تراثنا ـ العددان [ 115 و 116 ]

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم

تراثنا ـ العددان [ 115 و 116 ]

المؤلف:

مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم


الموضوع : مجلّة تراثنا
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
المطبعة: ستاره
الطبعة: ٠
ISBN: 1016-4030
الصفحات: ٤٧٨

١

تراثنا

صاحب الامتیاز

مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث

المدير المسؤول :

السيّد جواد الشهرستاني

العدد الثالث والرابع [١١٥ ـ ١١٦]

السنة التاسعة والعشرون

محتـويات العـدد

* مأكلة اليهود السنويّة .

................................................................ مرتضى كريمي نيا ٧

* الذكر المحفوظ قراءة جديدة في تاريخ جمع القرآن وما روي في تحريفه (٤) .

......................................................... السيّد علي الشهرستاني ٤٧

* النظرية الحديثية في المدرسة الإمامية (١).

................................................... السيّد زهير طالب الأعرجي ١٢٩

* العلماء والأسر العلمية في قرية العكر.

................................................................ يوسف مدن ١٩٥

٢

رجب ـ ذوالحجّة

١٤٣٤ هـ

* الكليني ومنهجيّته في الكافي.

...................................................... السيّد علي محمود البعاج ٢٥٩

* قراءة سريعة في كتاب رجال الكشّي (القرن الثالث ـ الرابع).

........................................................ الشيخ حميد البغدادي ٣٣٠

* من ذخائر التراث :

(الأدعية المهمّة) للفاضل المقداد السيوري (ت ٨٢٦ هـ).

.......................................... تحقيق : محمّد جواد نورالدين فخرالدين ٣٦١

* من أنباء التراث.

................................................................ هيـئة التحرير ٤٦٨

* صورة الغلاف : نموذج من مخطوطة (الأدعية المهمّة) للفاضل المقداد السيوري (ت ٨٢٦ هـ) والمنشورة في هذا العدد.

٣
٤

٥
٦

مأكلة اليهود السنويّة : (١)

مناقشة إحدى الروايات التفسيريّة في المصادر

الشيعية والسنّية القديمة

مرتضى كريمي نيا

بسم الله الرحمن الرحيم

المدخل إلى البحث :

لقد تناولت هذه المقالة مناقشة متن إحدى الروايات التفسيرية عن الإمام الباقر عليه‌السلام والتي تعرّض لها لأوّل مرّة كلٌّ من تفسير التبيان ومجمع البيان ، كما تناولت مناقشة البحث عن مصادر هذه الرواية ، وقد تبيّن أنّ المصدر الذي أخذ منه الشيخ الطوسي في نقل هذه الرواية هو المصابيح في تفسير القرآن تأليف أبي القاسم الحسين بن علي المعروف بالوزير المغربي (ت ٤١٨ هـ).

__________________

(١) تمّ ترجمة البحث إلى العربية من قبل هيئة التحرير.

٧

وقد نسب الوزير المغربي هذا الكلام بشيء من الغموض إلى أبي جعفر من دون الإشارة إلى اسمه ، علماً بأنّ هذه الرواية لم ترد لا في مصادر الحديث والتفسير الشيعي قبل الوزير المغربي ولا في المصادر السنّية المهمّة مثل أبي جعفر الطبري وابن أبي حاتم الرازي.

وقد صببنا جلّ اهتمامنا في هذه المقالة للعثور على المصادر التفسيرية والحديثية القديمة التي قامت بنقل هذه الرواية والروايات المشابهة لها ، عسى أن نتمكّن من خلال ذلك أن نثبت أنّ الوزير المغربي قد ذكر في تفسيره هذه الروايات نقلاً عن تفسير الكلبي (ت ١٤٦ هـ) ، والتي قد نسبها جميعاً إلى أبي جعفر حيث يتبادر إلى الذهن ـ للوهلة الأولى ـ أنّ المراد منه هو الإمام الباقر عليه‌السلام ، علماً بأنّ معظم هذه الروايات تقريباً تشترك في كونها تروي القصص القرآنية وأسباب النزول وتعيين المبهمات والأعلام والأماكن المرتبطة بالموضوعات القرآنية ، ولم نعمد في هذه المقالة إلى مناقشة السند وإنّما اتّبعنا أسلوباً تركيبيّاً في مناقشة المتن ومناقشة المصدر فقط.

توطئة :

لقد جاءت في القرآن الكريم آياتٌ عديدةٌ تذمّ اليهود الذين أدركوا عهد النبيِّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) وذلك لكتمانهم الحقائق وتحريفهم التوراة والآيات الإلهية وبيعهم الآيات الإلهية بثمن بخس كما تشير إلى ذلك الآيات القرآنية

٨

العديدة (١) ، حيث إنّ المراد من هذه الآيات هو الإشارة إلى بعض أحبار وأكابر اليهود في المدينة ممّن أخفوا أوصاف النبيِّ (صلى الله عليه وآله) الواردة في كتبهم السماوية وذلك لما رأوه من خطر يهدّد مكانتهم الاجتماعية بسبب قدومه (صلى الله عليه وآله) إلى المدينة ، فكانوا يحرّفون من التوراة الآيات التي تدلّ على أحقّية الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) ، وقد صرّح القرآن الكريم أنّ اليهود بتحريفهم كتاب الله إنّما يشترون به ثمناً قليلاً.

فمنذ المراحل الأولى للتفسير قد عكف بعض المفسّرين على تبيين المعنى المراد من قوله تعالى : (ثَمَناً قَلِيلاً) ، فإنّ هناك أوجه اشتراك في أغلب هذه التفاسير تقريباً في تفسير هذه الآية : ألا وهو أنّ اليهود قد أنكروا رسالة النبيِّ (صلى الله عليه وآله) وذلك للحفاظ على مكانتهم الدينية والاجتماعية وللحفاظ على ثرواتهم المادّية وبعبارة أُخرى أنّهم اشتروا بعملهم هذا بآيات الله ثمناً قليلاً.

ففي تفسير قوله تعالى : (وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) (٢) قد نقلت التفاسير الروائية الشيعية المتاخّرة التي أُلّفت في الحقبة الصفوية وبعض التفاسير المعاصرة عن الإمام الباقر عليه‌السلام رواية تذكر السبب في ذلك حيث تشير إلى أنّ أحبار اليهود مثل حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وأمثالهما كان لهم سنويّاً مأكلة من اليهود فسعوا في كتمان الآيات التي تذكر اسم وصفات النبيّ محمّد (صلى الله عليه وآله) في التوراة بل غيّروها وبدّلوها لئلاّ تنقطع مأكلتهم بإيعاز من

__________________

(١) البقرة : ٤١ ، ٧٩ ، ١٧٤ ، آل عمران : ٧٧ ، ١٨٧ ، ١٩٩ ، المائدة : ٤٤ ، التوبة : ٩ ، ٣٤.

(٢) البقرة : ٤١.

٩

النبيّ (صلى الله عليه وآله). وإنّ هذا هو الثمن القليل الذي أشارت إليه الآية الكريمة(١).

إنّ جميع التفاسير الروائية الشيعية التي أُلّفت في الحقبة الصفوية مثل الصافي للفيض الكاشاني(٢) ، الأصفى للفيض الكاشاني كذلك(٣) ، نور الثقلين للعروسي الهويزي(٤) ، كنز الدقائق للقمّي المشهدي(٥) ، وكذلك المجامع الروائية مثل بحار الأنوار للمجلسي(٦) قد نقلت هذه الرواية من مجمع البيان للطبرسي ، فقد جاء نصّ الرواية في مجمع البيان(٧) بهذا النحو : «روي عن أبي جعفر عليه‌السلام في هذه الآية قال : كان حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف

__________________

(١) كذلك جاء هذا النقل أيضاً في التفاسير المعاصرة مثل الجديد في تفسير القرآن (للسيّد عبد الأعلى السبزواري) ، تفسير الصراط المستقيم (لإبراهيم البروجردي) ، الفرقان في تفسير القرآن بالقرآن (لمحمّد صادقي الطهراني) تفسير آسان (لمحمّد جواد نجفي خميني) ، تسنيم (لعبد الله جوادي آملي) وتفسير كوثر (ليعقوب الجعفري) وقد قام آية الله جوادي آملي بتوضيح هذا النصّ بدقّة قائلاً : «إنّ تطبيق الآية التي نحن فيها على ما كان من أمر اليهوديَّين المذكورَين في الرواية ليس بمعنى شأن النزول الانحصاري ولا بمعنى المنع من الجري والانطباق على المصاديق الأخرى ، فإنّ مثل هذه النصوص ـ مع غضّ النظر عن السند ـ لا يمكن الاستفادة منها أكثر من الانطباق في الجملة لا بالجملة». (تسنيم : تفسير القرآن الكريم ٤/١٠٧).

(٢) الصافي ١/٣٩٩.

(٣) الأصفى ١/٣٣.

(٤) نور الثقلين ١/٧٣.

(٥) كنز الدقائق ١/٣٩٩.

(٦) بحار الأنوار ٦٦/٣٤١.

(٧) مجمع البيان ١/٢١٠.

١٠

وآخرون من اليهود لهم مأكلة على اليهود في كلّ سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبيِّ (صلى الله عليه وآله) فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثمن الذي أريد في الآية»(١). وقد أطلقنا في مقالتنا هذه على هذه الرواية إسم «المأكلة»(٢)

__________________

(١) لقد روى هذه الرواية محمّد بن حسن الشيباني في القرن السابع في ثلاث مواضع من تفسيره (نهج البيان عن كشف معاني القرآن) باختلاف يسير وكان قد نقلها بالمضمون : «روي أنّ السبب في هذه الآية أنّ أحبار اليهود مثل حُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وأمثالهما لهم مأكلة من اليهود على كتمان صفة محمّد (صلى الله عليه وآله) من التوراة ، فغيّروها وبدّلوها لئلاّ تنقطع مأكلتهم» (١/١٣١).

«روي عن أبي جعفر عليه‌السلام : أنّ هذه الآية نزلت في أحبار اليهود وما غيّروه من صفة محمّد عليه‌السلام والبشارة به ، ليجعلوا ذلك مأكلة لهم وطعمة من اليهود» (١/١٦٧).

«وقوله تعالى : (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) يعني : أحبار اليهود ، كانوا يعرفون محمّداً [ـ صلّى الله عليه وآله ـ] بصفته ونعته في التوراة ، فكتموا ذلك وغيّروه وبدّلوه ، فقالوا : يرسل إلى العرب خاصّة لئلاّ تبطل مأكلتهم من اليهود» (١/٢٢٢).

وسوف نبيّن فيما بعد بأنّ الشيباني كان كثيراً ما يستفيد من تفسيري (التبيان) و(مجمع البيان) وكذلك من تفسيري (مقاتل) و(الكلبي) وبناءً على ما أحصيناه فقد جاء في تفسير (نهج البيان) للشيباني قريبٌ من ألف قول نقلت جميعها بشكل مباشر من تفسيري (الكلبي) و(مقاتل).

(٢) إنّ بعض التفاسير المعاصرة التي جاءت باللغة الفارسية مثل تفسير آسان (١/١٠٧) ، تفسير نمونه (١/٢٠٦ ـ ٢٠٧) وتفسير كوثر (١/١٥٩) فسّرت كلمة المأكلة من هذه الروايات بمعنى الضيافة على مأدبة الطعام وهذا المعنى غير صحيح لأنّ المأكلة في اللغة العربية على أنّها مشتقّة من أكل لكن ليس لها هنا في سياق الكلام أي ارتباط مع الأكل ، قال الخليل بن أحمد في العين (٥/٤٠٩) : «المأكلة : ما جعل للإنسان لا

١١

وبالرغم من أنّ الرواية المذكورة غير مسندة إلاّ أنّنا سوف نبذل قصارى جهدنا لمناقشة نماذج مختلفة من نقل هذه الرواية كما سنناقش أيضاً المصادر التي ذكرت هذه الرواية للوصول إلى الأسباب التي أدّت إلى أن تأخذ هذه الرواية طريقها إلى المصادر التفسيرية الشيعية والسنّية.

رواية المأكلة في تفاسير الشيعة :

لقد نقلت كافّة التفاسير الشيعية المتأخّرة رواية المأكلة استناداً إلى مجمع البيان ، ومن الواضح أنّ الشيخ الطبرسي بدوره كان قد أخذ هذه العبارة بعينها كغيرها من الأقوال التفسيرية من كتاب التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي. وقد جاء نصّ هذه الرواية في التبيان(١) بهذا النحو : «وروي عن أبي

__________________

يحاسب عليه» وقد ذكر هذا الكلام فيما بعد أكثر اللغويّين ، هذا ومع غضّ النظر عما ذكره اللغويّون فإنّ دلالة الروايات على الرشا وما شاكله أكثر مطابقة وأنسب من الدلالة والمطابقة على معنى الضيافة ومأدبة الطعام ، فمثلاً قد جاء في رواية عن مقاتل بن سليمان : «كانت للرؤساء منهم مأكلة في كلِّ عام من زرعهم وثمارهم».

وقال الواحدي النيشابوري : «وكانت للأحبار والعلماء مأكلة من سائر اليهود» فإنّ كلتا العبارتين جاء فيهما «مأكلة من» وسنرى فيما بعد أنّ أبا الفتوح الرازي أيضاً استفاد من كلمة «مرسوم» باللغة الفارسية في سياق بيان وتوضيح هذه الرواية ومراده هنا الضريبة والرشا وهو أحد مصاديق هذه الكلمة ولمزيد من التوضيح في هذا المجال انظر ما ذكره جواد علي في كتابه المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام ٩/٢٣٩ ؛ ٩/٢٣٩ ؛ ٩/٣٠٢ و١٤/١٦٠. هذا وأشكر صديقي الاستاذ بهنام صادقي حيث لفت نظري إلى المعنى الدقيق لهذه الكلمة.

(١) التبيان ١/١٨٦.

١٢

جعفر عليه‌السلام في قوله : (وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً) قال عليه‌السلام : كان لحُيي بن أخطب وكعب بن أشرف وآخرين منهم مأكلة على يهود في كلّ سنة وكرهوا بطلانها بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره ، فذلك الثمن القليل الذي أريد به في الآية»(١).

إلى هنا قد تبيّن لنا من خلال ما قدّمناه أنّ أقدّم مصدر روائي معروف كان قد تناول رواية (المأكلة) هو التبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي. وأمّا إذا أردنا أن نقتفي آثار هذه الرواية أو الروايات المماثلة لها في المضمون

__________________

(١) ذكر الشيخ الطوسي أيضاً في سياق الآية (٧٩) من سورة البقرة قائلاً : «وروي عن أبي جعفر عليه‌السلام وذكره أيضاً جماعة من أهل التأويل أنّ أحبار اليهود كانت غيّرت صفة النبيِّ (صلى الله عليه وآله)ليوقعوا الشكّ للمستضعفين من اليهود» (التبيان ١/٣٢٢). وقد نقلت أيضاً هذه الرواية برمِّتها إلى مجمع البيان (١/٢٩٢) ومنه إلى سائر التفاسير. والجدير بالذكر أنّ الوزير المغربي هو أوّل من كان قد ذكر هذا الموضوع في المصابيح في تفسير القرآن حيث ذكر في سياق الآية (٧٩) من سورة البقرة : «قال أبو جعفر : كانت أحبار اليهود قد غيّروا صفة محمّد (صلى الله عليه وآله) ليوقعوا الشكّ للمستضعفين من اليهود». فعندما نواجه كمّاً هائلاً من الروايات التفسيرية المنسوبة كلّها لأبي جعفر وهي تنتهي إلى الوزير المغربي ومنه إلى أبي جعفر وقد ذكرها من بعده كلّ من الشيخ الطوسي في التبيان والشيخ الطبرسي في مجمع البيان فلا يبقى لدينا إلاّ أن نقول إنّ هذه الروايات نقلت بالمعنى بواسطة الوزير المغربي ، خصوصاً إذا عرفنا أنّ جلّ هذه الروايات إنّما هي في خصوص مجال السيرة وإنّ الوزير المغربي كان له اهتمام خاصٌّ بموضوع السيرة.

انظر مقالتنا (المراحل الأربعة في مدرسة التفسير الشيعي) والمنشورة في مجلّة (صحيفة مبين) في عددها رقم ٥٠ لسنة ١٣٩٠ هـ. ش والتي تناولت العلاقة بين تفسير المصابيح في تفسير القرآن للوزير المغربي والتبيان في تفسير القرآن للشيخ الطوسي.

١٣

فعلينا أن نبحث عنها في مصادر روائية وتفسيرية شيعية قبل الشيخ الطوسي.

لم تشر أيٌّ من التفاسير الروائية الشيعية قبل الشيخ الطوسي إلى مضمون أو عبارة مشابهة للرواية التي مرّت آنفاً ، فإنّ المصادر التفسيرية الشيعية القديمة مثل علي بن إبراهيم القمّي ، العيّاشي ، فرات الكوفي ، الحبري ، كلّ هذه التفاسير لم تتعرّض لهذه الرواية. كما أنّ المصادر الروائية الشيعية القديمة مثل الكتب الأربعة ، المحاسن للبرقي ، بصائر الدرجات و... فإنّها هي الأخرى لم تُشر إلى هذه الرواية. وحتّى أنّ الشيخ الطوسي أيضاً لم يتكلّم عن محتوى هذه الرواية في سائر كتبه الروائية لذا علينا أن نناقش جميع الاحتمالات الواردة في هذا المجال.

إنّ واحداً من اهمّ المصادر التي اعتمدها الشيخ الطوسي في التبيان هو تفسير الطبري الموسوم بجامع البيان عن تأويل آي القرآن ، فإنّ شطراً كبيراً من الروايات وأقوال الصحابة والتابعين التي جاءت في جامع البيان للطبري إنّما شقّت طريقها إلى التفسير الشيعي من خلال الشيخ الطوسي في بادىء الأمر ومن ثمّ أخذت طريقها إلى مجمع البيان بعد ما ألّف الشيخ الطبرسي تفسيره هذا ، وقد بقيت هذه الروايات في التفسير الشيعي وقد أُشتهر بكونها قد أخذت من مصادر غير شيعية.

فبناءً على ذلك فإنّ المتصوّر للوهلة الأولى هو أنّ الشيخ الطوسي أخذ هذه الرواية من الطبري وأنّ المراد من أبي جعفر في أوّل هذه الرواية هو أبو جعفر الطبري لا الإمام الباقر عليه‌السلام ، وإنّ هذا الرأي طرحه المرحوم نعمت الله صالحي النجف آبادي عندما تعرّض إلى المنقولات الروائية في تفسيري

١٤

التبيان ومجمع البيان(١) والتي وقع في سندها أبو جعفر في غير رواية المأكلة ، وهذا الرأي بحدّ ذاته فيه تأمّل ، وعلى أقلّ التقادير فإنّ نظريته هذه لا تنطبق على هذه الرواية ، وذلك لو أنّنا فتّشنا تفسير الطبري بأسره وما جاء في سياق هذه الآية من بحث لم نعثر فيه على ما يتضمّن هذا المفهوم ، كما أنّه لم ترد فيه أيّ عبارة مشابهة للرواية المذكورة.

إنّ المصدر الشيعي الوحيد الذي جاء بهذه الرواية قبل الشيخ الطوسي هو كتاب المصابيح في تفسير القرآن ، وهو من تأليف أبي القاسم الحسين ابن علي المعروف بالوزير المغربي (ت ٤١٨ هـ) ، فإنّ الوزير المغربي في تفسيره هذا ـ والذي لم يطبع للأسف حتّى الآن(٢) ـ يذكر في سياق الآية المشار إليها آنفاً هذه الرواية حيث يقول : «قال أبو جعفر : كان لحُيي بن أخطب وكعب بن الأشرف وآخرين منهم مأكلةٌ على يهود في كلّ سنة ، فكرهوا إبطالها بأمر النبيّ (صلى الله عليه وآله) فحرّفوا لذلك آيات من التوراة ، منها : صفته وذكره ، فذلك الثمن القليل الذي أريد في الآية».

علماً بأنّ الشيخ الطوسي يدأب على ذكر الوزير المغربي وينقل بعض آرائه وذلك في مواطن عديدة في تفسيره التبيان ، بل ويذكر بعض المطالب

__________________

(١) انظر : حديث هاى خيالي در مجمع البيان ، ص٢١ فما بعد.

(٢) نصبّ جلّ اهتمامنا هذه الأيّام في تصحيح هذا الكتاب المهمّ والذي له الأثر في تاريخ التفسير الشيعي حيث نأمل أن يتوفّر للباحثين والمتخصّصين في علوم القرآن الكريم بأسرع وقت ممكن إن شاء الله.

١٥

من تفسيره من دون أن يصرّح باسمه(١) ، هذا ما جعلنا أن نستنتج أنّ الوزير المغربي كان هو المصدر الأساسي والبوّابة الرئيسية التي تمّ من خلالها تسلّل هذه الروايات إلى التفسير الشيعي منذ بداية القرن الخامس الهجري.

إنّ المصادر التفسيرية التي اعتمدها الوزير المغربي في المصابيح في تفسير القرآن على ثلاثة نماذج :

الأوّل : الروايات الشيعية المأخوذة من المصادر الشيعية ومن مصادر أهل السنّة ـ من دون ذكر السند والمصدر ـ والتي تنتهي إلى واحد من أئمّة الشيعة مثل الإمام زين العابدين عليه‌السلام والإمامين الصادقين عليهما‌السلام.

الثاني : روايات الصحابة والتابعين والتي تأخذ غالباً من تفسير الطبري ، تفسير أبي مسلم ، آيات الأحكام (لأبي بكر الجصّاص الرازي) وتارة من تفسير مقاتل بن سليمان وبعض المصادر الأخرى.

__________________

(١) إنّ في خصوص هذا الموضوع يتبيّن لنا بوضوح أنّ ما نقله الشيخ الطوسي في التبيان هو من اختصاص الوزير المغربي في تفسيره حيث أنّه كثيراً ما نقل مثل هذه المواضيع من العهدين القديم والجديد. فقد ذكر في المصابيح في تفسير القرآن في سياق قوله تعالى :(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا الله) (المائدة ١١٧) قائلا:ً «وقوله عزّ وجلّ أي اعبدوا الله ربّي وربّكم شاهد بلفظ الإنجيل ، فإنّه ذُكِرَ في الفصل الرابع من انجيل لوقا : قال المسيح مكتوب أن اسجدوا لله ربّك وإيّاه وحده فاعبد وهذا لفظه وهو النصّ على التوحيد بحمد الله تعالى» فقد ذكر الشيخ الطوسي نفس هذا الكلام برمّته في التبيان (٤/٧٠) ولم يشر إلى إسم الوزير المغربي حيث قال : «وقوله (أَنِ اعْبُدُوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ) شاهد بلفظ الإنجيل فإنّه ذكر في الفصل الرابع من إنجيل لوقا قال المسيح : مكتوب أن اسجد لله ربّك وإيّاه فاعبد وهذا لفظته وهو صريح التوحيد».

١٦

الثالث : الروايات المرتبطة بالسيرة النبوية وأحداث صدر الإسلام والتي تأخذ غالباً من الطبري وبعض مصادر السيرة مثل الزهري ، ابن هشام ، ابن إسحاق ، الواقدي ، وعمر بن شبّه.

وبما أنّ الروايات المشار إليها في البحث آنفاً لم ترد في تفسير الطبري ولم نعثر عليها في المصادر التفسيرية الشيعية قبل الوزير المغربي مثل : (الحبري ، السيّاري ، العيّاشي ، فرات الكوفي ، علي بن إبراهيم القمّي والنعماني) ، فلابدّ لنا أن نبحث عنها في غير هذين النطاقين للعثور عليها ، لكنّنا لم نعثر في مصادر السيرة على روايات حوت على النصّ المذكور آنفاً بعينه إلاّ أنّنا عثرنا على بعض الروايات في تفاسير أهل السنّة تحمل هذا المضمون ، وإنّ أقدم ما وصلنا ممّا له صلة مع موضوع بحثنا هذا يمكن أن نجده عند كلٍّ من محمّد بن السائب الكلبي (ت ١٤٦ هـ) ، مقاتل بن سليمان (ت ١٥٠ هـ) ، ومحمّد بن عمر الواقدي (ت ٢٠٧ هـ) ، علماً بأنّ الكلبي فيما يخصّ موضوع بحثنا هذا يحظى بأهمّية أكبر من صاحبيه. وذلك لأسباب أوّلها : أنّه كانت له ميول شيعية ، وثانيها : أنّ الطبري ينقل تارةً في تفسيره روايات قليلة عنه عن طريق (أبو صالح عن ابن عبّاس) ولكنّه لم ينقل أبداً في تفسيره عن مقاتل بن سليمان والواقدي أيّ رواية قطّ.

تفسير محمّد بن السائب الكلبي :

إنّ أصل كتاب تفسير الكلبي وهو كتاب كبير ومفصّل لم يُعثر عليه إلى

١٧

اليوم(١) ، ولكن جاءت رواياته التفسيرية في كتب مختلفة من جملتها تفسير عبد الرزّاق الصنعاني ، تفسير الحبري ، معاني القرآن للفرّاء ، بحر العلوم للسمرقندي ، وقليل منها في تفسير الطبري.

لقد دوِّن قسم من هذه الروايات في نهاية القرن الثالث الهجري بيد أبي محمّد عبد الله بن محمّد بن وهب الدينوري (ت ٣٠٨ هـ) حيث جاءت هذه الروايات عن طريق أبي صالح عن ابن عبّاس وقد جاء هذا التدوين على شكل تفسير تحت عنوان الواضح في تفسير القرآن ، وقد أعاد تدوينها الفيروزآبادي في بداية القرن التاسع الهجري تحت عنوان : تنوير المقباس من تفسير ابن عبّاس.

توجد عبارات من تفسير الكلبي في كتاب الدينوري الواضح في تفسير القرآن لها شبه كبير مع ما نقله الوزير المغربي في تفسير المصابيح ، فقد جاء في تفسير الآية ٤١ من سورة البقرة : «(وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي) بكتمان صفة محمّد النبيِّ ونعته (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضاً يسيراً من المأكلة»(٢) ؛ وقد جاء في سياق الآية ٧٩ من سورة البقرة : «(ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا) في الكتاب الذي جاء

__________________

(١) يبدو أنّ وجود أصل تفسير الكلبي الكبير إلى القرن السابع الهجري أمرٌ مسلّم به لوجود بعض المقتطفات منه في كتب بعض العلماء الشيعة والسنّة مثل الحبري ، وعبد الرزّاق الصنعاني ، هود بن محكم الهواري ، الطبري ، ابن أبي زمنين ، أبو الليث السمرقندي ، الثعلبي ، الواحدي النيشابوري ، وابن طاووس ، حيث يعدّ هؤلاء من ضمن العلماء الذين نقلوا في تأليفاتهم بعضاً من تفسير الكلبي سواء كان النقل قليلاً أم كثيراً.

(٢) الواضح : ٢٥.

١٨

(مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) عرضاً يسيراً من المأكلة والفضول»(١) كما جاء في سياق الآية ١٧٤ من سورة البقرة : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ الله مِنَ الْكِتَابِ) ما بيّن الله في التوراة من صفة محمّد ونعته (وَيَشْتَرُونَ بِهِ) بكتمانه (ثَمَناً) عرضاً يسيراً ، أنزلت في كعب بن الأشرف وحُيَي وجُدي ابني الأخطب»(٢).

إنّ نصّ كتاب الواضح في تفسير القرآن الذي كتبه الدينوري في نهاية القرن الثالث له أسلوبٌ مزجيٌّ ، كما أنّ كتاب تنوير المقباس الذي كتبه الفيروزآبادي في القرن التاسع له نفس الأسلوب أيضاً ولكن يبدو أنّ الدينوري أو شخص آخر في القرن الثالث كان قد ذكر من تفسير الكلبي في سياق الآية المذكورة روايات مختلفة جاءت عن طريق أبي صالح عن ابن عبّاس وبعد ما ذكر شطراً من الآية شرحها استناداً على ما جاء في تفسير الكلبي الاصلي ، فمن خلال هذا الأسلوب يمكننا أن نقول : أنّ جميع الشروح التفسيرية الواردة في سياق الآيات الثلاث المذكورة آنفاً مستقات من رواية واحدة للكلبي ، حيث إنّ مضمون هذه الرواية في باب تحريف آيات من التوراة ، وهو ما كتمه بعض علماء اليهود من إسم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وصفاته طمعاً بـ : (المأكلة) وهو الثمن القليل في قبال عملهم هذا ، وخير شاهد على ذلك هو أنّ مضمون رواية الكلبي الآنفة الذكر وردت في تفسيري الواضح وتنوير المقباس في سياق آيات أُخرى مرتبطة بتحريف التوراة بيد

__________________

(١) الواضح : ٣٣.

(٢) الواضح : ٥٧.

١٩

اليهود في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله) ـ وهو طلبهم متاع الدنيا المشار إليه بقوله تعالى : (وَاشْتَرَوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) ـ ومن تلك الآيات :

آل عمران ١٨٧ : «(وَاشْتَرَوا بِهِ) بكتمان صفة محمّد ونعته في الكتاب (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضاً يسيراً من المأكلة»(١).

آل عمران ١٩٩ : «(لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله) بكتمان صفة محمّد ونعته في الكتاب (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضاً يسيراً من المأكلة»(٢).

المائدة ٤٤ : «(وَلاَ تَشْتَرُوا بِآيَاتِي) بكتمان صفة النبيِّ (صلى الله عليه وآله) ونعته وآية الرجم (ثَمَناً قَلِيلاً) عرضاً يسيراً من المأكلة»(٣).

إنّ العثور على النصّ الكامل لرواية الكلبي يساعدنا كثيراً في حلّ بعض التساؤلات ، وبالرغم من أنّ العثور على المتن الكامل لرواية الكلبي مثمر إلى حدٍّ ما إلاّ أنّه لا يفي بالغرض كاملة ولا يوفّر لنا نتيجة قطعية ، هذا وإنّ كلاًّ من عبد الرزّاق الصنعاني (ت ٢١١ هـ) والطبري (ت ٣١١ هـ) وابن أبي حاتم الرازي (ت ٣٢٧ هـ) لم يتعرّضوا في كلامهم نهائيّاً إلى روايات الكلبي في سياق جميع الآيات المرتبطة مع بحثنا هذا(٤) ، وإنّ منقولات الحبري

__________________

(١) الواضح : ١٣٦.

(٢) الواضح : ١٣٩.

(٣) الواضح : ١٩٨.

(٤) والجدير بالذكر أنّ عبد الرزاق الصنعاني (١٢٦ ـ ٢١١ هـ) نقل العديد من الروايات التفسيرية عن الكلبي مباشرةً أو بواسطة معمر ، وكذلك الطبري الذي لم ينقل في تفسيره رواية عن مقاتل بن سليمان والواقدي إلاّ أنّه نقل من الكلبي ما يقارب من

٢٠