قواعد الفقيه

الشيخ محمّد تقي الفقيه

قواعد الفقيه

المؤلف:

الشيخ محمّد تقي الفقيه


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الأضواء
الطبعة: ٢
الصفحات: ٣١٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين.

وبعد : فإن في هذا الكتاب جملة من قواعد الفقه والأصول وغيرهما ، كانت كل قاعدة منها رسالة مستقلة ، وكنت قد اختصرت جملة من مطولاتها ، وألحقت بها القواعد المختصرة بطبعها ثم جمعتها في كتاب مستقل ، وسمّيته (مختصر القواعد). ثم رجحت جمع ذلك كله في كتاب واحد ، وسميته (قواعد الفقيه) ، وكنت أصحبه معي في أسفاري ، وأعيد النظر في محتوياته.

وكنت أشير لتاريخ كل نسخة من كل قاعدة لأمور ، أهمها الاعتماد على ما تأخر منها.

وبالطبع ، أن أصول المطولات المخطوطة محفوظة ، وهي أوسع نطاقا ، وأكثر تحقيقا ، وأدق ملاحظة.

وإنني أرجو ممن يرغب في المساهمة في هذا المجهود أن يسجل ملاحظاته بإيجاز ، ويرسلها إلى ، لعلي أتدارك ما ينبغي تداركه ، وإنني أعتقد أن هذا الكتاب هو الحلقة المفقودة في جامعة النجف الأشرف.

وإذا كنت ألفته بالأمس لنفسي ، فإنني أقدمه اليوم لغيري والله حسبي ونعم الوكيل.

محمد تقي الفقيه

٥
٦

تمهيد

في هذا الكتاب كبريات كلية ، عقلية ، وأصولية ، وفقهية ، ومن علوم أخرى .. بعضها مدون في محله ، وبعضها مدون في كتب الفقه وهو من الأصول ، وبعضها مدون في كتب الأصول وهو من الفقه ، وبعضها مدون في علوم أخرى وللفقيه فيه حاجة ، وبعضها لم يزل ظاعنا مع التاريخ يدور على ألسنة فحول المدرسين ولم يدون مستقلا في كتاب.

فالقاعدة الواحدة من هذه القواعد ، قد تتكرر في الكتاب الواحد عدة مرات تبعا للمناسبة ، وربما تكون نفس الجهة المقصودة في المناسبة غير مشبعة اعتمادا على مرورها في مورد مضى ، أو انتظارا لمجيئها في مورد يأتي.

وقد كان ينبغي إدراج هذه القواعد كلها في علم الأصول ، وجعلها قسما من الأصول العملية ، أو إفرادها في فصل منه.

وقد صرح المحققون ـ ومنهم الآشتياني رحمه‌الله ـ عند حصر مباحث الشك في الأصول الأربعة إن الأصول لا تنحصر فيها ، وأنها اختصت بالاهتمام لأنها لا تختص في باب من الفقه ، وأعتقد أن هذا لا يخفى على فاضل مستقل بالنظر.

والمحقق من المدرسين قد يتعرض لهذه القواعد أثناء الدرس عند الحاجة إليها ، فيقول : بناء على كذا يكون كذا .. ولكن التعرض للبناء وإهمال تحقيق

٧

المبنى وكيفية الابتناء ، قد يترك الطالب النبيه عرضة للشك ، أو للتقليد الأعمى ، فيكون مجتهدا مقلدا من حيث لا يحتسب ، وإذا لم يفهم المبني والابتناء غمره اليأس واعتقد إن الاجتهاد بعيد المنال ، وأصبح عدوا للاجتهاد والمجتهدين ، وللتدريس والمدرسين ، بل عدوا للكتب الدراسية ، ثم لا يقف عند هذا الحد ، بل قد يعلن الثورة على علم الأصول وعلم المعقول ، وعلى كل تحقيق وتدقيق.

إن إتقان هذه القواعد يحل المعقدات العلمية ، ويسهل الوصول إلى النتائج ، ويجعل الاجتهاد قريب المسافة ، ولا سيما مع حسن العرض ، وبساطة البيان.

وإن إهمال هذه القواعد هو الذي أوجب انقطاع كثير من الطلاب عن القافلة وانصرافهم إلى استقراء الأخبار والأقوال ، أو انصرافهم عن الفقه والأصول إلى الأدب واللغة.

وإن النظر في السلسلة التي تبتني عليها الأحكام ، وإقامة البرهان على كل حلقة منها يضمن سلامة النتائج ، ويقلل النزاع ، ويقرب المسافة بين المتخاصمين ، ويكون صاحبها مجتهدا معذورا عند الله سبحانه ، لأن خطأه يكون ناشئا عن قصور ، لا عن تقصير ، والقاصر عاجز ، وعقاب العاجز قبيح عقلا.

فطول النزاع ، والانتقال من مبنى إلى آخر ، وتمسك كل منهما أو أحدهما بقول عالم من العلماء والمطالبة بنظائر المسألة ، دليل على العجز والضعف ، وعلى أن أحد المتخاصمين أو كلاهما ، لم يفرغ من مباني المسألة.

ولو كان هؤلاء ، ممن أتقن مباني الصغريات والكبريات ، لكان لخلافهم حد ، ولوقف النزاع عند أحد المبنيين في السلسلة.

والجدل الصحيح الذي يسير على هدى المنطق العالي يجب أن يكون في الكبريات أو الصغريات ، فإذا اتفقوا عليها جميعا التقوا في النتيجة. وإذا

٨

اختلفوا في واحدة منها ، افترقوا من هناك ، ولم يلتقوا أبدا إذا كانت النتيجة تختلف باختلاف المبنى.

وإن كثيرا من الناس ، يبادرون إلى إنكار النتائج وإلى معارضتها بالنقوض ، وليس ذلك إلا لأن حظهم من الفضل يسير ، ولأنهم يجدون النتائج لا توافق وجدانهم ، ويحتجون أحيانا بالوجدان ، وينسون إن وجدان الشخص لا يكون حجة على آخر وأن للآخر وجدانا كما لهم وجدان ، وأن العلوم النظرية ترتكز على مقدماتها لا على الوجدان.

ولو كانت كلها وجدانية كزوجية الأربع ، وانقسام كل زوج إلى متساويين ، لما اختلف اثنان ، ولما ألفت الكتب ولما شيدت المدارس.

وإن رمي كثير ممن يدعي الاجتهاد بأنهم ليسوا مجتهدين ، نشأ من إهمالهم لهذه القواعد ، فاضطر هؤلاء ـ في مقام الدفاع عن أنفسهم ـ إلى دعوى الاستغناء عن الأصول والمعقول ، وعن هذه القواعد وعن كل تحقيق وتدقيق.

وإذا طولب أحدهم بترجيح أحد المبنيين أو المباني ، وبإقامة البرهان على ذلك ، يضطر للاحتجاج بقول عالم من العلماء ، ثم يبادر لاحضار الكتاب.

ومتى كان المجتهد يرى أن من يخالفه في الرأي أعلم منه؟. ومتى كان قول عالم يخصم العالم الآخر؟.

والذين قعدت بهم هممهم عن التحليق إلى هذا المستوى صرفوا طاقاتهم العالية في الاستقراء والتتبع. والاستقراء ـ وإن أتعب البدن ـ إلا أنه بمستطاع كل واحد من أهل العلم ... وإن هؤلاء ليسوا مجتهدين بالمعنى الصحيح وإن كان ثمة اجتهاد ، فإنما هو في أدنى مراتبه ، وفي غير الأمور النظرية.

والواحد من هؤلاء يكون مجتهدا في مقام الاستظهار من رواية لا معارض لها أو في الجمع بين روايتين ... وليس مجتهدا في تقسيم المرجحات ولا في ترتبها ، ولا في التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها ، ولا في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص ، ولا في اقتضاء النهي في العبادة الفساد في أكثر

٩

حالاته ، فضلا عن تشعبات الأصول ودقائقها الرفيعة ـ كما في تنبيهات الاشتغال والاستصحاب ـ بل لا يكون مجتهدا في تطبيق قاعدة (لا ضرر) على مواردها ولا إرجاع جملة من هذه القواعد المسطورة إلى دليل قطعي ، لتكون حجة فيما بينه وبين الله تعالى ، لا نفيا ولا إثباتا.

ثم أقول عودا على بدء : إن عادة المدرسين والمؤلفين أن يقولوا : بناء على كذا .. يكون كذا ... فيقولون مثلا : الشيء الفلاني مستحب ، وتركه في فعل خاص ليس مكروها ، إلا بناء على أن الأمر بالمستحب يقتضي النهي الكراهتي عن ضده الخاص. ثم نطلب هذا في كتب الأصول المتداولة فلا نجده.

ويقولون أيضا : بناء على أنه لا يجب اتحاد المتلازمين في الحكم .. ثم نحاول بدورنا تحقيق هذا المبنى ، فنجد في كتاب (الكفاية) نصف سطر في مبحث (الضد) وسطرا في أواخر (مقدمة الواجب) ، ومثله في أواخر مبحث (اجتماع الأمر والنهي).

وهم يقولون في (الخبر الصحيح الذي أعرض عنه المشهور) كلما ازداد صحة ووضوحا ازداد وهنا بالأعراض ، ثم نطلب هذه القاعدة فلا نجدها محررة في كتب الأصول ولا في كتب الفقه ، ويعللها ضعفاء المدرسين بأن الأصحاب أقرب عهدا ، وأعرف بالأخبار ... وهو كما تراه ، استدلال على الظني بمثله ، وعلى حجية الشيء بما لا حجية فيه ، ولعل بعض الفضلاء المعاصرين تنبه لهذا ، ولم يهتد لمدركها فانكرها ، ويلزمه لوازم كثيرة لن يستطيع الالتزام بها ، وأقلها ما يسمونه : تأسيس فقه جديد.

إنني أتمنى أن يشترك جماعة من أهل الفضل في وضع كتاب للأصول ، وفي تنظيم القواعد ولو بنحو التأليف ، وأقصد بالتأليف جمع (كتاب) من كتب عدة.

مثلا : نستعرض كتاب (الكفاية) ، فنجده أجاد في تنبيه من تنبيهات الاستصحاب فننقله بلفظه منها ، ونعمد لكتاب (الرسائل) ، فنجد فيه تنبيها

١٠

أجاد فيه أكثر من (الكفاية) ، فننقله برمته. ونعمد إلى تقريرات (دروس النائيني) أو تعليقه آية الله الحكيم على (الكفاية) ، فنجد فيها مطلبا أو بابا أو قاعدة ، فننقلها بلفظها وننسبها له ، وهكذا نفعل ببقية الكتب. وإذا احتاج المبحث إلى تصرف ما ، من حذف فضول ، أو تبديل عبارة ، طبق ذلك بعد موافقة الجماعة ، فإن في هذا العمل محافظة على وقتهم ، وفيه تهيئة كتاب رائع في هذا الفن. وطالما عرضت هذه الفكرة ، فوجدت عليها إقبالا ، وربما أتوفق لذلك إن شاء الله تعالى ، والله المسدد والمعين.

المؤلف

١١
١٢

١ ـ قاعدة

في الشبهة غير المحصورة

وكلامنا فيها يتناول أربعة مواضع : ضابطها ، وجه جواز ارتكاب أطرافها في الجملة ، جواز ارتكاب جميع الأطراف وعدمه ، تحقيق الحال.

الموضع الأول : في ضابط الشبهة غير المحصورة.

وهو كما عن الشهيد والمحقق الثانيين والميسي ، وصاحب المدارك ، إن المرجع فيه إلى العرف ، وفسروه : بما يعسر عدّه في العادة ، وزاد المحقق الثاني : تقييده بزمان قصير. وعن كشف اللثام : بما يرجع إلى سعة الأفراد وانتشارها على وجه يستلزم خروج بعضها عن محل الابتلاء ، واستصوبه في (مفتاح الكرامة) ، واختاره الاستاذ الحكيم (مد ظله).

ويمكن أن يقال : بأن هذا مراد كل من مثل للشبهة غير المحصورة بامرأة مشتبهة في صقع من الأرض ، وشبه ذلك.

وفي رسائل شيخنا المرتضى رحمه‌الله : أنه ما بلغت الوقائع فيه من الكثرة حدا لا يعتني العقلاء بالعلم الاجمالي الحاصل فيها. ولعل هذا هو مختار السيد في (العروة). وفي تقريرات درس النائيني رحمه‌الله ، وهامش العروة إنه عدم التمكن عادة من جميع الأطراف وإن تمكن من آحادها على البدل.

الموضع الثاني : في الوجه في جواز ارتكاب أطرافها في الجملة ، وهو أحد أمور.

١٣

أولها : الاجماع المحكي على عدم وجوب الاجتناب ، كما عن صريح الروض وجامع المقاصد ، وفوائد البهبهاني نافيا عنه الريب ، مدعيا أنه مدار المسلمين في الأعصار والأمصار ، وتبعه في دعوى الاجماع غير واحد ممن تأخر عنه ، وزاد بعضهم : دعوى الضرورة عليه في الجملة.

وبالجملة : نقل الاجماع مستفيض ، وهو كاف في المسألة ، (انتهى مجمل كلام الشيخ في الرسائل).

ثانيها : أخبار قاعدة الحل.

ثالثها : عدم اعتناء العقلاء بمثله.

رابعها : قضية العسر والحرج.

خامسها : رواية المحاسن ، وفيها : أمن أجل مكان واحد فيه الميتة ، حرم جميع ما في الأرض. فما علمت فيه الميتة فلا تأكله ، وما لم تعلم ، فاشتر وبع وكل والله أني لأعترض السوق فاشترى اللحم والسمن والجبن ، والله ما أظن كلهم يسمون ، هذه البرية وهذه السودان (١) الخبر كذا.

سادسها : عدم القدرة على المخالفة ، كما يظهر من تقريرات شيخنا الكاظمي الخراساني رحمه‌الله.

سابعها : خروج بعض الأطراف عن محل الابتلاء.

ثامنها : إن الظن يلحق الشيء بالاعم الأغلب ، وهي قاعدة الغلبة.

الموضع الثالث : في تحقيق المسألة.

وتحقيقها على وجه الاختصار هو أن يقال : إن المحكم في شئون التنجيز والامتثال هو العقل ، وهو لا يفرق بين المحصور وغيره بعد حصول العلم الاجمالي ، وأما الانحلال فإنه يدور مدار قيام حجة غير معارضة في أحد الأطراف حتى على القول بعليته التامة ـ كما هو التحقيق ـ لأن العقل لا يرخص

__________________

(١) الوسائل م ١٧ ص ٩١ ح ٥.

١٤

بارتكاب شيء من المشتبهات بدون حجة شرعية أو عقلية ، هذا ما تقتضيه القاعدة ، وقد أثبتنا في الشبهة المحصورة التي خرج بعض أطرافها عن محل الابتلاء إن الأصل يجري في الطرف المبتلى به بلا معارض. فيكون ذلك دليلا في الشبهة غير المحصورة.

فإن قلت : أي فرق بين الشبهة غير المحصورة وبين الشبهة المحصورة التي خرج بعض أطرافها عن محل الابتلاء. ولما ذا أفردت بالتدوين ، ولما ذا لا يؤخذ باطلاق معاقد الاجماعات فيقال : كل ما صدق عليه أنه شبهة غير محصورة يجوز ارتكاب أطرافه في الجملة ، وإن لم يخرج بعض أطرافه عن محل الابتلاء ..

قلت : التحقيق أنه لا فرق بينهما من حيث الحكم ، نعم يختلفان من حيث توفر الأدلة في غير المحصورة ، فإنها تشارك المحصورة التي خرج بعض أطرافها عن محل الابتلاء في كل ما استدل لها به ، وتزيد عنها بما مر ، وإنما أفردت بالتدوين لتنبه معظم السلف لها ، ووضوح حكمها عندهم بخلاف المحصورة التي خرج بعض أطرافها عن محل الابتلاء.

وأما الاجماع ففيه : أنه من الاجماع في المسألة العقلية ، وأنه لبي ، والقدر المتيقن منه هو انتشار أطراف الشبهة انتشارا يستدعي خروج بعض أطرافها عن محل الابتلاء ، وأنه ليس بحجة لكونه معلوم المدرك ، فإن مدركه أحد الأمور المتقدمة في الموضع الثاني ، أو كلها. ولو تمت ، لم تنهض على إثبات أكثر من ذلك.

وينبغي التنبيه إلى أن الاجماع هو أهم الأدلة التي تنفرد بها الشبهة غير المحصورة ، وربما يتوهم أنه منعقد على عنوان عرفي مبين وهو غير المحصور. فكل ما يصدق عليه عرفا أنه غير محصور يجوز ارتكاب أطرافه في الجملة ، وإن كان جميع أطرافه في محل الابتلاء ، ولكنه توهم فاسد ، فإنا نسلم انعقاد الاجماع فيما نحن فيه ، ونسلم أنه على تقدير انعقاده على عنوان مبين يكون حاله حال تعليق الحكم على عنوان في آية أو رواية من حيث وجوب الرجوع فيه للعرف

١٥

بعد انتفاء الحقيقة الشرعية ، ولكنا لا نسلم انعقاده في المقام على عنوان مبين بل ندعي العكس ، ويدلك على ذلك اختلاف المجمعين في تحديد ما أجمعوا عليه كما هو الظاهر من اختلاف تعاريفهم للمسألة.

ولا ريب أيضا ، إن اختلاف العلماء في حدود ذلك العنوان يؤكد انتفاء المعنى الشرعي.

إن قلت لعل اختلافهم في التحديد كان من باب الاختلاف في تحديد المعنى العرفي بعد اتفاقهم على تعليق الحكم عليه.

قلت إن ذلك في غاية البعد ، وعلى تقديره ، فإن رجع إلى الاختلاف في أصل العنوان ، كان معقد الاجماع حينئذ مجملا ، ووجب الاقتصار على القدر المتيقن ، وإن كان من الاختلاف في تفسيره أو في تطبيقه على مصاديقه بعد الاتفاق على العنوان ، وجب الرجوع إلى العرف فيه.

وينبغي التنبيه إلى وضوح بعض مصاديق المعاني العرفية وخفاء البعض الآخر ، وإلى أنه يجب الرجوع في المشتبه منها إلى الأصول ومقتضاها في المقام هو تنجز العلم الاجمالي ما لم يخرج بعض أطرافه عن محل الابتلاء ، وهو المطلوب.

وقد ظهر من ذلك كله إن الاجماع على العنوان المذكور لا يجعل له خصوصية ، وإن المدرك في جواز الارتكاب في الشبهة غير المحصورة ، وفي الشبهة المحصورة التي خرج بعض أطرافها عن محل الابتلاء واحد.

الموضع الرابع : في جواز ارتكاب جميع الأطراف وعدمه.

ولا ينبغي الريب في جوازه على تقدير ابتلائه بما لم يكن مبتلى به بشرط خروج بعض الأطراف الأخرى عن محل الابتلاء ، بملاك جواز ارتكاب ما كان تحت ابتلائه سابقا. وأما إذا أصبحت الأطراف كلها في محل الابتلاء بعد أن لم تكن ، فإن العلم الإجمالي يتنجز بلا ريب ، ولا يجوز ارتكاب أي طرف من الأطراف.

فإن قلت إذا ارتكب بعض الأطراف في ظرف خروج الآخر عن محل

١٦

الابتلاء ثم تمكن مما كان خارجا عن محل الابتلاء ، فإنه على ما ذكرت يجوز ارتكابه ، ويلزم من ذلك العلم بالمخالفة.

قلت نعم يجوز ارتكابه. ولزوم العلم بالمخالفة بعد الارتكاب لا يمنع منه العقل ، لأنه لا تكليف بعد الوقوع ، وهو كثير في الشرع كما في موارد الأحكام الظاهرية ، والذي يمنع العقل منه هو الاقدام على مخالفة ما يتنجز التكليف فيه لاقدامه بلا مؤمن ، وما ذكر في الايراد فيه مؤمن ، والعقل يرخص في محتمل المعصية إذا كان فيه دليل مؤمن منها ويرفع الاحتمال تعبدا ، والحمد لله رب العالمين (١).

٢ ـ قاعدة

في جواز اختلاف المتلازمين في الحكم وعدمه

قاعدة في تحقيق قضية المتلازمين ، وإنه هل يجوز اختلافهما في الحكم أولا.

وقد حكى الاردكاني رحمه‌الله في ذلك في غاية المسئول أقوالا ثالثها : ما عن المعالم من التفصيل بين ما لو كان أحدهما علة والآخر معلولا ، أو كانا معلولي علة واحدة فمنعه ، وبين غيرهما فجوزه.

ورابعها : ما عن شريف العلماء من التفصيل بين ما إذا لم يلزم من اختلافهما التكليف بما لا يطاق ، فجوزه ، وبين ما إذا لزم ذلك ، فمنعه. وربما يقال بالملازمة ، إذا كانا من باب الغاية وذيها فتجب الملازمة. وأما إذا كانا من باب المقدمة وذيها ، فلا. وكذلك إذا كانا معلولي علة واحدة.

التحقيق ، أن يقال : أنه لو بنينا على امكان خلو الواقعة عن الحكم ، فلا ريب في عدم لزوم التوافق ، فيجوز أن يكون أحدهما محكوما بحكم ما ، والآخر

__________________

(١) حررناها بهذا الشكل نهار الثلاثاء ٢٧ جمادى الأولى سنة ١٣٨١ ه‍.

١٧

غير محكوم بحكم أصلا ، سواء كان ذلك بالنسبة إلى الحكم الظاهري أو الواقعي.

هذا ، والحق إمكان خلوها في الظاهر عن الحكم الظاهري (١) وامتناع خلوها في الواقع عن الحكم الواقعي (٢). ثم إن الحكمين الموجودين في المتلازمين إذا كانا متوافقين فلا إشكال. وأما إذا كانا مختلفين ، فإن كانا الزاميين كالحرمة والوجوب ، فلا إشكال في امتناع الاختلاف حينئذ لانه من التكليف بالمحال ، وهل هو من التكليف المحال لاستحالة توجه الإرادة المتضادة إلى المتلازمين المتضادين لاستلزامها كون كل منهما مرادا وغير مراد ، أو لا ، لتعدد الإرادة والمراد ، فيكونان من قبيل الترتب ، احتمالان : واما إذا كان حكم أحدهما إلزاميا دون الآخر ، كالحرمة وغير الوجوب أو الوجوب وغير الحرمة ، فربما يقال : بأنه لا مانع من تخالفهما حينئذ لعدم التنافي.

وربما يقال بالامتناع لعدة أمور :

أحدها : إن الأحكام الخمسة متضادة ، فالمحذور الموجود في الإلزاميين بعينه موجود في غيرهما ، وهذا إنما يتم بعد البناء على تضادها.

ثانيها : أنه إذا كان المباح ملزوما للواجب لم يكن تركه ممكنا ، لاستلزامه ترك الواجب ، وترك الواجب محرم ، ومستلزم المحرم محرم. أو يقال في تقريبه أن المانع الشرعي كالمانع العقلي ، وهكذا الحال في المستحب والمكروه.

ثالثها : إن جعل الحكم غير الإلزامي لأحد اللازمين في حال كون الآخر محكوما بحكم إلزامي يستلزم اللغوية لعدم إمكان ترك المباح أو المستحب أو المكروه إذا كان لازمه واجبا وعدم امكان فعله إذا كان لازمه محرما ، إما لاستقلال العقل بعدم الترخيص حينئذ ، وإما لما مر في الأمر الثاني.

__________________

(١) لاحظ القاعدة ٢٣ من هذا الكتاب لتستوضح ذلك.

(٢) لاحظ القاعدة ٢٦ من هذا الكتاب لتستوضح ذلك.

١٨

وربما يقال : إن القدرة شرط عقلي ، والعقل لا يرى مثل ذلك ممتنعا ما دام مقدورا بعنوانه الأولي مع قطع النظر عن الملازمة.

وربما يقال أيضا ؛ بإمكانه ، بناء على تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد في نفسها ، لا بملاحظة العناوين والاعتبارات ، وذلك لإمكان كون أحد المتلازمين فيه مصلحة ملزمة ، أو مفسدة ملزمة ، دون الآخر.

وفيه أن التحقيق هو تبعيتها لها بملاحظة العناوين والاعتبارات ، وبعد ملازمتها لذلك الملاك تتعنون بعنوان يوجب وحدتهما في الحكم.

وربما يقال أيضا : بأنه بعد تعدد المراد تتعدد الإرادة ، ولا تنافي ، فإن التناقض محتاج إلى الوحدات الثمان أو التسع ، وهي منتفية هنا لفرض اختلاف الموضوع ، وفيه تأمل ، والله العالم.

ومن الثمرات المترتبة على هذه القاعدة ، مسألة وجوب المقدمة وعدمه ، فإنه بناء على وجوب اتحاد المتلازمين في الحكم تكون واجبة ، ولا يجوز أن تكون محكومة بحكم مخالف لذيها ، سواء كان إلزاميا أو غير إلزامي ، نعم بناء على إمكان خلو الواقعة من الحكم واقعا أو ظاهرا ، فلا تجب حينئذ.

ومنها : مسألة حرمة ضد الواجب بالتقريب المتقدم ، سواء قلنا إن ترك الضد مقدمة لفعل الضد الواجب أو لازم له ، وغاية الأمر ، إن ارتباطه هنا إذا كان لازما يكون أظهر.

ومنها : ما لو استأجر شخص الجنب أو الحائض لكنس المسجد ، فإن الكنس ملازم للكون في المسجد ، والكون فيه محرم عليهما ، فإن قلنا بلزوم اتحاد المتلازمين في الحكم ، كان الكنس محرما ، وحينئذ تبطل الإجارة ، لعدم جواز الاستيجار على الفعل المحرم.

وفيه : إن الكنس محرم بالعرض وليس محرما بذاته ، ولذا تصح الإجارة لو قدرا عليه من خارجه.

والتحقيق أن الوجه في بطلان هذه الإجارة ، هو أن الأجير غير قادر على

١٩

تسليم ما استؤجر عليه شرعا ، والممتنع شرعا ممتنع عقلا.

هذا ، لو استأجره في حال الجنابة ، أما لو استأجره في وقت معين وهو طاهر فأجنب ، فإنه هل يكون نظير من استؤجر للحج في عام معين فاستطاع فيه ، أو لا لكون الاستطاعة قدرة شرعية. (بحث يتضح بمراجعة الرسالة التي حررناها في مسألة من نذر الزيارة فاستطاع (١) والله العالم) (٢).

٣ ـ قاعدة

في معنى تعارض الإمارتين

وتعارض الأصلين والفرق بينهما

معنى تعارض الإمارتين هو تكاذبهما ، لكون كل منهما حجة في مدلوله المطابقي والالتزامي المستلزم للتناقض في نفس دليل الإمارة.

ومعنى تعارض الأصلين هو لزوم المخالفة العملية لدليل الحكم الواقعي وهو ملزوم للعلم بعدم مطابقة أحدهما للواقع.

ففي باب الإمارتين يعلم بالتكاذب ، ولكن لا يعلم بالكذب ، ولو علم بكذب أحدهما فهل هو من باب اشتباه الحجة باللاحجة ، أو من باب التعارض. احتمالان .. وأما في باب الأصلين فلا معنى للعلم بالكذب ولا للتكاذب ، وإن كان ذلك يتراءى لضعفاء النظر.

والسر في ذلك إن الأصل ليس فيه طريقية ، فلا يتصف بالكذب ولا بالتكاذب ، وليس حجة في مدلوله الالتزامي ، سواء أكان عقليا أم عاديا لكونه حينئذ مثبتا ، فلا يعارض الآخر.

فظهر أن قول من يقول : إن تعارض الأصول هو العلم بكذب أحدهما

__________________

(١) لاحظ القاعدة ٤٩ من هذا الكتاب ص.

(٢) نقل عن مختصر قواعد الفقيه بعد إضافة الثمرات المذكورة ، صباح الثلاثاء ٢٨ شعبان ـ ١٣٨٠ ه‍ الموافق ١٤ ـ ٢ ـ ١٩٦١ م في قلعة سكر ـ العراق.

٢٠