تراثنا ـ العدد [ 129 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العدد [ 129 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٣٠٢

١

تراثنا

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

العدد الأوّل [١٢٩]

السنة الثانية والثلاثون

محتـويات العـدد

* كلمة العدد :

* الحضارات وجدلية الصراع.

................................................................  هيئة التحرير ٧

*النعماني ومصادر الغيبة (٣).

...........................................  السيّد محمّد جواد الشبيري الزنجاني ١٠

* لسان الميزان والمصادر الرجالية في المدرسة الإمامية (١)

...................................................  الشيخ محمّد باقر ملكيّان ٢٧

* الروابط الحجاجيّة في الخطبة الفدكيّة.

....................................................  د. علي عبّاس الأعرجي ٨٤

٢

محرّم ـ ربيع الأوّل

١٤٣٨ هـ

* التُّراث التفسيري عند الإمام الرضا عليه‌السلام

........................................................  د. سكينة آخوند ١١١

* من ذخائر التراث :

* الغُرَرْ في قاعدة نفي الضِرار والضَرَرْ للسيّد حسن الصدر.

.............................................  تحقيق : الشيخ مسلم الرضائي ١٩٣

* من أنباء التراث.

............................................................  هيـئة التحرير ٢٨٧

* صورة الغلاف : نموذج من نسخة (الغُرَرْ في قاعدة نفي الضِرار والضَرَرْ للسيّد حسن الصدر) والمنشورة في هذا العدد.

٣
٤

٥
٦

كلمة العـدد :

الحضارات وجدلية الصراعات

هيئة التحرير

بسم الله الرحمن الرحيم

تمرّ الحضارات بالمراحل الثلاث التي يعبّر عنها علماء الاجتماع بمراحل سير الحضارات ، وهي عبارة عن النشوء والأوج والأفول ، ولكلّ مرحلة مقوّماتها وأسبابها ، وقوام جميع تلك المراحل يرجع إلى البعد المعنوي والقيم الإنسانية المتعالية لتلك الحضارات في كلّ مرحلة من المراحل (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً) ، وبذلك وصف الله عزّ وجلّ أمّة الرسول(صلى الله عليه وآله) من المؤمنين : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّة أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) ، وبسقوط القيم المعنوية تنهار الحضارات وتبدأ مرحلة الأفول وحقّ عليها قول الله عزّ وجلّ : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا) ، وبذلك ضرب الله مثلاً لانهيار الأمم وسقوط الحضارات بسقوط القيم المعنوية حيث قال في محكم كتابه : (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِّن كُلِّ مَكَان فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ) ، وقال رسول الله(صلى الله عليه وآله) : «إنّما هي أعمالكم تردّ عليكم» ، وهي لا تتعدّى كونها سنّة من السنن الإلهية (سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ

٧

خَلَوْا مِن قَبْلُ) ، فكان على إثرها سقوط الحضارات وبزوغ حضارات أخرى عبّر الله عنها في محكم كتابه : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، وكان ملاك التقوى والقيم المعنوية هو المعيار الإلهي في العلاقات بين الشعوب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، إلاّ أنّ انحسار تلك القيم كان عاملاً أساسياً في صراع الأمم والحضارات وأفولها وبدأ مرحلة الإنحطاط بعد أن أصبحت البشرية تبني حضاراتها على أنقاظ القيم المعنوية وعلى أرصدة مادّية (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ).

إنّ التصوّر الإسلامي للصراع هو نوع من أنواع التكامل المعنوي والتعالي بالقيم المعنوية والإنسانية لا الانتصار بالحروب وإقصاء الطرف الآخر وسحق الشعوب واستعبادها (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).

وكانت الحكمة ولا زالت ضالّة الإنسان ، فكانت مراحل الحضارات متزامنة ومضطردة باضطراد الحكمة ، فتهدّمت الحضارات بتهدّم أركان الحكمة فيها ، وبقيت السنن تستخلف حضارات ، إلاّ أنّ السنن بقيت هي السنن ، وبدأت الحكمة تتجاذب أطراف الحوار بين أصحاب الرأي ، وبدأ الصراع يستحوذ على تلك الحوارات ، ولم يستثن هذا الصراع مفكّري الحضارات الأولى حيث كانوا ضحايا تلك الصراعات ، وإنّ الصراع الفكري في الكنيسة في العصور الوسطى كان نموذجاً سيئاً من نماذج تلك الصراعات ، وقبل ذلك بقرون كان الصراع الفكري على أشدّه بين المذاهب الإسلامية ومدارسها ، وراح ضحيّة تلك الحقبة أئمّة ومفكّرون.

٨

ومرّت قرون وبدأ عصر جديد يلوح في الأفق بعد أن بدأت ملامح صورة مشرقة تتكامل بظهور مفكرين سعوا في حوار الحضارات من خلال احترام الرأي والرأي الآخر وبدت معالم العمران الفكري بين مفكّري مختلف الحضارات ، إلاّ أنّه سرعان ما بدأت في الغرب مرحلة جديدة من الصراع الفكري بين الحضارات أسّس لها مفكّرون من أمثال صموئيل هينتنغتون وفوكوياما وغيرهم ممّن بنى صرح أفكاره على أرنولد توينبي في محاضراته (الصراع بين الحضارات) حيث إن توينبي ينظر إلى الصراع بين الحضارات هو صراع بين الأديان وأنّ هذه الحضارات إنّما تقوم على الدين كمعتقد رئيسي ومرجع أساسي في قيام الحضارة ولا زالت هذه الأفكار هي الحاكمة على منطق العقل ، ولا زالت الصورة مبهمة عمّا ينتظر العالم من بنات تلك الأفكار ، في حين نرى أنّ بوصلة مفكّري الأديان على العكس من ذلك حيث تشير إلى القيم المعنوية والتكامل الإنساني والأخلاقي ونبذ الصراعات وعدم إقصاء الآخر حيث تلتقي الكثير من الديانات في مثل هذه القيم المعنوية ، ففي الفكر الشيعي نرى ما يبعث على الأمل ويسعى جاهداً لرأب الصدع ، حيث نرى على رأس المؤسّسة الدينية الشيعية سماحة آية الله العظمى السيّد عليّ السيستاني (دام ظلّه) يحمل هم الشعوب في لملمة ما تبقّى من القيم ليقول كلمته : (نسعى جاهدين لأن يتقبّل أحدنا الرأي ، يتقبّله مكمّلاً ومسانداً وداعماً وشريكاً ، بعد أن أدرك المواطن أنّ العنصرية والفئوية والإقليمية والطائفية والتطرّف بأشكاله العدوانية لا تحقّق أيّ هدف لهذا الطرف أو ذاك).

وفي كلمة له ألقيت خلال افتتاح الملتقى الأوّل لعلماء السنّة والشيعة في العراق : (خطابنا هو الدعوة إلى الوحدة ، وكنت ولا أزال أقول : لا تقولوا إخواننا السنّة ، بل قولوا : أنفسنا أهل السنّة).

٩

النُعمانيّ ومَصادرُ الغَيبةِ (١)

(٣)

السيّد محمّد جواد الشبيريّ الزنجانيّ

بسم الله الرحمن الرحيم

تنويه :

تعرّضنا في الفصول السابقة من هذا المقال إلى بيان سيرة حياة أبي عبد الله النعماني مؤلّف كتاب الغيبة ، والتعريف بهذا الكتاب. وفي هذا الفصل سوف نتعرّض لأزمة الإمامة في عصر الغيبة ـ والتي كانت هي الغاية الرئيسة من وراء تأليف النعماني لهذا الكتاب ـ وكذلك إجابة النعماني عن شبهة طول عمر إمام العصر والزمان (عج) ، ومن ثمّ ننتقل إلى دراسة ظاهرة اندثار المذاهب المنحرفة بعد عصر النعماني. وفي الختام سنبحث في لقب النعماني وبعض الأشخاص الآخرين الذين لقّبوا بهذا اللقب.

أزمة الإمامة في عصر الغيبة وظاهرة طول عمر الإمام المنتظر (عج) :

لقد مثّلت غيبة إمام العصر (عج) اختباراً إلهيّاً كبيراً. فعلى الرغم من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) تعريب: السيّد حسن علي مطر الهاشمي.

١٠

الروايات المستفيضة التي وردت في غيبة الإمام ، والتمهيدات الكثيرة التي قام بها الأئمّة عليهم‌السلام في هذا الشأن من أجل إعداد الناس لهذه المرحلة(١) ، نجد ردّة عن الحقّ من قبل الكثير من الشيعة ، حيث مالوا إلى التيّارات المنحرفة بمجرّد حدوث الغيبة. وعلى حدّ تعبير النعماني : «فإنّنا رأينا طوائف من العصابة المنسوبة إلى التشيّع ، المنتمية إلى نبيّها محمّد (صلى الله عليه وآله) ممّن يقول بالإمامة ... قد تفرّقت كلمها ، وتشعّبت مذاهبها ... فطار بعضها علوّاً [غلوّاً] ، وانخفض بعضها تقصيراً ، وشكّوا جميعاً إلاّ القليل في إمام زمانهم ووليّ أمرهم وحجّة ربّهم»(٢). وقد أكّد النعماني على هذه الحقيقة مراراً ، وهي أنّه لم يثبت على منظومة الإمامة والوفاء لإمامة إمام العصر (عج) من أدعياء التشيّع غير النزر اليسير(٣).

بيد أنّ النعماني لا يذكر أسماء هذه الفرق والتيارات المنحرفة بشكل صريح ، وإنّما يكتفي بالإشارة إلى بعضها فقط.

وفي موضع من الكتاب بعد ذكره لعدد من الروايات أضاف قائلاً : «وهذه الأحاديث دالّة على ما قد آلت إليه أحوال الطوائف المنتسبة إلى التشيّع ممّن خالفوا الشرذمة المستقيمة على إمامة الخلف بن الحسن بن عليّ عليه‌السلام ؛

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) ومن جملة ما قام به الأئمّة عليهم‌السلام في هذا الاتّجاه ، التأسيس لنظام الوكالة ، والارتباط غير المباشر بين الناس والأئمّة عليهم‌السلام ، وعدم إعطاء إجابات واضحة عن الأسئلة الدينية ، وإحالة السائل إلى الروايات المروية عن الأئمة السابقين مع بيان كيفية حلّ الروايات المتعارضة و ....

(٢) غيبة النعماني ، تحقيق : علي أكبر الغفّاري ، ص٢٠ ـ ٢١.

(٣) غيبة النعماني ، ص٢٦ ، ٢٧ ، ١٥٧ ، ١٦٩ ، ١٧٠ ، ١٨٦.

١١

لأنّ الجمهور منهم من يقول في الخلف : أين هو؟ وأنّى يكون هذا؟ وإلى متى يغيب؟ وكم يعيش هذا؟ وله الآن نيّفٌ وثمانون سنة! فمنهم من يذهب إلى أنّه ميّت ، ومنهم من ينكر ولادته ، ويجحد وجوده بواحدة ، ويستهزئ بالمصدّق به ، ومنهم من يستبعد المدّة ويستطيل الأمد ، ولا يرى أن الله في قدرته ونافذ سلطانه وماضي أمره وتدبيره قادرٌ على أن يمدّ لوليّه في العمر كأفضل ما مدّه ويمدّه لأحد من أهل عصره وغير أهل عصره ، ويظهر بعد مضيّ هذه المدّة وأكثر منها»(١).

ثمّ أخذ النعماني بعد ذلك بالإجابة عن شبهة طول عمر الإمام (عج) بإجابتين. ولكنّا قبل الدخول في بيان الجواب الأوّل نسترعي انتباه القارئ إلى أنّ عمر صاحب العصر والزمان (عج) عند مباشرة النعماني تأليف كتابه كان قد بلغ حدّاً تجاوز الحدّ الطبيعي لأعمار سائر الناس ، ومن هنا طرحت الشبهة في عمره الشريف ، ولكن حيث إنّ عمر الإمام في حينها لم يتجاوز عمر كبار المعمّرين في ذلك الوقت ، كان من الطبيعي للنعماني أن يجيب في بعض جوابه من خلال التمثيل بأنّ هناك الكثير من المعاصرين له قد تجاوزت أعمارهم المئة سنة ومع ذلك يتمتّعون بقوى جسدية وصحّة كاملة.

بيد أنّ هذه الإجابة إنّما كانت إجابة مرحلية ؛ إذ لم يكن هناك ما يضمن ظهور الإمام الحجّة (عج) في القريب العاجل ، وقد كان النعماني مدركاً بأنّ عمر الإمام سيتجاوز الأعمار الطبيعية ، من هنا فإنّه يجيب عن تلك الشبهة بشكل جوهريّ إذ يقول : ما هو المانع من اعتبار طول عمر الإمام المنتظر من

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) غيبة النعماني ، ص١٥٧.

١٢

جملة كراماته ؛ إذ ليس هناك من دليل على ضرورة أن يتساوى الإمام في عمره مع سائر الناس ، وقد مثّل النعماني لذلك بقصّة بقاء النبيّ موسى عليه‌السلام على قيد الحياة ، والتي ذكرت في القرآن الكريم ، ففي قصّة ولادة موسى بذلت السلطات الفرعونية الحاكمة كلّ ما بوسعها من أجل الحيلولة دون ولادته ، إلاّ أنّ الله سبحانه وتعالى قضى ببقائه على قيد الحياة بشكل غير طبيعي ، حتّى جعله يترعرع في أحضان ذلك الذي كان يريد القضاء عليه ، وذبح من أجل ذلك جميع المولودين حديثاً ، وبعد منعطفات طويلة ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم حانت ساعة ظهوره التي قدّرها الله في وقتها.

يبدو أنّ النعماني قد استند في هذا التمثيل إلى أمرين :

الأوّل : إنّ سنّة الله في الحفاظ على الأنبياء والأولياء لم تقم حتماً على المحافظة عليهم بالطرق الطبيعية المألوفة ، بل قد تتمّ المحافظة عليهم بالطرق غير الطبيعية. ومن هنا يمكن لعمر الإمام المنتظر (عج) من أجل المحافظة عليه أن يمتدّ إلى ما شاء الله.

الأمر الآخر : إنّ النبيّ موسى عليه‌السلام كان في مستهلّ حياته وطفولته وبداية شبابه يعيش في غيبة ، ومفهوم هذه الغيبة يعني : أنّ من كان حوله من الناس م يكونوا يعرفون أنّه هو الذي ادّخره الله للانتقام من الظلمة. ويمكن أن نطرح ما يشبه هذا المعنى والمفهوم بالنسبة إلى غيبة إمام العصر (عج) أيضاً.

وهنا يبدو من النافع والمفيد أن نشير إلى بحث بشأن رؤية المجتمع في عصر النعماني إلى مسألة الغيبة ومدّتها.

١٣

رؤية الشيعة في بداية الغيبة إلى مدّة غيبة الإمام (عج) :

كتب بعض المحقّقين في هذا المجال يقول : في الأيّام الأولى التي تمّ فيها الكلام بين الشيعة بشأن وجود الإمام وغيبته ربّما قلّ أن يكون هناك من يحتمل أنّ غيبة الإمام (عج) ستستمر إلى فترة طويلة جدّاً ، فقد كان الشيعة يتصوّرون أنّ الإمام (عج) سيظهر بمجرّد زوال المشاكل التي كانوا يعانون منها والأخطار المحدقة التي كانت تهدّد حياة الإمام ، وأنّه سيقوم بأعباء الإمامة كما هو ديدن آبائه وأجداده الطاهرين عليهم‌السلام. وقد كان الاعتقاد السائد بين الشيعة أنّه (عج) سيظهر في حياة أولئك الكبار والمعمّرين من أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام من الذين شهدوا ولادته وأقرّوا بإمامته ، حتّى يثبتوا صحّة دعواه لمكان رؤيتهم ومعرفتهم له ، وبذلك يقف الشيعة على صحّة هذه الحقائق ويركنون إلى الاطمئنان بها.

ومن ثمّ تطرّق في الهامش إلى عبارة ابن قبة : (مسألة في الإمامة) إذ يقول : «وأما قولهم إذا ظهر فكيف يُعلم أنّه ابن الحسن بن عليّ؟ فالجواب في ذلك أنّه قد يجوز بنقل من تجب بنقله الحجّة من أوليائه كما صحّت إمامته عندنا بنقلهم»(١).

نجد هنا حدوث سوء فهم لعبارة ابن قبة ، وللأسف الشديد فإنّ الذي أدّى إلى سوء فهم هذه العبارة هو نقلها بشكل مبتور ، وفيما يلي نذكر تتمّة كلام ابن قبة ليتّضح عدم صواب الفهم المتقدّم ، فقد استطرد ابن قبة بعد الكلام السابق قائلاً :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) مكتب در فرايند تكامل (المذهب في مساره التكاملي) ، ص١٢١ ـ ١٢٢.

١٤

«وجواب آخر وهو أنّه قد يجوز أن يظهر معجزاً يدلّ على ذلك ، وهذا الجواب الثاني هو الذي نعتمد عليه ، ونجيب الخصوم به ، وإن كان الأوّل صحيحاً»(١).

إنّ الإشكال الذي طُرح هنا هو حول كيفية معرفة صاحب العصر (عج) من قبل الناس عند ظهوره ، وقد ذكر ابن قبة جوابين عن هذا الإشكال ، والإجابة الثانية التي يعتمدها في الردّ على المخالفين هو أنّ إمام العصر (عج) يمكنه أن يعرّف نفسه للناس من خلال إظهار المعجزة.

وعندما كان ابن قبة منشغلاً بتأليف كتابه كان هناك إجابة مفترضة عن الإشكال المتقدّم وهي الإجابة التي ذكرها كجواب أوّل ، وقد استند إليها المحقّق المعاصر في غير محلّه ، في حين أنّ هذا الجواب ليس دليلاً على أنّ الناس لم يكونوا يحتملون أن تطول غيبة إمام العصر (عج) ، بل إنّ طرح مثل هذا الجواب هو للإجابة عن مجرّد احتمال أن لا تمتدّ غيبته لفترة طويلة ، وأنّه سيظهر في عصر أولئك الكبار والمعمّرين من أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام.

وبعبارة أخرى : تمّ الخلط في هذا الاستدلال المذكور بين أمرين :

الأوّل : إنّ الناس في ذلك العصر كانوا يعتقدون أنّ غيبة إمام العصر (عج) لن تمتدّ لفترة طويلة جدّاً.

الثاني : إنّ الناس في تلك الحقبة كانوا يحتملون عدم استمرار غيبة صاحب الأمر (عج) لفترة طويلة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) المصدر أعلاه ، ص١٨٦.

١٥

وإنّ الأمر الثاني ـ الذي هو أمر صحيح ، ويمكن استنتاجه من عبارة ابن قبة ـ من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى استدلال. وأمّا ادّعاء المحقّق المعاصر فيتعلّق بالأمر الأوّل الذي لا يمكن استنتاجه من عبارة ابن قبة.

وبطبيعة الحال من الواضح أنّ الجواب الأوّل لابن قبة إنّما هو جواب مرحلي ، فهو وإن كان كافياً لدفع الشبهة بالنسبة إلى تلك الفترة ، ولكن لا يمكن الاستناد إليه والتعويل عليه في اقتلاع الشبهة وحسمها من الأساس ، وربّما لهذا السبب نجد ابن قبة نفسه كان يعوّل على الإجابة الثانية ويستفيد منها في مقام المناظرة مع المخالفين والخصوم(١).

تكملة توضيح جواب النعماني عن شبهة طول عمر إمام العصر(عج) :

فيما يتعلّق بمسألة طول عمر الإمام (عج) يمكن الحصول على جوابين أيضاً من تضاعيف كلام النعماني ، وإنّ الإجابة الأولى إجابة مرحلية تقتصر على عصر النعماني وما بعده بفترة قصيرة ، وحاصل هذه الإجابة : إنّ مدّة عمر الإمام (عج) يمكن أن لا تتجاوز في حدّها الأقصى عمر أكبر المعمّرين في تلك الحقبة.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) لو أنّ ابن قبة كان قد اكتفى في مقام ردّ تلك الشبهة بالجواب الأوّل فقط لكان هناك متّسع للقول بأنّ هذا الجواب يبدو مرحليّاً ، لكن يجب علينا أن ندرك بأنّ فهم ابن قبة للغيبة والظهور لا يترك لنا المجال إلاّ القول بأنّ جوابه جواب أساسي ، بيد أنّه بالالتفات إلى تعدّد إجابات ابن قبة لا يمكن أن يكون هذا التصوّر صحيحاً. وعلى كلّ حال فإنّنا من خلال كلام ابن قبة لا نستفيد غير اعتقاده الخاصّ ، دون الاعتقاد العام والسائد.

١٦

بيد أنّ الجواب الرئيسي للنعماني هو جوابه الثاني ، وحاصله : أن لا دليل لدينا على أنّ عمر الإمام (عج) لن يتجاوز الأعمار الطبيعية ، وأنّه لابدّ أن يكون مثل العمر المتعارف لسائر الناس ، فلا الله سبحانه وتعالى عاجز عن إطالة عمر الإمام (عج) ، ولا سنّته بشأن أوليائه قائمة على اتّباع القوانين المتعارفة والطبيعية دائماً وأبداً ، كما نجد ذلك بالنسبة إلى قصّة النبيّ موسى عليه‌السلام حيث نشاهد أساليب غير متعارفة فيما يتعلّق بولادته وتربيته ونشأته والمحافظة عليه.

وقد أشار النعماني في موضع آخر إلى تشكيك أكثر الناس في ولادة الإمام الحجّة المنتظر (عج) ، وفي عمره أيضاً ، مستنداً في طول زمان غيبته إلى الروايات التي تتحدّث عن غيبة إمام العصر (عج) والتي تمّ التأكيد فيها على أنّه سيكون من الصعب على الناس تحمّل ذلك ، فلا يؤمن به إلاّ النزر اليسير من المؤمنين(١) ، فإنّ هذه الروايات بنفسها تؤكّد على غرابة هذه الحادثة واختلافها عن سائر الحوادث الأخرى ، بحيث يمكن جعلها شاهداً على الجواب الرئيسي والأساسي للنعماني عن شبهة طول عمر الإمام الحجّة المنتظر (عج).

هذا وقد تعرّض أرباب الفرق والنحل من أمثال : النوبختي وسعد بن عبد الله إلى ذكر الفرق المنحرفة التي ظهرت بعد وفاة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام بالتفصيل(٢) ، ومن بين تلك المذاهب مذهب الجعفرية (أتباع

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) غيبة النعماني ، ص١٦٩ ، وانظر أيضاً : ص٢١ ، ٢٣ ، ٢٦ ، ٢٨ ، ١٨٦.

(٢) فرق الشيعة ، ص١٠٥ ـ ١١٩ ، والمقالات والفرق ، ص١٠٢ ـ ١١٦.

١٧

جعفر بن علي ، المعروف بجعفر الكذّاب) حيث كان لتلك الفرق الكثير من الأتباع والمؤيّدين(١). وقد أشار النعماني مراراً إلى أنّ الغالبية العظمى من الشيعة قد انحرفت عن الصراط المستقيم بعد الغيبة ، ولكن ما هو مدى صحّة ودقّة هذا الكلام؟ وهل تمّ أخذ جميع الحواضر الشيعية بنظر الاعتبار لإصدار مثل هذا التعميم؟ فهل تمّ أخذ مدينة قم بنظر الاعتبار مثلاً؟ أم أنّ النعماني قد اقتصر في قوله هذا على الحواضر القريبة من مدن إقامته في العراق والشام فقط؟ وهذا ما يحتاج إلى مزيد من التحقيق والتأمّل(٢).

ومن المفيد هنا أن نذكر أنّ شبهات الغيبة لم تقتصر على المنحرفين عن صراط التشيّع المستقيم ، بل كان هذا الأمر يُشكّل معضلة فكرية حادّة حتّى بالنسبة إلى الشيعة الراسخين والثابتين على تشيّعهم أيضاً ، وقد أشار عليّ بن الحسين بن موسى بن بابويه (م : ٣٢٨ أو ٣٢٩) في مقدّمة كتاب الإمامة والتبصرة من الحيرة إلى هذه المسائل ، وقد واجه ابنه الشيخ الصدوق هذه الحيرة لدى أكثر الشيعة الذين كانوا يأتون إليه عند إقامته في نيشابور ، إنّنا نرى حتّى عالماً متديّناً مثل : الشريف أبو سعيد محمّد بن الحسن القمّي ـ وهو من أسرة آل الصلت المعروفة بتشيّعها ـ يقع في الشكّ والحيرة بسبب كلام بعض الفلاسفة والمناطقة بشأن الإمام القائم (عج) وطول غيبته ، وقد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) كمال الدين ، ص٣٢٠ و٣٢١ ، ومصادر أخرى تمّت الإشارة إليها في كتاب (مكتب در فرايند تكامل ، ص١١٣ و١١٤).

(٢) لقد عبّر النوبختي عن المؤمنين بإمامة المهدي بـ : (الجمهور) ، وهو ما لا ينسجم مع الكلام المتقدّم من النعماني ، انظر : الفصول المختارة ، ص٣١٨.

١٨

أدّى ذلك إلى تأليف كتاب كمال الدين وتمام النعمة بتوجيه من إمام العصر والزمان (عج) في عالم الرؤيا ، وقد كان لتأليف كتب (الغيبة) دور هام في دفع هذا النوع من الشبهات وإصلاح المسار الفكري للتشيّع قطعاً.

مصير المذاهب المنحرفة بعد النعماني :

ورد في الفصول المختارة(١) ـ نقلاً عن الحسن بن موسى النوبختي ـ التعريف مفصّلاً بأربع عشرة فرقة ظهرت بعد وفاة الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام ، وقد أفاد الشيخ المفيد قائلاً : «وليس من هؤلاء الفرق التي ذكرناها فرقة موجودة في زماننا هذا ـ وهو من سنة ثلاث وسبعين وثلاث مائة ـ إلاّ الإمامية الاثنا عشرية القائلة بإمامة ابن الحسن المسمّى باسم رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ، القاطعة على حياته وبقائه إلى وقت قيامه بالسيف حسب ما شرحناه فيما تقدّم عنهم ، وهم أكثر فرق الشيعة عدداً وعلماً ، ومتكلّمون نظّار ، وصالحون عبّاد ، متفقّهة وأصحاب حديث وأدباء وشعراء ، وهم وجه الإمامية ورؤساء جماعتهم والمعتمد عليهم في الديانة».

واستطرد الشيخ المفيد قائلاً : «ومن سواهم منقرضون لا يعلم أحدٌ من جملة الأربع عشرة فرقة التي قدّمنا ذكرها ظاهراً بمقاله ، ولا موجوداً على هذا

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) يبدو أنّ (الفصول المختارة) من تأليف السيّد المرتضى ، وقد جمع في هذا الكتاب فصولاً من كلام [كتاب خ. ل] الشيخ المفيد في المجالس [بمعنى المناظرات على ما يبدو] ، وبعض المسائل من كتابه العيون والمحاسن. (راجع : مقدّمة الكتاب وصور نسخه المخطوطة في بداية (الفصول المختارة) ، طبع مؤتمر ألفيّة الشيخ المفيد) ، ويحتمل قويّاً أن تكون المطالب التي نقلناها هنا مأخوذة من العيون والمحاسن.

١٩

الوصف من ديانته ، وإنّما الحاصل منهم حكاية عمّن سلف ، وأراجيف بوجود قوم منهم لا يثبت»(١).

إنّ الفقرة الأخيرة تشير إلى إشاعات حول بعض أتباع هذه المذاهب في عصر المؤلّف ، إذ يرى الشيخ المفيد عدم صحّتها.

وقد أشار الشيخ المفيد في كتابه الفصول العشرة في الغيبة الذي ألّفه سنة (٤١٠ للهجرة) إلى أنّه لم يعثر على أحد من أحفاد جعفر كان قد اختلف مع الشيعة الاثنى عشرية حول مسألة إمامة ابن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام وبقائه على قيد الحياة وانتظار ظهوره ، وقد دعم الشيخ الطوسي هذا الرأي في كتابه الغيبة الذي ألّفه في سنة (٤٤٧ للهجرة) ، وقد كانت هذه الفرقة قد اندثرت تماماً ولم يعد لها من وجود في ذلك الزمان.

وقد نقل بعض المحقّقين المعاصرين ما تقدّم وأضاف إليه قائلاً : «يبدو أنّه بالإمكان الوثوق بمضمون هذا الكلام فيما يتعلّق بالحدود التقليدية لمذهب التشيّع من المدينة إلى خراسان ، بيد أنّ الكثير من أحفاد جعفر قد هاجروا إلى المدن والحواضر البعيدة عن المناطق والبلدان الشيعية ، من قبيل :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) سمعت من بعض المؤلّفين مشافهة يتحدّث عن عدم دقّة علماء الشيعة ، ومثّل لذلك بعبارة المفيد. وفي مقام توضيح إشكاله أشار إلى كلام السيّد الشريف الرضي قدس‌سره في مقدّمة كتاب (خصائص الأئمّة ، ص٣٧) حيث يصرّح بأنّ جمهور الموسوية سنة (٣٨٣ للهجرة) كانوا يقولون بالوقف ، ولا يذهبون إلى إمامة الأئمّة بعد الإمام الكاظم عليه‌السلام. بيد أنّ عبارة المفيد كما هو واضح ناظرة إلى اندثار الفرق التي ظهرت بعد استشهاد الإمام العسكري عليه‌السلام دون أمثال فرقة الواقفية التي ظهرت قبل ذلك. وعليه فإنّ كلام هذا الكاتب هو الذي لا ينطوي على الدقّة ، وليس كلام أمثال الشيخ المفيد!

٢٠