معاني القرآن

أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري [ الأخفش الأوسط ]

معاني القرآن

المؤلف:

أبي الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي البصري [ الأخفش الأوسط ]


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3518-X
الصفحات: ٣٦٠

١
٢

بسم الله الرّحمن الرّحيم

تقديم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد بن عبد الله ، النبي العربي الأمي ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى صحبه الكرام المنتجبين.

وبعد

فإن للقرآن الكريم الشأن الأعظم في أمر الإسلام والمسلمين ، فهو هديهم في شريعتهم ، وهو المنار الذي يستضاء به في اللغة العربية وأساليب البلاغة فيها ، وهو المنبع الصافي الذي ينهلون منه فلسفتهم الروحية والخلقية ، وهو الموجه لهم في الحياة والمعاملات وشتى المظاهر الاجتماعية.

فلا عجب أن يكون القرآن الكريم موضع عناية خاصة لدى المسلمين منذ القدم ، فقد تتابعت أنواع المصنفات في أحكامه وفي تفسيره وفي بلاغته وفي لغته وفي إعرابه ، ولقد ازدهرت في الثقافة الإسلامية ضروب من العلوم والفنون حول القرآن وتحت رايته.

هذا كتاب «معاني القرآن» للأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة البلخي المجاشعي. وضعه في النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة.

ويعدّ كتاب الأخفش الأوسط «معاني القرآن» من الكتب الأولى في دراسة القرآن الكريم ، فهو وكتاب «مجاز القرآن» لأبي عبيدة ، و «معاني القرآن» للفراء ، من الكتب الأولى التي كانت السباقة في خوض هذا النوع من التفاسير. وقد ألفه الأخفش بعد اتصاله بالكسائي ببغداد.

٣

أما عملنا في هذا الكتاب فهو :

أولا : وضعنا ترجمة وافية للمؤلف.

ثانيا : وضعنا مقدمة في علم تفسير القرآن ، مأخوذة من «كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم» للتهانوي ١ / ٣٣ ـ ٣٧ (طبعة دار الكتب العلمية).

ثالثا : حرصنا بقدر الطاعة على تنقية النص من الأخطاء ، حيث وجدنا في الأصل الكثير من الكلمات المطموسة وغير الواضحة والتي كان من الصعب التعرف عليها.

رابعا : وضعنا في حواشي الكتاب تعريفا وافيا ـ مع ذكر المراجع ـ بجميع الأعلام المذكورة في المتن ، وما أهملناه من ذلك إما معروف مشهور ، ولم نجد ضرورة لنافل القول فيه ، وإما لم نهتد إليه فيما بين أيدينا من المراجع والمصادر ، وقد أشرنا إلى ذلك أيضا.

خامسا : خرجنا جميع الشواهد الشعرية في مظانها ، وما أهملناه لم نهتد إليه فيما أيدينا من المصادر والمراجع.

سادسا : خرجنا الآيات القرآنية الكريمة على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

وأخيرا نرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى ، ولله الكمال وحده ، وهو لي التوفيق.

إبراهيم شمس الدين

٤

مقدمة في علم التفسير (١)

هو علم يعرف به نزول الآيات ، وشؤونها وأقاصيصها ، والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيّها ومدنيها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومجملها ومفسرها ، وحلالها وحرامها ، وعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وأمثالها وغيرها.

وقال أبو حيان : التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها ، وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التي يحمل عليها حالة التركيب ، وتتمات ذلك.

قال : فقولنا : علم جنس ، وقولنا : يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن هو علم القراءة. وقولنا : ومدلولاتها أي مدلولات تلك الألفاظ ، وهذا متن علم اللغة الذي يحتاج إليه في هذا العلم. وقولنا : وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، يشتمل علم الصرف والنحو ، والبيان والبديع.

وقولنا : ومعانيها التي يحمل عليها حالة التركيب ، يشتمل ما دلالته بالحقيقة ، وما دلالته بالمجاز. فإن التركيب قد يقتضي بظاهره شيئا ، ويصد عن الحمل عليه صاد فيحمل على غيره وهو المجاز. وقولنا : وتتمات ذلك هو مثل معرفة النسخ ، وسبب النزول ، وتوضيح ما أبهم في القرآن ، ونحو ذلك.

وقال الزركشي : التفسير علم يفهم به كتاب الله المنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة ، والنحو ، والتصريف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه ، والقراءات. ويحتاج إلى معرفة أسباب النزول ، والناسخ والمنسوخ. كذا في الاتقان. فموضوعه القرآن.

__________________

(١) مأخوذة من كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم للتهانوي ١ / ٣٣ ـ ٣٧. (طبعة دار الكتب العلمية).

٥

وأما وجه الحاجة إليه ، فقال بعضهم : اعلم أن من المعلوم أن الله تعالى إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه ، وأنزل كتابه على لغتهم. وإنما احتيج إلى التفسير ، لما سيذكر بعد تقرير قاعدة ، وهي أن كل من وضع من البشر كتابا ، فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح ، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة :

أحدهما كمال فضيلة المصنف ، فإنه بقوته العلمية يجمع المعاني الدقيقة في اللفظ الوجيز ، فربّما عسر فهم مراده ، فقصد بالشروح ظهور تلك المعاني الدقيقة. ومن ههنا كان شرح بعض الأئمة لتصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له.

وثانيها إغفاله بعض متممات المسألة أو شروطها ، اعتمادا على وضوحها ، أو لأنها من علم آخر ، فيحتاج الشارح لبيان المتروك ومراتبه.

وثالثها احتمال اللفظ لمعان مختلف ، كما في المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام ، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه.

وقد يقع في التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط ، أو تكرار الشيء ، أو حذف المهم وغير ذلك ، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.

وإذا تقرر هذا فنقول : إن القرآن إنما نزل بلسان عربي في زمن فصحاء العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، أما دقائق باطنه فإنما كانت تظهر لهم بعد البحث والنظر ، مع سؤالهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في الأكثر ، كسؤالهم لما نزل : (ولم يلبسوا إيمنهم بظلم) (١) فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه؟ ففسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالشرك ، واستدل عليه (إنّ الشّرك لظلم عظيم) (٢). وغير ذلك مما سألوا عنه عليه الصلاة والسلام. ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه ، مع أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد احتياجا إلى التفسير.

وأما شرفه فلا يخفى ، قال الله تعالى : (يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرا كثيرا) (٣). وقال الأصبهاني شرفه من وجوه : أحدها من

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ٨٢.

(٢) سورة لقمان ، آية : ١٣.

(٣) سورة البقرة ، آية : ٢٦٩.

٦

جهة الموضوع ، فإن موضوعه كلام الله تعالى الذي ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة. وثانيها من جهة الغرض ، فإن الغرض منه الاعتصام بالعروة الوثقى ، والوصول إلى السعادة الحقيقية التي هي الغاية القصوى. وثالثها من جهة شدة الحاجة ، فإن كل كمال ديني أو دنيوي مفتقر إلى العلوم الشرعية ، والمعارف الدينية ، وهي متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى.

فائدة : اختلف الناس في تفسير القرآن ، هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟ فقال قوم : لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شيء من القرآن ، وإن عالما أدبيّا متسعا في معرفة الأدلة ، والفقه ، والنحو ، والأخبار ، والآثار ، وليس له إلا أن ينتهي إلى ما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في ذلك.

ومنهم من قال : يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها ، وهي خمسة عشرة علما : اللغة والنحو ، والتصريف والاشتقاق ، والمعاني والبيان والبديع ، وعلم القراءات لأنه يعرف به كيفية النطق بالقرآن ، وبالقراءات يرجح بعض الوجوه المحتملة على بعض ، وأصول الدين ، أي الكلام ، وأصول الفقه ، وأسباب النزول ، والقصص إذ بسبب النزول يعرف معنى الآية المنزلة فيه بحسب ما أنزلت فيه ، والناسخ والمنسوخ ليعلم المحكم من غيره ، والفقه والأحاديث المبينة لتفسير المبهم ، والمجمل ، وعلم الموهبة ، وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، وإليه الإشارة بحديث : «من عمل بما علم أورثه الله تعالى علم ما لم يعلم». وقال البغوي والكواشي وغيرهما : التأويل وهو صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها ، تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة ، غير محظور على العلماء بالتفسير ، كقوله تعالى : (انفروا خفافا وثقالا) (١) ، قيل : شبابا وشيوخا ، وقيل : أغنياء وفقراء ، وقيل : نشاطا وغير نشاط ، وقيل : أصحاء ومرضى. وكل ذلك سائغ والآية تحتمله.

وأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور ، لأنه تأويل الجاهلين ، مثل تأويل الروافض قوله تعالى : (مرج البحرين يلتقيان) (١٩) (٢) أنهما عليّ وفاطمة (يخرج منهما اللّؤلؤ والمرجان) (٢٢) (٣) يعني الحسن والحسين.

__________________

(١) سورة التوبة ، آية : ٤١.

(٢) سورة الرحمن ، آية : ٢٢.

(٣) سورة الرحمن ، آية : ١٩.

٧

فائدة : وأما كلام الصوفية في القرآن ، فليس بتفسير. قال النسفي في عقائده : النصوص محمولة على ظواهرها ، والعدول عنها إلى معان يدعيها أهل الباطن إلحاد. وقال التفتازاني في شرحه : سميت الملاحدة باطنية لا دعائهم أن النصوص ليست على ظواهرها ، بل لها معان باطنة لا يعرفها إلا المعلم. وقصدهم بذلك نفي الشريعة بالكلية. وأما ما ذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص مصروفة على ظواهرها ، ومع ذلك فيها إشارات خفية إلى دقائق ، تنكشف على أرباب السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة ، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان.

فإن قلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لكل آية ظهر وبطن ، ولكلّ حرف حدّ ، ولكل حد مطلع» (١).

قلت : أما الظهر والبطن ففي معناه أوجه : أحدها أنك إذا بحثت عن باطنها وقسته على ظاهرها ، وقفت على معناها. والثاني ما من آية إلا عمل بها قوم ولها قوم سيعملون بها ، كما قاله ابن مسعود فيما أخرجه. والثالث أن ظاهرها لفظها وباطنها تأويلها. والرابع ، وهو أقرب إلى الصواب ، أن القصص التي قصها الله تعالى عن الأمم الماضية ، وما عاقبهم به ظاهرها الإخبار بهلاك الأولين ، وباطنها وعظ الآخرين وتحذيرهم أن يفعلوا كفعلهم. والخامس أن ظهرها ما ظهر من معانيها لأهل العلم بالظاهر ، وبطنها ما تضمنه من الأسرار أطلع الله عليها أرباب الحقائق.

ومعنى قوله : ولكل حرف حد ، أي منتهى فيما أراد من معناه. وقيل : لكل حكم مقدار من الثواب والعقاب. ومعنى قوله : ولكل حد مطلع ، لكل غامض من المعاني والأحكام مطلع يتوصل به إلى معرفته ، ويوقف على المراد به. وقيل : كل ما يستحقه من الثواب والعقاب ، يطلع عليه في الآخرة عن المجازاة.

وقال بعضهم : الظاهر التلاوة ، والباطن الفهم ، والحد أحكام الحلال والحرام ، والمطلع الإشراف على الوعد والوعيد. قال بعض العلماء : لكل آية ستون ألف فهم فهذا يدل على أن في فهم المعاني للقرآن مجالا متسعا ، وأن

__________________

(١) غريب الحديث : ٢ / ٥٩.

٨

المنقول من ظاهر التفسير ليس ينتهي الإدراك فيه بالنقل ، والسماع لا بد منه في ظاهر التفسير لتتقي به مواضع الغلط ، ثم بعد ذلك يتسع الفهم والاستنباط.

ولا يجوز التهاون في حفظ التفسير الظاهر ، بل لا بد أوّلا إذ لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر. هذا كله مما وقع في الاتقان ، وإن شئت الزيادة فارجع إليه.

وعلم القراءة ، وهو علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن.

وموضوعه القرآن من حيث إنه كيف يقرأ.

٩

ترجمة المؤلف (١)

ترجم له ياقوت الحموي في «معجم الأدباء» ٣ / ٣٨٢ ـ ٣٨٥ ، فقال : هو سعيد بن مسعدة ، أبو الحسن المعروف بالأخفش الأوسط البصري ، مولى بني مجاشع بن دارم ، بطن من تميم ، أحد أئمة النحاة من البصريين ، أخذ عن سيبويه ، وهو أعلم من أخذ عنه وكان أخذ عمن أخذ عنه سيبويه ، لأنه أسن منه ، ثم أخذ عن سيبويه أيضا. وهو الطريق إلى كتاب سيبويه ، فإنه لم يقرأ الكتاب على سيبويه أحد ولم يقرأه سيبويه على أحد ، وإنما قرىء على الأخفش بعد موت سيبويه. وكان ممن قرأه عليه أبو عمر الجرمي وأبو عثمان المازني ، وكان الأخفش يستحسن كتاب سيبويه كل الاستحسان ، فتوهم الجرمي والمازني أن الأخفش قد هم أن يدعي الكتاب لنفسه ، فتشاورا في منع الأخفش من ادعائه فقالا تقرؤه عليه ، فإذا قرأناه عليه أظهرناه وأشعنا أنه لسيبويه فلا يمكنه أن يدعيه ، فأرغبا الأخفش وبذلا له شيئا من المال على أن يقرأه عليه فأجاب

__________________

(١) انظر ترجمته في :

١ ـ الأعلام ، للزركلي ٣ / ٢٨٨.

٢ ـ معجم الأدباء ، لياقوت الحموي ٣ / ٣٨٢ ـ ٣٨٥.

٣ ـ كشف الظنون ، لحاجي خليفة ٥ / ٣٨٨.

٤ ـ مراتب النحويين ، لأبي الطيب عبد الواحد اللغوي الحلبي.

٥ ـ أخبار النحويين البصريين ، لأبي سعيد السيرافي ، ص ٤٠.

٦ ـ طبقات النحويين واللغويين ، لمحمد بن الحسن الزبيدي ص ٧٠.

٧ ـ الفهرست ، لابن النديم ، ص ٨٤.

٨ ـ نزهة الألباء في طبقات الأدباء لأبي البركات بن الأنباري ص ٦٨.

٩ ـ إنباه الرواة إلى أنباء النحاة ، لجمال الدين القفطي ٢ / ٤٠.

١٠ ـ وفيات الأعيان ، لابن خلكان.

١١ ـ بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة ، لجلال الدين السيوطي.

١٢ ـ المزهر في علوم اللغة ، لجلال الدين السيوطي ٢ / ٤٦٣.

١٣ ـ شذرات الذهب ، لابن العماد الحنبلي ٢ / ٣٦.

١٠

وشرعا في القراءة ، وأخذا الكتاب عنه وأظهراه للناس. وكان الأخفش يقول : ما وضع سيبويه في كتابه شيئا إلا وعرضه علي ، وكان يرى أنه أعلم به مني وأنا اليوم أعلم به منه. وحكى ثعلب أن الفراء دخل على سعيد بن سالم ، فقال الفراء : قد جاءكم سيد أهل اللغة وسيد أهل العربية ، فقال : أما ما دام الأخفش يعيش فلا. وحكى الأخفش قال : لما ناظر سيبويه الكسائي ورجع وجه إلي فعرفني خبره معه ومضى إلى الأهواز ، فوردت بغداد فرأيت مسجد الكسائي فصليت خلفه الغداة ، فلما انفتل من صلاته ، وقعد بين يديه الفراء والأحمر وابن سعدان ، سلمت وسألته عن مائة مسألة فأجاب بجوابات خطأته في جميعها ، فأراد أصحابه الوثوب علي فمنعهم ولم يقطعني ما رأيتهم عليه عما كنت فيه ، فلما فرغت قال لي : بالله أما أنت أبو الحسن سعيد بن مسعدة؟ قلت : نعم ، فقام إلي وعانقني وأجلسني إلى جنبه ، ثم قال : لي أولاد أحب أن يتأدبوا بك ، ويتخرجوا عليك ، وتكون معي غير مفارق لي ، فأجبته إلى ذلك ، فلما اتصلت الأيام بالاجتماع سألني أن أؤلف كتابا في معاني القرآن ، فألفته ، فجعله إمامه وعمل عليه كتابا في المعاني. وقرأ عليّ كتاب سيبويه سرا ووهب لي سبعين دينارا. وكان أبو العباس ثعلب يفضل الأخفش ويقول : هو أوسع الناس علما.

وقال المبرد : أحفظ من أخذ عن سيبويه الأخفش ثم الناشي ثم قطرب ، وكان الأخفش أعلم الناس بالكلام وأحذقهم بالجدل. توفي سنة خمس عشرة ومائتين ، وقيل سنة إحدى وعشرين. وله من التصانيف : كتاب الأربعة ، كتاب الاشتقاق ، كتاب الأصوات ، كتاب الأوسط في النحو ، كتاب تفسير معاني القرآن ، كتاب صفات الغنم وألوانها وعلاجها وأسبابها ، كتاب العروض ، كتاب القوافي ، كتاب المسائل الكبير ، كتاب المسائل الصغير ، كتاب معاني الشعر ، كتاب المقاييس ، كتاب الملوك ، كتاب وقف التمام.

وترجم له في كتاب إنباه الرواة بترجمة أسقطنا منها ما أورده ياقوت قال : هو أبو الحسين يعرف بالأخفش الأوسط أخذ النحو عن سيبويه وكان أكبر منه ، وصحب الخليل أولا ، وكان معلما لولد الكسائي وسبب ذلك أنه لما جرى بين الكسائي وسيبويه ما جرى من المناظرة رحل سيبويه إلى الأهواز ، قال الأخفش : فتزودت والتقيت بالكسائي في سمارية. وأورد بقية ما قاله ياقوت. قال أبو حاتم سهل بن محمد السجستاني رحمه‌الله : أخذ الأخفش كتاب أبي عبيدة في القرآن

١١

فأسقط منه شيئا وزاد شيئا ، وأبدل منه شيئا ، قال : فقلت له أي شيء هذا الذي تصنع أأنت أبو عبيدة؟ فقال : الكتاب لمن أصلحه ، وليس لمن أفسده. قال أبو حاتم : وكان الأخفش رجل سوء قدريا شمريا ، وهم نصف من القدرية نسبوا إلى بني شمر ، ولم يكن يغلو فيه.

وقال أيضا : كتابه في المعاني صويلح إلا أن فيه مذاهب سوء في القدر. وقال الأخفش : لما دخلت بغداد أتاني ابن هشام الضرير فسألني عن مسائل عملها وفروع فرعها. فلما رأيت أن اعتماده واعتماد غيره من الكوفيين على المسائل عملت كتاب المسائل الكبير فلما يعرفوا أكثر ما أوردته فيه. وقال أبو العباس : أحمد بن يحيى أول من أملى غريب كل بيت من الشعر نحته الأخفش ، وكان ببغداد والطوسي مستمليه. قال : ولم أدركه لأنه قبل عصرنا ، وكان يقال له الأخفش الراوي. أنبأني الشريف النقيب محمد بن سعد النحوي الحراني ، أخبرنا عبد السلام بن مختار اللغوي ، عن ابن بركات السعيدي ، أخبرنا محمد بن إسماعيل الهروي ، أخبرنا محمد بن الحسين اليمني من كتابه قال : أخبرني أبو العباس أحمد بن محمد الوليد قال : أخبرنا أبو إسحاق الزجاج عن المبرد قال : سعيد بن مسعدة من أهل بلخ ، وكان أجلع فيما أخبرنا به عن أبي حاتم ، والأجلع : الذي لم تنطبق شفتاه ، وكان يقول بالعدل. قال أبو العباس المبرد : أخبرنا المازني قال : كان الأخفش أعلم الناس بالكلام وأحذقهم بالجدل ، وكان غلام أبي شمر ، وكان على مذهبه. وذكر المبرد عن المازني قال : قال الأخفش : سألت أبا مالك عن قول أمية بن أبي الصلت :

سلامك ربنا في كل فجر

بريا ما تعنتك الذموم

فقلت : ما تعنتك؟ قال : ما تتعلق بك.

وذكر مجاهد قال : حدثنا ثعلب عن سلمة عن الأخفش قال : جاءني الكسائي إلى البصرة فسألني أن أقرأ عليه كتاب سيبويه ففعلت فوجه إليّ خمسين دينارا. قال : وكان الأخفش يعلم ولد الكسائي. وقال المبرد :

الأخفش أكبر سنا من سيبويه إلا أنه لم يأخذ عن الخليل وكانا جميعا يطلبان فجاءه الأخفش فناظره بعد أن برع فقال له الأخفش : إنما ناظرتك لأستفيد لا غير. قال : أتراني أشك في هذا؟

١٢

وله كتب كثيرة في العروض والنحو والقوافي. قال ثعلب : ومات الأخفش بعد الفراء ، ومات الفراء سنة سبع ومائتين بعد دخول المأمون العراق بثلاث سنين. وذكر ابن عبد الملك التاريخي في كتابه : حدثني الحسين بن إسماعيل البصري قال : سمعت العباس بن الفرج الرياشي يقول : أخبرني الأخفش قال : يهمز الحرف إذا كان فيه ألف وقبلها فتحة وأنشد للعجاج وخندف هامة هذا العالم في قصيدته التي يقول فيها :

يا دار سلمى إسلمي ثم اسلمي

فلما همز العالم للفتحة التي قبلها ، لم يكن مؤسسا لأنهم يجعلون الهمزة بمنزلة سائر حروف العلة والقلب قال : وكان أبو حية النميري ممن يهمز مثل هذا قال : والواو إذا كانت قبلها ضمة همزوها مثل «يؤقن» قال : فقلت له : فالياء إذا كانت قبلها كسرة قال : لا أدري. وذكر الجاحظ أن أبا الحسن الأخفش كان يعلم أبناء المعدل بن غيلان فقال له عبد الله فكتب إلى المعدل وقد استجفى الغلام :

أبلغ أبا عمرو إذا جئته

بأن عبد الله لي جاف

قد أحكم الأداب طرا فما

يجعل شيئا غير إنصافي

فكتب إليه المعدل :

إن يك عبد الله يجفوكم

يكفيك ألطافي وإتحافي

وذكر محمد بن إسحاق النديم في كتابه قال : مات الأخفش سنة إحدى عشرة ومائتين بعد الفراء. قال : وقال البخلي في كتاب فضائل خراسان :

أصله من خوارزم ويقال : توفي سنة خمس عشرة ومائتين. وروى الأخفش عن حماد بن الزبرقان وكان بصريا ، وله من الكتاب المصنفة ما أورده ياقوت.

ووقف أعرابي على مجلس الأخفش ، فسمع كلامهم في النحو فحار وعجب واستطرق ووسوس. فقال له الأخفش : ما تسمع يا أخا العرب؟ قال : أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس في كلامنا ، فأنشد الأخفش لبعض العرب :

ماذا لقيت من المستعربين ومن

تأسيس نحوهم هذا الذي ابتدعوا

١٣

إن قلت قافية فيما يكون لها

معنى يخالف ما قاسوا وما صنعوا

قالوا : لحنت وهذا الحرف منخفض

وذاك نصب وهذا ليس يرتفع

وحرشوا بين عبد الله واجتهدوا

وبين زيد فطال الضرب والوجع

إني نشأت بأرض لا تشب بها

نار المجوس ولا تبنى بها البيع

ما كل قول بمعرووف لكم فخذوا

ما تعرفون وما لا تعرفون دعوا

كم بين قوم قد احتالوا لمنطقهم

وآخرين على إعرابهم طبعوا

قال الأخفش سعيد بن مسعدة : كان أمير البصرة يقرأ : (إن الله وملائكته يصلون) بالرفع فيلحن ، فمضيت إليه ناصحا له ، فزجرني وتوعدني وقال : تلحنون أمراءكم! ثم عزل وولي محمد بن سليمان ، فقلت في نفسي : هذا هاشمي ونصيحته واجبة ، فحسبت أن يلقاني بما لقيني به الأول ، ثم حملت نفسي على نصيحته فصرت إليه وهو في غرفة ومعه أخوه والغلمان على رأسه فقلت : أيها الأمير جئت لنصيحة ، قال : قل! قلت هذا وأومأت إلى أخيه فلما سمع ذلك قام أخوه وفرق الغلمان عن رأسه وأخلاني فقلت : أيها الأمير أنتم بيت الشرف وأصل الفصاحة وتقرأ : «إن الله وملائكته» بالرفع وهذا غير جائز ، فقال : قد نصحت ونبهت فجزيت خيرا فانصرف مشكورا! فلما صرت في نصف الدرجة إذا الغلام يقول لي قف مكانك ، فقعدت مروعا ، قلت : أحسب أن أخاه أغراه بي ، فإذا بغلة شقراء وغلام وبدرة ، وتخت ثياب وقائل يقول :

البغلة والغلام والمال لك أمر به الأمير. فانصرفت مغتبطا بذلك.

وترجم له في كتاب بغية الوعاة قال :

هو أحد الأخافش الثلاثة المشهورين ورابع الأخافش المذكورين من أهل بلخ سكن البصرة وكان أجلع لا تنطبق شفتاه على لسانه وكان معتزليا حدث عن الكلبي والنخعي وهشام بن عروة وروى عنه أبو حاتم السجستاني ودخل بغداد وأقام مدة وروى وصنف. وترجم له أيضا في كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان ، ج أول.

١٤

سورة الفاتحة

بسم الله الرّحمن الرّحيم : «اسم» في التسمية صلة زائدة ، زيدت ليخرج بذكرها من حكم القسم إلى قصد التبرّك لأن أصل الكلام «بالله» وحذفت الألف من «بسم» من الخط تخفيفا لكثرة الاستعمال واستغناء عنها بباء الالصاق في اللفظ والخط. فلو كتبت «باسم الرحمن» أو «باسم القادر» أو «باسم القاهر» لم تحذف الألف.

والألف في «اسم» ألف وصل ، لأنك تقول : «سميّ» وحذفت لأنها ليست من اللفظ.

اسم ، لأنك تقول إذا صغّرته : «سميّ» ، فتذهب الألف. وقوله : (وامرأته حمّالة الحطب) (٤) [المسد : الآية ٤] ، وقوله : (وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا) [المائدة : الآية ١٢] فهذا موصول لأنك تقول : «مريّة» و «ثنيّا عشر». وقوله : (فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا) [البقرة : الآية ٦٠] موصول ، لأنك تقول : «ثنيّتا عشرة» ، وقال : (إذ أرسلنا إليهم اثنين فكذّبوهما) [يس : الآية ١٤] ، وقال : (ما كان أبوك امرأ سوء) [مريم : الآية ٢٨] ، لأنك تقول في «اثنين» : «ثنيّين» وفي «امرىء» : «مريّء» فتسقط الألف. وإنما زيدت لسكون الحرف الذي بعدها لما أرادوا استئنافه فلم يصلوا إلى الابتداء بساكن ، فأحدثوا هذه الألف ليصلوا إلى الكلام بها. فإذا اتصل الكلام بشيء قبله استغنى عن هذه الألف. وكذلك كل ألف كانت في أول فعل أو مصدر ، وكان «يفعل» من ذلك الفعل ياؤه مفتوحة فتلك ألف وصل نحو قوله : (وإيّاك نستعين) [الفاتحة : الآية ٥] (اهدنا). لأنك تقول : «يهدي» فالياء مفتوحة. وقوله : (اولئك الذين اشتروا الضلالة) [البقرة : ١٦ و ١٧٥] ، وقوله : (يهمن ابن لى صرحا) [غافر : الآية ٣٦] ، وقوله : (عذاب اركض برجلك) [ص : ٤٢] ، وأشباه هذا في القرآن كثيرة. والعلة فيه كالعلّة في «اسم» ، و «اثنين» وما أشبهه ، لأنه لما سكن الحرف الذي في أول الفعل جعلوا فيه هذه الألف ليصلوا إلى الكلام به إذا استأنفوا.

١٥

وكل هذه الألفات اللواتي في الفعل إذا استأنفتهن مكسورات ، فإذا استأنفت قلت (اهدنا الصراط) و (ابن لى) [غافر : الآية ٣٦] و (اشتروا الضّللة) [البقرة : الآية ١٦] ، إلا ما كان منه ثالث حروفه مضموما فإنك تضم أوله إذا استأنفت ، تقول : (اركض برجلك) [ص : الآية ٤٢] ، وتقول : (اذكروا الله كثيرا) [الأنفال : الآية ٤٥]. وإنما ضمت هذه الألف إذا كان الحرف الثالث مضموما لأنهم لم يروا بين الحرفين إلا حرفا ساكنا ، فثقل عليهم أن يكونوا في كسر ثم يصيروا إلى الضم. فأرادوا أن يكونوا جميعا مضمومين إذا كان ذلك لا يغير المعنى.

وقالوا في بعض الكلام في «المنتن» : «منتن». وإنما هي من «أنتن» فهو «منتن» ، مثل «أكرم» فهو «مكرم». فكسروا الميم لكسرة التاء. وقد ضم بعضهم التاء فقال «منتن» لضمة الميم. وقد قالوا في «النقد» : «النقد» فكسروا النون لكسرة القاف ، وهذا ليس من كلامهم إلا فيما كان ثانيه أحد الحروف الستة نحو «شعير». والحروف الستة : الخاء والحاء والعين والغين والهمزة والهاء.

وما كان على «فعل» مما في أوله هذه الألف الزائدة فاستئنافه أيضا مضموم نحو : (اجتثّت من فوق الأرض) [إبراهيم : الآية ٢٦] لأن أول «فعل» أبدا مضموم ، والثالث من حروفها أيضا مضموم.

وما كان على «أفعل أنا» فهو مقطوع الألف وإن كان من الوصل ، لأن «أفعل» فيها ألف سوى ألف الوصل ، وهي نظيرة الياء في «يفعل». وفي كتاب الله عزوجل (ادعونى أستجب لكم) [غافر : الآية ٦٠] ، و (أناءاتيك به) [النّمل : الآية ٣٩] و (قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي) [يوسف : الآية ٥٤].

وما كان من نحو الألفات اللواتي ليس معهن اللام في أول اسم ، وكانت لا تسقط في التصغير فهي مقطوعة تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال نحو قوله : (هذا أخى له تسع) [ص : الآية ٢٣] ، وقوله : (يأبانا) [يوسف : الآية ١١] ، وقوله : (إنّها لإحدى الكبر) (٣٥) [المدّثّر : الآية ٣٥] ، و (قالت إحداهما) [القصص : الآية ٢٦] و (حتّى إذا جآء أحدهم) [المؤمنون : الآية ٩٩] ، لأنها إذا صغرت ثبتت الألف فيها ، تقول في تصغير «إحدى» : «أحيدى» ، و «أحد» : «أحيد» ، و «أبانا» : «أبيّنا» وكذلك «أبيّان» و «أبيّون». وكذلك الألف في قوله : (من المهجرين والأنصار) [التّوبة : الآية ١٠٠] و (أخرجنا من ديارنا وأبنآئنا) [البقرة : الآية ٢٤٦] ، لأنك تقول في «الأنصار» : «أنيصار» ، وفي «الأبناء» : «أبيناء» و «أبينون».

١٦

وما كان من الألفات في أول فعل أو مصدر ، وكان «يفعل» من ذلك الفعل ياؤه مضمومة ، فتلك الألف مقطوعة. تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال ، نحو قوله : (بما أنزل إليك) [البقرة : ٤] ، لأنك تقول : «ينزل». فالياء مضمومة. و (ربّنآءاتنا) [البقرة : الآية ٢٠٠] تقطع لأن الياء مضمومة ، لأنك تقول : «يؤتي». وقال : (وبالوادين إحسانا) [البقرة : الآية ٨٣] و (إيتاء ذي القربى) [النحل : الآية ٩٠] لأنك تقول : «يؤتي» ، و «يحسن». وقوله : (وقال الملك ائتونى به أستخلصه لنفسى) [يوسف : الآية ٥٤] ، و (قال فرعون ائتوني بكل ساحر عليم) [يونس : الآية ٧٩] فهذه موصولة لأنك تقول : «يأتي» ، فالياء مفتوحة. وإنما الهمزة التي في قوله : (وقال الملك ائتونى به) [يوسف : الآية ٥٠] همزة كانت من الأصل في موضع الفاء من الفعل ، ألا ترى أنها ثابتة في «أتيت» وفي «أتى» لا تسقط. وسنفسر لك الهمز في موضعه إن شاء الله. وقوله (ءاتنا) [البقرة : الآية ٢٠٠] يكون من «آتى» و «آتاه الله» ، كما تقول : «ذهب» و «أذهبه الله» ويكون على «أعطنا». قال (فآتهم عذابا) [الأعراف : ٣٨] على «فعل» و «أفعله غيره».

وأما قوله : (الحمد لله ربّ العلمين (٢) الرّحمن الرّحيم) (٣) [الآيتان ٢ ، ٣] فوصلت هذه الأسماء التي في أوائلها الألف واللام حتى ذهبت الألف في اللفظ. وذلك لأن كل اسم في أوله ألف ولام زائدتان. فالألف تذهب إذا اتصلت بكلام قبلها ، وإذا استأنفتها كانت مفتوحة أبدا لتفرق بينها وبين الألف التي تزاد مع غير اللام ، ولأن هذه الألف واللام هما جميعا حرف واحد ك «قد» و «بل». وإنما تعرف زيادتهما بأن تروم ألفا ولاما أخريين تدخلهما عليهما ، فإن لم تصل إلى ذلك عرفت أنهما زائدتان ألا ترى أن قولك : «الحمد لله» وقولك : «العالمين» وقولك «التي» و «الذي» و «الله» لا تستطيع أن تدخل عليهن ألفا ولاما أخريين؟ فهذا يدل على زيادتهما ، فكلما اتصلتا بما قبلهما ذهبت الألف. إلا أن توصل بألف الاستفهام فتترك مخففة ، ولا يخفف فيها الهمزة الأناس من العرب قليل ، وهو قوله : (ءآلله أذن لكم) [يونس : الآية ٥٩] وقوله : (الله خير اءما يشركون) [النمل : ٥٩] وقوله : (الآن وقد عصيت قبل) [يونس : ٩١]. وإنما مدت في الاستفهام ليفرق بين الاستفهام والخبر. ألا ترى أنك لو قلت وأنت تستفهم : «الرجل قال كذا وكذا» فلم تمددها صارت مثل قولك : «الرجل قال كذا وكذا» إذا أخبرت.

وليس سائر ألفات الوصل هكذا. قال : (أصطفى البنات على البنين) (١٥٣) [الصّافات : الآية ١٥٣] ، وقال : (أفترى على الله كذبا اءم به جنة) [سبأ : ٨]. فهذه

١٧

الألفات مفتوحة مقطوعة ، لأنها ألف استفهام ، وألف الوصل التي كانت في «اصطفى» و «افترى» قد ذهبت ، حيث اتصلت الصاد والفاء بهذه الألف التى قبلها للاستفهام. وقال من قرأ هذة الآية (كنّا نعدّهم مّن الأشرار) [ص : الآية ٦٢] (أتّخذنهم) [ص : الآية ٦٣] فقطع ألف «أتخذناهم» فإنما جعلها ألف استفهام وأذهب ألف الوصل التي كانت بعدها ، لأنها إذا اتصلت بحرف قبلها ذهبت. وقد قرىء هذا الحرف موصولا ، وذلك أنهم حملوا قوله (أم زاغت عنهم الأبصر) [ص : الآية ٦٣] على قوله (ما لنا لا نرى رجالا كنّا نعدّهم مّن الأشرار) [ص : الآية ٦٢] (أم زاعت عنهم الأبصار).

وما كان من اسم في أوله ألف ولام تقدر أن تدخل عليهما ألفا ولاما أخريين ، فالألف من ذلك مقطوعة تكون في الاستئناف على حالها في الاتصال ، نحو قوله (ما لكم مّن إله غيره) [الأعراف : الآية ٥٩] لأنك لو قلت «الإله» فأدخلت عليها ألفا ولاما جاز ذلك. وكذلك «ألواح» و «إلهام» و «إلقاء» مقطوع كله ، لأنه يجوز إدخال ألف ولام أخريين. فأما «إلى» فمقطوعة ولا يجوز إدخال الألف واللام عليها لأنها ليست باسم ، وإنما تدخل الألف واللام على الاسم. ويدلك على أن الألف واللام في «إلى» ليستا بزائدتين إنك إنما وجدت الألف واللام تزادان في الأسماء ، ولا تزادان في غير الأسماء ، مثل «إلى» و «ألّا». ومع ذلك تكون ألف «إلى» مكسورة وألف اللام الزائدة لا تكون مكسورة.

وأما قوله (الحمد لله) [الآية ٢] فرفعه على الابتداء. وذلك أن كل اسم ابتدأته لم توقع عليه فعلا من بعده فهو مرفوع ، وخبره إن كان هو فهو أيضا مرفوع ، نحو قوله (مّحمّد رّسول الله) [الفتح : الآية ٢٩] وما أشبه ذلك. وهذه الجملة تأتي على جميع ما في القرآن من المبتدأ فافهمها. فإنما رفع المبتدأ ابتداؤك إياه ، والابتداء هو الذي رفع الخبر في قول بعضهم كما كانت «أنّ» تنصب الاسم وترفع الخبر فكذلك رفع الابتداء الاسم والخبر. وقال بعضهم : «رفع المبتدأ خبره» وكل حسن ، والأول أقيس.

وبعض العرب يقول (الحمد لله) [الآية ٢] فينصب على المصدر ، وذلك أن أصل الكلام عنده على قوله : «حمدا لله» يجعله بدلا من اللفظ بالفعل ، كأنه جعله مكان «أحمد» ونصبه على «أحمد» حتى كأنه قال : «أحمد حمدا» ثم أدخل الألف واللام على هذه.

وقد قال بعض العرب (الحمد لله) [الآية ٢] فكسره ، وذلك أنه جعله

١٨

بمنزلة الأسماء التي ليست بمتمكنة ، وذلك أن الأسماء التي ليست بمتمكنة تحرّك أواخرها حركة واحدة لا تزول علتها نحو «حيث» جعلها بعض العرب مضمومة على كل حال ، وبعضهم يقول «حوث» و «حيث» ضم وفتح. ونحو «قبل» و «بعد» جعلتا مضمومتين على كل حال. وقال الله تبارك وتعالى (لله الأمر من قبل ومن بعد) [الرّوم : الآية ٤] فهما مضمومتان إلا أن تضيفهما ، فإذا أضفتهما صرفتهما. قال : (لا يستوى منكم مّن أنفق من قبل الفتح وقتل) [الحديد : الآية ١٠] و (كالّذين من قبلكم) [التّوبة : الآية ٦٩] و (الذين جاءوا من بعدهم) وقال (مّن قبل أن نّبرأها) [الحديد : الآية ٢٢] وذلك أن قوله (أن نّبرأهآ) [الحديد : الآية ٢٢] اسم أضاف إليه (قبل) وقال (من بعد أن نّزغ الشّيطن) [يوسف : الآية ١٠٠]. وذلك أن قوله (أن نّزغ) [يوسف : الآية ١٠٠] اسم هو بمنزلة «النزغ» ، لأن «أن» الخفيفة وما عملت فيه بمنزلة اسم ، فأضاف إليها «بعد». وهذا في القرآن كثير.

ومن الأسماء التي ليست بمتمكنة قال الله عزوجل (إنّ هؤلاء ضيفى) [الحجر : الآية ٦٨] و (هأنتم أولاء تحبّونهم) [آل عمران : الآية ١١٩] مكسورة على كل حال. فشبهوا «الحمد» وهو اسم متمكن في هذه اللغة بهذه الأسماء التي ليست بمتمكنة ، كما قالوا «يا زيد». وفي كتاب الله (يهمن ابن لى صرحا) [غافر : الآية ٣٦] هو في موضع النصب ، لأن الدعاء كلّه في موضع نصب ، ولكن شبه بالأسماء التي ليست بمتمكنة فترك على لفظ واحد ، يقولون : «ذهب أمس بما فيه» و «لقيته أمس يا فتى» ، فيكسرونه في كل موضع في بعض اللغات. وقد قال بعضهم : «لقيته الأمس الأحدث» فجرّ أيضا وفيه ألف ولام ، وذلك لا يكاد يعرف.

وسمعنا من العرب من يقول : (أفرءيتم الّلت والعزّى) (١٩) [النّجم : الآية ١٩] ، ويقول : «هي اللات قالت ذاك» فجعلها تاء في السكوت ، و «هي اللات فاعلم» جرّ في موضع الرفع والنصب. وقال بعضهم : «من الآن إلى غد» فنصب لأنه اسم غير متمكن. وأما قوله : «اللات فاعلم» فهذه مثل «أمس» وأجود ، لأن الألف واللام التي في «اللات» لا تسقطان وإن كانتا زائدتين. وأما ما سمعنا في «اللات والعزى» في السكت عليها ف «اللاه» لأنها هاء فصارت تاء في الوصل وهي في تلك اللغة مثل «كان من الأمر كيت وكيت». وكذلك «هيهات» في لغة من كسر. إلا أنه يجوز في «هيهات» أن تكون جماعة فتكون التاء التى فيها تاء الجميع التي للتأنيث ، ولا يجوز ذلك في «اللات» ، لأن «اللات» و «كيت» لا يكون مثلهما جماعة ، لأن التاء لا تزاد في الجماعة إلا مع الألف فإن جعلت الألف والتاء زائدتين بقي الاسم على حرف واحد.

١٩

وزعموا أن من العرب من يقطع ألف الوصل. أخبرني من أثق به أنه سمع من يقول : «يا إبني» فقطع. وقال قيس بن الخطيم (١) : [الطويل]

١ ـ إذا جاوز الاثنين سرّ فإنّه

بنشر وتكثير الوشاة قمين (٢)

وقال جميل (٣) : [الطويل]

٢ ـ ألا لا أرى اثنين أكرم شيمة

على حدثان الدهر مني ومن جمل (٤)

وقال الراجز :

٣ ـ يا نفس صبرا كلّ حي لاق

وكلّ اثنين إلى افتراق (٥)

__________________

(١) هو قيس بن الخطيم بن عدي بن عمرو بن مسواد بن ظفر ، من الأزد ، قتل أبوه وجده ، وأول ما اشتهر به قيس تتبعه لقاتلي أبيه وجدّه حتى قتلهما ، وقال في ذلك شعرا ، وله أشعار كثيرة في موقعة «بعاث» التي جرت بين الأوس والخزرج ، قبل الهجرة. تريّث قبل دخوله الإسلام ، وقتله الخزرج قبل الهجرة. شعره جيّد ، ومن النقاد من يفضله على شعر حسان بن ثابت. (معجم الشعراء الجاهليين ص ٢٩٩).

(٢) البيت لقيس بن الخطيم في ديوانه ص ١٦٢ ، وحماسة البحتري ص ١٤٧ ، والدرر ٦ / ٣١٢ ، وسمط اللآلي ص ٧٩٦ ، وشرح شواهد الشافية ص ١٨٣ ، لسان العرب (نثث) ، (قمن) ، (ثني) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٦٦ ، ونوادر أبي زيد ص ٢٠٤ ، ولجميل بثينة في ملحق ديوانه ص ٢٤٥ ، وكتاب الصناعتين ص ١٥١ ، وبلا نسبة في سر صناعة الإعراب ١ / ٣٤٢ ، وشرح شافية ابن الحاجب ١ / ٢٦٥ ، وشرح المفصل ٩ / ١٩ ، ١٣٧ ، وهمع الهوامع ٢ / ٢١١.

(٣) جميل بثينة : هو أبو عمرو جميل بن عبد الله بن معمر العذري القضاعي ، أحبّ بثينة ، فشغف بها ، فتناقل الناس أخبارهما حتى أنه صار ينسب إليها ، فيدعى «جميل بثينة» ، اشتهر بالمدح والفخر والنسيب والغزل. كانت منازل قبيلته بني عذرة في وادي القرى ـ من أعمال المدينة ـ ثم رحلوا إلى أطراف الشام الجنوبية زمن خلافة عبد الملك ، ثم انتقل إلى مصر إلى بلاط عبد العزيز بن مروان الوالي ، فأمر له بمنزل أقام فيه قليلا ومات سنة ٨٢ ه‍ ، لم تعرف سنة ولادته ، لكن الأصمعي يذكر أنه ولد في الجاهلية (معجم الشعراء المخضرمين والأمويين ص ٨٥).

(٤) البيت لجميل بثينة في ديوانه ص ١٨٢ ، وكتاب الصناعتين ص ١٥١ ، والمحتسب ١ / ٢٤٨ ، ونوادر أبي زيد ص ٢٠٤ ، ولابن دارة في الأغاني ٢١ / ٢٥٥ ، وبلا نسبة في أوضح المسالك ٤ / ٣٦٨ ، وخزانة الأدب ٧ / ٢٠٢ ، ورصف المباني ص ٤١ ، وسرّ صناعة الإعراب ١ / ٣٤١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٨١٤ ، وشرح التصريح ٢ / ٣٦٦ ، وشرح المفصل ٩ / ١٩ ، ولسان العرب (ثنى) ، والمقاصد النحوية ٤ / ٥٦٩ ، وتاج العروس (ثني).

(٥) الرجز بلا نسبة في الدرر ٦ / ٢٣٩ ، ورصف المباني ص ٤١ ، وسر صناعة الإعراب ص ٣٤١ ، وهمع الهوامع ٢ / ١٥٧.

٢٠