تهذيب الأصول - ج ٢

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري

تهذيب الأصول - ج ٢

المؤلف:

آية الله السيّد عبد الأعلى السبزواري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة المنار
الطبعة: ٣
الصفحات: ٣٣٨
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين

والصلاة والسّلام على خير خلقه

محمّد وآله الطّيّبين الطّاهرين

مقدّمة

قد تقدم في أول الكتاب أن علم الاصول : هو ما يبحث فيه عن كيفية تعيين الوظيفة ، وما يصح أن يعتذر به لها. ونتائج مسائله لا بدّ وأن تقع في طريق استفادة الوظائف والاعتذار.

والكلام في هذا القسم من الكتاب يقع في ما يصح الاعتذار به عند العقلاء ولم يردع عنه الشارع.

وهو إما عذر بنفسه أو لا ، والثاني إما أن تعتبر العذرية فيه لأجل الكشف الناقص الموجود فيه أو لا. والأول هو القطع ، والثاني الظن ، والثالث الشك الذي يكون موردا لاعتبار الاصول العملية الأربعة.

وإن شئت قلت : الاعتذار إما بما فيه الكشف التام ، أو الكشف الناقص ، أو بما لا كشف فيه.

والمقصود بالقطع والظن والشك هنا ، ما حصل للمجتهد الباحث في الأدلة الفاحص عنها ، لأن ما حصل من هذه الصفات لغيره لا يترتب عليه هذا الأثر قطعا ، فلا يكون من مسائل الفن رأسا ، واعتبار القطع لكل من حصل له في

٥

الجملة. وكذا اعتبار الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية لغير المجتهد أيضا لا يصلح لأن يكون من مسائل الاصول ، إذ ليس كلما اعتبر لكل أحد من مسائله ، بل هو نحو اعتبار خاص يتوقف على مقدمات مخصوصة من البحث والفحص واليأس ، والوقوع في طريق الاستنتاج الفرعي ، وغير المجتهد بمعزل عن ذلك كله.

ثم إن الحق تثليث الأقسام ، كما مرّ لأن المقام من قبيل ذكر الفهرس لما يأتي من المباحث المتعلّقة بالقطع والظن والشك ، فينبغي ذكر الثلاثة بالخصوص إرشادا إلى الموضوعات الآتية.

إن قلت : الظن غير المعتبر بحكم الشك ، والمعتبر منه بحكم القطع مع أن متعلّقهما إنما هو الحكم الفعلي ، وهو إما مقطوع به أو لا ، فلا وجه للتثليث.

قلت : أما الإلحاق حكما فهو لا يضرّ بالتعدد ـ موضوعا ـ الذي لا بد من ذكره في المقام مقدّمة للمباحث الآتية.

وأما أن متعلّقهما الحكم الفعلي ، وهو إما مقطوع به أو لا ، فليس ذلك إلا مجرد التغيير في التعبير ، لاشتمال قول (أو لا) على الظن والشك ، ولذا فسّره بهما في الكفاية ، فراجع. مع أن الحكم الفعلي معتبر طريقا إلى الواقعي ولا موضوعية فيه بوجه ، فلا وجه لذكره بالخصوص.

ثم إنه مع حصول الشك يتحقق موضوع الاصول العملية ، والمتداول منها في الفقه الأربعة المعروفة : الاستصحاب ، والاحتياط ، والتخيير ، والبراءة. وهي من الاصول المعتبرة العقلائية التي لم يردع عنها الشرع ، بل أمضاها ، ولا تختص بباب دون باب بل تجري في جميع الأبواب ، وحصرها في الأربعة استقرائي ، ويصح أن يكون عقليا بالعرض ، كما يأتي.

وهناك أصول اخرى ليست بذلك العموم والسريان فتختص ببعض الأبواب فقط ، كأصالة احترام المال والعرض والنفس ، وأصالة الحرية ، وأصالة

٦

الصحة ، وأصالتي الطهارة والحلية ، وأصالة عدم التذكية ، إلى غير ذلك من الاصول المعتبرة.

ويمكن تقرير حصر مجاري الاصول الأربعة المعروفة بوجه عقلي ، بأن يقال : الشك إما أن تلحظ فيه الحالة السابقة أو لا تلحظ ، وعلى الثاني إما أن يعلم بالتكليف ولو بجنسه أو لا يعلم. وعلى الأول إما أن يمكن الاحتياط أو لا يمكن. والأول مجرى الاستصحاب ، والثاني مجرى الاحتياط ، والثالث مجرى التخيير ، والرابع مجرى البراءة.

وحيث أن هذه الاصول الأربعة مختصة بمجاريها اختصاص العرض بموضوعه ، يكون الحصر فيها عقليا ، لكن بالعرض لا بالذات ـ كما لا يخفى ـ وليس في البحث عن كيفية الحصر مطلقا ثمرة عملية ، بل ولا علمية.

ثم إن الاستصحاب برزخ بين الأمارة المحضة والأصل المحض ، فيصح أن يقال : إن ما اعتبر إما أمارة محضة ، أو أصلا محضا ، أو برزخا بينهما. والأول كخبر الواحد مثلا ، والثاني كالبراءة ، والثالث كالاستصحاب.

٧
٨

المقصد الأول

ما يكون معتبرا في نفسه

٩
١٠

وهو القطع

والبحث فيه عن امور :

الأمر الأول

وفيه جهات من البحث :

الاولى : المعروف أن مبحث القطع ليس من مسائل فن الاصول ، لعدم وقوعه في طريق استنباط الحكم الفرعي ، لأنه إذا قطع بحكم أو موضوع يقال : هذا واجب ، أو هذا ماء ـ مثلا ـ ولا يقال : هذا مقطوع الوجوب أو مقطوع المائية ، لكونه بالنسبة إلى متعلّقه طريقا من دون أن يكون مأخوذا فيه بوجه من الوجوه.

ويرد عليه : ما مرّ في أول الكتاب من أن علم الاصول ما يبحث فيه عن كيفية استفادة الوظائف العملية ، وما يصح أن يعتذر به لها ، ولا ريب في أن القطع مما يصح الاعتذار به ، بل هو الأصل فيه ، فلا فرق بينه وبين الأمارات والاصول العملية من جهة صحة الاعتذار في الوظائف العملية ، التي هي المناط في المسألة الاصولية ، ففي المقام يقال : هذا واجب للقطع به ، وكلما وجب للقطع به يصح الاعتذار به ، فهذا يصح الاعتذار به ، وكذا في القطع بالنسبة إلى الموضوع ، كالمائية ونحوها.

الثانية : لا ريب في أن القطع ، كسائر الصفات النفسانية له حقيقة خاصة وآثار مخصوصة ، وحقيقته الكشف والمرآتية ، وآثاره وجوب العمل على طبقه

١١

واستحقاق العقاب على مخالفته ، وكونه عذرا مع المخالفة للواقع ، قصورا لا تقصيرا ، وهذه الآثار من المرتكزات التي يلتزم بها كل عاقل ، فوجوب العمل على طبقه ليس وجوبا شرعيا ، بل هو من الوجوب الارتكازي العقلي ، كوجوب دفع الضرر.

ويصح تعلّق الجعل الشرعي بهما إثباتا للتأكيد وردعا لمصالح يعرفها الشارع ، بل الظاهر صحة تعلّق الجعل بجهة الكاشفية أيضا للتأكيد وإتمام الحجة ، كما يصح ردع الشارع عنها ، لأن اعتبار الكواشف مطلقا في الشريعة معلق على عدم ردع الشارع عنها ، فالقاطع وإن كان يرى الواقع باعتقاده ولكن الشارع الحكيم له أن يقول : لا اعتبر الواقع ، ولا أريده منك ولا محذور فيه.

ثم إن تحقق القطع بالنسبة إلى القاطع وجعله له إنما هو بالجعل البسيط ، وهو إيجاده بما يوجب حصوله في النفس من ترتيب المقدمات الدخيلة في حصوله.

وأما الجعل المؤلف ـ وهو جعل الحجية والكاشفية له ـ فهو غير معقول ، لأنه إنما يكون بين الشيء وعوارضه المفارقة ، لا بينه وبين ذاتياته ، لأن مناط هذا الجعل إنما هو الفقدان ، ولا يعقل أن يكون الشيء فاقدا لذاتياته ، فلا يعقل الجعل التكويني بين القطع والكشف والحجية لهذه الجهة ـ على المعروف بين الفلاسفة وإن ناقشنا فيه خصوصا بالنسبة إلى مجعولات الله تعالى في محله ـ لا لأنه مستلزم للتسلسل ، كما عن جمع من الاصوليين بدعوى : أن حجية كل شيء لا بد وأن تنتهي إلى العلم ، فإن كانت حجيته مجعولة يلزم التسلسل ، وذلك لأن التسلسل إنما يلزم إن كان جعل الحجية للقطع بنحو القضية الخارجية. وأما إذا كان على نحو القضية الطبيعية ، فلا يلزم ذلك ، كما لا يخفى.

وحيث لا يعقل جعل الحجية للقطع على المشهور ، فلا يعقل سلبها عنه أيضا ، لأن كل ما لا يمكن تعلّق الجعل بوجوده لا يمكن تعلّقه بعدمه أيضا ، لأن

١٢

معنى القدرة ـ كما ثبت في محله ـ هو إن شاء فعل وإن شاء ترك ، فالقدرة تساوي المشية بالنسبة إلى طرفي الوجود والعدم ، وعدم إمكان تعلقها بالنسبة إلى طرف يستلزم عدم إمكانه بالنسبة إلى الطرف الآخر ، كما هو واضح ، هذا كله في الجعل التكويني.

وأما الجعل التشريعي ، فقالوا بعدم إمكانه أيضا ، لأنه لإيجاد الداعي وهو حاصل للقاطع لأجل قطعه ، فيكون الجعل التشريعي لحجية القطع حينئذ من تحصيل الحاصل المحال.

ويردّ : بأنه كذلك لو لم يكن غرض صحيح عقلائي في البين ، كإيجاد الداعى من قبل الشارع أيضا وإتمام الحجة ، وهما من أكمل الأغراض الصحيحة العقلائية ، وأتمها في تشريع الشرائع الإلهية ، فيكون القطع حينئذ ، كسائر الحجج العقلائية التي شملتها عناية الشارع ولو بعنوان عدم الردع ، هذا بالنسبة إلى جعل الحجية الشرعية للقطع.

وأما بالنسبة إلى سلب الحجية عنه ، فقد قالوا أيضا بأنه لا يمكن للشارع سلب الاعتبار والحجية عن القطع ، لأنه إما أن يحكم حينئذ في مورده بعين الحكم المقطوع به ، وهو تحصيل للحاصل ، أو بمثله ، وهو من اجتماع المثلين في نظر القاطع ، أو بضده ، وهو من اجتماع الضدين فيه ، أو لا يحكم بشيء أبدا ، فيلزم خلوّ الواقعة عن الحكم ، وهو خلاف ما تسالموا عليه من عدم جوازه.

ويردّ الأول بما مرّ من إمكان تصوير الغرض الصحيح العقلائي فيه ، فيخرج من موضوع تحصيل الحاصل حينئذ ، والثاني والثالث بأن الأحكام اعتبارات عقلائية ، ويعتبر في اجتماع المثلين أو الضدين أن يكونا من الموجودات الخارجية ، كما ثبت في محله ، وعلى فرض كونها موجودات خارجية ، أو يكون المراد بهما مطلق المعاندة العرفية ، يكفي اختلاف الحيثية في رفع محذور الاجتماع ، فمن حيث صلاحية متعلق القطع للداعوية يكون مورد

١٣

الحكم الشرعي المجعول ، ومن حيث تعلّق القطع به يكون مورد حكم آخر ، ولا ريب في كونهما حيثيتين مختلفتين عرفا قابلتين لرفع محذور التماثل والتضاد.

ويردّ الرابع بأن الممنوع هو الخلو عن الحكم الواقعي النفس الأمري دون الفعلي الظاهري ، فلنا أن نلتزم بعدم حكم للشارع ظاهرا ، وإن كان له فيها حكم واقعا.

فتلخّص : أنه يمكن جعل الحجية للقطع من الشارع ، كما يمكن له سلبها عنه ، وربما يأتي بعض ما ينفع المقام في مستقبل الكلام.

الثالثة : للحجية إطلاقات ثلاثة ..

منها : ما يصح الاعتذار والاحتجاج به ، وبهذا الإطلاق يصح إطلاقها على القطع وجميع الأمارات المعتبرة ، بل والاصول العملية والقواعد الفقهية أيضا ، ولا محذور فيه أبدا من عقل أو نقل.

ومنها : ما اصطلح عليه أهل الميزان ، وهو ما كان علة لتحقق الشيء وثبوته ويذكر في البرهان عليه ـ كالتغير الذي هو علة للحدوث ، ويذكر في البرهان على الحدوث ، فيقال : العالم متغير ، وكل متغير حادث ، فالعالم حادث ـ وظاهرهم بل صريح بعض عدم صحة إطلاق الحجة بهذا المعنى على القطع ، لعدم كونه علة لثبوت المقطوع به ، بل يكون كاشفا عنه.

وفيه : إن القطع علة لثبوت المقطوع به الأوّلي الذاتي القائم بالنفس.

نعم ، هو كاشف عما يكون في الخارج وبينهما نحو اتحاد ، فيصح إطلاق الحجة بهذا المعنى عليه أيضا.

ولنا أن نفرض ما يكون القطع فيه علة للثبوت خارجا أيضا ، لأن القطع بشيء علة لاستحقاق العقاب على مخالفته والثواب على الموافقة ، فيقال ـ مثلا ـ هذا مقطوع الوجوب ، وكل مقطوع الوجوب يستحق العقاب على مخالفته ، فهذا يستحق العقاب على مخالفته ، فلا وجه لنفي إطلاق الحجة بهذا المعنى على

١٤

القطع على نحو الإطلاق.

ومنها : ما اصطلح عليه في الاصول ، وهو ما يكون واسطة في الإثبات شرعا ، كالأدلة الاجتهادية والقواعد المعتبرة التي نثبت بها الأحكام ، وكالبيّنة وقول ذي اليد ونحوهما مما تثبت به موضوعاتها ، فكل ما يكون معتبرا شرعا تأسيسا أو إمضاء ويثبت به حكم أو موضوعه ، تطلق عليه الحجة باصطلاح الاصول.

والظاهر عدم الاختصاص لها بالاصول حتى تكون اصطلاحا خاصا فيه ، لأن الواسطة في الإثبات شائعة في جميع العلوم ، فكل ما يكون منشأ لإثبات مورده عقلا أو عرفا أو شرعا ، يسمى دليلا وحجة ، وواسطة في الإثبات.

وعن جمع منهم شيخنا المحقق النائيني قدس‌سره : عدم صحة إطلاق الحجة على القطع بهذا المعنى أيضا ، لعدم كونه واسطة في الإثبات شرعا ، لما قالوا من أن اعتباره عقلي ولا يمكن الجعل الشرعي بالنسبة إليه.

ويرد عليه : ما تقدم من إمكان تعلّق الجعل الشرعي به ولو على نحو الإمضاء ، وسيأتي أن حجية جلّ الحجج الشرعية ـ لو لا كلها ـ إمضائية ولو بنحو عدم ثبوت الردع ، فليكن القطع أيضا كذلك ، بل يصح إطلاق الحجة بهذا المعنى على الاصول العملية أيضا ، لكونها واسطة لإثبات متعلّقاتها في الجملة ، فيقال : هذا مما قامت عليه أصالة البراءة ، وكل ما قامت عليه أصالة البراءة لا إلزام بالنسبة إليه ، فهذا لا إلزام بالنسبة إليه ، وكذا في سائر الاصول العملية ، ولا فرق فيه بين كونها اصولا عقلائية ممضاة شرعا ، ـ كما اخترناه على ما سيأتي في محله ـ أو كانت اصولا شرعية ، كما يظهر عن جمع.

ويصح إطلاق الحجة بهذا المعنى ـ أي بالاصطلاح الاصولي ـ على القطع أيضا ، فيقال بالنسبة إلى الموضوعات : هذا خمر ، لأني أقطع بخمريته ، وبالنسبة إلى الأحكام هذا صحيح ، لأني أقطع بصحته ، وفي جملة من كلمات الفقهاء هذا

١٥

حرام ـ مثلا ـ قطعا ، أو هذا مما قطع به الأصحاب ، إلى غير ذلك مما هو كثير في العرف وفي الفقه.

فتلخّص من جميع ما مرّ صحة إطلاق الحجة على القطع بإطلاقاتها الثلاثة بلا محذور فيه أبدا ، هذا كله في القطع الطريقي.

وأما القطع الموضوعي فلا إشكال من أحد في صحة إطلاق الحجة عليه بالإطلاقات الثلاثة ، لصحة تعلّق الجعل به ، إذ لا معنى لأخذه في الموضوع إلّا ذلك ، سواء كان تمام الموضوع أو جزءه بنحو الصفتية الخاصة أو بنحو الكشف.

وينبغي التنبيه على امور :

الأول : القطع إما طريق محض إلى الواقع بلا دخل له في الموضوع أصلا ، كما هو الغالب فيه في العقليات والشرعيات والعرفيات.

أو مأخوذ في الموضوع إما بنحو تمام الموضوع أو جزئه ، وكل منهما إما بنحو الكاشفية والطريقية ، أو بنحو الصفة الخاصة ، فهذه الأربعة مع القسم الأول تصير خمسة أقسام.

والمراد بتمام الموضوع أنه هو المناط في الحكم ، لا أن يكون الموضوع مركبا منه ومن متعلّقه وإن كان يلزمه المتعلّق ، لأن القطع من الصفات ذات الإضافة لا تحقق له بدون المتعلّق ، فيكون زواله من تبدّل الموضوع لا من تبين الخلاف.

والمراد بجزء الموضوع أن الموضوع مركب منه ومن متعلّقه ولكل منهما دخل في تحقق الموضوع.

ويتصور هذه الأقسام الخمسة في جميع الأمارات ، بل يصح فرضها في الاصول العملية أيضا ، لأن الفرض والاعتبار قليل المئونة ، ولكن لا مصداق

١٦

لجميع هذه الأقسام مطلقا في الفقه إلا للطريقي منها فقط ، وإن قيل أن لها مصاديق لكن لا تخلو من مناقشة فلا وجه لتعطيل الوقت فيها.

ثم إن جميع الأمارات تقوم مقام القطع الطريقي المحض ، وكذا في ما أخذ في الموضوع من جهة الكشف والطريقية بنفس دليل اعتبارها ، بخلاف ما أخذ في الموضوع بنحو الصفتية الخاصة.

الثاني : لا ريب في كون الاطمئنان العقلائي حجة عقلائية ، وله مراتب متفاوتة أعلاها القطع وأدناها الظن ، وكل ما هو حجة عقلائية حجة شرعية أيضا إلا إذا ثبت الردع عنها ، فاللازم على الاصولي إثبات دليل الردع ، فيكون البحث عن الحجية مطلقا من التطويل بلا طائل ، ويكفي في عدم الردع ـ في الامور العامة الابتلائية بين الناس ـ أصالة عدمه ، وكما لا يخفى.

الثالث : ذكروا أن حكم العقل باعتبار القطع تنجّزي غير معلّق على شيء بخلاف الظن الانسدادي بناء على الحكومة ، فإن أصل اعتباره معلّق على عدم ثبوت الردع من الشارع ، فلا يقاس أحدهما على الآخر.

واستدل عليه : بأن العقل لا يحكم بشيء إلا مع إحاطته بجميع ما له دخل في حكمه ، فمع إحاطته بذلك يحكم وينتجز ، ومع العدم فلا حكم له أصلا.

وفيه : أنه صحيح في العقل المحيط بالواقعيات إحاطة واقعية من كل جهة. وأما العقول التي هي في طريق الاستكمال في كل آن فلا وجه لذلك ، فكم قد ثبت الخطأ في الأحكام العقلية ، وليس لأحد أن يدعي أن مطابقة القطع للواقع أكثر من مطابقة الأمارات المعتبرة ، ومخالفة الأمارات أكثر من مخالفة القطع له ، مع أنه لا بد وأن يكون اعتبار الكواشف مطلقا بالنسبة إلى واقعية كل شريعة ـ اصولا وفروعا ـ تحت حيطة صاحب الشريعة. وإلا اختل النظام.

الرابع : قد أشرنا إلى أنه لا يمكن الجعل التأليفي بين الشيء وذاتياته ، ولكن لا بد وأن يعلم أن الذاتي على قسمين : ذاتي واقعي ، وذاتي إدراكي ،

١٧

وبينهما عموم من وجه ، وما لا يمكن الجعل فيه هو الأول دون الثاني ، ومع الشك يصح الجعل ، لأن موضوع الامتناع إحراز الذاتية الواقعية ، كما أن المراد بلوازم الذات التي لا يصح الجعل التأليفي فيها اللوازم للماهية والذات الواقعية دون اللوازم العقلائية للشيء ، فيصح فيها الجعل التأليفي بلا إشكال.

والظاهر أن استحقاق العقاب على المخالفة ولزوم الموافقة والعذر لدى القصور بالنسبة إلى القطع من القسم الثاني دون الأول ، فيصح فيها الجعل التأليفي تكوينا وتشريعا. ولو شك في أنها من القسم الأول أو الثاني يلحق بالأخير ، لعدم إحراز الذاتية الأولية.

الخامس : عن المحقق الخراساني قدس‌سره أن للحكم مراتبا أربع ..

الاقتضاء : ويعبّر عنه بالشأنية أيضا ، وهذه المرتبة عبارة عن المصالح

والمفاسد المقتضية لتشريع الحكم على طبقها.

والإنشاء : وهي عبارة عن مجرد الجعل والتشريع.

والفعلية : وهي عبارة عن وصوله إلى المكلف.

والتنجز : وهي عبارة عن استجماع المكلف لجميع شرائط التكليف وفقده لموانعه.

ويرد عليه .. أولا : أنه إن أراد الإطلاق الحقيقي ، فلا يطلق الحكم حقيقة على مرتبة الاقتضاء ، لأنه من التكوينيات ، ولا ريب في أن الحكم من المجعولات الاعتبارية. وإن أراد الأعم منه ومن المجازي ، فمبادئ الحكم من العلم بالصلاح ، والإرادة ، ونحوهما أيضا ، يصح إطلاق الحكم عليها مجازا ، فلا وجه للتخصيص بالأربع ، إلّا أن يريد بالاقتضاء المعنى الأعم الشامل لجميع ذلك كله.

وثانيا : أن التحقيق ـ كما يأتي إن شاء الله تعالى ـ في مورد الأمارات المعتبرة إنما هو جعل الحجية فقط دون الحكم ، فلا وجه لهذا التقسيم في مورد

١٨

الأمارات ، بل لا وجه له في مورد القطع أيضا ، إذ لا أثر للقطع بالحكم الاقتضائي والإنشائي أصلا ، كما صرح هو قدس‌سره بذلك أيضا.

والحق أن الحكم ـ خالقيا كان أو خلقيا ـ جعل القانون بداعي صيرورته فعليا بالنسبة إلى واجدي الشرائط ، سواء كانوا كذلك حين صدوره أو بعد ذلك فهو فعلي أبدا من طرف الجاعل لصلاحيته لإتمام الحجة والبيان ، كما أنه كذلك بالنسبة إلى واجدي الشرائط مطلقا. وبالنسبة إلى غيرهم لا حكم أبدا حتى يبحث عن أنه إنشائي أو لا ، لأن الإنشاء إن كان بلا داع فهو محال عليه تعالى وقبيح بالنسبة إلى غيره ، وإن كان بداع آخر غير الفعلية فلا وجه لصيرورته فعليا حين تحقق الشرائط.

وخلاصة القول : أنه ليس للحكم إلا مرتبة واحدة ، وهي الفعلية ، سواء اضيف إلى الحكم أو إلى المحكوم فلا وجه للتقسيم إلى مرتبة الاقتضاء والإنشاء والتنجز ، مع أنه لا تترتب على هذه المراتب ثمرة عملية بل ولا علمية ، فالإعراض عنها أولى وأجدر ، مع أنه لا مشاحة في الاصطلاح.

١٩

الأمر الثاني

التجري وما يتعلق به

تمهيد :

هذه المسألة ـ كجملة من مسائل الاصول ـ فيها ملاك الفقهية والاصولية والكلامية ، فإن كان عنوان البحث في أن التجري حرام أو لا؟ وأن الفعل المتجرى به محرم أو باق على ما كان عليه؟ فهو فقهي.

وإن كان عنوان البحث في أن أدلة التكاليف الواقعية هل تشمل الموضوعات الاعتقادية أو لا؟ فهو اصولي.

وإن كان العنوان في أن التجري هل يوجب استحقاق العقاب أو لا؟ فهو كلامي.

فيصح أن يكون بكل من هذه الجهات مورد البحث والنظر.

ولا اختصاص للتجري بخصوص القطع ، بل يجري في جميع ما هو معتبر شرعا ، قطعا كان أو أمارة أو أصلا مع تبين الخلاف.

نعم ، لو كان القطع أو الأمارة مأخوذا في الموضوع على نحو الصفتية الخاصة ، فلا وجه لجريان التجري فيه ، فإن مخالفته حينئذ تكون معصية حقيقية وزواله يكون من تبدل الموضوع لا من تبين الخلاف ، كما لا يخفى.

٢٠