العدّة في أصول الفقه - ج ١

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]

العدّة في أصول الفقه - ج ١

المؤلف:

أبي جعفر محمّد بن الحسن بن علي بن الحسن الطّوسي [ شيخ الطائفة ]


المحقق: محمّد رضا الأنصاري القمّي
الموضوع : أصول الفقه
المطبعة: ستاره
الطبعة: ١
الصفحات: ٤١٥
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله وحده ، والصَّلاة على خير خلقه ، محمّد وآله الطيبين.

قد سألتم أيّدكم الله إملاء مختصر في أصول الفقه ، يحيط بجميع أبوابه على وجه الاختصار والإيجاز (١) ، على ما تقتضيه مذاهبنا ، وتوجبه أصولنا ، فانّ من صنّف في هذا الباب سلك كلّ قوم منهم المسالك التي اقتضاها (٢) أصولهم ، ولم يصنف أحد (٣) من أصحابنا في هذا المعنى ، إلا ما ذكره شيخنا أبو عبد الله رحمه‌الله (٤) في المختصر الّذي له في أصول

__________________

(١) على سبيل الإيجاز والاختصار.

(٢) المسلك الّذي اقتضاه.

(٣) ولم يعهد لأحد.

(٤) هو الشيخ المفيد ، أبو عبد الله ، محمد بن محمد بن النعمان ، العكبري ، البغدادي. يعد أعظم متكلمي الإمامية. ولد عام ٣٣٦ ه‍ [أو ٣٣٨] بعكبرى ، وعاش ببغداد ، وحضر دروس أعلامها ، كانت له مجالس درس ونظر ، فربى جماعة من الأعلام أمثال الشريفين الرضي ، والمرتضى ، والطوسي ، وغيرهم. مدحه المترجمون له ، فقال عنه ابن أبي طي الحلبي في تاريخه : (هو شيخ مشايخ الطائفة ، ولسان الإمامية ، ورئيس الكلام والفقه والجدل ، وكان يناظر أهل كل عقيدة مع الجلالة العظيمة في الدولة البويهية ، وكان كثير الصدقات ، عظيم الخشوع ، كثير الصلاة والصوم ، خشن اللباس ، وكان عضد الدولة ربما زار الشيخ المفيد ، عاش ستا وسبعين سنة ، وله أكثر من مائتي مصنف) توفي في رمضان عام ٤١٣ ه‍ وشيعه ما يزيد على مائة ألف ودفن بمقابر قريش ، وفي ذكراه الألفية أقيم مؤتمر عالمي في مدينة قم شارك فيه وفود خمسون دولة وطبعت كتبه ورسائله في ١٤ مجلد. وقد صدرت عند دراسته مفصلة باللغة الإنكليزية وهي كتاب :

(نظريات علم الكلام عند الشيخ المفيدThe Theology Of AL ـ Shaik ـ AL ـ Mufid) حيث نال بها كاتبها الأب اليسوعي مارتن مكدرموت شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو ، وقد ترجم الكتاب إلى اللغة العربية

٣

الفقه (١) ولم يستقصيه ، وشذَّ منه أشياء يحتاج إلى استدراكها ، وتحريرات غير ما حرَّرها فإن (٢) سيدنا الأجل المرتضى (٣) قدس الله روحه (٤) وإن كثر في أماليه وما يقر عليه شرح ذلك ، فلم يصنف في هذا المعنى شيئا يرجع إليه ، ويجعل ظهرا يستند إليه.

وقلتم : إن هذا فن من العلم لا بد من شدة الاهتمام به ، لأن الشريعة كلها مبنيَّة عليه ، ولا يتم العلم بشيء منها من دون إحكام أصولها ، ومن لم يحكم أصولها فإنما يكون حاكيا ومقلدا ، ولا يكون عالما ، وهذه منزلة يرغب أهل الفضل عنها.

وأنا مجيبكم إلى ما سألتم عنه ، مستعينا بالله وحوله وقوته ، وأسأله أن يعني (٥) على ما يقرب من ثوابه ، ويبعد من عقابه.

وأقدم (٦) في أول الكتاب فصلا يتضمن ماهية أصول الفقه ، وانقسامها ، وكيفية ترتيب أبوابها ، وتعلق بعضها ببعض ، حتى أن الناظر إذا نظر فيه وقف على الغرض المقصود بالكتاب ، وتبين من أوله إلى آخره (٧).

والله تعالى الموفق للصواب.

__________________

والفارسية. [الفهرست للنديم : ١٧٨ و ١٩٧ ، تاريخ بغداد ٣ : ٢٣١ ، رجال النجاشي ٣ : ٤٠ ـ ٣٩٩ ، ط جماعة المدرسين ، الفهرست للطوسي : ١٨٦ ط نجف ، العبر في خبر من غبر ٣ : ١١٥ ـ ١١٤].

(١) واسمه (التذكرة بأصول الفقه) وهو كتاب مختصر في علم أصول الفقه ، ألفه الشيخ المفيد لبعض إخوانه ـ كما جاء في مقدمتها ـ ثم لخصه العلامة الشيخ أبي الفتح محمد بن علي الكراجكي المتوفى عام ٤٤٩ ه‍ وسماه (مختصر التذكرة) وأدرجه في كتابه (كنز الفوائد) ، وقد وصل إلينا المختصر دون الأصل. وطبع لأول مرة عام ١٣٢٢ ه‍ وتلاها طبعات عديدة أخرى.

(٢) وإن.

(٣) هو الشريف المرتضى ، أبو القاسم علي بن الحسين بن موسى بن محمد ... ابن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام. من الأعلام المشاهير. وصفه تلميذه النجاشي بقوله : (حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه ، وسمع من الحديث فأكثر ، وكان متكلما ، شاعرا ، أديبا ، عظيم المنزلة في العلم ، والدين ، والدنيا). ولد ببغداد عام ٣٥٥ ه‍ وفيها تلقى العلم عند جماعة منهم الشيخ المفيد والمرزباني. عاش في عزّ ومنعة وثراء واسع ، وتولى زعامة الشيعة بعد وفاة المفيد. ربى في مدرسته جماعة من الفقهاء الأعلام كالطوسي وابن البراج وغيرهما ، وصنف عشرات الكتب والرسائل. توفي ببغداد في ربيع الأول سنة ٤٣٦ ه‍ ودفن بمقابر قريش ثم نقل إلى كربلاء.

[رجال النجاشي : ٢٧٠ ، ط جماعة المدرسين ، تاريخ بغداد ١١ : ٤٠٢ ، الفهرست للطوسي ٩٧ ، معجم الأدباء ١٣ : ١٤٦].

(٤) أدام الله علوه.

(٥) يعين.

(٦) وأبدأ.

(٧) وآخره.

٤

الباب الأول

٥
٦

فصل ـ [١]

«في ماهية أصول الفقه ، وانقسامها ، وكيفية ترتيب أبوابها»

أصول الفقه هي أدلة الفقه ، وإذا (١) تكلمنا في هذه الأدلة فقد نتكلم فيما تقتضيه من إيجاب ، وندب ، وإباحة ، وغير ذلك من الأقسام على طريق الجملة ، وليس يلزم على ذلك (٢) أن تكون الأدلة الموصلة إلى فروع الفقه ، الكلام فيها كلاما في أصول الفقه (٣) ، لأن هذه الأدلة أدلة على تعيين المسائل ، والكلام في الجملة غير الكلام في التفصيل ، وليس المراد بذلك ما لا يتم العلم بالفقه إلا معه ، لأنه لو كان كذلك لزم أن يكون الكلام في حدوث الأجسام ، وإثبات الصانع ، والعلم بصفاته ، وإيجاب عدله ، وتثبيت الرسالة ، وتصحيح النبوة ، كلاما في أصول الفقه ، لأن العلم به لا يتم من دون العلم بجميع ذلك ، وذلك لا يقوله أحد ، فعلم بهذه الجملة أن المراد بهذه العبارة ما قلناه.

والأصل في هذه الأصول الخطاب ، أو ما كان طريقا إلى إثبات الخطاب ، أو ما كان الخطاب طريقا إليه.

فأما الخطاب : فهو الكلام الواقع على بعض الوجوه ، وليس كل كلام خطابا ،

__________________

(١) فإذا.

(٢) عليها.

(٣) الكلام على ما في أصول الفقه.

٧

وكل خطاب كلام.

والخطاب يفتقر في كونه كذلك إلى إرادة المخاطب ، لكونه خطابا لمن هو خطاب له ومتوجه إليه ، لأنه قد يوافق الخطاب في جميع صفاته من وجود ، وحدوث ، وصيغة ، وترتيب ما ليس بخطاب ، فلا بد من أمر زائد ، وهو ما قلناه.

والكلام في الخطاب ، كلام في بيان أدلة الكتاب ، والسنة ، وذلك ينقسم خمسة أقسام :

أحدها : الكلام في الأوامر والنواهي.

والثاني : الكلام في العموم والخصوص.

والثالث : الكلام في المطلق والمقيد.

والرابع : الكلام في المجمل والمبين.

والخامس : الكلام في الناسخ والمنسوخ.

أما ما هو طريق إلى إثبات الخطاب من هذه الطرق ، فهو قسم واحد ، وهو الكلام في الأخبار ، وبيان أقسامها.

وأما ما الخطاب طريق إليه ، فهو أيضا قسم واحد ، وهو الكلام في أحكام الأفعال.

وألحق قوم بهذا القسم الكلام في الإجماع ، والقياس ، والاجتهاد ، وصفة المفتي والمستفتي ، والحظر ، والإباحة.

وذلك غير صحيح على قاعدة مذاهبنا ، لأن الإجماع عندنا إذا اعتبرناه ، من حيث كان فيه معصوم ، ولا يجوز عليه الخطأ ، ولا يخلو الزمان منه ، وطريق ذلك العقل دون السمع ، فهو خارج عن هذا الباب.

وأما القياس والاجتهاد (١) فعندنا أنهما ليسا بدليلين ، بل محظور استعمالهما ،

__________________

(١) يقول العلامة الشهيد السيد محمد باقر الصدر (ره) في تفسير مصطلح الاجتهاد وبيان الفارق بين مصطلح الاجتهاد عند فقهاء مدرسة الإمامية وعند أهل السنة في كتابه (دروس في علم الأصول : ١ ـ ١٥٧ ـ ١٥٤).

[(الاجتهاد) في اللغة مأخوذة من (الجهد) وهو «بذل الوسع للقيام بعمل ما» وقد استعملت هذه الكلمة ـ لأول مرة ـ على الصعيد الفقهي للتعبير بها عن قاعدة من القواعد التي قررتها بعض مدارس الفقه السني وسارت على أساسها وهي القاعدة القائلة «إن الفقيه إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا ولم يجد نصا يدل عليه

٨

__________________

ـ في الكتاب أو السنة رجع إلى الاجتهاد بدلا عن النص». و (الاجتهاد) هنا يعني التفكير الشخصي ، فالفقيه حيث لا يجد النص يرجع إلى تفكيره الخاصّ ويستلهمه ويبني على ما يرجح في الكتاب أو السنة ويستدل بهما معا ، كذلك يستند في حالات عدم توفر النص إلى الاجتهاد الشخصي ويستدل به. وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السني وعلى رأسها مدرسة أبي حنيفة ، ولقي في نفس الوقت معارضة شديدة من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام والفقهاء الذين ينتسبون إلى مدرستهم. وتتبع كلمة (الاجتهاد) يدل على أن الكلمة حملت هذا المعنى وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الأئمة إلى القرن السابع ، فالروايات المأثورة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تذم الاجتهاد [وسائل الشيعة : باب ٦ من أبواب صفات القاضي] وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الّذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدرا من مصادر الحكم ، وقد دخلت الحملة ضد هذا المبدأ الفقهي دور التصنيف في عصر الأئمة أيضا والرّواة الذين حملوا آثارهم ، وكانت الحملة تستعمل كلمة (الاجتهاد) غالبا للتعبير عن ذلك المبدأ وفقا للمصطلح الّذي جاء في الروايات ، فقد صنف عبد الله بن عبد الرحمن الزبيري كتابا أسماه «الاستفادة في الطعون على الأوائل والرد على أصحاب الاجتهاد والقياس» وصنف هلال بن إبراهيم بن أبي الفتح المدني [الدلفي] كتابا في الموضوع باسم كتاب «الرد على من رد آثار الرسول واعتمد نتائج العقول» وصنف في عصر الغيبة الصغرى أو قريبا منه إسماعيل بن علي بن إسحاق بن أبي سهل النوبختي كتابا في الرد على عيسى بن أبان في الاجتهاد ، كما نصّ على ذلك كله النجاشي صاحب الرّجال في ترجمة كل واحد من هؤلاء. وفي أعقاب الغيبة الصغرى نجد الصدوق في أواسط القرن الرابع يواصل تلك الحملة ، ونذكر له ـ على سبيل المثال ـ تعقيبه على قصة موسى والخضر إذ كتب يقول : «... فإذا لم يصلح موسى للاختيار ـ مع فضله ومحله ـ فكيف تصلح الأمة لاختيار الإمام وكيف يصلحون لاستنباط الأحكام الشرعية واستخراجها بعقولهم الناقصة وآرائهم المتفاوتة؟!». وفي أواخر القرن الرابع يجيء الشيخ المفيد فيسير على نفس الخطّ ويهجم على الاجتهاد ويكتب كتابا في ذلك باسم «النقض على ابن الجنيد في اجتهاد الرّأي». ونجد المصطلح نفسه لدى السيد المرتضى في أوائل القرن الخامس إذ كتب في «الذريعة» يذم الاجتهاد ويقول : «إن الاجتهاد باطل ، وإن الإمامية لا يجوز عندهم العمل بالظن ولا الرّأي ولا الاجتهاد» ، واستمر هذا الاصطلاح في كلمة (الاجتهاد) بعد ذلك أيضا فالشيخ الطوسي الّذي توفي في أواسط القرن الخامس يكتب في كتاب «العدة» قائلا : «وأما القياس والاجتهاد فعندنا أنهما ليسا بدليلين ، بل محظور في الشريعة استعمالهما» وفي أواخر القرن السادس يستعرض ابن إدريس في مسألة تعارض البينتين من كتابه «السرائر» عددا من المرجحات لإحدى البينتين على الأخرى ثم يعقب ذلك قائلا : «والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا». وهكذا تدل هذه النصوص بتعاقبها التاريخي المتتابع على أن كلمة (الاجتهاد) كانت تعبيرا عن ذلك المبدأ الفقهي المتقدم إلى أوائل القرن السابع ، وعلى هذا الأساس اكتسبت

٩

ونحن نبين ذلك فيما بعد ، ونبين أيضا ما عندنا في صفة المفتي والمستفتي.

وأما الكلام في الحظر والإباحة ، فعندنا وعند أكثر من خالفنا طريقه العقل أيضا (١) ، فهو ـ أيضا ـ خارج من هذا الباب.

والأولى في تقديم هذه الأصول الكلام في الأخبار ، وبيان أحكامها ، وكيفية

__________________

ـ الكلمة لونا مقيتا وطابعا من الكراهية والاشمئزاز في الذهنية الفقهية الإمامية نتيجة لمعارضة ذلك المبدأ والإيمان ببطلانه.

ولكن كلمة (الاجتهاد) تطورت بعد ذلك في مصطلح فقهائنا ولا يوجد لدينا الآن نصّ شيعي يعكس هذا التطور أقدم تاريخا من كتاب «المعارج» للمحقق الحلي المتوفى سنة ٦٧٦ ه‍ إذ كتب المحقق تحت عنوان حقيقة الاجتهاد يقول : «وهو في عرف الفقهاء بذل الجهد في استخراج الأحكام الشرعية ، وبهذا الاعتبار يكون استخراج الأحكام من أدلة الشرع اجتهادا لأنها تبتني على اعتبارات نظرية ليست مستفادة من ظواهر النصوص في الأكثر ، سواء كان ذلك الدليل قياسا أو غيره ، فيكون القياس على هذا التقرير أحد أقسام الاجتهاد.

فإن قيل : يلزم ـ على هذا ـ أن يكون الإمامية من أهل الاجتهاد؟

قلنا : الأمر كذلك لكن فيه إيهام من حيث إن القياس من جملة الاجتهاد ، فإذا استثنى القياس كنا من أهل الاجتهاد في تحصيل الأحكام بالطرق النظرية التي ليس أحدها القياس» ويلاحظ على هذا النص بوضوح أن كلمة (الاجتهاد) كانت لا تزال في الذهنية الإمامية مثقلة بتبعة المصطلح الأول ، ولهذا يلمح النص إلى أن هناك من يتحرج من هذا الوصف ويثقل عليه أن يسمي فقهاء الإمامية مجتهدين. ولكن المحقق الحلي لم يتحرج من اسم الاجتهاد بعد أن طوره أو تطور في عرف الفقهاء تطويرا يتفق مع مناهج الاستنباط في الفقه الإمامي ، إذ بينما كان الاجتهاد مصدرا للفقيه يصدر عنه ودليلا يستدل به كما يصدر عن آية أو رواية ، أصبح في المصطلح الجديد يعبر عن الجهد الّذي يبذله الفقيه في استخراج الحكم الشرعي من أدلته ومصادره فلم يعد مصدراً من مصادر الاستنباط ، بل هو عملية استنباط الحكم من مصادره التي يمارسها الفقيه. والفرق بين المعنيين جوهري للغاية ، إذ كان على الفقيه ـ على أساس المصطلح الأول للاجتهاد ـ أن يستنبط من تفكيره الشخصي وذوقه الخاصّ في حالة عدم توفر النص ، وأما المصطلح الجديد فهو لا يسمح للفقيه أن يبرر أي حكم من الأحكام بالاجتهاد لأن الاجتهاد بالمعنى الثاني ليس مصدرا للحكم بل هو عملية استنباط الأحكام من مصادرها].

(١) زيادة في نسخة الأصل.

١٠

أقسامها ، لأنها الطريق إلى إثبات الخطاب. ثم الكلام في أقسام الخطاب. ثم الكلام في الأفعال لأنها متأخرة عن العلم بالخطاب. ثم الكلام في تتبع ما عده المخالف أصلا وليس منه.

ولما كان المبتغى (١) بهذه الأصول العلم ، فلا بدّ من أن نبين فصلاً يتضمن بيان حقيقته ، و (٢) الفرق بينه وبين الظن وغيره ، وما يصح من ذلك أن يكون مطلوباً ، وما لا يصح.

ولا بد أيضا من بيان ما لا يتم العلم إلا به : من حقيقة النّظر ، وشرائط الناظر ، وما يجب أن يكون عليه ، وبيان معنى الدلالة ، وسائر متصرفاته ، واختلاف العبارة عنه.

ولما كان الأصل في هذا الباب الخطاب ، وكان ذلك كلاما فلا بدّ من بيان فصل يتضمن معنى الكلام ، وبيان الحقيقة منه والمجاز ، وانقسام أنواعه.

ولما كان الكلام صادرا من متكلم ، فلا بدّ من بيان من يصح الاستدلال بكلامه ومن لا يصح ، ويدخل في ذلك الكلام فيما يجب أن يعرف من صفات الله تعالى وما لا يجب ، وصفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصفات الأئمة القائمين مقامه الذين يجري قولهم مجرى قوله عليه‌السلام.

ونحن نبين جميع ذلك في أبوابه على غاية من الاختصار حسب ما تقتضيه الحاجة ، ونقتصر (٣) فيما نذكره على الإشارة إلى ذكر ما ينبغي أن يعتمد عليه ، ويحصل العلم به دون أن يقرن (٤) ذلك بالأدلة المفضية إليه ، لأن لشرح ذلك موضعا غير هذا ، والمطلوب من هذا الكتاب بيان ما يختصه من تصحيح أصول الفقه التي ذكرناها ، وبيان الصحيح منها والفاسد ، إن شاء الله تعالى.

__________________

(١) المبتني.

(٢) زاد في الأصل : ثم.

(٣) يفتقر.

(٤) يقترن.

١١

فصل ـ [٢]

«في بيان حقيقة العلم ، وأقسامه ، ومعنى الدّلالة ، وما يتصرّف منها»

حدّ العلم ما اقتضى سكون النّفس.

وهذا الحدّ أولى من قول من قال : «إنّه اعتقاد للشّيء على ما هو به ، مع سكون النّفس» لأنّ الّذي يبيّن به العلم من غيره من الأجناس هو سكون النّفس ، دون كونه اعتقادا ، لأنّ الجهل أيضا اعتقاد ، وكذلك التّقليد.

ولا يبيّن أيضا بقولنا : «للشّيء على ما هو به» لأنّه يشاركه فيه التّقليد أيضا ، إذا كان معتقده على ما هو به. والّذي يبيّن به هو سكون النّفس ، فينبغي أن نقتصر (١) عليه ، وليس من حيث أنّ ما اقتضى سكون النّفس لا يكون إلّا اعتقادا للشّيء على ما هو به ، ينبغي أن يذكر في الحدّ.

كما أنّه لا بدّ من أن يكون عرضا ، وموجودا ، ومحدثا ، وحالاً في المحلّ ، ولا يجب ذكر ذلك في الحدّ من حيث لا يبيّن به ، فكذلك ما قلناه.

ولا يجوز أن يحدَّ العلم بأنّه المعرفة ، لأنّ المعرفة هي العلم بعينه ، ولا (٢) يجوز

__________________

(١) يقتصر.

(٢) فلا.

١٢

أن يحدّ الشّيء بنفسه.

ولا يجوز أن يحدّ بأنّه إثبات ، لأنّ الإثبات في اللّغة هو الإيجاب (١) ، ولأجل ذلك يقولون : «أثبتّ السّهم في القرطاس» أيّ أوجبته (٢) فيه. ويعبَّر أيضا في الخبر عن وجوب الشّيء كما يقال في المجبّرة (٣) أنّهم مثبِّتة.

ثمّ إنّ ذلك ينتقض بالتقليد ، لأنّه أيضا إثبات للشّيء على ما هو به ، إن أريد بهذه اللّفظة الاعتقاد ، وإن أريد بها العلم فقد حدّ الشيء بنفسه.

والعلوم على ضربين : ضروريّ ، ومكتسب.

فحدّ الضّروري : ما كان من فعل غير العالم به ، على وجه لا يمكنه دفعه عن نفسه بشكّ أو شبهة.

وهذا الحدّ أولى ممّا قاله بعضهم من أنّه : «ما لا يمكن العالم به دفعه عن نفسه بشكّ أو شبهة إذا انفرد» (٢) لأنّ ذلك تحرّز ممّن (٥) اعتقد بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ زيدا في الدّار ، ثمّ شاهده ، فإنّه لا يمكنه أن يدفع ذلك عن نفسه ، و (٦) مع هذا فهو اكتساب.

__________________

(١) في أغلب مصادر اللغة التي بين أيدينا أنّ «الإثبات» بمعنى الدوام ، والاستقرار ، والإقامة ، والتّحقّق ، والتأكّد ، ولم يرد بمعنى «الإيجاب» ولا يخفى أن الإيجاب من مرادفات المعاني التي ورد ذكرها في المصادر.

(٢) في الأصل : أوجدته.

(٣) المجبّرة أو الجبريّة ، والجبر هو نفي الفعل حقيقة عن العبد وإضافته إلى الله سبحانه وتعالى ، والجبريّة مذهب ، وهم على أصناف ، فالجبريّة الخالصة هي التي لا تثبت للعبد فعلا ولا قدرة على الفعل أصلا ، والجبريّة المتوسّطة هي التي تثبت للعبد قدرة غير مؤثّرة أصلا.

(٤) * قوله : «إذا انفرد» يعني إن انفرد ، والمراد بالانفراد الانفراد عن غير ما أوجبه ممّا يوجب علما لا يمكن دفعه عن نفسه ، أو ممّا يوجب العلم مطلقا ، أو من جميع ما عداه. والعلم الحاصل بالبرهان إذا انضمّت إليه براهين كثيرة دالّة على ما تعلّق به منفرد على الأوّل دون الثانيين.

(٣) لمن.

(٤) في الأصل : أو.

١٣

وهذا لا يصحّ عندنا ، لأنّ العلم بالبلدان ، والوقائع ، وما جرى مجراهما ، هذا الحدّ موجود فيه ، وعند كثير من أصحابنا مكتسب قطعا ، وعند بعضهم هو على الوقف ، فلا يصحّ ذلك على الوجهين معاً.

على أنّ ذلك إنّما يصحّ على مذهب من يقول ببقاء العلوم ، فأمّا من قال أنّ العلم لا يبقى فلا معنى لهذا الكلام عنده ، لأنّه لا يبقى وقتين ، فيصحّ طروّ الشّبهة في ذلك أو الشّك ، فيعتبر صحّة انتفائه بهما أولا ، وإنّما يتجدَّد حالا بعد حال ، اللهم إلّا أن يراد بذلك أنّه يصحّ أن يمنع منه ابتداء ، فإن أريد به ذلك فذلك يوجد في العلم الاستدلاليّ الّذي لم يقارنه الضروري (١) *، لأنّه في حال حصول العلم أيضا لا يمكنه دفعه عن نفسه وإن لم يكن ضروريّا. وإنّما يصحّ أن يدخل الشّبهة أو الشّك عليه فيمنعا من وجود مثله في الثّاني ، أو يدخلا في طريقه قبل حصوله ، فيمنعا من توليده ، فأمّا حال حصوله فلا يصحّ على حال ، فعلم بذلك أنّ الصَّحيح ما قلناه.

اللهمّ [إلّا] أن يراد بذلك ما أمكن ذلك فيه على وجه ، فإن أريد ذلك كان صحيحا على مذهبه ، ولا يصحّ ذلك على مذهبنا ، لما قلناه من العلم الحاصل بالبلدان والوقائع.

والعلوم الضّروريّة على ضربين :

ضرب منهما : يحصل في العاقل ابتداء (٢) *، وهو مثل العلم بأنّ الموجود لا يخلو من أن يكون قديما أو غير قديم ، وأنّ الجسم الواحد لا يخلو من أن يكون في مكان أو لا يكون فيه ، وأنّ الذات لا بدّ من أن يكون على صفة أو لا يكون عليها ، وتعلّق

__________________

(١) * قوله : «الّذي لم يقارنه الضروري» أي لم يقارنه ما يقتضي العلم الضروري.

(٢) * قوله : «ابتداء» المراد بحصوله ابتداء أن لا يتوقّف على الإدراك بقرينة المقابلة ، ولا ينافي ذلك توقفه على تصوّر النسبة ، أو عليه وعلى الواسطة اللازمة على القول بضروريّة المتوقّف عليها ، والمراد بالإدراك إدراك الحواس الظاهرة والباطنة فيدخل فيه البديهيّات والفطريّات عند القائل بضروريّتها والوجدانيّات في الغير المتوقّفة على إدراك الحواس الباطنة ، وهي ما نجده لا بالآلات البدنية كشعورنا بذواتنا وأحوالنا.

١٤

الكتابة بالكاتب ، والبناء بالباني ، وما يجري مجرى ذلك ، ممّا يعدّ (١) في كمال العقل ، وهي كثيرة.

والضرب الثّاني : ما يقف على شرط ، وهو العلم بالمدركات ، لأنّ العلم بها ضروري ، إلّا أنّه واقف على شرط ، وهو الإدراك مع ارتفاع اللّبس ، وهذا العلم واجب حصوله مع الشّرط الّذي ذكرناه في العاقل ، لأنّه ممّا يدخل به في كونه كامل العقل ، ومتى لم يحصل ، أخلّ ذلك بكمال عقله.

وزاد قوم في هذا القسم الّذي يقف على شرط ـ وإن لم يكن ذلك واجبا ـ العلم بالصّنائع عند الممارسة ، والعلم بالحفظ عند الدّرس.

ولنا في ذلك نظر ، ليس هذا موضع الكلام فيه.

وذكروا فيه أيضا العلم بمخبر الأخبار المتواترة ، ونحن نبيّن ما عندنا فيها (٢) عند الكلام في الأخبار إن شاء الله تعالى.

وأمّا العلم المكتسب : فحدّه أن يكون فعل من العالم به ، وهذا الحدّ أولى من حدّ من قال إنّه : «ما أمكن العالم به دفعه عن نفسه لشبهة في دليله ، أو طريقه إذا انفرد» ، لأنّ ذلك لا يصحّ على مذهبنا ، على ما قلناه من العلم بأخبار البلدان والوقائع.

والعلم المكتسب على ضربين :

أحدهما : لا يقع إلّا متولّدا عن نظر في دليل.

والآخر : يفعله العالم في نفسه ابتداء.

فالقسم الأوّل على ثلاثة أضرب :

أحدها : أن ينظر في شيء فيحصل له العلم بغيره ، نحو نظرنا في الحوادث لنعلم أنّ لها محدثا ، وهذا الوجه يختصّ العقليّات ، لأنّها الطّريق إلى إثبات ذوات

__________________

(١) نعدّه.

(٢) فيه.

١٥

الأشياء ، دون الشَّرعيّات التي هي طريق إلى إثبات أحكامها.

وثانيها : أن ينظر في حكم لذات ، فيحصل له العلم بصفة لها ، وذلك نحو نظرنا في صحّة الفعل من زيد ، فيحصل لنا العلم بأنّه قادر.

وهذا أولى ممّا قاله قوم : من أنّه ينظر في شيء فيحصل له العلم بغيره ، ومثّل ذلك بالنظر في فعل زيد ، فيحصل له العلم بأنّه قادر.

وإنّما قلنا أنّه أولى ، لأنّ الّذي يدلّ على كونه قادرا ، صحّة الفعل منه على وجه دون وقوعه ، فتمثيله بما قلناه أولى.

والضرب الثالث : أن ينظر في حكم لذات ، فيحصل لنا العلم بكيفيّة صفة لها ، نحو نظرنا في جواز العدم على بعض الذوات ، فيحصل لنا العلم بأنّها محدثة.

وهذا الّذي ذكرناه أولى ممّا قاله قوم من أنّا ننظر في صفة لذات ، فيحصل لنا العلم بصفة أخرى لها ، لأنّ جواز العدم ليس هو صفة ، وإنّما هو حكم من أحكامها ، وكونها محدثة ليس أيضا بصفة ، وإنّما هو كيفيّة في الوجود ، فعلم بذلك أنّ ما قلناه أولى.

ومثاله في الشّرعيّات : أن ننظر في أنّ شيئا منها واجب ، فيحصل لنا العلم بأنّ له جهة وجوب.

وأمّا الضرب الثاني من العلوم المكتسبة التي تحصل من غير نظر : فهو ما يفعله المنتبه من نومه ، وقد سبق له النّظر في معرفة الله تعالى ، فحينئذ يعقل (١) العلم عند ذكره الأدلّة.

وطريق النّظر في الوجوه الثلاثة ، الّتي قدّمنا ذكرها.

وقال قوم : في العلوم الّتي تقع عن نظر ما يسمّى استدلالا ، وهو ما يكون المستدلّ به غير المستدلّ عليه.

ومنه ما يسمّى اكتسابا فقط ، وإطلاق الاكتساب على جميع ذلك لا خلاف فيه.

__________________

(١) نعقل.

١٦

ولا يمتنع أن يسمّى أيضا جميع ذلك استدلالا ، وإنّما يختصّ بتسميته الاكتساب ما يفعله ابتداء ، على ما بيّناه عند الانتباه ، فإنّ ذلك لا يجوز أن يسمّى استدلالا.

ومن حقّ العلوم المكتسبة أن تتأخّر عن الضروريّة ، لأنّها فرع عليها ، أو كالفرع.

وأمّا الظنّ : فعندنا وإن لم يكن أصلا في الشّريعة تستند الأحكام إليه (١) *، فإنّه تقف أحكام كثيرة عليه ، نحو تنفيذ الحكم عند الشّاهدين ، ونحو جهات القبلة ، وما يجري مجراها ، فلا بدّ أن نذكر (٢) حدّه.

وحدّه : «ما قوي عند الظّان كون المظنون على ما ظنّه ، ويجوز مع ذلك كونه على خلافه».

وهذا أولى ممّا قاله قوم من أنّه : «ما أوجب كون من وجد في قلبه ظنا» (٣) ، لأنّه بهذا (٤) لا يبين (٥) من غيره ، لأنّه يحتاج بعد إلى تفسير ، فالأولى ما ذكرناه.

وبما قلناه يبين من العلم ، لأنّ العالم لا يجوز كون ما علمه على خلافه. وكذلك به يتميّز من الجهل ، لأنّ الجاهل يتصوّر نفسه بصورة العالم ، فلا يجوّز خلاف ما اعتقده ، وإن كان يضطرب عليه حاله فيما (٦) يجهله ، من حيث لم يكن ساكن النّفس ، ولأنّه اعتقاد لا على ما هو (٧) * به ، وليس كذلك الظنّ.

__________________

(١) * إشارة إلى أنّه مجمع عليه بين الإماميّة وانّ المخالفين هم القائلون بصحّة الاجتهاد في نفس الأحكام الفقهيّة ، والأصل هنا الدليل ، والاستناد الاعتماد الكلّي ، والمراد بالأحكام الأحكام الفقهيّة الواصليّة. وقوله : (تستند الأحكام إليه) تفسير لكونه أصلا يعني كون الحكم الفقهي الواقعي مظنونا ليس دليلا على الحكم الفقهي الواصلي ، أي ليس الاجتهاد من أدلّة الفقه ومستلزما للعلم بالفقه في مسألة من المسائل.

(٢) يذكر.

(٣) ظانا.

(٤) أي بهذا التعريف المذكور ثانيا لا يتميّز الظّن عن غيره إلّا بتوضيح وتفسير.

(٥) يتبيّن.

(٦) ممّا.

(٧) قوله : «ولأنّه اعتقاد» كذا في النسخ ، وكأنّه عطف تفسير لقوله (من حيث لم يكن ساكن النّفس) ، والأولى

١٧

وأمّا المقلّد (١) * : فإن كان يحسن الظّن بمن قلّده (٢) * فهو سيظنّ أنّ الأمر على ما قلّده فيه.

وإذا قلّد من لا يجوز عليه الخطأ ، فكذلك لا يجوز كون ما قلّده فيه على خلاف ما قلّده.

وإذا قلّد من لا يقوى في ظنّه حال ما قلّده فيه ففارق الظّن ، لأنّ ذلك يكون قد سبق إلى اعتقاد لا مزيّة لكونه على ما اعتقده ، أو على خلافه (٣) ، فقد فارق حال الظّن.

وأمّا الشّاك : فهو الخالي من اعتقاد الشّيء على ما هو به ، ولا على ما هو به مع خطوره بباله ، وتجويزه كلّ واحدة من الصِّفتين عليه.

وأمّا الدلالة : فهي ما أمكن الاستدلال بها على ما هي دالة (٤) عليه ، إلّا أنّها لا تسمّى بذلك إلّا إذا قصد فاعلها الاستدلال.

وإنّما قلنا ذلك لأنّ ما لا يمكن الاستدلال به ، لا يكون دلالة ، ألا ترى أنّ طلوع الشّمس من مشرقها لا يكون دلالة على النبوّة ، لأنه لا يمكن ذلك فيها من حيث كان ذلك معتاداً ، وطلوعها من مغربها يكون دلالة ، لإمكان ذلك فيه.

وأثر اللّصّ لا يسمّى دلالة ، وإن أمكن الاستدلال به عليه ، من حيث لم يقصد بذلك استدلال (٥) عليه ، وإن سمِّي ذلك دلالة على بعض الوجوه فعلى ضرب من

__________________

ترك الواو ليكون علّة له.

(١) * قوله : «وأمّا المقلّد» المراد بالتقليد العمل بقول الغير من حيث انّه قوله ، سواء كان الغير معصوما أو لا ، وعلى الثاني ، سواء كان مظنون الصدق أو لا ، والمقصود بهذا الكلام بيان أنّ حال المقلد ليس منحصرا في الظنّ بالحكم الفقهي الواقعي فيما قلّد فيه ، وإن كان الغالب ذلك ، ولذا قدّمه على القسمين الآخرين ، بل قد يكون عالما به ، وقد يكون غير ظان به ولا عالم به.

(٢) * قوله : (فإن كان يحسن الظنّ) أيّ إن كان ظانّا بأنّ مفتيه لم يشهد إلّا بالحقّ.

(٣) وعلى خلافها.

(٤) في الأصل : دلالة.

(٥) الاستدلال.

١٨

المجاز ، لأنّه لو كان حقيقة لوصف بأنّه دالّ ، وذلك لا يقوله أحد ، لأنّا نعلم أنّه يجتهد في إخفاء أمره ، وأن لا يعلم به ، فكيف يجوز وصفه بأنّه دالّ! ، وتستعمل هذه اللّفظة في العبارة عن الدّلالة ، ولهذا يقول أحد الخصمين لصاحبه أعدّ دلالتك ، وإنّما يريد به كيفيّة عبارتك عنها ، وذلك مجاز.

وإنّما استعير ذلك من حيث كان السّامع لذلك إذا تأمّله كان أقرب إلى معرفة المدلول عليه ، كما أنّه عند النّظر في الدّلالة كذلك.

وتوصف الشّبهة بأنّها دلالة مجازا ، ولهذا يقال دلالة المخالف.

ومن حقّ الدّلالة أن تكون معلومة للمستدلّ بها على الوجه الّذي تدلّ على ما تدلّ عليه ، حتّى يمكنه الاستدلال بها ، ولا فرق بين أن يعلم ذلك ضرورة أو استدلالا.

ولا يجب في الأدلّة أن تكون موجودة ، ولأجل ذلك صحّ الاستدلال (١) * بمجيء الشّجرة ، وحنين الجذع على نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبكلامه على الأحكام ، وإن كان ذلك كلّه معدوما.

ولا يجب في الأدلّة أن يعلم بدلالة أخرى ، ويجوز ذلك فيها ، إلّا أنّها لا بدّ أن تنتهي إلى دلالة يعلم صفتها ضرورة ، وإلّا أدّى إلى ما لا يتناهى من الأدلّة.

والدّال : هو من فعل الدّلالة ، لأنّه مشتق منها ، فجرى في ذلك مجرى الضّارب في أنّه مشتق من الضّرب ، وعلى هذا يصحّ أن يقال : إنّ الله تعالى دلّنا على كذا ، فهو دالّ ، وكذلك (٢) النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دلّنا على كذا وكذا فهو دالّ. وقد يتجوَّز في ذلك فيعبّر به عن الدّلالة فيقولون : قول الله تعالى ، وقول النبي (٣) دالّ على كذا وكذا من الأحكام ، وإن كان الدّال في الحقيقة هو الله تعالى والرّسول على ما بينّاه ،

__________________

(١) * قوله : (صحّ الاستدلال) أي استدلالنا ، وظاهر هذا أنّ العلم الحاصل بالمعجز نفسه كسبيّا كما في زماننا عند من يذهب إلى كسبيّة التواتر.

(٢) وكذا.

(٣) الرسول.

١٩

وكذلك يتجوّز في العبارة عن الدّلالة.

والدليل : هو الدّال في الأصل قال الشّاعر :

إذا الدّليل استاف أخلاق الطرق (١)

فوصف الدّالّ على الطّريق بأنّه دليل ، من حيث فعل أشياء استدلّ بها على الموضوع المقصود. وقد يتجوَّز في ذلك فيستعمل في الدّلالة ، فيقولون في الأجسام إنّه دليل على خالقها ، وبأنّ القرآن دليل على الأحكام. ولا يمتنع أن يقال أيضا إنّه حقيقة فيهما (٢) *.

والمدلول : هو الّذي نصبت له الدّلالة ليستدلّ (٣) بها ، وهو المكلّف ، وقد يتجوَّز بذلك في المدلول عليه فيقولون : هذا مدلول الدّلالة ، وذلك مجاز.

والمدلول عليه : هو ما يؤدّى النّظر في الدّلالة إلى العلم به.

والمستدلّ : هو الناظر ، ولا يسمّى بذلك إلّا إذا فعل الاستدلال.

والمستدلّ به : هو الدّلالة بعينها ، ولا يسمّى بذلك قبل الاستدلال بها.

والمستدلّ عليه : هو المدلول عليه بعينه ، غير أنّه لا يسمّى بذلك قبل حصول الاستدلال.

والنّظر ينقسم إلى :

تقليب الجارحة الصّحيحة نحو المرئيّ طلبا لرؤيته.

__________________

(١) شطر من الرجز لابن العجّاج ، وهو أبو محمّد رؤبة بن العجّاج ، البصريّ ، التميمي ، وكنيته أبو الحجّاف وأبو العجّاج ، توفّي سنة ١٤٥ ه‍.

إذا : هنا ظرف وليست شرطيّة ، واستاف : شمَّ ، يقال : ساف يسوف سوفا ، إذا شمَّ وذلك بالليل إذا شمّ الدليل التراب. وأخلاق الطرق : الدارس منها التي قد أخلقت ، شبّهها بالثّوب الخلق لأنّ الاستدلال بشمّ التراب يكون في الطرق القديمة التي كثر المشي فيها فيوجد رائحة الأرواث والأبوال.

انظر : «خزانة الأدب ١ : ٨٥ ، لسان العرب ٩ : ١٦٥ ، الأغاني ٢٠ : ٣٤٤ ، وفيات الأعيان ٢ : ٣٠٣».

(٢) * أي في الدال على الطريق ، وفي الدّلالة ، والأوّل حقيقة عرفية لغوية ، والثاني حقيقة في عرف المتكلّمين.

(٣) في الأصل : لتستدل.

٢٠