تراثنا ـ العددان [ 125 و 126 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 125 و 126 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: الوفاء
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٥١٠

من ذخائر التراث

٤٦١
٤٦٢

٤٦٣
٤٦٤

مقدّمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي أرسل السّفراء ، ثمّ الصّلاة والسّلام على خاتم الأنبياء ، محمّد وآله الأتقياء ، لاسيّما إمام العصر وناموس الدّهر الذي بيُمنه رزقُ الورى ، وبوجوده ثبتت الأرضُ والسَّماء ، واللَّعنُ الدائمُ الخالد على أعدائهم الأشقياء ، من الآن إلى يوم اللّقاء.

أمّا بعد : فإنّ علماء الشيعة قدس‌سرهم قد بذلوا قصارى جهدهم في الحفاظ على الدّين والمذهب ، تارةً بعلمهم وتارةً بأنفسهم وأموالهم. الذين قاموا بنشر معارف أهل البيت عليهم‌السلام ، وتبيين آثارهم ، وبثّ سننهم ، منذ القرن الأوّل إلى يومنا هذا. فلله درّهم وعليه أجرهم.

فعلى هذا استقرّت طريقةُ الأصحاب ـ رضوان الله عليهم ـ على ضبط أحوالهم وسكناتهم في الكتب والرسائل ، إقتفاءً لأثرهم وحفاظاً لمنهجهم.

ومن هؤلاء الفطاحل المحدّث الفقيه الشيخ أبوالحسن الشريف الفتوني

٤٦٥

العامِلي الإصفهاني قدس‌سره ، وهذه الرسالة الوجيزة مقالةٌ مختصرةٌ في ترجمته بقلم خاتم المحدّثين الميرزا حسين النوري الطبرسي رحمه‌الله (١٢٥٤ ـ ١٣٢٠هـ) ويأتي فيما يلي من المقدّمة مباحث حول المؤلِّف (النوري) ، والمؤلَّف (الرّسالة) ، بعون الله تعالى.

المؤلِّف :

لقد أغنانا تلميذه العلاّمة الشيخ آقا بزرگ الطهراني رحمه‌الله عن تجشّم عناء ترجمته والكلام عنه ، فقد سرد له ترجمةً وافية ، حيث قال في كتابه نقباء البشر :

الشيخ الميرزا حسين النوري(١)

(١٢٥٤ ـ ١٣٢٠هـ)

هو الشيخ الميرزا حسين بن الميرزا محمّد تقىّ بن الميرزا علي محمّد

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) «ارتعش القلم بيدي عند ما كتبتُ هذا الاسم ، واستوقفني الفكر عند ما رأيتُ نفسي عازماً على ترجمة أستاذي النورىّ ، وتمثّل لي بهيئته المعهودة بعد أن مضى على فراقنا خمس وخمسون سنة ، فخشعت إجلالا لمقامه ، ودهشت هيبةً له ، ولا غرابة فلو كان المترجمُ له غيره لهان الأمر ، ولكن كيف بي وهو من أولئك الأبطال غير المحدودة حياتهم وأعمالهم ، أمّا شخصيةٌ كهذه الشخصية الرحبة العريضة ، فمِن الصعب جدّاً أن يتحمّل المؤرّخُ الأمينُ وزرَ الحديث عنها ، ولا أرى مبرّراً في موقفي هذا سوى الاعتراف بالقصور عن تأدية حقّه ، فها أنا ذا أشير إلى طرف مِن ترجمته ، أداء لحقوقه علىَّ. والله المسؤولُ أن يجزيه عن الإسلام خير جزاء العاملين المحسنين». (منه).

٤٦٦

ابن تقي النورىّ الطبرسىّ ، إمام أئمّة الحديث والرجال في الأعصار المتأخّرة ، ومِن أعاظم علماء الشيعة وكبار رجال الإسلام في هذا القرن.

ولد في (١٨ ـ شوال ـ ١٢٥٤هـ) في قرية (يالو) من قرى نور ، إحدى كور طبرستان ، ونشأ بها يتيماً ، فقد توفّي والده الحجّة الكبير وله ثمان سنين ، وقبل أن يبلغَ الحلم اتّصل بالفقيه الكبير المولى محمّد علي المحلاّتي.

ثمّ هاجر إلى طهران واتّصل فيها بالعالم الجليل أبي زوجته الشيخ عبد الرحيم البروجردي ، فعكف على الإستفادة منه.

ثمّ هاجر معه إلى العراق في (١٢٧٣هـ) فزار أستاذه ورجع وبقي هو في النجف قرب أربع سنين.

ثمّ عاد إلى إيران ، ثمّ رجع إلى العراق في (١٢٧٨هـ) فلازم الآية الكبرى الشيخ عبد الحسين الطهرانىّ الشهير بشيخ العراقين ، وبقي معه في كربلاء مدّةً ، وذهب معه إلى مشهد الكاظمين عليهما‌السلام ، فبقي سنتين أيضاً وفي آخرهما رُزق حجّ البيت ، وذلك في (١٢٨٠هـ).

ثمّ رجع إلى النجف الأشرف وحضر بحثَ الشيخ المرتضى الأنصاري أشهراً قلائل إلى أن توفّي الشيخ في (١٢٨١هـ) ، فعاد إلى إيران في (١٢٨٤هـ) وزار الإمام الرضا عليه‌السلام ، ورجع إلى العراق أيضاً في (١٢٨٦هـ) ، وهي السنة التي توفّي فيها شيخه الطهرانىّ ، وكان أوّلُ مَن أجازه.

ورُزق حجّ البيت ثانياً ، ورجع إلى النجف فبقي فيها سنين لازم خلالها درس السيّد المجدّد الشيرازي ؛ ولمّا هاجر أستاذُه إلى سامرّاء في (١٢٩١هـ)

٤٦٧

لم يخبر تلاميذَه بعزمه على البقاء بها في بادئ الأمر ، ولمّا أعلن ذلك خفّ إليه الطلاّب ، وهاجر إليه المترجمُ له في (١٢٩٢هـ) بأهله وعِياله مع شيخه المولى فتح علي السلطان آبادي صهره على ابنته الشيخ فضل الله النورىّ ، وهم أوّل المهاجرين إليها. ورُزق حجّ البيت ثالثاً ، ولمّا رجع سافر إلى إيران ثالثاً في (١٢٩٧هـ) وزار مشهدَ الرضا عليه‌السلام ورجع فسافر إلى الحجّ رابعاً في (١٢٩٩هـ) ، ورجع فبقي في سامرّاء ملازماً لأستاذه المجدّد ، حتّى توفّي في (١٣١٢هـ) ، فبقي المترجمُ له بعده بسامرّاء إلى (١٣١٤هـ) ، فعاد إلى النجف عازماً على البقاء بها حتّى أدركه الأجل.

انتهى ملخّصاً عن ما ترجم به نفسُه في آخِر الجزء الثالث مِن كتابه المستدرك مع بعض الإضافات.

كان الشيخُ النورىّ أحد نماذج السلف الصالح التي ندُر وجودُها في هذا العصر ، فقد امتاز بعبقرية فذّة ، وكان آيةً مِن آيات الله العجيبة ، كمنت فيه مواهب غريبة وملكات شريفة أهّلته لأن يعدّ في الطليعة من علماء الشيعة الذين كرّسوا حياتهم طوالَ أعمارهم لخدمةِ الدِّين والمذهب ، وحياتُه صفحةٌ مشرقةٌ من الأعمال الصالحة.

وهو في مجموع آثاره ومآثره إنسانٌ فرض لشخصه الخلود على مرّ العصور ، وألزم المؤلّفين والمؤرّخين بالعناية به والإشادة بغزارة فضله ، فقد نذر نفسه لخدمة العلم ، ولم يكن يهمّه غير البحث والتنقيب والفحص والتتبّع ، جمع شتات الأخبار وشذرات الحديث ونظم متفرّقات الآثار وتأليف

٤٦٨

شوارد السِيَر.

وقد رافقه التوفيقُ وأعانته المشيئةُ الإلهيّةُ ، حتّى ليظنَ الناظرُ في تصانيفه أنَّ الله شملَهُ بخاصّةِ ألطافه ومخصوص عنايته ، وادّخر له كنوزاً قيّمةً لم يظفر بها أعاظمُ السلف من هواة الآثار ورجال هذا الفن ، بل يخيّل للواقف على أمره أنَّ الله خلقَه لحفظِ البقية الباقية من تُراثِ آل محمّد عليه وعليهم السلام (وَذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيْهِ مَنْ يَشَاء وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيْمٌ).

تشرّفتُ بخدمته للمرّة الأولى في سامرّاء في (١٣١٣هـ) بعدَ وفاة المجدّد الشيرازي بسنة ، وهي سنةُ ورودي العراق ، كما أنّها سنةُ وفاةِ السلطان ناصرالدّين شاه القاجاري.

وذلك عند ما قصدتُ سامرّاء زائراً قبلَ ورودي إلى النجف فوفقتُ لرؤيةِ المترجم له بداره ، حيثُ قصدتُها لاستماع مصيبةِ الحسين عليه‌السلام ، وذلك يومَ الجمعة الذي ينعقدُ فيه مجلسٌ بداره ، وكان المجلسُ غاصّاً بالحضور والشيخُ على الكرسىّ مشغولٌ بالوعظ ، ثمّ ذكر المصيبةَ وتفرّق الحاضرون ، فانصرفتُ وفي نفسي ما يعلمه الله من إجلال وإعجاب وإكبار لهذا الشيخ ؛ إذ رأيتُ فيه حينَ رأيتُه سماتَ الأبرار مِن رجالنا الأول.

ولمّا وصلتُ إلى النجف بقيتُ أمنّي النفس لو أن تتّفق لي صلةٌ مع هذا الشيخ لأستفيد منه عن كَثب ، ولمّا اتفقت هجرته إلى النجف في (١٣١٤هـ) لازمتُه ملازمةَ الظلّ ستّ سنين ، حتّى اختار الله له دارَ إقامته.

ورأيتُ منه خلالَ هذه المدّة قضايا عجيبةً لو أردتُ شرحَها لطال

٤٦٩

المقامُ ، وبودّي أن أذكر مجملاً مِن ذلك ، ولو كان في ذلك خروجٌ عن خطّتنا الإيجازيّة ؛ فهذا ـ وأيّم الحقّ ـ مقامَ الوفاء ؛ ووقت إعطاء النَصْفِ ، وقضاء الحقوق ؛ فإنّي لعلى يقين مِن أنّني لا ألتقي بأستاذي المعظّم ومعلّمي الأوّل بعدَ موقفي هذا إلاّ في عرصاتِ القيامة ، فما بالي لا أفي حقَّه وأغنم رضاه.كان ـ أعلى الله مقامَه ـ ملتزماً بالوظائف الشرعيّة على الدوام ، وكان لكلّ ساعة مِن يومِه شغلٌ خاصٌّ لا يتخلّفُ عنه ، فوقتُ كتابتِه مِن بعد صلاةِ العصر إلى قُربِ الغروب ، ووقتُ مطالعتِه مِن بعد العشاء إلى وقت النوم ، وكان لا ينامُ إلاّ متطهّراً ، ولا ينامُ مِن اللَّيل إلاّ قليلاً ، ثمّ يستيقظ قبل الفجر بساعتين فيجدّد وضوءَه ، ولا يستعملُ الماء القليل ، بل كان لا يتطهّر إلاّ بالكُرّ ، ثمّ يتشرّفُ قبلَ الفجر بساعة إلى الحرم المطهّر ، ويقف ـ صيفاً وشتاءً ـ خلفَ بابِ القبلة فيشتغلُ بنوافل اللَّيل إلى أن يأتي السيّدُ داود نائب خازن الروضة وبيده مفاتيحُ الروضة فيفتح البابَ يدخل شيخُنا ، وهو أوّلُ داخل لها وقتذاك.

وكان يشترك مع نائب الخازن بإيقاد الشموع ، ثمّ يقف في جانب الرأس الشريف ، فيشرع بالزيارة والتهجّد إلى أن يطلع الفجرُ ، فيصلّي الصبحَ جماعةً مع بعض خواصّه مِن العبّاد والأوتاد ، ويشتغل بالتعقيب.

وقبل شروق الشمس بقليل يعود إلى داره ، فيتوجّه رأساً إلى مكتبته العظيمة المشتملة على ألوف مِن نفائس الكتب والآثار النادرة العزيزة الوجود أو المنحصرة عنده ، فلا يخرج منها إلاّ للضرورة.

٤٧٠

وفي الصباح يأتيه مَن كان يُعينه على مقابلة ما يحتاج إلى تصحيحه ومقابلته ممّا صنّفه أو استنسخه من كتب الحديث وغيرها ، كالعلّامتين الشيخ علىّ بن إبراهيم القمّيّ ، والشيخ عبّاس بن محمّدرضا القمّيّ ، وكان معينُه على المقابلة في النجف وقبل الهجرة إلى سامرّاء فيها أيضاً المولى محمّد تقىّ القمّيّ الباوزئيري الذي ترجمناه في القسم الأوّل من هذا الكتاب ص ٢٣٨ ، وكان إذا دخل عليه أحدٌ في حال المقابلة اعتذر منه أو قضى حاجتَه باستعجال ؛ لئلاّ يزاحمَ وروده أشغاله العلمية ومقابلته ، أمّا في الأيّام الأخيرة ، وحينما كان مشغولاً بتكميل المستدرك فقد قاطع الناسَ على الإطلاق ، حتّى أنّه لو سُئل عن شرح حديث أو ذكر خبر أو تفصيل قضية أو تأريخ شيّء أو حال راو أو غير ذلك مِن مسائل الفقه والأصول لم يُجب بالتفصيل ، بل يذكر للسائل مواضع الجواب ومصادره فيما إذا كان في الخارج ، وأمّا إذا كان في مكتبته فيخرج الموضوعَ من أحد الكتب ، ويُعطيه للسائل ليتأمّلَه. كلُّ ذلك خوفَ مزاحمةِ الإجابةِ الشغلَ الأهمَّ من القراءة أو الكتابة (١) ، وبعد الفراغ من أشغاله كان يتغذّى بغذاء معيّن كمّاً وكيفاً ، ثمّ يقيل ويُصلّي الظهر أوّل الزوال ، وبعد العصر يشتغل بالكتابةِ كما ذكرنا.

أمّا في يوم الجمعة فكان يُغيّر منهجَه ، ويشتغل بعد الرجوع من الحرم الشريف بمطالعة بعض كتب الذكر والمصيبة لترتيب ما يقرؤه على المنبر

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) كان ذلك من الله فكأنّ هاتفاً هتف في أذنه وأمره بتركِ أشغاله لأ نّه توفّي بعد تتميم الكتاب بقليل. (منه).

٤٧١

بداره ، يخرج من مكتبته بعد الشمس بساعة إلى مجلسه العام ، فيجلس ويُحيّي الحاضرين ، ويُؤدّي التعارفات ، ثمّ يرقى المنبرَ فيقرأ ما رآه في الكتب بذلك اليوم ، مع ذلك يحتاط في النقل بما لم يكن صريحاً في الأخبار الجزميّة.

وكان إذا قرأ المصيبةَ تنحدر دموعُه على شيبته ، وبعد انقضاء المجلس يشتغل بوظائف الجمعة من التقليم والحلق وقصّ الشارب والغسل والأدعية والآداب والنوافل غيرها ؛ وكان لا يكتبُ بعد عصر الجمعة ـ على عادته ـ بل يتشرّف إلى الحرم ويشتغل بالمأثور إلى الغروب ، كانت هذه عادتُه إلى أن انتقل إلى جوار ربّه.

وممّا سنَّه في تلك الأعوام : زيارةَ سيّد الشهداء مشياً على الأقدام ، فقد كان ذلك في عصر الشيخ الأنصاري مِن سنن الأخيار وأعظم الشعائر ؛ لكن تُرك في الأخير ، وصار من علائم الفقر وخصائص الأدنين (١) من الناس ، فكان العازمُ على ذلك يتخفّى عن الناس لما في ذلك من الذلّ والعار.

فلمّا رأى شيخُنا ضعفَ هذا الأمر اهتمّ له والتزمه ، فكان في خصوص زيارةِ عيد الأضحى يكتري بعضَ الدوابّ لحمل الأثقال والأمتعة ويمشي هو وصحبه.

لكنّه لضعفِ مزاجه لا يستطيعُ قطعَ المسافةِ من النجف إلى كربلاء

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) في الأصل : (الأدنون) ؛ والصحيح ما أثبتناه. (المصحّح).

٤٧٢

بمبيتِ ليلة كما هو المرسومُ عند أهله ، بل يقضي في الطريق ثلاث ليال يبيت الأولى ، في (المصلّى) ، والثانية في (خان النصف) ، والثالثة في (خان النخيلة) ، فيصل كربلاء في الرابعة ، ويكون مشيُه كلّ يوم ربعَ الطريق نصفه صبحاً ونصفه عصراً ، ويستريحُ وسطَ الطريق لاداءِ الفريضة وتناول الغذاء في ظلال خيمة يحملها معه.

وفي السنة الثانية والثالثة زادت رغبةُ الناس والصلحاء بالأمر ، وذهب ما كان في ذلك من الإهانة والذلّ ، إلى أن صار عددُ الخِيَم في بعض السنين أزيد من ثلاثين ، لكلّ واحدة بين العشرين والثلاثين نفراً.

وفي السنة الأخيرة يعني زيارة عرفة (١٣١٩هـ) ـ وهي سنةُ الحجّ الأكبر التي اتفق فيها عيد النيروز والجمعة والأضحى في يوم واحد ولكثرةِ ازدحام الحجيج حصل في مكّةَ وباءٌ عظيمٌ هلك فيه خلقٌ كثيرٌ ـ تشرّفتُ بخدمةِ الشيخ إلى كربلاء ماشياً ، واتّفق أنّه عاد بعد تلك الزيارة إلى النجف ماشياً أيضاً ـ بعد أن اعتاد على الركوب في العودة ـ وذلك باستدعاءِ الميرزا محمّد مهدي ابن المولى محمّد صالح المازندراني الإصفهانىّ صهر الشيخ محمّد باقر ابن محمّد تقىّ محشّي المعالم ، وذلك لأنّه كان نذر أن يزورَ النجف ماشياً ، ولمّا اتّفقت له ملاقاة شيخنا في كربلاء طلب منه أن يصحبه في العودة ففعل.

وفي تلك السفرة بدأ به المرضُ الذي كانت فيه وفاتُه يوم خروجه من النجف وذلك على أثر أكل الطعام الذي حمله بعضُ أصحابه في إناء مغطّى الرأس حُبس فيه الزاد بحرارته فلم ير الهواء ، وكلّ من ذاق ذلك الطعام ابتلي

٤٧٣

بالقيء والإسهال.

وكانت عدّةُ أصحاب الشيخ قرب الثلاثين ، ولم يبتل بذلك بعضُهم لعدم الأكل وأنا كنتُ من جملتهم. وقد ابتلي منهم بالمرض قرب العشرين ، وبعضهم أشدّ من بعض ذلك لاختلافهم في مقدار الأكل من ذلك ، ونجا أكثرهم بالقيء إلاّ شيخنا ؛ فإنّه لمّا عرضت له حالةُ الاستفراغ أمسك شديداً حفظاً لبقيةِ الأصحاب عن الوحشة والاضطراب ، فبقاءُ ذلك الطعام في جوفه أثّر عليه كما أخبرني به بعد يومين من ورودنا كربلاء قال : «إنّي أحسُّ بجوفي قطعةَ حجر لا تتحرّك عن مكانها» ، وفي عودتنا إلى النجف عرض له القيء في الطريق لكنّه لم يجده ؛ وابتلي بالحمّى كان يشتدّ مرضُه يوماً فيوماً إلى أن توفّي في ليلة الأربعاء لثلاث بقين من جُمادى الثانية (١٣٢٠هـ) ودُفن بوصيّة منه بين العترة والكتاب يعني في الإيوان الثالث عن يمين الداخل إلى الصحن الشريف من باب القبلة ، وكان يومُ وفاته مشهوداً جزع فيه سائرُ الطبقات ولا سيَّما العلماء ، ورثاه جمعٌ من الشعراء وأرّخ وفاتَه آخرون ؛ منهم : الشاعر الفحل الشيخ محمّد الملاّ التسترىّ المتوفّى في (١٣٢٢هـ) قال :

مَضى الحسينُ الذي تجسّد من

نورِ علوم من عالَمِ الذرِّ

قُدّس مثوىً منه حوى عَلَماً

مقدّسَ النفسِ طيّبَ الذكرِ

أوصافُهُ عطّرت فأنشقَنَا

منهنَّ تأريخُهُ : (شذَى العطْرِ) (١)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) الشذا بالألف لا الياء. وعليه فالتأريخ ينقص تسعة. (منه).

٤٧٤

ولجثمانه كرامةٌ ، فقد حدّثني العالمُ العادلُ والثقةُ الورعُ السيّد محمّد بن أبي القاسم الكاشاني النجفىّ قال : «لمّا حضرتْ زوجتَه الوفاةُ أوصت أن تدفن إلى جنبه ، ولمّا حضرتُ دفنها ـ وكان ذلك بعد وفاة الشيخ بسبع سنين ـ نزلتُ في السرداب لأضع خدَّها على التراب حيث كانت من محارمي لبعض الأسباب ، فلمّا كشفتُ عن وجهها حانت منّي التفاتةً إلى جسد الشيخ زوجها ، فرأيتُه طريّاً كيوم دفن ، حتّى أنّ طولَ المدةِ لم يؤثر على كفنه ولم يمل لونه من البياض إلى الصفرة».

ترك شيخُنا آثاراً هامّةً قلّما رأت عينُ الزمن نظيرها في حسن النظم وجودة التأليف وكفى بها كرامةً له.

ونعود إلى حديثنا الأوّل فنقول : لو تأمّل إنسانٌ ما خلّفه النورىّ من الأسفار الجليلة والمؤلّفات الخطيرة التي تموج بمياه التحقيق والتدقيق وتوقّف على سعة في الإطلاع عجيبة ؛ لم يشكّ في أنّه مؤيّدٌ بروح القدس ؛ لأنّ أكثر هذه الآثار ممّا أفرغه في قالب التأليف بسامرّاء ، وهو يومذاك من أعاظم أصحاب السيّد المجدّد الشيرازي وقدمائهم وكبرائهم ؛ وكان يرجع إليه مهام أموره وعنه يصدر الرأي ، وكان من عيون تلامذته المعروفين في الآفاق.

فكانت مراسلات سائر البلاد بتوسّطه غالباً ، وأجوبة الرسائل تصدر عنه وبقلمه ، كان قضاء حوائج المهاجرين بسعيه أيضاً.

كما كان سفيرُ المجدّد ونائبه في التصدّي لسائر الأمور كزيارة العلماء والأشراف الواردين إلى سامرّاء استقبالهم ، وتوديع العائدين إلى أماكنهم ،

٤٧٥

وتنظيم أمور معاش الطلاّب وإرضائهم ، وعيادة المرضى وتهيئة لوازمهم ، وتجهيز الموتى وتشييعهم ، ترتيب مجالس عزاء سيّد الشهداء عليه‌السلام والإطعامات الكثيرة ، وسائر أشغال مرجع عظيم كالمجدّد الشيرازي ، وغير ذلك كالزمن الذي ضاع عليه في الأسفار المذكورة في أوّل ترجمته.

وكانت له عند السيّد المجدّد مكانةٌ ساميةٌ للغاية ، فكان لا يُسمّيه باسمه بل يُناديه بـ : (حاج آغا) احتراماً له ، وورث ذلك عنه أولاده فقد كان ذلك اسم النورىّ في أيّام سكنانا بسامرّاء ، أَفَتَرى أنّ مَن يقوم بهذه الشواغل الاجتماعية المتراكمة من حوله يستطيع أن يعطي المكتبة نصيبها الذي تحتاجه حياتُه العلمية ؟ نعم أنَّ البطل النورىّ لم يكن ذلك كلّه صارفاً له عن أعماله ، فقد خرج له في تلك الظروف ما ناف على ثلاثين مجلداً من التصانيف الباهرة ، غير كثير ممّا استنسخه بخطّه الشريف من الكتب النادرة النفيسة.

أمّا في النجف وبعد وفاة السيّد المجدّد ، فلم يكن وضعه المادّي كما ينبغي أن يكون لمثله ، وأتخطّر إلى الآن أنّه قال لي يوماً : «إنّي أموت وفي قلبي حسرةٌ (١) ، وهي أنّي ما رأيتُ أحداً آخِر عمري يقول لي : يا فلانٌ خُذ هذا المالَ فاصرفه في قلمك وقرطاسك أو اشْتَرِ به كتاباً أو اعْطِهِ لكاتب يُعينك على عملك».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) كثيرون أولئك الذين يقضون وفي قلوبهم مثلُ هذه الحسرة من رجال هذا الفنّ لكنّ ذلك لا يؤدّي بهم إلى ترك العمل أو الفتور عنه (وكم حسرات في نفوس كرام). (منه).

٤٧٦

ومع ذلك فلم يصبه مللٌ أو كسلٌ فقد كان باذلاً جهدَه ومواصلاً عملَه حتّى الساعة الأخيرة من عمره ، وتصانيفه صنفان :

الأوّل : ما طُبع في حياته وانتشرت نسخُه في الآفاق ، وهو :

[١] ـ نفس الرَّحمن في فضائل سيّدنا سلمان ، طُبع في (١٢٨٥هـ).

[٢] ـ ودار السَّلام فيما يتعلّق بالرؤيا والمنام ، فرغ من تأليفه بسامرّاء في (١٢٩٢هـ) وطُبع في طهران كلا جزأيه في (١٣٠٥هـ) ضمنَ مجلّد ضخم كبير ، وطُبع الجزءُ الأوّل منه مستقلاًّ مرّةً ثانيةً ، ذكرناه مفصّلاً في الذريعة ج ٨ ، ص ٢٠.

[٣] ـ وفصل الخطاب في مسألة تحريف الكتاب ، فرغ منه في النجف في (٢٨ ـ ج ٢ ـ ١٢٩٢هـ) وطُبع في (١٢٩٨هـ) ، وبعد نشره اختلف بعضُهم فيه ، وكتب الشيخُ محمود الطهرانىّ الشهير بـ : (معرّب) رسالةً في الرَّد(١) عليه

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(١) «ذكرنا في حرف الفاء من (الذريعة) ـ عند ذكرنا لهذا الكتاب ـ مرام شيخنا النورىّ في تأليفه لفصل الخطاب وذلك حسبما شافهنا به وسمعناه من لسانه في أواخر أيّامه ؛ فإنّه كان يقول : «أخطأتُ في تسمية الكتاب وكان الأجدر أن يُسمّى بـ : (فصل الخطاب في عدم تحريف الكتاب) لأ نّي أثبت فيه أنّ كتاب الإسلام (القرآن الشريف) ـ الموجود بين الدفّتين المنتشر في أقطار العالم ـ وحي إلهي بجميع سوره وآياته ، وجملة لم يطرأ عليه تغيير أو تبديل ولا زيادة ولا نقصان من لدن جمعه حتّى اليوم ، وقد وصل إلينا المجموع الأوّلي بالتواتر القطعي ، ولا شكّ لأحد من الإماميّة فيه.

فبعد ذا ، أمِن الإنصاف أن يقاس الموصوف بهذه الأوصاف بالعهدين أو الأناجيل المعلومة أحوالها لدى كلّ خبير؟ كما أنّي أهملتُ التصريحَ بمرامي في مواضع متعدّدة

٤٧٧

سمّاها كشف الارتياب عن تحريف الكتاب ، وأورد فيها بعض الشبهات وبعثها إلى المجدّد الشيرازي ، فأعطاها للشيخ النورىّ ، وقد أجاب عنها

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

من الكتاب حتّى لا تسدّد نحوي سهام العتاب والملامة ، بل صرّحتُ غفلةً بخلافه.

وإنّما اكتفيتُ بالتلميح إلى مرامي في ص٢٢ ، إذ المهمّ حصولُ اليقين بعدم وجود بقيّة للمجموع بين الدفّتين ، كما نقلنا هذا العنوان عن الشيخ المفيد في ص٢٦ ، واليقين بعدم البقيّة موقوفٌ على دفع الإحتمالات العقلائية الستّة المستلزم بقاء أحدها في الذهن لارتفاع اليقين بعدم البقيّة ، وقد أوكلتُ المحاكمةَ في بقاء أحد الاحتمالات أو إنتفائه إلى مَن يمعن النظرَ فيما أدرجتُه في الكتاب من القرائن والمؤيّدات ، فإن انقدح في ذهنه احتمال البقيّة فلا يدّعي جزافاً القطع واليقين بعدمها ، وإن لم ينقدح فهو على يقين و (ليس وراء عبادان قرية) كما يقول المثلُ السائر ، ولا يترتّب على حصول هذا اليقين ولا على عدمه حكمٌ شرعي فلا اعتراضَ لإحدى الطائفتين على الأخرى».

هذا ما سمعناه من قول شيخنا نفسه ، وأمّا عمله فقد رأيناه وهو لا يقيم لما ورد في مضامين الأخبار وزناً بل يراها أخبار آحاد لا تثبت بها القرآنية بل يضرب بخصوصيّاتها عرض الجدار سيرة السلف الصالح من أكابر الإماميّة كالسيّد المرتضى ، والشيخ الطوسىّ ، وأمين الإسلام الطبرسىّ وغيرهم ، ولم يكن ـ العياذ بالله ـ يلصق شيئاً منها بكرامة القرآن ، وإن ألصق ذلك بكرامة شيخنا قدس‌سره مَن لم يطّلع على مرامه ، وقد كان باعتراف جميع معاصريه رجالي عصره والوحيد في فنّه ولم يكن جاهلا بأحوال تلك الأحاديث ـ كما ادّعاه بعض المعاصرين ـ حتّى يُعترض عليه بأنّ كثيراً من رواة هذه الأحاديث ممّن لا يُعمل بروايته. فإنّ شيخنا لم يورد هذه الأخبار للعمل بمضامينها بل للقصد الذي أشرنا إليه ولنا في (هامش الذريعة) تعليقةٌ مبسوطةٌ حول المبحث المعنون مسامحة بالتحريف هي في هامش ج٣ ، ص٣١٣ ـ ٣١٤ وأخرى في ج١٠ ، هامش ص٧٨ ـ ٧٩ ففيهما ما لا غنى للباحث عن الوقوف عليه والله من وراء القصد». (منه).

٤٧٨

برسالة فارسية مخصوصة نذكرها في القسم الثاني المخطوط من تآليفه.

[٤] ـ ومعالم العبر في استدراك البحار السابع عشر.

[٥] ـ وجنّة المأوى في من فاز بلقاء الحجة عليه‌السلام في الغيبة الكبرى ، مِن الذين لم يذكرهم صاحب البحار ، أورد فيه تسعاً وخمسين حكايةً ، فرغ منه في (١٣٠٢هـ) طبعه المرحومُ الحاجُّ محمّد حسن الإصفهانيّ الملقّب بـ : (الكمپاني) ـ أمين دار الضرب ـ في آخر المجلّد الثالث عشر من البحار الذي هو تتميمٌ له ، طُبع ثانياً في طهران في (١٣٣٣هـ) ، راجع تفصيل ما ذكرناه في الذريعة ج٥ ص١٥٩ ـ ١٦٠.

[٦] ـ والفيض القدسي في أحوال العلاّمة المجلسي ، فرغ منه في (١٣٠٢هـ) وطبع بها في أوّل البحار ، طبعة أمين الضرب المذكور.

[٧] ـ والصحيفة الثانية العلوية.

[٨] ـ والصحيفة الرابعة السجّادية.

[٩] ـ والنجم الثاقب في أحوال الإمام الغائب عليه‌السلام ، فارسيّ.

[١٠] ـ والكلمة الطيّبة ، فارسي أيضاً.

[١١] ـ وميزان السماء في تعيين مولد خاتم الأنبياء ، فارسي ، ألّفه بطهران في زيارته (١٢٩٩هـ) بالتماس العلاّمة الزعيم المولى علي الكني.

[١٢] ـ والبدر المُشعشع في ذرّية موسى المبرقع ، فرغ منه في (١٣٠٨هـ) طُبع فيها ببمبئي على الحجر ، وعليه تقريظُ المجدّد ونسخةٌ منه بخطّه أهداها كتابةً للحجّة الميرزا محمّد الطهرانىّ ، وهي في مكتبته بسامرّاء

٤٧٩

كما فصّلناه في ج٣ ص٦٨.

[١٣] ـ وكشف الأستار عن وجه الغائب عن الأبصار ، في الردّ على القصيدة البغدادية التي تضمّنت إنكار المهدىّ عليه‌السلام.

[١٤] ـ وسلامة المرصاد (فارسي) في زيارة عاشوراء غير المعروفة ، وأعمال مقامات مسجد الكوفة غير ما هو الشائع الدائر بين الناس الموجود في المزارات المعروفة.

[١٥] ـ ولؤلؤ ومرجان در شرط پله أوّل ودوّم روضه خان ، يعني في الدرجة الأولى والثانية للخطيب يعني بذلك الإخلاص والصدق ، ألّفه قبل وفاته بسنة وطُبع مرّتين.

[١٦] ـ وتحية الزائر ، استدرك به على تحفة الزائر للمجلسىّ ، وطبع ثلاث مرّات ، وهو آخر تصانيفه حتّى أنّه توفّي قبل إتمامه ، فأتمّه الشيخُ عبّاس القمّيّ حسب رغبة الشيخ وإرادته كما فصّلناه في ج٣ ص٤٨٤.

[١٧] ـ وطُبع أيضاً ديوان شعره الفارسىّ بقطع صغير ويسمّى بـ : المولوديّة ؛ لأنّه مجموعُ قصائد نظمها في الأيّام المتبرّكة بمواليد الأئمّة ، وفيه قصيدةٌ في مدح سامرّاء وهي قافيتُه ، وفيه قصيدتُه التي نظمها في مدح صاحب الزمان في (١٢٩٥هـ).

[١٨] ـ وعدَّ السيّد محمّد مرتضى الجنفوري في رسالته التي ألّفها فهرساً لتصانيف الشيخ النورىّ من تصانيفه الفارسية المطبوعة ، جوابه عن سؤال السيّد محمّدحسن الكمال پوري المطبوع في البركات الأحمدية.

٤٨٠