الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

دكتور محمود ماضي

الوحي القرآني في المنظور الاستشراقي ونقده

المؤلف:

دكتور محمود ماضي


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الدعوة للطبع والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
ISBN: 253-070-8
الصفحات: ١٨٨

١
٢

٣

٤

٥

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله وبعد :

إن نبوة نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» حقيقة ثابتة فى أنفسنا نحن المسلمين ، الإيمان بها نفس يتردد فينا ، فهل لنا أن نقيم الدلائل على صحة أنفاسنا المترددة بين جوانحنا؟!

لقد شغلت نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» كثيرا من الفلاسفة والمؤرخين ، مسلمين ، وغير مسلمين : مستشرقين ومنصرين.

أما المسلمون : فلأنهم معنيون برسولهم ، وأما غيرهم ، فالبعض تناول نبوته وسيرته بشيء من الإنصاف ، أما البعض الآخر فلم يستطع مجاوزة نطاق التعصب لمعتقده وظل حبيس هذه الدائرة غير المحمودة فى معايير المنهج العلمى ..

لم يستطع الحياد فى الحكم والنزاهة في القصد والتجرد من الهوى ، أى لم تقم أحكامه على العقل مبرأ من الهوى وأحكام العقل معايير صحيحة إذا ما آزرتها الفطرة وصاحبها الإنصاف.

والاستشراق فلسفة غربية متعددة الأهداف ، ومن أبرز أهدافها النيل من الإسلام ونبى الإسلام ، فلقد حاولوا ـ إلا القليل منهم ـ ، تحليل نصوص القرآن الكريم ، وكذلك تحليل نصوص الأدب العربى الجاهلى علهم يجدوا امتداد الأول عند الأخير ، فأخفقت المحاولة ، لجأ بعض المستشرقين إلى إثارة شبهة التأثر والأخذ من التوراة والإنجيل ، فباءت محاولتهم ـ أيضا ـ بالفشل ، كما سيتضح لنا من خلال بحثنا هذا.

فى العصر الحالى ظهرت محاولة ـ مغفلة بالعلمية والمنهجية ـ إرجاع القرآن إلى عامل باطنى ، داخلى ، فليس ثمة وحى من خارج النبى «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» المتلقى ، وإنما انبعاث من داخل النبى ، أى حديث نفسه وتوقد ذهنه ، أو كما تصور «مونتجمرى واط» حين أرجع نبوة محمد ـ دون نبوة غيره من الأنبياء ـ إلى التصور الخلاق أو التصور الخالق ، فالوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» لا يعدو نوعا من النشاط الذهنى المتوقد ، كما هو الحال عند بعض الموهوبين.

هكذا كان الإسلام بالنسبة لهم من عمل الشيطان ، والمسلمون ليسوا سوى نوع من المتوحشين ، فقد كانوا يقولون : «فى العالم فئتان : نحن والبرابرة ... والبرابرة في نظرنا ، أو الشرق ، هو كل أسيا وإفريقيا ... أى أننا نضع في مكان

٦

واحد المسلمين والبوذيين والهندوس والوثنيين» (١).

وفي عصرنا الحالى تغيرت العبارة وأصبحت أقل فظاظة ولكنها ما تزال أقل وضوحا. وأما معناها فهو هو.

خلاصة القول : إن ألوان التحامل القديم قد تضاءلت منذ فجر هذا القرن إلا أنها ما زالت تعيش قوية ، وما زالت فئة المستشرقين تعمل على نشرها في الغرب وفي الشرق على السواء. فهناك من الشواهد ما يدل على أن الرصيد المختزن من مشاعر العداوة للإسلام قد اتسع وامتد من هذه الشواهد حرب الإبادة التى يمارسها الصرب والكروات ـ ومن خلفهم أوربا كلها ـ ضد مسلمى البوسنة والهرسك.

فضلا عن تطور أساليب ومناهج الاستشراق عما كانت عليه في الماضى ، فبعد أن كان هجومه على الإسلام ونبى الإسلام مباشرا ، وجارحا لمشاعر المسلمين ، أصبحت كتاباتهم وأهدافهم مغلفة بالمكر والدهاء ، وحتى اختلط أمر ـ الاستشراق ـ على الكثير من المسلمين فلم يعد يميز بين المادح منهم من القادح ، فضلا عن أن بعض كتابات الإسلاميين جاءت دون التوثيق العلمى مما أفقدها قوتها وتأثيرها.

لذلك رأيت أن أنهض ـ مع الناهضين ـ كاشفا عن أحدث شبهات الفلسفة الاستشراقية حول الوحى القرآنى ، محللين لها ومفندين في ضوء العقل والنقل.

وبحثنا هذا يعد محاولة للانفتاح على فلاسفة الاستشراق وما يكتبونه عنا ، فالخطوة الأولى لمقاومة أى فكر منحرف أو معاد هى التعرف الدقيق عليه وسبر أغواره وجمع المعلومات الشاملة عنه وتحليل تلك المعلومات ونقدها بدقة وأمانة ، ومعرفة الأطوار التى مر بها والمنطلقات التى انطلق منها والأهداف التى يسعى إليها ، ثم يأتى بعد ذلك : التحليل والتفنيد في إطار منهج علمى واضح.

ولكى يتسنى لنا تطبيق هذا المنهج تناولنا في فصل تمهيدى : فلسفة الاستشراق ، من حيث المفهوم والأهداف والمنهج ، وتناول الفصل الثانى خصائص الوحى الإلهى إلى أنبياء الله جل وعلا ، مبينا تناقض بعض المستشرقين حين يثبتون الوحى إلى موسى وعيسى وينكرونه إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» رغم وحدة الصفات والخصائص ، ثم عرض للوحى إلى نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» : بداياته ومظاهره.

__________________

١ ـ جان بول رو : الإسلام في الغرب ، تعريب : نجدة هاجر ص ٧ بيروت لبنان ١٩٦٠ م.

٧

وفي مجال تعرية المنهجية الاستشراقية تساءل الفصل الثالث عن دلالة المعجزات على النبوات ، بمعنى : إذا تحققت المعجزة على يد مدعى النبوة فهل ينهض هذا دليلا على أنه مبعوث يوحى إليه؟

فإذا دلت المعجزة على نبوة موسى وعيسى فكيف لا تدل على نبوة محمد وله من المعجزات ما لموسى وعيسى بل له ما هو أزيد وأوضح وأدوم؟

جاء الفصل الرابع ليقيم الأدلة والبراهين على نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

أما أوجه التشابه ، بل التطابق بين الوحى الإلهى إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام فلا مرية فيه وإذا كان الدين واحدا لأنه صادر من مشكاة واحدة ، وإذا كانت صفات الوحى إلى محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» هى نفسها إلى موسى وعيسى عليهما‌السلام ، فما ذا يريد فلاسفة الاستشراق؟

إن الادعاء سهل ، ولا سيما مع الضّغن. وعند ما نتهم المستشرقين بالبعد عن الموضوعية فلأن كثيرا من دراساتهم للإسلام. ونبى الإسلام جاءت من خلال دراساتهم للإنجيل أو اللاهوت ، بل الواقع أن من هؤلاء المستشرقين من ينتظم باستمرار في سلك هيئات دينية وكنسية. فضلا عن وقوعهم في التميز المقصود إلى درجة سوء النية الإرادية والأهداف غير المعلنة (١).

ونحن لا نريد من المستشرق أن يكون مسلما ـ إلا إذا انتهت به أبحاثه ودراساته إلى ذلك ـ يعتقد ما يعتقده المسلم ، ولكننا نقول : ليس من الصعب ـ بل هو من المنهج العلمى ـ أن يضع المستشرق مفهوم المسلم لدينه في تعبير المسلم واصطلاحه ، وهو حين يفعل ذلك لن يكون أكثر اقترابا من المنهج العلمى الموضوعى فحسب ، ولكنه سيجعل نفسه في مركز أفضل لكى يدرك مكان نبوغ الإسلام بين أحداث التاريخ.

هذه مناقشة صريحة لشبهات بعض فلاسفة الاستشراق تناولها الفصل الخامس بمباحثه الخمسة.

وأخيرا لعل هذ البحث يكشف عن أهم أهداف فلسفة الاستشراق ، وهى «إبعاد سلطان الدين عن النفوس» (٢) أما الوسيلة الفعالة إلى ذلك فهى التعليم حيث يقول «جب» : «والتعليم أكبر العوامل الصحيحة التى تعمل على

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : مقدمة في علم الاستغراب ص ٣٢ الدار الفنية بمصر ١٤١١ ه‍ ١٩٩١ م.

٢ ـ ه. أ. جب : وجهة الإسلام ترجمة د. محمد عبد الهادى أبو ريدة ص ٢١٤ الطبعة الأولى القاهرة

٨

الاستغراب» (١) «الخالصة لهذه الحركة التعليمية أنها حررت ـ بقدر ما كان لها من تأثير ـ نزعة الشعوب الإسلامية من سلطان الدين دون أن تحس الشعوب بذلك غالبا وهذا هو وحده تقريبا جوهر كل نزعة غربية فعالة في العالم الإسلامى» (٢).

الاستشراق حركة فكرية غير محايدة غلبت عليها مناهج تعبر عن بنية الوعى الأوروبى التى تكونت عبر حضارته الحديثة مثل المناهج التاريخية ، والتحليلية ، والإسقاطية ، والأثر والتأثر (٣).

فهل يمكننا القيام بعمل يعبر عن قدرة الأنا باعتبارها شعورا محايدا؟ هذا ما أرجوه من الله جل وعلا أن يكون عملى هذا لبنة في العمل الكبير المرجو.

وأصلى وأسلم على نبينا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم».

__________________

١ ـ ا. جب السابق ص ٢١٤ ، ٢١٧

٢ ـ جب السابق ص ٢١٤ ، ٢١٧

٣ ـ د حسن حنفى السابق ص ٣١

٩
١٠

الفصل الأول

مباحث تمهيدية

الاستشراق

المفهوم ـ الأهداف ـ المنهج.

١١
١٢

مفهوم الاستشراق

قلنا إن دراساتنا تتناول الوحى إلى نبينا «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» وموقف المستشرقين منه ، لذلك سنقتصر هنا على مجرد إشارات إلى مفهوم الاستشراق «ORIENTALISM».

الاستشراق هو الوجه الآخر والمقابل ، بل والنقيض من الاستغراب ، أو هو رؤية الأنا الشرق) من خلال الآخر (الغرب) (١).

وذهب المستشرق الألمانى (بارت) إلى أن «كلمة استشراق مشتقة من كلمة شرق (٢) وكلمة شرق تعنى مشرق الشمس وعلى هذا يكون الاستشراق هو علم الشرق أو علم عالم (الشرق)».

ويرى بارت أن لفظة الشرق تختلف باختلاف الموقع الجغرافى ، وينتهى إلى «أن المفروض أن اسم الاستشراق يختص بالبلدان الشرقية دون غيرها ، ومهما يكن من أمر فإن الاسم لا يبين بوضوح مستقيم المقصود منه بالضبط ، والمهم هو الموضوع ذاته (٣).

وذهب صاحبا (المفصل في تاريخ الأدب العربى) إلى أن المستشرق هو «كل من تجرد من أهل الغرب لدراسة بعض اللغات الشرقية ، وتقصى آدابها طلبا لتعرف شأن أمة أو أمم شرقية من حيث أخلاقها وعاداتها وتاريخها ودياناتها أو علومها وآدابها ، أو غير ذلك من مقومات الأمم. والأصل في كلمة (استشرق) أنه صار شرقيا أنه كما يقال (استعرب) إذا صار عربيا (٤).

لا يمكننا الموافقة على أن الباحث الغربى بعد البحث في علوم الشرق يصير شرقيا. يقول صاحب (مقدمة في علم الاستغراب) : الاستشراق «هو دراسة الحضارة الإسلامية من باحثين ينتمون إلى حضارة أخرى ولهم بناء شعورى مخالف لبناء الحضارة التى يدرسونها» (٥) ، فالمستشرق لا ينسى أبدا لغته وثقافته وبيئته التى فيها نشأ وتربى. يقول الدكتور أحمد الشرباصى : إن المستشرقين «قوم من أوربا نسبوا أنفسهم

__________________

١ ـ د. حسن حنفى : مقدمة في علم الاستغراب ص ٢٩ لدار الفنية القاهرة ١٩٩١ م.

٢ ـ يعنى الاستشراق لغة طلب علوم الشرق ، لأن الالف والسين والتاء إذا دخلت على فعل فإنها تعنى الطلب.

٣ ـ رودى بارت : الدراسات العربية والإسلامية في الجامعات الألمانية ترجمة د. مصطفى ماهر. ص ١١. ١٢ دار الكتاب العربى القاهرة. ١٩٦٧ م. وانظر أيضا : د. ميشال جحا : الدراسات العربية والإسلامية في أوربا ص ١٥ مون الإنمار العربى ط أول بيروت ١٩٨٢ م.

٤ ـ أحمد الاسكندرى ، أحمد أمين : المفصل في تاريخ الأدب العربى ٢٠ / ٤٠٨. القاهرة ١٩٣٤ م.

٥ ـ د. حسن حنفى : السابق ص ٣١

١٣

إلى العلم والبحث وشغلوها في أغلب الأحيان بالبحث في التاريخ والدين والاجتماع ولكل منهم لغته الأصلية التى رضع لبانها من أمه وأبيه ومجتمعه وبيئته ، فصارت له اللغة الأم كما يعبرون ، فهو يغار عليها ويتأثر بها ، ويستجيب لموحياتها ، ولكنه مع ذلك تعلم اللغة العربية بجوار لغته الأصلية» (١).

البيئة والثقافة واللغة إذن في وعى المستشرق ، تعمل عملها وهو يتعامل مع الغير ، بمعنى آخر : الاستشراق مرتبط بحضارته يقول فالزرWalzer «حركة الاستشراق كانت تسير جنبا إلى جنب مع التحولات والتغيرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى سادت العصور التى عاش فيها أولئك المستشرقون فلا يمكن أن نفصل بين ما شهدته من ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية وبين ما أنتجه أولئك المستشرقون من دراسات ..» (٢) فالاستشراق مرتبط بأيدلوجية الغرب الساعية إلى السيطرة والهيمنة على الغير ، فالاستشراق «يتضمن الموقف التنفيذى السلطوى للاستعمار الأوربى» (٣) كما أنه منهج غربى في رؤية الأشياء ، أو كما يقول إدوارد سعيد : هو «أسلوب من الفكر قائم على تمييز وجودى (Antalogy) ومعرفى (Epstalogy) بين الشرق والغرب»

ويعرف الهراوى الاستشراق بأنه «مهنة ، وحرفة ، كالطب والهندسة ، والمحاماة ، وهو أقرب الشبه إلى مهنة التبشير ، ولا يخفى ... أن التاريخ الإسلامي ينقسم إلى قسمين : القسم الأول منه : هو الإسلام من حيث هو دين ، وعناصره : القرآن والحديث ، وحياة سيدنا محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» والقسم الثانى منه : تاريخ الدولة العربية ـ الأحرى أن تكون الدولة الإسلامية ـ التى نشأت وعاشت في الإسلام ، وهذا القسم قد خدمه المستشرقون لأنه نوع من المباحث التاريخية الحرة ، أما القسم الأول منه فهو بيت القصيد ، ولا يتصدى له كل المستشرقين ، والذين يتصدون له ترى كلامهم مملوءا بالتشكيك والاستنتاج الخاطئ واللمز ، إن لم يكيلوا التهم جزافا ، ويرموا الدين الإسلامى بما شاءت عقائدهم الخاصة وفائدتهم المادية» (٤).

__________________

١ ـ د. أحمد الشرباص : التصوف عند المستشرقين ص ٦

(٢) ـ. ٤١.GeuthnerParisp ؛ R.Walzer ـ L.EveilDelaphl osaphieIslamique مصطفى نصر السلامونى : الاستشراق السياسى طرابلس. ليبيا ١٣٩٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م.

٣ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٣٨.

٤ ـ حسين الهراوى : نحن والمستشرقون (مجلة المعرفة ١٩٣٢ م) وكلام الهراوى فضلا عن التعريف يتناول بعض أهداف وأعمال المستشرقين ، غير أن الذى تصدى ـ منهم ـ لدراسة الدولة الإسلامية تجنى الكثير منهم على الدولة الأموية وعلى مؤسسها معاوية بن أبى سفيان وهو كاتب الوحى ، والطعن فيه مقصور لما بعده ، والذين عالجوا الدولة العباسية ، اعتمدوا بالدرجة

١٤

أما صاحب كتاب «الاستشراق» فيضع مفهوما آخر للاستشراق من واقع الاستشراق ، فينظر إليه نظرة شمولية فالاستشراق «ليس مجرد موضوع أو ميدان سياسى ينعكس بصورة سلبية في الثقافة ، والبحث ، والمؤسسات ، كما أنه ليس مجموعة كبيرة ومنتشرة من النصوص حول الشرق ، كما أنه ليس معبرا عنه ، وممثلا لمؤامرة إمبريالية غربية شنيعة لإبقاء العالم الشرقى حيث هو. بل إنه بالحرى ، توزيع للوعى الجغراسى (أى الجغرافى السياسى) إلى نصوص جمالية ، وبحثية واقتصادية ، واجتماعية ، وتاريخية ، وفقه لغة ، وهو إحكام لا لتمييز جغرافى أساسى وحسب (العالم يتألف من نصفين غير متساويين ، الشرق والغرب) بل كذلك لسلسلة كاملة من المصالح التى لا يقوم الاستشراق بخلقها فقط ، بل بالمحافظة عليها أيضا بوسائل كالاكتشاف البحثى ، والاستبناء فقه اللغة ، والتحليل النفسى والوصف الطبيعى والاجتماعى ، وهو إرادة ، بدلا من كونه تعبيرا عن إرادة ، معينة أو نية معينة لفهم ما هو بوضوح ، عالم (أو بديل طارئ) والسيطرة عليه أحيانا ، والتلاعب به ، بل حتى ضمه ، وهو قبل كل شىء إنشاء ليس على الإطلاق على علاقة تطابقية مباشرة مع القوة السياسية في شكلها الخام ، بل إنه لينتج ويوجد في تفاعل غير متكافئ مع مختلف أنماط القوة مكتسبا شكله إلى حد ما من تفاعله مع القوة السياسية ، كما هى الحال في تفاعله كمؤسسة استعمارية أو إمبريالية ، والقوة الفكرية ، كما هى الحال مع علوم تحتل مركز الصدارة مثل الألسنية المقارنة ، وعلم التشريح المقارن ، أو أى من علوم السياسة الحديثة ، والقوة الثقافية : كما هى الحال مع المذاهب السنية الأرثوذكسية ، وشرائع الذوق والنصوص والقيم ، والقوة الأخلاقية : كما هى الحال مع أفكار تدور حول ما نفعله «نحن» ، وما يعجزون «هم» عن فعله أو فهمه ، كما نفعله «نحن» ، وبالفعل ، فإن منظومتى الحقيقة هى أن الاستشراق لا يمثل ببساطة بعدا هاما من أبعاد الثقافة السياسية ـ الفكرية الحديثة ، بل إنه هو هذا البعد ، وهو بهذه الصورة أقل ارتباطا بالشرق منه بعالمنا نحن ...» (١).

الاستشراق ـ إذا ـ ليس محصورا في الجوانب الأكاديمية في جامعات الغرب ، أو في جوانب الفكر والأدب والشعر. والاستشراق لا يمثل إرادة المستعمر بل هو هذه الإرادة ، ولما كان الفكر يسبق العمل ، كان النظر إلى الاستشراق بمعزل عن السياسة ،

__________________

ـ الأولى على كتاب الأغانى للأصفهانى ، فشوهوا تاريخنا من خلاله ، فهارون الرشيد الذى كان يحج عاما ويجاهد عاما والذى شهدت بلاد الإسلام نهضة علمية رائعة في عصره صوروه زير نساء (!) فأى خدمة تلك التى قدمها المستشرقون؟.

١ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٤٦ ـ ٤٧.

١٥

أقصد بمعزل عن قوى الاستعمار يعد خطا كبيرا.

المستشرق ـ إذا ـ ينتمى إلى الغرب ، ولو كان يابانيا أو هنديا أو إندونيسيا لما استحق أن يوصف بالمستشرق لأنه شرقى بحكم مولده وبيئته وحضارته ... وليس من الضرورى أن يرحل المستشرق ـ فيما يقول الدكتور الخربوطلى ـ إلى الشرق ليعيش فيه أو ليتطبع بطباعه أو حضارته ، فقد يقوم بدراسته في جامعته الغربية أو في وطنه ، وإن كان رحيله إلى الشرق يجعل دراسته أكثر فائدة وأقرب إلى الواقعية ، وليس من الضرورى أن يعتنق هذا المستشرق الإسلام أو أحد الأديان السائدة في الشرق ، كما أنه ليس من الضرورى أيضا أن يتحدث باللغات الشرقية ، وإن كان الإلمام بها أو إجادتها يعينه كثيرا في دراسته وأبحاثه (١).

غير أننا نتساءل : كيف يتسنى لباحث جاد ، غير عربى ـ أى غير شرقى ـ أن يدرس الإسلام : سواء أكانت العقيدة أو الشريعة أو التاريخ ... كيف يتسنى له ذلك إذا لم يكن يجيد العربية؟ كيف يتسنى له دراسة القرآن وهو يجهل لغة القرآن؟ من هنا شدد البعض على ضرورة إتقان المستشرق لغة القوم الذين يقوم بدراستهم ، فليس «صاحب علم الشرق الجدير بهذا اللقب بالذى يقتصر على معرفة بعض اللغات المجهولة أو أن يستطيع أن يصف عادات بعض الشعوب ، بل إنه من جمع بين الانقطاع إلى درس بعض أنحاء الشرق ، وبين الوقوف على القوى الروحية الأدبية الكبيرة التى أثرت على تكوين الثقافة الإنسانية (٢).

وأخيرا ، فإن السؤال الذى يتبادر إلى الذهن : ما معنى أن يوجد في بلادنا أناس من بنى جلدتنا ، ولكنهم يحملون فكر المستشرقين ، يرددون ما يقولون ، ويدعون إلى ما يدعون؟

هل هو الشعور بالنقص أمام زحف الحضارة الغربية وعجز العالم الإسلامى وانهياره من جراء صدمة عنيفة أحدثها الانقلاب في موازين القوى فأصبح المتقدم متخلفا والعكس؟

يقول المفكر مالك بن نبى : «.. ولقد أحدثت هذه الصدمة عند قبيل من المثقفين المسلمين شبه شلل في جهاز حصانتهم الثقافية ، حتى أدى بهم مركب النقص إلى أن ولّوا مدبرين أمام الزحف الثقافى الغربى ، وألقوا أسلحتهم في الميدان كأنهم فلول

__________________

١ ـ د. على الخربوطلى : المستشرقون والتاريخ ص ٢٢ الهيئة المصرية العامة للكتاب بمصر ١٩٨٨ م.

٢ ـ ميخائيل أنجلو جويدى : علم الشرق وتاريخ الأديان ص ١١ ، ١٤ مجلة الزهراء. عدد ربيع الأول ١٣٤٧ ه‍ القاهرة.

١٦

جيش منهزم في اللحظة التى بدأ فيها الصراع الفكرى يحتدم بين المجتمع الإسلامى والغرب ، فأصبح هذا القبيل من المثقفين يبحث عن نجاته في التزيى بالزى الغربى ، وينتحل في أذواقه وسلوكه» (١).

هل هذا من تخطيط الاستشراق كقوة مفكرة ، قائدة لقوى الاستعمار ، بحيث يأتى التفجير ـ فيما يظنون ـ من داخلنا؟ هل خلق تلاميذ للاستشراق من أهل الشرق ـ أعنى الشرق الإسلامى ـ يعد طورا من أطوار الاستشراق ذاته ، طالما أنهم يحققون أهدافه؟

وسواء حسنت نية التلاميذ أو كانت سيئة ، فما زال «المستشرقون يجدون من يفتح لهم أذرعتهم من الباحثين الذين هم امتداد الاستشراق في بلادهم ، والذين وقعوا ضحية مناهجهم والذين لم يبلغوا بعد درجة الوعى القومى ، والذين ما زالوا يسلكون (بعقدة الخواجة) أو الذين تربطهم بالاستشراق الغربى مصالح مشتركة من مناصب أو درجات أو دعوات أو مؤتمرات» (٢).

وطالما أن هؤلاء امتداد للاستشراق ألا يعدون مستشرقين حتى وإن كانوا عربا أو شرقيين؟

لقد اعتبر نجيب العفيفى ـ وهو شرقى / عربى ـ نفسه مستشرقا ، فيقول في كتابه «المستشرقون» : «.. إننا في دراستنا لا نسعى إلى نوايا جانبية غير صافية ، بل نسعى إلى البحث عن الحقيقة الخالصة» (٣) فهو ينسب نفسه للمستشرقين ، فضلا عن أنه يتكلم عن المدرسة المارونية ضمن مدارس الاستشراق ، ويجعل نفسه واحدا من رجالها (٤).

وإذا كان الاستشراق يمثل خطرا على الإسلام ، فلقد ظهر «علماء مسلمون فى الشرق والغرب هم أعظم خطرا من المستشرقين إذا ما عد هؤلاء من تلاميذ المستشرقين» (٥).

ننتهى من هذه الإشارات إلى أن الاستشراق قوة : سياسية وعقائدية ، واجتماعية ،

__________________

١ ـ مالك بن نبى : إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامى الحديث ص ١٣ ـ ١٤ مكتبة عمارة. القاهرة.

٢ ـ د. حسن حنفى : التراث والتجديد ص ٩٣ مكتبة الجديد

٣ ـ نجيب العفيفى : المستشرقون ج ٣ ص ٥٩٨

(٤)؟ ـ د. عبد العظيم الديب : المستشرقون والتراث ص ١٠ الهامش مكتبة ابن تيمية / البحرين ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م.

٥ ـ د. على بن إبراهيم النملة : كنه الاستشراق .. ص ٢٩ الكتاب الدورى لقسم الاستشراق كلية الدعوة بالمدينة المنورة ١٤١٢ ه‍.

١٧

وعسكرية ، وثقافية ، وعلمية ، ونفسية ، وتخيلية ، .. فهل بذلك يمكننا أن نكتنه الاستشراق؟ وإذا كان ذلك كذلك فهل يمكننا التعامل مع الاستشراق بالروية والموضوعية والنفس الطويل؟

يمكننا ذلك إذا صلحت النيات ، وغيرنا ما بأنفسنا (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد : ١١].

١٨

اهداف الاستشراق

تتداخل أهداف الاستشراق ، بحيث لا يستطيع الباحث ـ بسهولة ـ وضع خطوط أو فواصل بينها ، فالهدف الدينى والهدف العلمى ، والهدف السياسى أو الاستعمارى ، ... هذه الأهداف جميعها حاضرة في التخطيط الاستشراقى بحيث تؤدى جميعها في نهاية المطاف إلى تحقيق هدف وحيد هو ـ فيما نرى ـ قهر الإسلام وأهله وإعلاء المسيحية وسيادتها.

يقول المستشرق الإنجليزى ه. أ. جب محددا الهدف النهائى للاستشراق «كانت النتيجة الخالصة لهذه الحركة التعليمية أنها حررت ـ بقدر ما كان لها من تأثير ـ نزعة الشعوب الإسلامية من سلطان الدين دون أن تحس الشعوب بذلك غالبا ، وهذا وحده تقريبا هو جوهر كل نزعة غربية فعّالة في العالم الإسلامي» (١).

الهدف النهائى للاستشراق إبعاد سلطان الدين عن نفوس المسلمين بأى وسيلة ، عن طريق التعليم ـ أو غيره ـ فالتعليم «أكبر العوامل الصحيحة التى تعمل على الاستغراب». رغم هذا التداخل فإننا سنحاول تناول أهداف الاستشراق ، وسنقتصر هنا على ثلاثة منها :

أولا : الهدف الدينى :

الهدف الدينى للاستشراق من الأهداف الواضحة فقد صاحب الاستشراق طوال مراحل تطوره يقول الدكتور إدوارد سعيد : «إن الاستشراق السامى والاستشراق الإسلامى لم يكونا قد حررا نفسيهما ، إلا إلى درجة ضئيلة جدا ، من إسار الخلفيّة الدينية التى اشتق منها أصلا» (٢).

صاحب كتاب «الاستشراق» يشير إلى بدايات الاستشراق الكنسية ، كالذى جاء في الخطاب الموجه إلى مؤسس كرسى اللغة العربية في جامعة كمبردج والمؤرخ فى ٩ مارس من سنة ١٦٣٦ م : «ونحن ندرك أننا لا نهدف من هذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بإلقاء الضوء على المعرفة وهى ما تزال بعد محتبسة في نطاق هذه اللغة التى نسعى لتعلمها ، ولكننا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية ، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة والدعوة إلى الديانة النصرانية بين هؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات» (٣).

__________________

١ ـ جب : وجهة الإسلام ص ٢١٧ ، ٢١٤ ترجمة د. محمد عبد الهادى أبو ريدة المطبعة الإسلامية بمصر. الطبعة الأولى.

٢ ـ إدوارد سعيد : الاستشراق ص ٢٦٥ ترجمة كمال ابو ديب مؤسسة الأبحاث العلمية.

٣ ـ د. عبد اللطيف الطيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص (٢١ ، ٢٢) ترجمة د. قاسم السامرائى. مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م.

١٩

ومهما قيل عن أهداف تعلم العربية وإنشاء كرسى لها ، فإن الهدف التنصيرى واضح ، «فهذا أول جالس على كرسى اللغة العربية في جامعة كمبردج قد أعد مشروعا لم يكتمل تنفيذه قط لتفنيد القرآن» (١).

وبداية أخرى ـ سبقت إنشاء كرسى اللغة العربية في جامعة كمبردج ـ على يد الراهب «بطرس المبجل» (١٠٩٢ ـ ١١٥٦) رئيس ديركلونى الشهير ، فقد استقر رأيه على ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية بغية فهمه أولا ثم الرد عليه ثانيا.

هدف هذا الراهب من وراء ترجمة القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية هو هداية المسلمين ـ فيما يظن ـ إلى الديانة النصرانية ـ وهذا هدف تبشيرى بالدرجة الأولى ، استخدم المبشرون فيه العلم لرد المسلمين عن دينهم (٢).

يقول الدكتور محمد البهى : «.. والسبب الرئيسى المباشر الذى دعا الأوربيين إلى الاستشراق ، هو سبب دينى في الدرجة الأولى .. فقد تركت الحرب الصليبية فى نفوس الأوربيين ما تركت من آثار مرة عميقة ، وقد تركزت أهداف الاستشراق ـ مع تنوعها أخيرا ـ فى خلق التخاذل الروحى ، وإيجاد شعور بالنقص في نفوس المسلمين والشرقيين عامة ، وحملهم من هذا الطريق على الرضا والخضوع للتوجيهات الغربية» (٣).

والهدف الدينى للاستشراق ـ أو قل للتنصير ـ سار في اتجاهين متعاكسين ، اتجاه الشمال ، واتجاه الجنوب ، اتجاه إلى العقل الأوربى المسيحى وآخر إلى العقل المسلم اتجه إلى الأول ليحول بينه وبين الإسلام بتشويهه وحجب محاسنه ، واتجه إلى الثانى بغرض التشكيك في العقيدة الإسلامية وزعزعة ثقته في نبوة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» ، فقد ظهرت في القرن الحادى عشر الميلادى كتب تناولت الإسلام ، قد حفلت بالاتهامات والشتائم ، وكلها تتصف بالتهور والافتراءات الغريبة التى لا تدل على تفكير سليم ، ولم تبذل محاولة جدية لفهم الإسلام أو دراسة حياة محمد «صلى‌الله‌عليه‌وسلم» (٤).

من أجل هذا كانت ترجمة القرآن الكريم ، وإنشاء المدارس والمعاهد لتعليم العربية وكل ما يتعلق بالدين الإسلامى ، بغرض الجدل ومحاولة الإفحام.

__________________

١ ـ د. عبد اللطيف الطيباوى : المستشرقون الناطقون بالإنجليزية ص (٢١ ، ٢٢) ترجمة د. قاسم السامرائى. مطبوعات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م.

٢ ـ دكتور : ساسى سالم الحاج : الظاهرة الاستشراقية ج ١ ص ٤٣ ـ ٤٤ (مالطا) ط أولى ١٩٩١ م.

٣ ـ د. محمد البهى : الفكر الإسلامى الحديث وصلته بالاستعمار الغربى ص ٤٣. مكتبة وهبة القاهرة. الطبعة العاشرة وأيضا : مصطفى خالدى ، وعمر فروخ : التبشير والاستعمار ص ٢٤ ، ٢٥ بيروت ١٩٨٢ م.

٤ ـ د. على حسنى الخربوطلى : المستشرقون والتاريخ الإسلامى ص ٥٦ ، ٥٧ الهيئة المصرية للكتاب بالقاهرة ١٩٨٨.

٢٠