الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون - ج ١

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

الدرّ المصون في علوم الكتاب المكنون - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الشيخ علي محمد معوض ، الشيخ عادل أحمد عبدالموجود ، الدكتور جاد مخلوف جاد ، الدكتور زكريا عبدالمجيد النوتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٣

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

تقريظ

الدكتور أحمد محمد صيرة

الحمد لله رب العالمين ، خلق الإنسان وميزه عن غيره بالبيان (الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ* خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ).

واصطفى حبيبه محمدا من خلقه ، وأرسله إلى خير أمة ، وأنزل عليه خاتم كتبه .. جعل قصصه عبرا للمتدبرين ، وأوامره هدى للمستبصرين ، وضرب فيه الأمثال ، وفرق فيه بين الحرام والحلال ... وحثنا على فهم معانيه ، وبيان أغراضه ومراميه .. لأنه ينبوع العلوم ، ومعدن المعارف ، ومبنى قواعد الشرع ، وأصل كل علم ، ولا يتحقق الاستشراف على معانيه ، إلا بفهم رصفه ومبانيه ، ولا يطلع على حقائقه إلا من وقف على غرائبه ودقائقه ...

ورضي الله تعالى عن علماء الأمة ، وهداة الملة ، الذين كابدوا للدين ، حتى أتاهم اليقين ، فهدوا الى الطيب من القول وهدوا الى صراط العزيز الحميد ...

وبعد :

فلقد اطلعت على ما قام به «الشيخان» الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ، والشيخ علي محمد معوض ـ أكرمهما الله ـ من جهد كبير ، وسعي مشكور ، في تحقيق التراث ـ وهذا مجالهم ـ وتصفحت هذا السفر العظيم ، المسمى ب «الدر المصون في علم الكتاب المكنون» والمشهور ب «إعراب السمين».

تأليف العلامة شهاب الدين أبي العباس أحمد بن يوسف بن محمد بن عبد الدائم الحلبي المصري المقرئ النحوي الشافعي المتوفى بالقاهرة سنة ٧٥٦ ه‍ المعروف باسم «السمين».

وهذا التصنيف نتيجة عمره ، وذخيرة دهره ، وهو أجلّ ما صنف في علم إعراب القرآن لأنه جمع العلوم الخمسة : الإعراب ، والتصريف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان.

ومؤلف الكتاب نال حظا وافرا من العلم والشهرة ، فقد قرأ النحو على شيخه أبي حيان ، والقراءات على ابن الصائغ ، وسمع الحديث من يونس الدبوسي ، اوولي تدريس القراءات والنحو بالجامع الطولوني ، والإعادة بالشافعي ، وناب في الحكم بالقاهرة ، وولي نظر الأوقاف ... وكان فقيها بارعا ، خيرا ديّنا ...

وقد ألف السمين هذا الكتاب في حياة شيخه أبي حيان ، إلا أنه زاد عليه ، وناقشه في مواضع مناقشة حسنة ...

والكتاب مرجع رئيسي في بابه ، وموسوعة علمية حوت الكثير من آراء السابقين ، أمثال أبي حيان ،

٣

والزمخشري ، وأبي البقاء ، وابن عطية ، والمهدوي ، ومكي ، والنحاس ...

وقد ظل هذا التراث الضخم أسير المخطوطات ، بين جدران المكتبات ، حتى شاء الله تعالى إبرازه في ثوب يليق بمكانته العلمية .. فهو كتاب متقن التأليف ، محكم التصنيف.

وكتاب كهذا جدير بأن يتولى تحقيقه وتنقيحه شيخان جليلان ، ويبذلا ما وسعهما من جهد وإيمان ...

وها قد طاب ثمره ، وامتد أثره ، وعم نفعه ...

فرحم الله تعالى مؤلفه ، وأجزل له العطاء ، وأحسن المثوبة للمحققين ، ونفع به المسلمين .. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

دكتور أحمد محمد صيرة

جامعة الأزهر

٤

الفصل الأول

السمين الحلبي

حياته وآثاره

عصر السمين

الذين ترجموا للسمين الحلبي يذكرون أنّه ولد بحلب من بلاد الشام كما يذكر المترجمون أنّ نشأة الرجل كانت في «حلب» وقد اكتسب فيها لقبه ـ السمين.

هذا والمراجع التي وقفت عليها لم تذكر لنا شيئا عن سنة مولده ولا شيئا عن نشأته الأولى ولا متى رحل من حلب بلده إلى القاهرة وما سبب هذا الرحيل ـ ولكنهم ذكروا أنّه هاجر إلى مصر فرارا من الزحف المغولي وأقام في القاهرة بقية حياته إلى أن توفي فيها سنة ٧٥٦ ه‍ (١).

ومن هنا يتبين لنا أنّ السر في تلك الهجرة الاضطراب في أمور بلاد الشام في هذه الفترة التي تلت سقوط بغداد في أيدي المغول سنة ٦٥٦ ه‍ وتعرض هذه البلاد لهجمات المغول بين حين وآخر مثل هذه الاضطرابات تعرضت فيه الأندلس لغارات الفرنجة الصليبيين فصارت هجرة العلماء أمرا طبيعيا وسنة متبعة ولم يجدوا أمامهم إلا مصر وكانت مصر في هذه الآونة تحت حكم المماليك.

وقد يتساءل الإنسان لماذا اختار العلماء مصر على من سواها من بلاد العالم والإجابة عن هذا السؤال تقتضي منا وقفة على الحركة العلمية في مصر.

... أصبحت مصر في عصر سلاطين المماليك محورا لنشاط علمي كبير ، فقصدها العلماء وطلاب العلم من مختلف الأقطار. والدليل على ما نقول ما خلفه علماء ذلك العصر من تراث ضخم في مختلف الفنون (٢).

فقد أفسح المماليك حكام مصر في هذا العصر صدورهم للعلماء وأولوهم المكانة اللائقة بهم حتى لقد أوقف الأمراء والسلاطين وذوي اليسار الأوقاف الكبيرة على دور العلم والعلماء والطلاب فشيدت المدارس والجامعات والمساجد التي تحمل رسالة الدين والعلم ، وكانت هذه المدارس خلايا تزخر بالطلاب الذين يفدون إليها من كل صوب.

وكان منهج التعليم في هذه الجامعات كفيلا بتنمية المواهب لدى الطلاب فهم أحرار في اختيار الكتاب الذي يدرسونه والأستاذ الذي يلتفون حوله (٣).

__________________

(١) طبقات الشافعية ٢ / ٥١٣.

(٢) التجمع المصري في عصر سلاطين المماليك ص ١٤١.

(٣) الأدب في العصر المملوكي ٤٣ ، ٤٤.

٥

وكان من سمات هذا العصر ازدهار التأليف فقد كثرت المؤلفات في هذا العصر كثرة مذهلة حتى عدّ هذا العصر من عصور التأليف.

وفي هذه البيئة التي ترفع شأن العلم وتكرم العلماء ـ عاش صاحبنا السمين الحلبي يقرأ ويصنف ويعلم بعد أن تلقى العلم على فحول عصره من أمثال أبي حيان وغيره ، كما ستعرف ـ إن شاء الله فيما بعد ـ عند الحديث عن شيوخه.

وظل السمين الحلبي بمصر إلى أن توفي بها سنة ٧٥٦ ه‍ في جمادى الآخرة أو في شعبان على خلاف بين المؤرخين في هذا.

٦

التعريف بالسمين الحلبي (١)

هو الإمام شهاب الدين أبو العباس بن يوسف بن محمد بن إبراهيم المعروف بالسمين الحلبي ، هذا هو المشهور في سلسلة نسبه ولقبه الذي به اشتهر غير أن بعض المصادر تورد له جدا آخر هو عبد الدائم (٢).

لقب السمين وكنيته :

لقّب شهاب الدين ، أحمد بن يوسف بالسمين الحلبي ولم تذكر كتب التراجم والطبقات التي رجعت إليها تعليلا لهذا اللقب غير أنهم ذكروا أنّه اكتسبه في «حلب» قبل ارتحاله إلى مصر (٣). ويقول ابن الجزري (٤) في طبقاته عنه هو أحمد بن يوسف بن محمد بن مسعود أبو العباس الحلبي المعروف بالسمين الحلبي.

فيذكر أن لقبه «السمين» وكنيته «أبو العباس».

ميلاده :

اتفق المؤرخون على أنّ السمين الحلبي ولد بمدينة حلب ونسب إليها في أكثر المراجع التي ترجمت له (٥).

أما عن زمن ولادته فلم تذكر كتب التراجم ـ التي رجعت إليها ـ تاريخ ميلاده.

حياته العلمية والثقافية :

يجمع المؤرخون على أنّ السمين الحلبي نشأ بحلب وفيها اكتسب لقب السمين كما ذكرت من قبل وحينما جاء السمين الحلبي إلى مصر وعاش بها حينا من الدهر في هذه الحقبة من الزمن صار الرجل ذا وجاهة في قومه وذاع اسمه في الوسط العلمي.

كما يذكر المؤرخون أنّ السمين الحلبي قد ولّي تدريس القراءات والنحو بجامع ابن طولون كما ولّي نظر الأوقاف

__________________

(١) تنظر ترجمته في غاية النهاية ١ / ١٥٢ ، والدرر الكامنة ١ / ٣٦٠ و ٣٦١ ، والنجوم الزاهرة ١٠ / ٣٢١ ، وبغية الوعاة ١ / ٤٠٢ ، وطبقات المفسرين ١ / ١٠٠ ، ١٠١ ، والأعلام ١ / ٢٧٤ ، ومعجم المؤلفين ٢ / ٢١١.

(٢) طبقات المفسرين للداودي ١ / ١٠١.

(٣) شذرات الذهب ٦ / ١٧٩.

(٤) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ١٥٢.

(٥) راجع غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ١٥٢ ، والدرر الكامنة ١ / ٣٦٠ ، وبغية الوعاة ١ / ٤٠٣ ، وطبقات المفسرين ١ / ١٠٠ ، والأعلام ١ / ٢٧٤.

٧

بالقاهرة وناب عن بعض القضاة فيها (١) كما أنّه استلم التدريس في مسجد الشافعي (٢) ، وجاء أيضا عن السمين الحلبي أنه له باع طويل في علم القراءات حيث تولى تدريسها ، وكتابه الدر المصون شاهد صدق على أن السمين الحلبي قد تعمق في هذا الفن «القراءات». فقد عرض السمين الحلبي في كتابه «الدر المصون» طائفة كبيرة من القراءات الشاذة والمتواترة ويذكر لنا صاحب طبقات القراء (٣) أنّه قرأ الحروف بالإسكندرية على أحمد بن محمد بن إبراهيم العشاب وألف تفسيرا جليلا وإعرابا كبيرا وشرح الشاطبية شرحا لم يسبق إلى مثله.

ولا غرو في ذلك فإنه تلقى العلم عن أكابر علماء العصر وشيوخه فأخذ النحو عن أبي حيان وقرأ بالسبع «القراءات» على ابن الضائع كما سنعرف فيما بعد.

شيوخه :

لقد تلقى «السمين الحلبي» علومه على يد علماء أجلاء ، أفادوه كثيرا من العلوم والفنون حيث توافرت لديهم أغلب الخصائص العلمية والمواهب الفكرية ومن هؤلاء العلماء :

١ ـ التقي الضائع (٦٣٦ ـ ٧٢٥ ه‍):

هو شمس الدين ، محمد بن أحمد بن عبد الخالق ، المصري ، الشافعي ، شيخ القراء في عصره ، قرأ على كمال الدين بن فارس ، وابن ناشره وسمع من الحافظ «الرشيد القرشي» ، ورحلت إليه الطلبة من أقطار الأرض لانفراده بالقراءة دراية ورواية ، تلقى السمين عنه القراءات فنبغ فيها. وكان التقى ـ رحمه‌الله ـ فقيها شافعيا مشاركا في فنون أخرى (٤).

٢ ـ يونس الدبوسي (٦٣٥ ـ ٧٢٩ ه‍):

هو فتح الدين ، يونس بن إبراهيم بن عبد القوي ، الكناني ، العسقلاني ثم المصري الدبوسي ، عالم بالحديث معمّر له معجم مخطوط ، تلقى عنه السمين علوم الحديث ، توفي ب «مصر» في جمادى الأولى وقد جاوز التسعين (٥).

٣ ـ العشاب (٦٤٩ ـ ٧٣٦ ه‍):

هو أبو العباس ، أحمد بن محمد بن إبراهيم بن محمد المرادي القرطبي ، المعروف بالعشاب ، إمام مقرئ ثقة ، روى القراءات عن عبد الله بن يوسف ، وروى عنه محمد بن أحمد بن اللبان ، وعبد الوهاب القروي ، وعبد العزيز بن عبد الرحمن بن أبي زكنون. وقد رحل إليه السمين ليقرأ عليه الحروف في الإسكندرية له «تفسير صغير» وكتاب في «المعاني والبيان» ، وكانت وفاته بالإسكندرية (٦).

__________________

(١) طبقات المفسرين ١ / ١٠٠.

(٢) الدرر الكامنة ١ / ٣٦٠.

(٣) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ١٥٢.

(٤) تنطر ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٦٥ ـ ٦٧ ، وحسن المحاضرة ١ / ٢٤١.

(٥) تنظر ترجمته في الدرر الكامنة ٥ / ٢٥٩ ، ٢٦٠ ، وشذرات الذهب ٦ / ٩٢ ، والأعلام ٨ / ٢٦٠.

(٦) تنظر ترجمته في طبقات القراء ١ / ١٠٠ ، والأعلام ١ / ٢٢٣.

٨

٤ ـ أبو حيان (٦٥٤ ـ ٧٤٥ ه‍):

هو أثير الدين ، أبو حيان ، محمد بن يوسف بن علي بن يوسف بن حيان الغرناطي المغربي ، المالكي ثم الشافعي ، مولده بغرناطة ، ورحل إلى مالقة وتنقل إلى أن أقام بالقاهرة وتوفي فيها ، بعد أن كف بصره ، نحوي عصره ولغويه ومفسره ومحدثه.

قال الذهبي : ومع براعته الكاملة في العربية له يد طولى في الفقه والآثار والقراءات والنحو وهو مفخر أهل مصر في وقتنا في العلم. تخرج به عدة أئمة.

من مصنفاته «البحر المحيط» و «ارتشاف الضرب» و «التذييل والتكميل» و «إتحاف الأريب بما في القرآن من الغريب» و «طبقات نحاة الأندلس» و «المبدع في التعريب» (١).

هؤلاء الصفوة الذين اتصل بهم السمين الحلبي وتفقه بهم ذكر منهم صاحب الدرر الكامنة (٢) أبا حيان والتقي الضائع ويونس الدبوسي حيث قال : «لازم أبا حيان إلى أن فاق أقرانه ، وأخذ القراءات عن التقي الضائع وسمع الحديث من يونس الدبوسي. أما العشاب فقد ذكر ابن الجزري في طبقاته حيث قال في معرض الحديث عن السمين الحلبي : «وقرأ الحروف بالإسكندرية على أحمد بن محمد بن إبراهيم العشاب» (٣).

تلاميذه :

قضى السمين ـ رحمه‌الله ـ حياته في التنقل بين حلقات العلم والدرس ، والتردد على أكابر شيوخ عصره ـ حتى صار فقيها بارعا في النحو والتفسير وعلم القراءات ويتكلم في الأصول خيّرا ديّنا (٤).

وعالم جليل هذه صفاته لا بد أن يكون له مريدون يأخذون منه وينقلون عنه ويتأثرون بأفكاره ، أما الذين تلقوا عن السمين فهم قليل ولم تذكر كتب التراجم شيئا عن تلاميذه ، إلا ما جاء في الدرر الكامنة (٥) في معرض الحديث ابن قدامه المقدسي (٦) حيث قال عنه «وسمع من ابن عبد الدائم».

آثاره العلمية :

ترك صاحبنا الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يوسف المعروف بالسمين الحلبي مؤلفات عديدة تنم عن ثقافة «السمين» الواسعة ومن هذه المؤلفات :

١ ـ «الدر المصون» الذي أقوم بتحقيق جزء منه ، وقد فرغ منه في أواسط رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة ، ويقع في أربعة أجزاء ألفه في حياة شيخه أبي حيان (٧) وبعض النساخ والمترجمين يسمونه إعراب القرآن (٨).

__________________

(١) تنظر ترجمته في غاية النهاية ٢ / ٢٨٥ ، والبدر الطالع ٢ / ٢٨٨ ، والأعلام ٧ / ١٥٢.

(٢) ١ / ٣٦٠.

(٣) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ١٥٢.

(٤) طبقات المفسرين ١ / ١٠٠.

(٥) ١ / ٢٦٠.

(٦) هو أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر بن قدامه المقدسي ثم الصالحي ، ولد في رمضان عام اثنين وخمسين وستمائة ، وتوفي في رجب عام أربعين وسبعمائة تنظر ترجمته في الدرر الكامنة ١ / ٢٦٠.

(٧) كشف الظنون ١ / ١٢٢ ، وطبقات المفسرين ١ / ١٠٢.

(٨) الصبان على الأشموني ٢ / ١٠٠.

٩

٢ ـ تفسير القرآن وهو مطول يقع في عشرين مجلدا وقد بقي منه أوراق قلائل (١).

٣ ـ القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز وقد ألفه قبل كتابه العمدة.

٤ ـ شرح التسهيل (٢) وكثيرا ما كان السمين يشير بالرجوع إليه في كتابه الدر المصون فيقول مثلا ... وقد أتقنا هذا في إيضاح السبيل إلى شرح التسهيل فعليك بالالتفات إليه (٣).

٥ ـ شرح الشاطية (٤) وهو في القراءات سماه العقد النضيد في شرح القصيد.

٦ ـ عمدة الحفاظ (٥) في تفسير أشرف الألفاظ.

وبعد ، فهذه مكتبة ثرية وارفة الظلال تنبئ عن عقلية شيخنا النادرة وفكره الحصيف الذي استوعب به علوم العربية والشرعية. فالله نسأل أن يغفر لنا وله وللمسلمين أجمعين إنه نعم المولى ونعم النصير وهو حسبنا ونعم الوكيل.

وفاته :

بعد حياة حافلة بالعطاء والتأليف توفي ـ رحمه‌الله ـ في القاهرة سنة ست وخمسين وسبعمائة هجرية في جمادى الآخرة أو في شعبان على خلاف بين المؤرخين في هذا.

__________________

(١) طبقات المفسرين ١ / ١٠٠.

(٢) طبقات المفسرين ١ / ١٠٠ ، وشذرات الذهب ٦ / ١٧٩.

(٣) انظر ص ١٢٦ من التحقيق.

(٤) غاية النهاية في طبقات القراء ١ / ١٥٢.

(٥) كشف الظنون ٢ / ١١٦٦ ، والأعلام ١ / ٢٦.

١٠

الفصل الثاني

المؤلف بين التأثر والتأثير

أولا ـ ناحية التأثر :

أي مصادر «الدر المصون».

لقد كان السمين منهجيا في تأليفه لكتابه «الدر المصون» فقد رسم في مقدمته طرفا من المصادر التي اعتمد عليها في تأليف هذا الكتاب ، وفي هذا ما فيه من الدقة والضبط والأمانة العلمية.

يشير السمين في مقدمة كتابه إلى أهم مصادره قائلا : «وذكرت كثيرا من المناقشات الواردة ـ أي من شيخه أبي حيان ـ على أبي القاسم الزمخشري وأبي محمد بن عطية ومحب الدين أبي البقاء وإن أمكن الجواب عنهم بشيء ذكرته (١).

يفهم من عبارة السمين هذه المصادر التي اعتمد عليها في تأليف كتابه «الدر المصون» والروافد التي اعتمد عليها وها هي على النحو التالي :

مصادر «الدر المصون» :

أولا : كتاب «البحر المحيط» لأبي حيان شيخ «السمين الحلبي» حتى إن صاحب كشف الظنون ما كان يرى في كتاب «السمين» شيئا جديدا يزيد على ما جاء في البحر المحيط ـ وأنا كدت أركن قليلا إلى هذا الرأي لأنني من خلال مصاحبة «الدر المصون» كان مرجعي الأول الذي اعتمدت عليه في تحقيق هذا الجزء ـ من أول سورة «طه» إلى آخر سورة «المؤمنون» تحقيق ودراسة البحر المحيط فلم تقف في وجهي كلمة أشكلت عليّ في القراءة إلا أسعفني بها «البحر المحيط» حتى في تخريج القراءات والأبيات الشعرية والوجوه الإعرابية إلا ووجدت «البحر المحيط» زاخرا بها ـ ولذلك كان «السمين الحلبي» ينقل الكثير من هذه القراءات والوجوه الإعرابية في كتابه «الدر المصون» ويعبر عنها بلفظ قال الشيخ ـ حتى إذا أطلق هذا اللفظ عرف أن لفظ الشيخ أصبح علما على أبي حيان صاحب «البحر المحيط». فتأثر «السمين الحلبي» كثيرا بشيخه فجلّ كتاب السمين «الدر المصون» منقول من «البحر المحيط» ولكن مع ذلك لا يمنعنا أن نقول الحق فلقد ظهرت شخصية المؤلف كثيرا فكثيرا ما اعترض شيخه وكثيرا ما ناقشه في آرائه وانتصر للزمخشري وغيره منه.

__________________

(١) المقدمة ص ٢ ، ٣.

١١

ثانيا : «المحرر الوجيز» لابن عطية ، ولكن «السمين» كان يأخذ منه الحديث حول الآية الكريمة وما قال فيها من آراء فهو يذكر «المحرر» للاستشهاد على قوله وحينا آخر يناقشه فيما قال.

ثالثا : «الكشاف للزمخشري» ، فكان «السمين الحلبي» يخلد إليه إذا أراد المعاني والنظرات البلاغية ، وكثيرا ما كان «للسمين» مع الزمخشري جولات في التأييد والاعتراض كما سنرى من خلال التحقيق.

رابعا : «الإملاء» للعكبري ، ولكنه كان يعارضه في مجمل آرائه. فما من صفحة من صفحات «الدر المصون» إلا ونجد ، قال الشيخ ، قال أبو البقاء ، قال الزمخشري قال ابن عطية. وغير ذلك كان السمين في مجال التفسير كان ينقل أقوال الطبري والرازي.

خامسا : وفي مجال اللغة ، اعتمد «السمين» على كتاب «الجمهرة» لابن دريد إلا أن نقوله لآراء ابن دريد لا تكاد تجاوز عدد أصابع اليد الواحدة.

وكذلك اعتمد على كتاب «المفردات» للراغب الأصفهاني ، وذلك في مجال معاني الألفاظ القرآنية وما قيل فيها إلا أنه نقل عنه كثيرا.

سادسا : «كتب القراءات» ، وفي مجال القراءات اعتمد السمين على :

١ ـ الحجة لأبي علي الفارسي (ت ٣٧٧ ه‍).

٢ ـ المحتسب لابن جني (ت ٣٩٢ ه‍).

٣ ـ اللوامح لأبي الفضل الرازي (ت ٤٥٤ ه‍).

سابعا : «كتب النحو» ، ولا نغفل ونحن نتحدث عن مصادر الكتاب كتب النحو التي عرج عليها المؤلف وفي مقدمة هذه الكتب : الكتاب لسيبويه والمقتضب للمبرد وكتب أخرى لابن مالك ، وإعراب القرآن للزجاج ، ومعاني القرآن للفراء ، وإعراب القرآن للنحاس ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة.

وبعد هذا العرض لمصادر «الدر المصون» نستطيع أن نقول : إن كتاب «الدر المصون» مستمد من أمهات الكتب فهو كتاب لغة وتصريف وإعراب وبيان أو بعبارة أخرى كما قال عنه صاحب كشف الظنون (١). فهو مع اشتماله على غيره أجلّ ما صنف فيه لأنه جمع العلوم الخمسة الإعراب والتصريف واللغة والمعاني والبيان.

__________________

(١) ١ / ١٢٢.

١٢

ثانيا ـ ناحية التأثير بالمؤلف :

أعني من نقلوا عن المؤلف ، وأما الذين أفادوا من كتب «السمين الحلبي» فهم كثر.

فكما أفاد السمين من كتب السابقين نجد أن صاحبنا قد ترك أثرا طيبا في كتب التفسير وحواشيها ومن أبرز الذين تأثروا بالسمين الحلبي في مؤلفاتهم ـ الشهاب الخفاجي (١) في حاشيته المعروفة باسم عناية القاضي وكفاية الراضي.

ولصحة ما أقول أسوق أمثلة توضح ذلك.

عند قوله تعالى : (حَقَّ جِهادِهِ)(٢) ، قال في «الدر المصون» منصوب على المصدرية (٣).

وعند قوله تعالى : (فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ)(٤) قال الحلبي (٥) : فجعل الجار والمجرور بدلا دون خالدون.

وعند قوله تعالى : (فَقَبَضْتُ قَبْضَةً)(٦) في الدر المصون (٧) النحاة يقولون : إنّ المصدر الواقع كذلك لا يؤنث بالتاء ويقولون هذه حلّة نسج اليمن لا نسيجه اليمن ويعترضون بهذه الآية ثم يجيئون بأنّ الممنوع إنّما هو التاء الدالة على التحديد لا على مجرد التأنيث وهذه لمجرد التأنيث وكذلك قوله : (وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ)(٨) وفيه نظر لأن لفظ المرة فيه بعض نبوة عنه فتأمل.

ومن الذين أفادوا من السمين : الشيخ سليمان (٩) الجمل في حاشيته وتسمى هذه الحاشية : الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين. ومن أمثلة ما نقله عن السمين ما يلي :

عند قوله تعالى : (إِنِّي آنَسْتُ ناراً)(١٠) أي أبصرت ، والإيناس الإبصار البيّن ومنه إنسان العين لأنه يبصر به

__________________

(١) الشهاب الخفاجي : هو أحمد بن محمد بن عمر ، شهاب الخفاجي المصري قاضي القضاة ، ولد بمصر ، ونشأ في حجر أبيه وعليه تخرج في كثير من الفنون درس على خاله الشنواني علوم العربية. ومن آثاره العلمية : «عناية القاضي وكفاية الراضي» ، و «شرح درة الغواص» تنظر ترجمته في نفحة الريحانة ٤ / ٣٩٥ ، والأعلام ١ / ٢٣٨ ، و ٢٣٩.

(٢) سورة الحج ، آية (٧٨).

(٣) حاشية الشهاب ٣ / ٣١٦.

(٤) سورة المؤمنون ، آية (١٠٢).

(٥) حاشية الشهاب ٣ / ٣٤٨.

(٦) سورة طه ، آية (٩٦).

(٧) حاشية الشهاب ٣ / ٢٢٣.

(٨) سورة الزمر ، آية (٦٧).

(٩) هو سليمان بن عمرو بن منصور العجيلي ، الأزهري المعروف بالجمل فاضل ، من أهل منية عجيل (إحدى قرى الغربية بمصر) انتقل إلى القاهرة. من آثاره العلمية : «الفتوحات الإلهية» ، حاشية على تفسير الجلالين و «فتوحات الوهاب» حاشية على شرح المنهج في فقه الشافعية ، تنظر ترجمته في الأعلام ٣ / ١٣١.

(١٠) سورة طه ، آية (١٠).

١٣

الأشياء ، وقيل : هو الوجدان ، وقيل : الإحساس فهو أعم من الإبصار. اه سمين (١).

وعند قوله تعالى : (إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ)(٢) استثناء من المنصوب في (فَجَعَلَهُمْ) أي لم يكسره بل تركه ولهم صفة لكبيرا ، والضمير يجوز أن يعود على الأصنام ويجوز أن يكون عائدا على عابديها. اه سمين (٣).

وعند قوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا)(٤) قال العامة على أنّه من الإيتاء أي يعطون ما فعلوا من الطاعات (٥). ا ه سمين.

وقد تأثر الألوسي (٦) في تفسيره «روح المعاني» بكتاب «الدر المصون» تأثرا واضحا فقد نقل عنه ، في هذا الجزء من التحقيق في أكثر من موضع.

وسأكتفي هنا بذكر نقلين من نقوله.

١ ـ قال الألوسي (٧) عند قوله تعالى : (.. لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(٨).

من مفعول تنفع وهي عبارة عن المشفوع له ، و «له» متعلق بمقدر متعلق ب «إذن» وجوز في البحر والدر المصون أن لا يقدر مفعول لتنفع تنزيلا له منزلة اللازم.

٢ ـ قال الألوسي (٩) عند قوله تعالى : (.. قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ)(١٠).

«قال» أي الله تعالى أو الملك ، وقرأ الإخوان «قل» على الأمر.

وفي الدر المصون الفعلان في مصاحف الكوفة بغير ألف وبألف في مصاحف مكة والمدينة والشام والبصرة. ونقل مثله عن ابن عطية.

وكما امتدت آثار «السمين» الطيبة إلى علوم التفسير وغيرها كذلك نجد آثاره في كتب القراءات.

فنجد البنّاء الدمياطي (١١) صاحب كتاب إتحاف فضلاء البشر في معرفة القراءات الأربع عشر ، ينقل كثيرا عن السمين الحلبي في توجيه القراءات.

ومن الأمثلة على ذلك :

__________________

(١) حاشية الجمل ٣ / ٨٣.

(٢) سورة الأنبياء ، آية (٥٨).

(٣) الحمل على الجلالين ٣ / ١٣٣.

(٤) سورة المؤمنون ، آية (٦٠).

(٥) حاشية الجمل ٣ / ١٩٦.

(٦) هو شهاب الدين ، محمود بن عبد الله الحسيني الألوسي ، نسبة إلى جزيرة (ألوس) في وسط الفرات ، مفسر ، محدث ، أديب ، من أهل بغداد ، مولده ووفاته فيها ، كان رحمه‌الله مجتهدا ، تقلد الإفتاء في بلده سنة ١٢٤٨ ه‍ وعزل ، وانقطع للعلم وكان كثير الترحال. من مؤلفاته «روح المعاني» ، و «غرائب الاغتراب» ، و «حاشية على شرح القطر» تنظر ترجمته في الأعلام ٧ / ١٧٦ و ١٧٧.

(٧) روح المعاني ١٦ / ٢٦٤ ، ٢٦٥.

(٨) سورة طه ، آية (١٠٩).

(٩) روح المعاني ١٨ / ٧٠.

(١٠) سورة الأنبياء ، آية (١١٢).

(١١) هو شهاب الدين أحمد بن محمد بن أحمد الدمياطي ، الشهير ، بالبنّاء عالم بالقراءات ، ولد ونشأ بدمياط وأخذ من علماء القاهرة والحجاز واليمن ، وأقام بدمياط ، وتوفي بالمدينة حاجا. من كتبه : «الإتحاف» ، و «اختصار السيرة الحلبية» تنظر ترجمته في الأعلام ١ / ٢٤٠.

١٤

عند قوله تعالى : (.. مَكاناً سُوىً)(١).

عن الحسن ضم السين بلا تنوين ، أجرى الوصل مجرى الوقف ، ولا يقال منع صرفه للعدل (كعمر) لأن ذلك في الأعلام.

أما الصفات (كحطم) و «لبد» فمصروفه. قاله في الدر كالبحر (٢).

وعند قوله تعالى : (هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي) (٣).

(تسهيل همز) «أولاء» قال ابن القاصح بكسرة ملينة من غير همز ولا مد ، ولا ياء ، وقال في الدر كالبحر بياء مكسورة (٤).

وعند قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا)(٥).

قيل : ألفه للإلحاق بجعفر كهي في «أرطى» فلما نوّن ذهبت للساكنين قال في الدر وهذا أقرب لو قبله ، ولكن يلزم منه وجود ألف الإلحاق ، في المصادر ، وهو نادر (٦) وافقهم اليزيدي.

وكذلك نرى تلك النقول عن صاحبنا مدونة في كتب المتأخرين من النحاة.

ففي حاشية الصّبّان (٧) على الأشموني على الألفية ، على سبيل المثال ـ في باب التنازع ـ حيث قال عن إعراب قوله تعالى : (هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ)(٨) «هاء» اسم فعل بمعنى خذ ، والميم علامة الجمع ، والأصل هاكم أبدلت الكاف «واو» ثم الواو همزة.

وفي إعراب السمين : زعم القتيبي أنّ الهمزة بدل من الكاف فإن عنى أنّها تحل محلها فصحيح ، وإن عنى البدل الصناعي فليس بصحيح. اه (٩).

وفي الخزانة نقل البغدادي (١٠) عنه في مواضع متفرقة ومن أمثلة ذلك ما يلي.

في باب الموصول عن قوله تعالى : (عَمَّ يَتَساءَلُونَ)(١١) الكثير حذف الألف وجاء إثباتها في عما يتساءلون فيمن قرأ بالألف ، وقال السمين : يجوز إثبات الألف في ضرورة أو في قليل من الكلام (١٢).

قال صاحب الخزانة عند الحديث عن «أسماء الأفعال» في قوله تعالى : (يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ)(١٣) ، قال السمين : من بناه للمفعول فالنائب إما ضمير المصدر أو الظرف وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن أو الظرف وهو

__________________

(١) سورة طه ، آية (٥٨).

(٢) الإتحاف ٢ / ٢٤٨.

(٣) سورة طه ، آية (٨٤).

(٤) الإتحاف ٢ / ٢٥٤.

(٥) سورة المؤمنون ، آية (٤٥).

(٦) الإتحاف ٢ / ٢٨٤.

(٧) هو : محمد بن علي الصبان ، أبو العرفان ، عالم بالعربية والأدب ، مصري ، مولده ووفاته بالقاهرة ، من مؤلفاته : «الكافية الشافية على العروض والقافية» منظومة ، و «حاشية على شرح الأشموني على الألفية». تنظر ترجمته في إيضاح المكنون ١ / ٧٨ ، ونشأة النحو ص ٣٠٦.

(٨) سورة الحاقة ، آية (١٩).

(٩) حاشية الصبان على الأشموني ٢ / ١٠٠.

(١٠) هو عبد القادر بن عمر البغدادي ، علامة بالأدب والتاريخ والأخبار ، ولد وتأدب ببغداد ، وكانت وفاته بالقاهرة. من مؤلفاته : «خزانة الأدب» ، و «شرح شواهد الشافية» ، تنظر ترجمته في الأعلام ٤ / ٤١.

(١١) سورة عم ، آية (١).

(١٢) الخزانة ٦ / ١٠٠.

(١٣) سورة الممتحنة ، آية (٣).

١٥

باق على نصبه (١). انتهى.

وفي حديثه عن حرف الاستفهام «هل» يقول قال السمين في «الدّرّ المصون» قد جعلها لاستفهام التقرير خلافا لابن حيان في جمله استفهاما محضا لأن التقرير هو الذي يجب أن يكون لأنّ الاستفهام لا يرد من الباري تعالى إلا على هذا النحو (٢)

__________________

(١) الخزانة ٦ / ٢٧٩.

(٢) الخزانة ١١ / ٢٦٥.

١٦

الفصل الثالث

دراسة في كتابه الدر المصون

المبحث الأول

في تقديم الكتاب

أولا ـ اسمه :

هناك خلاف يسير بين المؤرخين والنساخ في تسمية الكتاب ، فبعضهم يطلق عليه : «الدر المصون في علم الكتاب المكنون» (١) ، وبعضهم يطلق عليه : «الدر المصون» (٢) ، وبعضهم يطلق عليه : «إعراب القرآن» (٣) وكما أطلق عليه أيضا : «الدر المصون في علوم الكتاب المكنون».

والإطلاق الأخير أرجح وأولى بالقبول ، لأنّ السمين نفسه صرح لنا بقوله : «... وسميته ب «الدر المصون في علوم الكتاب المكنون» (٤)».

ثانيا ـ زمن تأليفه :

يذكر لنا صاحب الدرر الكامنة (٥) وصاحب طبقات المفسرين (٦) بأن السمين ألف كتابه «الدر المصون» في حياة شيخه أبي حيان ، وقد فرغ من تأليفه في أواسط رجب سنة أربع وثلاثين وسبعمائة (٧).

ثالثا ـ الهدف من تأليفه :

يرى السمين ـ من خلال مقدمة كتابه ـ ضرورة تأليف مصنف يجمع علوم القرآن الكريم ، ويرى أنّها ـ من بعد تجويد ألفاظه بالتلاوة ـ خمسة علوم الإعراب ، والتصريف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان ؛ إذ رأى أنّ السابقين منهم من اقتصر على ذكر الإعراب ، ومنهم من اقتصر على علم مفردات الألفاظ ، وترك شيئا كثيرا من علم التصريف ، ومنهم من اقتصر على دراسة نظمه وبلاغته ، ثم يرى أنّ هذه العلوم متجاذبة شديدة الاتصال بعضها ببعض داعما رأيه هذا بقوله : «فإنه من عرف كون هذا فاعلا ، أو مفعولا أو مبتدأ مثلا ، ولم يعرف كيفية تصريفه ، ولا اشتقاقه ولا كيف موقعه من النظم لم يحل (٨) بطائل ، وكذا لو عرف موقعه من النظم ولم يعرف باقيها» (٩).

__________________

(١) ينظر كشف الظنون ١ / ١٢٢ ، وهدية العارفين ١ / ١١١.

(٢) الدرر الكامنة ١ / ٣٦٠ ، والأعلام ١ / ٢٧٤.

(٣) طبقات المفسرين ١ / ١٠٠ ، وحاشية الصبان على الأشموني ٢ / ١٠٠.

(٤) مقدمة المؤلف ج ١.

(٥) ١ / ٣٦٠.

(٦) ١ / ١٠٠.

(٧) كشف الظنون ١ / ١٢٢.

(٨) أي لم يظفر بشيء.

(٩) المقدمة ص ٢.

١٧

رابعا ـ أهمية الكتاب ، وقيمته :

لا يستطيع أحد أن ينكر فضل وجهود العلماء الأجلاء الذين قضوا حياتهم في محراب العلم ، وفي خدمة اللغة ، وما خلفه العلماء وراءهم من تراث ضخم شاهد صدق على تلك الجهود التي بذلوها في ذلك الميدان العظيم كما لا ينكر أحد أهمية المؤلفات التي أودعوها خلاصة فكرهم وثمرة عملهم ، والسمين الحلبي واحد من هؤلاء العلماء الذين أدلوا بدلوهم في هذا المجال ، فكان كتابه «الدر المصون» سفرا عظيما حافلا بكل علوم العربية. وفي ذلك يقول : «وهذا التصنيف في الحقيقة نتيجة عمري وذخيرة دهري» ، ولنفسح المجال لأصحاب كتب التراجم والطبقات الذين ترجموا لذلك العالم الجليل ـ ليحدثونا عما كان لذلك الكتاب من أهمية عظيمة بالغة المدى مثلا ـ يقول «حاجي خليفة» ، عن هذا الكتاب ـ فهو مع اشتماله على غيره أجلّ ما صنف فيه ـ أي علم إعراب القرآن ـ لأنّه جمع العلوم الخمسة : الإعراب ، والتصريف ، واللغة ، والمعاني ، والبيان (١).

ويقول السيوطي (٢) أيضا عند الحديث عن كتب الإعراب : «... وكتاب السمين أجلها ...» ، وأيضا يقول «الداودي عن الدر المصون» .....

ألفه في حياة شيخه أبي حيان إلا أنّه زاد عليه ، وناقشه في مواضع مناقشة حسنة (٣).

ومن هذه الأقوال كلها يستطيع القارئ أن يدرك ما كان لهذا الكتاب من قيمة علمية ومكانة مرموقة وشأن عظيم ، ولا يفوتني في هذا المجال أن أبين للقارئ مدى أهمية الكتاب من خلال مصاحبتي له فترة ليست بالقصيرة.

أولا : يستطيع الباحث أن يطلع على آراء العلماء المختلفة في إعراب آية واحدة من آي القرآن الكريم وما كان لهم من أقوال فيها ، إذ كان السمين ينقل الآراء مدعومة بأدلة أصحابها فهو يمثل مرجعا رئيسا في هذا الجانب على أنّه لم يكن ليكتفي بالعرض دون أن يبين ما لها وما عليها من وجهة الصناعة والمعنى ، ومن هنا وصفه صاحب «كشف الظنون» أنّه أجلّ ما صنف في هذا الباب.

ثانيا : يجد طالب مفردات اللغة بغيته في هذا الكتاب فهو يلتقي بتحليل مفصل لكلمات القرآن وأصولها واشتقاقاتها وتطورها واستعمالاتها.

ثالثا : يجد الباحث المهتم بالقراءات القرآنية وأوجه تخريجها ضالته في ذلك السفر العظيم.

رابعا : لقد ضم كتاب «الدر المصون» بين دفتيه المئات من الشواهد العربية فقلما تجد صفحة في كتابه «الدر» إلا وبها شاهد أو أكثر.

خامسا : نلمح في «كتاب الدر» الكثير من الإشارات البلاغية ، وهو وإن لم يجعلها غايته فقد عرض طائفة منها وهذا يعزز من قيمة الكتاب ، فهو كتاب نحو وصرف ولغة ومعان كما ذكر صاحب كشف الظنون (٤).

وبعد : فإن دل هذا على شيء فإنما يدل على أنّ ذلك السفر العظيم كتاب متقن التأليف محكم التصنيف.

__________________

(١) كشف الظنون ١ / ١٢٢.

(٢) الإتقان ١ / ١٨٩.

(٣) طبقات المفسرين ١ / ١٠٠.

(٤) كشف الظنون ١ / ١٢٢.

١٨

المبحث الثاني

منهج السمين

ذكر السمين ـ رحمه‌الله تعالى ـ في مقدمة الكتاب «الدر المصون» المنهج الذي سلكه في كتابه كما ذكر لنا ـ غفر الله له ـ خطوات ذلك المنهج والأسباب التي دفعته إلى تأليف ذلك السفر العظيم ، فيقول : «القرآن أفضل كتب الله الجليلة ، أنزله على خير خلقه عامة وبعثه به إلى خير أمة ... جعل أمثاله عبرا للمتدبرين وأوامره هدى للمستبصرين ، وضرب فيه الأمثال ، وفرّق فيه بين الحرام والحلال ، وكرّر القصص والمواعظ بألفاظ لا تملّ ولا تخلق (١) على كثرة الرد ، وحثنا على فهم معانيه وبيان أغراضه ومبانيه فليس المراد حفظه وسرده من غير تأمل لمعناه ، ولا تفهّم لمقاصده فقال جلّ من قائل : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها)(٢) ، وقال تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ)(٣) ذم اليهود حيث يقرأون التوراة تلاوة من غير فهم ، وقد ذم السلف الصالح من يفعل ذلك. فالأولى بالعاقل الأريب (٤) ، والفطن البيب أن يربأ بنفسه عن هذه المنزلة الدنّية ويأخذها بالرتبة السّنيّة ، فيطلع من علومه على أهمها وآكدها وهي ـ من بعد تجويد ألفاظه بالتلاوة ـ خمسة علوم : علم الإعراب ، وعلم التصريف ، وعلم اللغة ، وعلم المعاني ، وعلم البيان.

وقد أكثر العلماء ـ رحمهم‌الله ـ من البحث عن ذلك ، واهتموا به غاية الاهتمام فجزاهم الله عن سعيهم أفضل الجزاء يوم الفصل والقضاء ، إذ هم الأئمة الممهّدون للقواعد ، المبيّنون لأصول المعاقد ، غير أن منهم جماعة لم يقتصروا على هذه العلوم الخمسة في مصنف يجمعها ، بل ضموا إلى ذلك ذكر سبب النزول ، وذكر القصص (٥) على ما فعله المفسرون ، لأنهم لم يضعوا كتبهم إلا لذلك ، ومنهم من اقتصر على ذكر الإعراب فقط (٦) ومنهم من اقتصر على علم مفردات الألفاظ فقط (٧) وترك شيئا كثيرا من علم التصريف المتعلق باشتقاق اللغة ، مما لا يسع الإنسان جهله ، ومنهم من اقتصر على معرفة نظمه وجزالته وبلاغته مما يتكفل به علم المعاني والبيان (٨) ، ورأيت أنّ هذه العلوم الخمسة متجاذبة شديدة الاتصال بعضها ببعض ، لا يحصل للناظر في بعضها كبير فائدة بدون الاطلاع على باقيها ، فإن من عرف كون هذا فاعلا ، أو مفعولا ، أو مبتدأ مثلا ، ولم يعرف كيفية تصريفه ولا اشتقاقه ولا كيف موقعه من النظم لم يحل بطائل ، وكذا لو عرف موقعه من النظم ولم يعرف باقيها.

__________________

(١) أي لا تبلى.

(٢) سورة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، آية (٢٤).

(٣) سورة البقرة ، آية (٧٨).

(٤) قال في اللسان ١ / ٥٥ : والأريب العاقل. ورجل مأريب من قوم أرباء وقد أرب يأرب أحسن الإرب في العقل.

(٥) كما فعل أبو حيان في البحر المحيط.

(٦) مثل كتاب «الإملاء» لأبي البقاء.

(٧) مثل غريب القرآن لابن قتيبة.

(٨) مثل تفسير الكشاف لجار الله الزمخشري.

١٩

فلما رأيت الأمر كذلك واطلعت على ما ذكره الناس في هذه الفنون ، ورأيتهم إما ذاكرا الواضح البين الذي لم يحتج للتنبيه عليه إلا الأجنبي من الصناعة ، وإما المقتصر على المشكل بلفظ مختصر ـ استخرت الله الكريم القويّ المتين في جمع أطراف هذه العلوم ، آخذا من كلّ علم بالحظّ الوافر (١).

فمما سبق يتضح لنا هدف السمين أو السبب الدافع لتأليف هذا الكتاب إنما هو جمع أطراف هذه العلوم من كتب السابقين.

وبعد أن وضح لنا السمين الهدف الأسمى من تأليف هذا الكتاب بين لنا منهجه قائلا : «... إنّي إذا عرضت قاعدة كلية من قواعد هذه العلوم ، أو ضابط لمسألة منتشرة الأطراف ذكرت ذلك مجردا له من كتب القوم ، ولا أذكر إلا ما هو المختار عند أهل تلك الصناعة ، وإذا ذكرت مذهبا لأحد من أهل العلم فقد يحتمل هذا الكتاب ذكر دلائله والاعتراضات عليه والجواب عنه فأذكره ، وقد لا يحتمل فأحيله على كتب ذلك العلم.

ولم آل جهدا في استيفاء الكلام على مسائل هذا الكتاب ، فإنّي تعرّضت للقراءات المشهورة والشاذة ، وما ذكر الناس في توجيهها ولم أترك وجها غريبا من الإعراب وإن كان واهيا ، ومقصودي بذلك التنبيه على ضعفه حتى لا يغترّ به من اطّلع عليه. وذكرت كثيرا من المناقشات الواردة على أبي القاسم الزمخشري وأبي محمد بن عطية ومحب الدين أبي البقاء ، وإن أمكن الجواب عنهم بشيء ذكرته.

وكذلك تعرضت لكلام كثير من المفسّرين ، كالمهدوي ، ومكي والنحاس ، دون غيرهم ، فإنهم أعني الناس بما قصدته وأغناهم وإذا تكررت الآية الكريمة ـ أو ما يقاربها في تركيبها أو قاعدة كليّة ، أو ضابط ، قد مرّ ذكره ـ فلا أعيدها ، بل إن بعد العهد ذكرت ما ينبّهك عليها (٢).

طريقته في عرض منهجه :

يبدأ السمين أولا بذكر بعض ألفاظ ، أو لفظة من الآية الكريمة فيقول مثلا : (طه)(٣) ثم يمضي مع هذه اللفظة من جانب اللغة ، والاشتقاق والمعنى ، وما تحتمله من دلالات في الآية وخارجها ويدعم عرضه بالشواهد المختلفة ثم بين قراءتها على نحو مجمل ، وبعد ذلك يناقش كل قراءة ، وما اختاره من تخريجات فيها ثم يعربها ويبين أقوال العلماء وآراءهم.

وإذا صادف فيما يقرره مناسبة للتفصيل في باب من أبواب النحو نراه يستطرد في ذلك كثيرا تاركا ما هو فيه من إعراب ليقعد البحث ويذكر أصوله وأشكاله ولو لم يكن لهذه الأصول والأشكال صلة بإعرابه المعين للآية ، وإذا انتهت بضاعته من هذه اللفظة (طه) ينهض إلى تاليها من الألفاظ على الطريقة نفسها.

وقد يبدأ بذكر أكثر من كلمة من الآية ولكننا لا نراه يتعدى ما أشرنا إليه.

ومن خلال عرض «السمين» لمنهجه يتبين لنا أنّ «السمين» قد خالف شيخه أبا حيان صاحب «البحر المحيط» إذا كان أبو حيان يقسم السورة طوائف من الآيات الكريمة ثم يأخذ في الحديث عنها من جانب اللغة والاشتقاق حتى إذا

__________________

(١) مقدمة المؤلف ص ٢٠١.

(٢) مقدمة المؤلف ص ٢ و ٣.

(٣) سورة طه ، آية (١).

٢٠