غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

الشيخ محمّد تقي الجواهري

غاية المأمول من علم الأصول - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الجواهري


المحقق: مجمع الفكر الإسلامي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مجمع الفكر الاسلامي
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-5662-85-0
الصفحات: ٨٣١
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

الجزء الثاني من

كتاب

غاية المأمول من علم الاصول

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما رسمته وقرّرته من بحث آية الله العظمى وحجّته الكبرى

جامع المعقول والمنقول وحاوي الفروع والاصول سيدنا

وعمادنا ومولانا واستاذنا النحرير السيّد أبو القاسم

الخوئي رفع الله في الدنيا منزلته وفي الآخرة

درجته أثناء حضوري مجلس بحثه

الموقّر في الاصول العمليّة

وهذا هو الجزء

الثاني والجزء

الأوّل

في

مباحث الألفاظ ، وفي المتن ما حرّرناه في الدورة

الاولى وفي الهامش بإضافة (صح ٢) ما

أفاده في الدورة الثانية

وأنا الأقلّ محمّد تقي

آل صاحب جواهر

الكلام قدس‌سره

٥
٦

تنبيه :

لقد وافانا الأستاذ الشاعر الخطيب الكبير الشيخ محمد باقر الإيرواني بتاريخ استشهاد الشيخ الفقيه التقي من آل الجواهر وبما أن اعتقال الشيخ كان سنة (١٤٠٠ ه‍. ق) ولا يعلم تاريخ استشهاده لحدّ الآن فيحتمل كان في سنة الاعتقال كما هو الأرجح ، ويحتمل أن يكون سنة (١٤٠١ ه‍. ق) ولذا كان التاريخ هذا على الاحتمال الثاني.

يا أمة الإسلام أفجعنا الأسى

بفقيد عالم قد نعته أكابر

من أسرة نجفيّة أهل الولا

بحمى أمير المؤمنين مجاور

للعلم والعلماء مفخرة معا

وابن الرسول له علا ومفاخر

لأبيه كان الفرد طول حياته

وحوى الفقاهة بل عظيم شاعر

وبحوزة التدريس خير مدرّس

وجد المعارف أمجد ومعاصر

رحل الفقيه مؤرخا (بعلومه

أعني الشهيد هو التقي جواهر)

١٥٣ / ١٣١ ٣٥٠ ١١ ٥٤١ ٢١٥

١٤٠١ ه‍. ق

وناظم الشعر والتاريخ غير خفي

محمد الباقر بن الصادق النجفي

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم ، ومنه العون

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه وأكرم بريّته أجمعين محمد وآله الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.

الكلام في مباحث الأدلّة العقليّة

ويقع الكلام في الأمارات الّتي تقع أو ادّعي وقوعها في طريق استنباط الأحكام الشرعيّة.

وقبل الخوض في ذلك نتكلّم في القطع استطرادا ؛ لأنّه ليس من المسائل الاصوليّة ، لما تقدّم منّا مرارا من كون المناط في المسألة الاصوليّة ما تكون نتيجتها كبرى لو ضم إليها صغراها لأنتجت حكما فرعيّا. ومعلوم أنّ القطع ليس كذلك ، لأنّ القطع بالحكم هو تحصيل للحكم ، فلا يقع في طريقه إذ هو ذو الطريق ، هذا في القطع الطريقي. وكذا القطع الموضوعي فإنّه موضوع لحكم شرعي ، مثلا إذا قيل : إذا قطعت بحرمة الخمر حرم عليك اللبن (١) ، فإنّ القطع بحرمة الخمر هنا موضوع وليس طريقا لاستنباط الحكم الشرعي ، بل حاله حال سائر الموضوعات للأحكام الشرعيّة في كونها غير موجبة لتحصيل حكمها واستنباطه أصلا ، فإنّ وجود الموضوع للحكم لا ربط له بنفس الحكم.

__________________

(١) في الأصل : اللين ، ولعلّ الصحيح ما أثبتناه.

٩

فظهر أنّ القطع بقسميه ليس من المسائل الاصولية ، وإنّما ذكر هنا باعتبار أنّ القطع بالحكم هو نتيجة لها ـ أي للمسائل الاصولية ـ فإنّ نتيجتها استنباط الحكم والقطع به ، فافهم وتأمّل.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره قسم المكلّف إلى قاطع بالحكم الواقعي ، وظانّ به ، وشاكّ به (١) فالقاطع بالحكم الواقعي يتبع قطعه لأنّه حجّة عقليّة ، والظانّ إن قام دليل دالّ على حجّية ظنّه يتبعه أيضا ، وإلّا فهو والشاكّ يرجعان إلى الاصول العمليّة.

وقد أورد عليه الآخوند قدس‌سره بأنّ الحكم تارة يكون واقعيّا واخرى ظاهريّا ، فالمناسب تعميم الحكم إلى جميع أقسامه ـ أي إلى الواقعي والظاهري ـ فقسّم فقال ما مضمونه : إنّ المكلّف ـ أي الّذي وضع عليه قلم التكليف ـ إذا التفت إلى الحكم الفعلي الواقعي أو الظاهري فإمّا أن يقطع به ، وإمّا أن يستقلّ عقله باتّباع ظنّه لو تمّت له مقدّمات الانسداد ، وإن لم تتمّ مقدّمات الانسداد أو تمّت ولم يكن يحصل عنده الظنّ ينتهي إلى الاصول العمليّة ، فعمّم الحكم في تقسيمه إلى الظاهري والواقعي (٢).

وأمّا تخصيصه بالفعلي فليس من مختصات تقسيمه ، لأنّ الحكم في لسان الشيخ قدس‌سره أراد به الحكم الفعلي ، إذ الحكم الإنشائي إن كان بمعنى الحكم الجعلي فقبل وصوله إلى مرتبة الفعليّة بوجود موضوعه لا جدوى في التفات المكلّف له (*) والإنشائي بمعنى آخر لا معنى له كما سنذكره في مبحث البراءة إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) فرائد الاصول ١ : ٢٥ و ٢ : ٩.

(٢) انظر الكفاية : ٢٩٦.

(*) على أنّ الحكم الإنشائي كذلك بلحاظ آثاره ، فإن للمجتهد الفتوى على طبقه فلا بأس بإطلاق الحكم في كلام الشيخ بنحو يشمل الإنشائي أيضا. (من إضافات بعض الدورات اللاحقة).

١٠

ثمّ إنّ الآخوند قدس‌سره قال : وإن أبيت إلّا عن تثليث الأقسام فالأولى أن يقال : إنّ المكلّف إمّا أن يحصل له القطع أو لا ، وعلى الثاني إمّا أن يقوم عنده طريق معتبر أم لا ، لئلّا يتداخل الأقسام فيما يذكر لها من الأحكام ، ومرجعه على الأخير إلى القواعد المقرّرة عقلا أو نقلا لغير القاطع (١). وكأنّه أشار بقوله : «لئلّا يتداخل ... إلى آخره» إلى أنّ الظنّ قد يدلّ الدليل على اعتباره فيلحق بالقطع ، والشكّ قد يكون موجودا والظهور على خلافه ويعمل على الظهور مثلا فيكون حكمه حكم القطع ، ففي هذه الموارد يقع التداخل.

والظاهر أنّ الطريقة الّتي سار عليها الشيخ الأنصاري قدس‌سره أنسب ، لأنّ العبد عند التفاته إلى كونه عبدا وأنّ هناك له مولى وأنّه كلّفه وأمره بأشياء فلا بدّ له من القيام بلوازم العبوديّة ، وهي تحصيل المؤمّن له من تكاليفه الواقعيّة ، فإن كان قاطعا بالحكم فمؤمّنه القطع بالحكم إذ القطع منجّز ومعذّر ، وإن كان له ظنّ قام الدليل على اعتباره فالظنّ هو المؤمّن له ، وإن فقد الظنّ أيضا فلا بدّ له من تحصيل المؤمّن من الاصول العمليّة المقرّرة للجاهل في مقام العمل ، فإنّها في ظرف الشكّ مؤمّنة له. وأمّا تعميمه الحكم إلى الظاهري والواقعي فليت شعري انّ الحكم الظاهري ما اخذ الشكّ بالواقع موضوعا له فما لم يتحقّق الشكّ بالواقع لا يوجد الحكم الظاهري لعدم موضوعه ، فيلزم أن يذكر في مرحلة الشكّ بالحكم. وأمّا التداخل الّذي زعمه فلا يرد أيضا ، لأنّ الشيخ بنفسه يصرّح في باب البراءة أنّ المراد بالشكّ كلّما لم يقم دليل شرعي على اعتباره ، وحينئذ فيشمل ما زعمه من أقسام الظنّ ويكون داخلا في الشكّ بتصريحه قدس‌سره (٢) فافهم وتأمّل.

__________________

(١) كفاية الاصول : ٢٩٧.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ١١.

١١
١٢

في مباحث القطع

ويقع الكلام :

في طريقيته وأنّها ذاتيّة أو جعليّة.

وفي حجيّته وأنّها ذاتيّة أو جعليّة.

وفي إمكان نهي الشارع عن العمل بالقطع واستحالته.

أمّا الكلام في المورد الأوّل وهو طريقيّته ، فالظاهر أنّ طريقيّته عبارة عن انكشاف الواقع ، وانكشاف الواقع هو عبارة عن حقيقة القطع ، فهي ذات القطع وليست من ذاتيّاته ولا من الامور القابلة للجعل التشريعي. نعم لمّا كان القطع من الامور التكوينيّة لأنّه صفة تكوينيّة للإنسان جاز عقلا وأمكن للمولى أن يكوّنها في نفس العبد ، ولكن الجعل التشريعي لها أمر غير معقول أصلا ، فافهم.

المقام الثاني في حجّيته ، بمعنى كونه يحتجّ به المولى على عبده عند تركه ما قطع بوجوبه بقوله : «لما ذا تركت ما وصل إليك وجوبه» ويحتجّ به العبد على مولاه عند تركه ما قطع بحرمته فكان في الواقع واجبا بقوله : «عملت على طبق قطعي وما وصل لي من أحكامك».

والحجّية بهذا المعنى ـ أي بمعنى لزوم ترتيب الآثار على طبق ما قطع به ـ هل هي بحكم العقل بمعنى بعثه وحثّه ، أو بحكم العقلاء ، أو بادراك العقل؟ المعروف فيما بينهم الأوّل.

١٣

ولا يخفى عليك ما فيه ، فإنّ العقل ليس من شأنه الحكم أصلا ، بمعنى أن يبعث نحو شيء أو يزجر عنه. نعم العقل يدرك الحسن والقبيح ولا ربط لإدراكه بالحكم أصلا ، نعم الإنسان بحسب طبعه ميّال إلى ما يلائم حواسّه الخمس ـ من سماع الأصوات الطيّبة وشمّ الروائح الطيّبة وأكل المأكولات الطيّبة ـ ولكن لا ربط لها بالحكم والحثّ. ومن جبلّة الإنسان حبّه لنفسه ، وبجبلّته أيضا يحبّ لنفسه ما هو الحسن عنده ويبغض ما هو القبيح لها ، فتراه يدفع عن نفسه كلّما يحتمل مضرّته لنفسه دنيا أو آخرة. وبالجملة ، فالعقل ليس من شأنه الحكم بمعنى الحثّ والردع ، لأنّهما من صفات المولى الحقيقي أو المولى العرفي فليس للعقل حظ فيهما أصلا.

وأمّا كون الحاكم بتطبيق آثار القطع حكم العقلاء (بتقريب أنّ سيرتهم مستمرّة على حسن الإحسان وقبح الظلم والعدوان لحفظ النظام ، ولا ريب أنّ مطالبة العبد بما وراء قطعه ظلم فيكون حينئذ مصداقا لتلك الكليّة) (١) فمعلوم ضعفه ، لأنّ حكم العقلاء موقوف على وجودهم واجتماعهم واستقرار بنائهم على شيء ، ونحن نرى لزوم ترتيب آثار القطع وإن لم نلتفت إلى وجود عقلاء واستقرار بنائهم على لزوم ترتيب الآثار ، فإنّه لو لم يكن في الدنيا إلّا إنسان واحد كان يرى لزوم ترتيب آثار القطع ولا يتوقّف عن ذلك إلى أن يبني العقلاء عليه أصلا. وأيضا فإنّ العقلاء إنّما يحكمون ويستقرّ بناؤهم بالنسبة إلى الأشياء الّتي يتوقّف عليها حفظ النظام الدنيوي ولا ربط لهم بالامور الشرعيّة ، فأيّ ربط لهم في أنّ القاطع بوجوب الصلاة مثلا يلزمه العمل على طبق قطعه ، فتأمّل.

وإذا بطل هذان النظران تعيّن الثالث ، وهو كون العقل يدرك حسن ترتيب آثار القطع لإدراكه قبح الظلم وحسن الإحسان. ولا ريب أنّ ترك أوامر المولى أو عدم الانزجار عن نواهيه من أظهر انواع الظلم القبيح ، فيدرك العقل حسن ترتيب آثار

__________________

(١) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

١٤

القطع في الواجبات والمحرّمات ، فإسناد الحكم للعقل إن كان بمعنى إدراكه حسن ترتيب الآثار لا بأس به ، وقد اطلق حكم العقل على إدراكه في اصطلاح الفلاسفة ، بل أطلقوا الحكم على نفس الإدراك في عدّة موارد.

إذا عرفت هذا فالحجيّة بهذا المعنى قد صارت من لوازم القطع عقلا ، (لأنّه إذا قطع بشيء واجب فقد قطع بلزوم فعله ، وبين هذين القطعين هذه الملازمة العقلية) (١). وحينئذ فلا يمكن للشارع أن يجعلها تشريعا ولا تكوينا إلّا بالعرض ، بأن يكوّن صفة القطع في الإنسان فيحصل لازمه حينئذ قهرا ، (وهذا لا يختصّ بالشارع ، بل يمكن أن يوجد زيد صفة القطع في عمرو بتمهيد المقدّمات المفيدة لقطعه) (٢).

هذا تمام الكلام في الحجّية.

وأمّا الكلام في المقام الثالث فنتعرّض له عند تعرّض الآخوند قدس‌سره له ، وهو بعد مبحث التجرّي.

ثمّ إن تقسيم الملتفت إلى القاطع والظانّ والشاكّ لا يخصّ المجتهد كما توهّم (٣) بل يشمل حتّى المقلّد ، فإنّ كل ملتفت إلى الحكم الفعلي إن كان قاطعا به يرتّب آثار القطع عليه بلا توقّف ، وإن كان ظانّا به ظنّا معتبرا فكذلك ، وإن كان شاكّا فله أحكام الشاكّ.

نعم ، هناك فرق وهو أنّ المجتهد يستطيع إجراء البراءة العقليّة وهي قبح العقاب بلا بيان ، لتمكّنه من إحراز عدم البيان إذا تفحّص فلم يجد ، لكن المقلّد لا يستطيع ذلك ـ يعني إجراء البراءة ـ لعدم تمكّنه من إحراز شرطها.

إذا عرفت هذا فالمجتهد إذا التفت إلى حكم فعلي له بخصوصه أو يشترك فيه مع غيره فقطع به أو ظنّ أو شكّ فلا إشكال في صحّة ترتيب آثاره عليه.

__________________

(١ و ٢) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

(٣) انظر كفاية الاصول : ٢٩٦.

١٥

وإن التفت إلى حكم يختصّ به غيره مثل أحكام الحيض للنساء مثلا فقطع به ، ربّما يقال : إن القطع إنّما يكون حجّة إذا كان بالنسبة إلى نفس القاطع له أثر ، وقطع المرء في حقّ غيره لا قيمة له لعدم استطاعته ترتيب آثاره ومن يستطيع ترتيب آثاره لا قطع له به ، كما أنّه ربّما تتسرى المقالة إلى بعض الأحكام الّتي ليست بفعليّة ، بل إلى بعض الأحكام الّتي ربّما لا تكون فعليّة أصلا فكيف يكون قطعه بها حجّة؟

فالأوّل مثل أنّ المبتدئة تتحيّض بمجرّد الرؤية.

والثاني مثل وجوب الحج على من وجد الزاد والراحلة وإن كان بعد مجيئه من الحجّ يكون معدما ويكون استنباطه لهذا الحكم في محرّم الحرام بعد أن حجّ المجتهد نفسه ، فليس هذا الحكم فعليّا أصلا ، كما أنّه ليس للمجتهد عمل يرتبط به أصلا.

والثالث مثل فرض ستّة عشر جدّا للميّت الواحد ، فإنّه ربّما لا يكون مثل هذا الحكم فعليّا أصلا.

ولكن لا يخفى أنّ المجتهد إنّما يستنبط الحكم المنشأ بنحو القضيّة الحقيقيّة ، وهو لا يستدعي وجود الموضوع خارجا حتّى يصير فعليّا كما أنّه يستنبط الحكم الواقعي سواء كان لعمله ربط به أم لا ، فهو نظير الإمام عليه‌السلام في إخباره عن الأحكام الواقعيّة غير أنّ أقوال الإمام عليه‌السلام دائمة المطابقة ، وأقوال المجتهد قد تصيب وقد تخطئ ، والأثر لقطعه ليس هو التنجيز ، بل هو جواز الإفتاء لدخوله فيمن أفتى بالحكم وهو عالم به. وفي صورة الظنّ المعتبر أيضا يجري الكلام عينا حرفا بحرف.

ولكنّ الكلام كلّ الكلام في صورة شكّه في الحكم الواقعي الّذي ليس محلّا لابتلائه بنفسه في عمله ، فإنّ إجراء الاصول العمليّة إنّما هي بالنسبة إلى الشاكّ فهي تعيّن له عمله ، ومن ثمّ كانت مرجعا في مقام العمل للمتحيّر فكيف يجريها المجتهد في هذه الصورة؟ وقد ادّعى بعضهم (١) النيابة بمعنى أنّ المجتهد ينوب

__________________

(١) هو الشيخ الأنصاري كما صرّح به في دراسات الاصول ٢ : ١٧.

١٦

عن الشاكّ في استنباط حكمه الخاصّ به ، ولكنّ الكلام في صحّة هذه النيابة وبيان مستندها الدالّ على صحّتها.

والتحقيق أن يقال : إنّ المجتهد إذا ابتلى بالحكم الّذي ليس فعليّا له ولم يكن له قطع به ولا طريق قام الدليل على اعتباره إمّا أن يكون شكّه فيه من ناحية الشكّ في طروء النسخ له وعدمه ، فحينئذ يجري في حقّه : لا تنقض اليقين بالشكّ ، فإنّه متيقّن بالحكم سابقا شاكّ به لا حقا من جهة احتمال طروء النسخ مثلا ، فيجري الاستصحاب حينئذ في حقّه ، وأثره هو جواز الإفتاء أيضا ، وكفى به أثرا في المقام ، ولا يحتاج حينئذ إلى التفات المقلّد إلى الحكم سابقا ، بل ولا لاحقا أصلا ، كما لا يتوقّف على أصل وجوده ، لأنّ التفات المجتهد إلى الحكم الإنشائي أي إلى الحكم بنحو القضيّة الحقيقيّة لا إلى الحكم الفعلي.

وإمّا أن يكون شكّه راجعا إلى الشكّ في الموضوع من حيث سعته وضيقه ، مثل ما لو ابتلي المقلّد بماء قليل لاقته النجاسة ثمّ أكمل كرّا فالمجتهد شاكّ في بقاء نجاسته لسعة موضوع الماء القليل إذا لاقته نجاسة لما كمل كرّا بعد ذلك ، أو ارتفعت نجاسته لسعة موضوع عدم انفعال الماء الكثير لمثل هذا الفرد ، ففي المقام الشكّ في حكم المقلّد الفعلي. فكلّ من المجتهد والمقلّد لهما شكّ لاحق ويقين سابق بالطهارة ، فللمجتهد إجراء الاستصحاب وأثره جواز الإفتاء ، وله أن يجري الاستصحاب في حقّ المقلد لالتفاته إلى الحكم الفعلي ، وأثره حينئذ التنجيز والإعذار ، وكذا إذا دار أمر المقلّد بين المحذورين أو كان للمقلّد علم إجمالي بالتكليف ، فالمجتهد هنا يجري في حقّهما التخيير العقلي في الأوّل ، والاحتياط في الثاني.

وأمّا إذا كان شكّه في التكليف ـ بأن شكّ المقلّد في وجوب شيء عليه أم لا ـ فليس له إجراء البراءة ، لعدم تمكّنه من شرطه وهو الفحص ، فالمجتهد هنا هو يفحص فتجرى البراءة ، وأثرها بالنسبة إليه جواز الإفتاء كما ذكرنا ، وليس للمقلّد إجراء البراءة لعدم إحراز شرطها.

١٧

فقد عرفت أنّ التقسيم ينبغي أن يكون شاملا للمجتهد والمقلّد ، وتقريبه أن يقال : المجتهد إمّا أن يشكّ في حكم نفسه أو يشكّ في حكم الغير :

فإنّ شكّ في حكم نفسه فيتبع القطع لو كان أو الظنّ المعتبر أو الاصول العمليّة.

وإن كان شكّه في حكم الغير ففي صورة القطع والظنّ يستنبط الحكم وأثره جواز الإفتاء ، وفي صورة الشكّ إلى التفصيل الّذي ذكرناه.

١٨

مبحث التجرّي

ويمكن أن يقع البحث فيه من جهات ثلاثة : جهة فقهيّة ، وجهة اصوليّة ، وجهة كلاميّة.

أمّا الجهة الاولى ففي تحريم التجرّي شرعا وعدم تحريمه شرعا.

وأمّا الجهة الاصولية فيقع البحث فيها من ناحيتين :

الاولى في شمول إطلاقات الأدلّة الواردة للموضوعات الواقعيّة للقطع بالموضوعات الواقعيّة وعدم شمولها للقطع بها.

الناحية الثانية في ترتّب مفسدة واقعيّة على المقطوع بحرمته أو بخمريّته من جهة العنوان الثانوي ، كالتمرّد على المولى وعدم ترتّبها.

ولا يخفى أنّ الجهة الفقهيّة إنّما تبتني على الجهة الاصوليّة بناحيتيها ، إذ التحريم الشرعي إمّا أن يكون من جهة شمول الإطلاقات أو ترتّب المفسدة ، كما أنّ الناحية الاولى من الجهة الاصوليّة مختصّة بالاشتباه في التطبيق لا في الحكم ، إذ التجرّي بعد شمول إطلاقات الأدلّة إنّما هو بالنسبة إلى الموضوعات المشتبه تطبيقها ، بخلاف الناحية الثانية من الجهة الاصوليّة فهي شاملة للاشتباه في التطبيق والاشتباه في الحكم ، فهو البحث الشامل لجميع فروض المسألة فينبغي أن يلحظ أهميّته.

وأمّا الجهة الكلاميّة ففي أنّ المتجرّي هل يستحقّ الذمّ واللوم عقلا بمجرّد إظهاره خبث سريرته وتمرّده على المولى؟ وهل يستحق العقاب عند العقلاء أم لا؟ وبعبارة اخرى هل فيه قبح فاعلي أم لا؟

ثمّ إنّ الظاهر أنّ موارد التجرّي لا تخصّ صورة قيام القطع ، بل التجرّي حاصل إذا قطع وخالف ، (سواء تعلّق قطعه بالحكم الواقعي أم بالحكم الظاهري ،

١٩

أعني الحجّيّة ثمّ انكشف عدمها) (١) أو قام ظنّ معتبر وخالفه أو أصل من الاصول العمليّة وخالفه وصادف مخالفة القطع والظنّ والأصل العملي للواقع ، (بل من موارد التجرّي موارد مخالفة الحكم العقلي كاقتحام أحد أطراف الشبهة المحصورة أو قبل الفحص ثمّ ينكشف إباحته وإنّه غير محرّم) (٢).

وبالجملة ، التجرّي في كلّ مورد يتنجّز الحكم الشرعي فيخالفه وتظهر مخالفة الحكم المنجّز للحكم الواقعي.

وربّما يقال باختصاص التجرّي في صورة قيام القطع ، وأمّا صور قيام الظنّ أو الاصول فلا يعقل التجرّي فيها ، لعدم إمكان ظهور المخالفة فيها ، لأنّ الأحكام الظاهريّة أحكام في صورة الشكّ مجعولة ، فلو علمنا بالحكم الواقعي بعد ذلك الشكّ فعدم العمل بالحكم الظاهري ، لعدم موضوعه وهو الشاكّ ، والشاكّ لا يعقل أن ينكشف له خلاف الحكم الظاهري وهو شاكّ أصلا. وبالجملة ، فالأحكام الظاهريّة لا ينكشف خلافها ، والعلم بالحكم الواقعي يكون من قبيل تغيّر الموضوع. (وكذا الكلام في الأمارات فإنّها موضوعة في ظرف الشكّ) (٣).

ولا يخفى فساده ، فإنّ هذا الكلام مبنيّ على سببية الأمارات وإنّ متعلّقها يكون مشتملا على المصلحة الفائتة من فوات الحكم الواقعي ، ولكنّ الصحيح أنّ حجيّتها ـ أي حجّية الطرق والأمارات ـ ليس من باب السببيّة ، بل من باب الطريقيّة ، وحينئذ فلا يترتّب على الطرق والأمارات غير ما يترتّب على الواقع نفسه ، وحينئذ فالعلم بالحكم الواقعي بعد ذلك لا يوجب تغيّر الموضوع وارتفاعه وأنّ ما تركه تجرّيا من الحكم الواقعي عصيان ليس إلّا ، لمخالفته للحكم الظاهري فإنّ الحكم الظاهري لا يترتّب عليه طاعة وعصيان إلّا بلحاظ الحكم الواقعي ، فافهم وتأمّل.

__________________

(١ ـ ٣) ما بين القوسين من إضافات بعض الدورات اللاحقة.

٢٠