع رفع لأنه خبر ل (ذلِكَ) ؛ كأنك قلت : ذلك هدى لا شكّ فيه (٥). وإن جعلت (لا رَيْبَ فِيهِ) خبره رفعت أيضا (هُدىً) تجعله تابعا لموضع (لا رَيْبَ فِيهِ) ؛ كما قال الله عزوجل : (وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ) (٦) كأنه قال : وهذا كتاب ، وهذا مبارك ، وهذا من صفته كذا وكذا. وفيه وجه ثالث من الرفع : إن شئت رفعته على الاستئناف لتمام ما قبله ، كما قرأت القرّاء (الم. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ. هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ) (٧) بالرفع

__________________

(١) الآيات ٤٥ ـ ٤٩ سورة ص.

(٢) آية ٥٢ ، ٥٣ سورة ص.

(٣) آية ١٩ سورة ق.

(٤) آية ١٤ سورة الأنفال.

(٥) وجملة «لا ريب فيه» على هذا اعتراض أو حال.

(٦) آية ٩٢ و ١٥٥ سورة الأنعام.

(٧) آية ١ ـ ٣ سورة لقمان.

١١

والنصب. وكقوله فى حرف عبد الله : (أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي) شيخ» (١) وهى فى قراءتنا (شَيْخاً).

فأما النصب فى أحد الوجهين فأن تجعل (الْكِتابُ) خبرا ل (ذلِكَ) فتنصب (هُدىً) على القطع ؛ لأن (هُدىً) نكرة اتصلت بمعرفة قد تمّ خبرها فنصبتها ؛ لأن النكرة لا تكون دليلا على معرفة. وإن شئت نصبت (هُدىً) على القطع (٢) من الهاء التي فى (فِيهِ) ؛ كأنك قلت : لا شك فيه هاديا.

واعلم أن «هذا» إذا كان بعده اسم فيه الألف واللام جرى على ثلاثة معان : أحدها ـ أن ترى الاسم الذي بعد «هذا» كما ترى «هذا» ففعله حينئذ مرفوع (٣) ؛ كقولك : هذا الحمار فاره. جعلت الحمار نعتا لهذا إذا (٤) كانا حاضرين ، ولا يجوز هاهنا النصب (٥). والوجه الآخر ـ أن يكون ما بعد «هذا» واحدا يؤدّى عن جميع جنسه ، فالفعل حينئذ منصوب ؛ كقولك : ما كان من السباع غير مخوف فهذا الأسد مخوفا ؛ ألا ترى أنك تخبر عن الأسد كلّها بالخوف. والمعنى الثالث ـ أن يكون ما بعد «هذا» واحدا لا نظير له ؛ فالفعل حينئذ أيضا منصوب. وإنما نصبت الفعل لأن «هذا» ليست بصفة للأسد إنما دخلت تقريبا (٦) ، وكان الخبر بطرح «هذا» أجود ؛ ألا ترى أنك لو قلت : ما لا يضرّ (٧) من السباع فالأسد ضار ، كان أبين. وأما معنى التقريب : فهذا أوّل ما أخبركم عنه ، فلم يجدوا بدّا من أن

__________________

(١) آية ٧٢ سورة هود.

(٢) يريد بالقطع الحال.

(٣) يعنى أن مدلول «هذا» والاسم المحلى بأل بعده واحد مساو له ، بأن يكون هو إياه لا يزيد عنه ، ومراده بفعله الاسم الواقع بعد المحلى بأل ، وعبر عنه بفعله لأنه من أحواله وصفاته ، وقد يكون حدثا من أحواله وصفاته نحو الفراهة والإخافة ، والضياء والنور فى الأمثلة التي أتى بها.

(٤) كذا فى الأصول. والأنسب (إذ).

(٥) عدم جواز النصب هنا أنه لو نصب «فاره» حالا ، لتعين أن يكون «الحمار» خبر الاسم الإشارة فتكون الجملة الاسمية لا فائدة فيها ؛ لأنك تخبر عن شىء مشاهد بنفسه.

(٦) انظر فى التقريب عند الكوفيين الهمع ١ / ١١٣

(٧) كذا بالأصول ، وقد يكون الأصل : ما لا يضرى من السباع فالأسد ضار.

١٢

يرفعوا هذا «بالأسد» ، وخبره منتظر ، فلما شغل الأسد بمرافعة (١) «هذا» نصب فعله الذي كان يرافعه لخلوته (٢). ومثله (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٣) فإذا أدخلت عليه «كان» ارتفع بها والخبر منتظر يتم به الكلام فنصبته لخلوته.

وأما نصبهم فعل الواحد الذي لا نظير له مثل قولك : هذه الشمس ضياء للعباد ، وهذا القمر نورا ؛ فإن القمر واحد لا نظير له ، فكان أيضا عن قولك «هذا» مستغنيا ؛ ألا ترى أنك إذا قلت : طلع القمر ، لم يذهب الوهم إلى غائب فتحتاج أن تقول «هذا» لحضوره ، فارتفع بهذا ولم يكن نعتا ، ونصبت خبره للحاجة إليه.

وقوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ...) (٧)

انقطع معنى الختم عند قوله : (وَعَلى سَمْعِهِمْ). ورفعت «الغشاوة» ب (عَلى) ، ولو نصبتها بإضمار «وجعل» لكان صوابا. وزعم المفضّل (٤) أن عاصم بن أبى النّجود كان ينصبها ، على مثل قوله فى الجاثية : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٥) ومعناهما واحد ، والله أعلم. وإنما يحسن الإضمار فى الكلام الذي يجتمع ويدلّ أوّله على آخره ؛ كقولك : قد أصاب فلان المال ، فبنى الدور والعبيد والإماء واللباس الحسن ؛ فقد ترى البناء لا يقع على العبيد والإماء ولا على الدوابّ ولا على الثياب ، ولكنه من صفات اليسار ؛

__________________

(١) «بمرافعة» كذا فى ش. وفى غيرها : «بمرافعه». هذا ومذهب الكوفيين ومنهم الفراء أنّ المبتدأ والخبر ترافعا ؛ يعنى أن المبتدأ رفع الخبر والخبر رفع المبتدأ ؛ لأن كلا منهما طالب للآخر ومحتاج إليه وبه صار عمدة.

(٢) أي عدم اشتغاله بمرافع.

(٣) «الله» مبتدأ و «غفور رحيم» خبران ، فإذا دخل على الجملة كان يكون لفظ الجلالة مرفوعا بها ، وينصب ما بعده.

(٤) هو المفضل الضبّىّ. كان من أكابر علماء الكوفة ، توفى سنة ١٧١ ه‍.

(٥) آية ٢٣ من السورة المذكورة.

١٣

فحسن الإضمار لمّا عرف. ومثله فى سورة الواقعة : (يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ. بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ) (١) ثم قال : (وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ. وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ. وَحُورٌ عِينٌ) فخفض بعض القراء ، ورفع بعضهم الحور العين. (٢) قال الذين رفعوا : الحور العين لا يطاف بهنّ ؛ فرفعوا على معنى قولهم : وعندهم حور عين ، أو مع ذلك حور عين ؛ فقيل (٣) : الفاكهة واللحم لا يطاف بهما إنما يطاف بالخمر وحدها ـ والله أعلم ـ ثم أتبع آخر الكلام أوّله. وهو كثير فى كلام العرب وأشعارهم ، وأنشدنى بعض بنى أسد يصف فرسه :

علفتها تبنا وماء باردا

حتى شتت همّالة عيناها (٤)

والكتاب أعرب وأقوى فى الحجة من الشعر. وأمّا ما لا يحسن فيه الضمير (٥) لقلّة اجتماعه ، فقولك : قد أعتقت مباركا أمس وآخر اليوم يا هذا ؛ وأنت تريد : واشتريت آخر اليوم ؛ لأن هذا مختلف لا يعرف أنك أردت ابتعت. ولا يجوز أن تقول : ضربت فلانا وفلانا ؛ وأنت تريد بالآخر : وقتلت فلانا ؛ لأنه ليس هاهنا دليل. ففى هذين الوجهين ما تعرف به ما ورد عليك إن شاء الله.

وقوله : (فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ ...) (١٦)

ربما قال القائل : كيف تربح التجارة وإنما يربح الرجل التاجر؟ وذلك من كلام العرب : ربح بيعك وخسر بيعك ، فحسن (٦) القول بذلك ؛ لأن الربح والخسران إنما يكونان فى التجارة ، فعلم معناه. ومثله من كلام العرب : هذا ليل نائم. ومثله من كتاب الله : (فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ) (٧) وإنما العزيمة للرجال ، ولا يجوز الضمير (٨)

__________________

(١) آية ٢٢ من السورة المذكورة.

(٢) كذا فى أ. وفى ش ، ج : «وقال».

(٣) هذا توجيه الخفض فى «حور عين» بالحمل على الفاكهة واللحم ، فقد خفضا مع أنهما لا يشتركان مع الأكواب فى الطواف بهما ، وإنما هو إتباع الآخر الأوّل على تقدير عامل مناسب ، فليكن هذا هنا.

(٤) انظر الخزانة ١ / ٤٩٩.

(٥ ، ٨) يريد بالضمير المحذوف.

(٦) كذا فى أ ، ب. وفى ش ، ج : «وحسن».

(٧) آية ٢١ سورة محمد.

١٤

إلا فى مثل هذا. فلو قال قائل : قد خسر عبدك ؛ لم يجز ذلك ، (إن كنت) (١) تريد أن تجعل العبد تجارة يربح فيه أو يوضع (٢) ؛ لأنه قد يكون العبد تاجرا فيربح أو يوضع ، فلا يعلم معناه إذا ربح هو من معناه إذا كان متجورا فيه. فلو قال قائل : قد ربحت دراهمك ودنانيرك ، وخسر بزّك ورقيقك ؛ كان جائزا لدلالة بعضه على بعض.

وقوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ...) (١٧)

فإنما ضرب المثل ـ والله أعلم ـ للفعل لا لأعيان الرجال ، وإنما هو مثل للنفاق ؛ فقال : مثلهم كمثل الذي استوقد نارا ؛ ولم يقل : الذين استوقدوا. وهو كما قال الله : (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ) (٣). وقوله : (ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) (٤) فالمعنى ـ والله أعلم ـ : إلا كبعث نفس واحدة ؛ ولو كان التشبيه للرجال لكان مجموعا (٥) كما قال : (كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ) (٦) أراد القيم (٧) والأجسام ، وقال : (كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ) (٨) فكان مجموعا إذ (٩) أراد تشبيه أعيان الرجال ؛ فأجر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّدا فى شعر فأجر الكلام على هذا. وإن جاءك تشبيه جمع الرجال موحّدا فى شعر فأجزه. وإن جاءك التشبيه للواحد مجموعا فى شعر فهو (١٠) أيضا يراد به الفعل فأجزه ؛ كقولك : ما فعلك إلا كفعل الحمير ، وما أفعالكم إلا كفعل الذّئب ؛ فابن على (١١) هذا ، ثم تلقى الفعل فتقول : ما فعلك إلا كالحمير وكالذّئب.

وإنما قال الله عزوجل : (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ) لأن المعنى ذهب إلى المنافقين فجمع لذلك. ولو وحّد لكان صوابا ؛ كقوله : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ. طَعامُ الْأَثِيمِ).

__________________

(١) فى الأصول : «وإن كنت» وما أثبتناه أوفق.

(٢) أوضع فى تجارته (بضم الهمزة) ، ووضع (كعنى وكوجل) خسر فيها. وفى ج ، ش : «تربح وتوضع».

(٣) آية ١٩ سورة الأحزاب.

(٤) آية ٢٨ سورة لقمان.

(٥) العبارة فى ج ، ش : «ولو كان التشبيه للرجال أراه لكان مجموعا ... إلخ».

(٦) آية ٤ سورة المنافقون.

(٧) القيم (جمع قامة أو قيمة) : وهى قوام الإنسان وقدّه وحسن طوله.

(٨) آية ٧ سورة الحاقة.

(٩) فى الأصول : «إذا» والمقام للتعليل.

(١٠) كذا فى الأصول. والأنسب : «وهو».

(١١) فى ج ، ش : «هذين».

١٥

(كَالْمُهْلِ) تغلى (فِي الْبُطُونِ) (١) و (يَغْلِي) ؛ فمن أنّث ذهب إلى الشجرة ، ومن ذكّر ذهب إلى المهل. ومثله قوله عزوجل : (أَمَنَةً نُعاساً) تغشى (طائِفَةً مِنْكُمْ») (٢) للأمنة ، و (يَغْشى) للنعاس.

وقوله : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (١٨)

رفعن وأسماؤهن (٣) فى أوّل الكلام منصوبة ؛ لأن الكلام تمّ وانقضت به آية ، ثمّ استؤنفت (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) فى آية أخرى ، فكان أقوى للأستئناف ، ولو تمّ الكلام ولم تكن آية لجاز أيضا الاستئناف ؛ قال الله تبارك وتعالى : (جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً. رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ) (٤) (الرَّحْمنِ) يرفع ويخفض فى الإعراب ، وليس الذي قبله بآخر آية. فأما ما جاء فى رءوس الآيات مستأنفا فكثير ؛ من ذلك قول الله : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ) إلى قوله : (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٥). ثم قال جل وجهه : (التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ) بالرفع فى قراءتنا ، وفى حرف ابن مسعود (٦) «التائبين العابدين الحامدين». وقال : (أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ اللهَ رَبَّكُمْ) (٧). يقرأ بالرفع والنصب على ما فسّرت لك. وفى قراءة عبد الله : «صمّا بكما عميا» بالنصب. ونصبه على جهتين ؛ إن شئت على معنى : تركهم صمّا بكما عميا ، وإن شئت اكتفيت بأن توقع الترك عليهم فى الظلمات ، ثم تستأنف «صما» بالذمّ لهم. والعرب تنصب بالذمّ وبالمدح ؛ لأن فيه مع الأسماء مثل معنى قولهم : ويلا له ، وثوابا له ، وبعدا وسقيا ورعيا.

__________________

(١) آية ٤٣ ـ ٤٥ سورة الدخان.

(٢) آية ١٥٤ سورة آل عمران.

(٣) كأنه يريد الضمير المنصوب فى قوله : «وتركهم» وجعله أسماءهم إذ كان ضميرا مجموعا ، فكأنه عدّة ضمائر ، كل ضمير اسم ، أو أراد بالمنصوبة غير المرفوعة.

(٤) آية ٣٧ سورة النبأ.

(٥) آية ١١١ سورة التوبة.

(٦) فى ج ، ش : «وفى قراءة عبد الله».

(٧) آية ١٢٥ ـ ١٢٦ سورة الصافات.

١٦

وقوله : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ...) (١٩)

مردود على قوله : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً). (أَوْ كَصَيِّبٍ) : أو كمثل صيّب ، فاستغنى بذكر (الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) فطرح ما كان ينبغى أن يكون مع الصيّب من الأسماء ، ودلّ عليه المعنى ؛ لأن المثل ضرب للنفاق ، فقال : (فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ) فشبّه الظلمات (١) بكفرهم ، والبرق (٢) إذا أضاء لهم فمشوا فيه بإيمانهم ، والرعد ما أتى فى القرآن من التخويف. وقد قيل فيه وجه آخر ؛ قيل : إن الرعد إنما ذكر مثلا لخوفهم من القتال إذا دعوا إليه. ألا ترى أنه قد قال فى موضع آخر : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ) (٣) أي يظنّون أنهم أبدا مغلوبون. ثم قال : (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ) فنصب (حَذَرَ) على غير وقوع من الفعل عليه ؛ لم ترد يجعلونها حذرا ، إنما هو كقولك : أعطيتك خوفا وفرقا. فأنت لا تعطيه الخوف ، وإنما تعطيه من أجل الخوف ؛ فنصبه على التفسير ليس بالفعل ، كقوله جل وعز : (يَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً) (٤). وكقوله : (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) (٥) والمعرفة والنكرة تفسّران فى هذا الموضع ، وليس نصبه على طرح (مِنَ). وهو (٦) مما قد يستدل به المبتدئ للتعليم.

وقوله : (يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ ...) (٢٠)

والقرّاء تقرأ (يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ) بنصب الياء والخاء والتشديد. وبعضهم ينصب الياء ويخفض الخاء ويشدد الطاء فيقول : (يَخْطَفُ). وبعضهم يكسر

__________________

(١ ، ٢) الأولى عكس التشبيه ، فالكفر مشبه بالظلمات ، والإيمان مشبه بالبرق.

(٣) آية ٤ سورة المنافقون.

(٤) آية ٩٠ سورة الأنبياء.

(٥) آية ٥٥ سورة الأعراف.

(٦) يريد أنه قد يقرب المفعول لأجله للمبتدىء بما يصلح فيه تقدير من.

١٧

الياء والخاء ويشدّد فيقول : (يَخْطَفُ). وبعض من قرّاء أهل المدينة يسكّن الخاء والطاء فيجمع بين ساكنين فيقول : (يَخْطَفُ). فأما من قال : (يَخْطَفُ) فإنه نقل إعراب التاء المدغمة إلى الخاء إذ كانت منجزمة. وأما من كسر الخاء فإنه طلب كسرة الألف التي فى اختطف والاختطاف ؛ وقد قال فيه بعض النحويين : إنما كسرت الخاء لأنها سكنت وأسكنت التاء بعدها فالتقى ساكنان فخفضت الأوّل ؛ كما قال : اضرب الرجل ؛ فخفضت الباء لاستقبالها اللام. وليس الذي قالوا بشىء ؛ لأن ذلك لو كان كما (١) قالوا لقالت العرب فى يمدّ : يمدّ ؛ لأن الميم [كانت (٢)] ساكنة وسكنت الأولى من الدالين. ولقالوا فى يعضّ : يعضّ. وأما من خفض الياء والخاء فإنه أيضا من طلبه كسرة الألف ؛ لأنها كانت فى ابتداء الحرف مكسورة. وأما من جمع بين الساكنين فإنه كمن بنى على التبيان (٣) ؛ إلا أنه إدغام خفىّ. وفى قوله : (أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى) (٤) وفى قوله : (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) (٥) مثل ذلك التفسير* إلا أن حمزة الزيات قد قرأ : (تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) بتسكين الخاء ، فهذا معنى (٦) سوى ذلك (٧)

وقوله : (كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ...) (٢٠)

فيه لغتان : يقال : أضاء القمر ، وضاء القمر ؛ فمن قال ضاء القمر قال : يضوء ضوءا. والضّوء فيه لغتان : ضم الضاد وفتحها. يضوء ضوءا والضّوء فيه لغتان ، ضم الضاد وفتحها.

(وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ) فيه لغتان : أظلم الليل (٨) وظلم.

__________________

(١) فى ج ، ش : «على ما».

(٢) ساقط من أ.

(٣) يريد بالتبيان الإظهار وعدم الإدغام.

(٤) آية ٣٥ سورة يونس.

(٥) آية ٤٩ سورة يس.

(٦) يريد أنه جاء فى معنى الغلبة أي يغلبون فى الجدل والخصومة. يقال : خاصمت فلانا فخصمته ، أخصمه ، بالكسر فى المضارع ، وهذا مما شذ. والقياس الضم فى المضارع. وانظر اللسان (خصم) والطبري فى تفسير الآية.

(٧) ما بين النجمتين ساقط من ش ، ج.

(٨) الليل : ساقط من ش ، ج.

١٨

وقوله : (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ ...) (٢٠) المعنى (١) ـ والله أعلم ـ : ولو شاء الله لأذهب سمعهم. ومن شأن العرب أن تقول (٢) : أذهبت بصره ؛ بالألف إذا أسقطوا الباء. فإذا أظهروا الباء أسقطوا الألف من «أذهبت». وقد قرأ بعض القرّاء : (يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) (٣) بضمّ الياء والباء فى الكلام. وقرأ بعضهم : (وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (٤). فترى ـ والله أعلم ـ أن الذين ضمّوا على معنى الألف شبّهوا دخول الباء وخروجها من هذين الحرفين بقولهم : خذ بالخطام ، وخذ الخطام ، وتعلّقت بزيد ، وتعلّقت زيدا. فهو (٥) كثير فى الكلام والشعر ، ولست أستحبّ ذلك (٦) لقلّته ، ومنه (٧) قوله : (آتِنا غَداءَنا) (٨) المعنى ـ والله أعلم ـ ايتنا بغدائنا ؛ فلما أسقطت الباء زادوا ألفا فى فعلت ، ومنه قوله عزوجل : (قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) (٩) المعنى ـ فيما جاء (١٠) ـ ايتوني بقطر أفرغ عليه ، ومنه قوله : (فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (١١) المعنى ـ والله أعلم ـ فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة.

وقوله : (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ...) (٢٣)

الهاء كناية عن القرآن ؛ فأتوا بسورة من مثل القرآن. (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ) يريد آلهتكم. يقول : استغيثوا بهم ؛ وهو كقولك للرجل : إذا لقيت العدوّ خاليا فادع المسلمين. ومعناه : فاستغث واستعن (١٢) بالمسلمين.

__________________

(١) فى ش ، ج : «ومعناه».

(٢) فى ش ، ج : «أن يقولوا».

(٣) آية ٤٣ سورة النور. وهذه قراءة أبى جعفر.

(٤) آية ٢٠ سورة المؤمنون. وهذه قراءة ابن كثير وأبى عمرو.

(٥) يريد المشبه به من قولهم : خذ بالخطام وما بعده.

(٦) يريد الجمع بين صيغة الإفعال والباء.

وهو المشبه.

(٧) رجوع لأصل الكلام فى قوله : «ومن شأن العرب ...».

(٨) آية ٦٢ سورة الكهف.

(٩) آية ٩٦ سورة الكهف.

(١٠) «فيما جاء» : ساقط من ج ، ش.

(١١) آية ٢٣ سورة مريم.

(١٢) «واستعن» : ساقطة من ج ، ش.

١٩

وقوله : (النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ...) (٢٤)

الناس وقودها والحجارة وقودها. وزعموا أنه كبريت يحمى ، وأنه أشدّ الحجارة حرّا إذا أحميت. ثم قال : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) يعنى النار (١).

وقوله : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) اشتبه عليهم ، فيما ذكر فى لونه (٢) ، فإذا ذاقوه عرفوا أنه غير الذي كان قبله.

وقوله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها ...) (٢٦)

فإن قال قائل : أين الكلام الذي هذا جوابه ، فإنا لا نراه فى سورة البقرة؟ فذكر لنا (٣) أن اليهود لما قال الله : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) (٤) قال أعداء الله : وما هذا من الأمثال؟ وقالوا مثل ذلك عند إنزاله : (يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً) ـ إلى قوله ـ (ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) (٥) لذكر الذباب والعنكبوت ؛ فأنزل الله : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها). فالذى (فَوْقَها) يريد أكبر منها ، وهو العنكبوت والذباب. ولو جعلت فى مثله من الكلام (فَما فَوْقَها) تريد أصغر منها لجاز ذلك. ولست أستحسنه (٦) ؛ لأن البعوضة كأنها غاية فى الصغر ، فأحبّ إلىّ أن أجعل (فَما فَوْقَها) أكبر

__________________

(١) فى ج ، ش : «وأنه أشدّ الحجارة حرا يحمى ، فهى أشدّ الحجارة حرا إذا أحميت. «وأتوا به متشابها».

(٢) فى ج ، ش : «اشتبه عليهم ، يريد على أهل الجنة فى لونه».

(٣) فى ج ، ش : «فى سورة البقرة أن اليهود». وهذا جواب السؤال السابق.

(٤) آية ٤١ سورة العنكبوت.

(٥) آية ٧٣ سورة الحج.

(٦) فى ج ، ش : «أستحبه».

٢٠