كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي

كشف الغمّة في معرفة الأئمّة - ج ٢

المؤلف:

أبي الحسن علي بن عيسى بن أبي الفتح الاربلي


المحقق: السيد هاشم الرسولي المحلاتي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة بني هاشمي
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٠
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكر الإمام الثالث أبي عبد الله الحسين الزكي ع

قال الشيخ كمال الدين رحمه‌الله الباب الثالث في أبي عبد الله الحسين الزكي ع وفيه اثنا عشر فصلا ١ في ولادته ٢ في نسبه ٣ في تسميته ٤ في كنيته ولقبه ٥ فيما ورد في حقه من النبي ص وإمامته ٦ في شجاعته وشرف نفسه ٧ في كرمه ٨ في كلامه ٩ في أولاده ١٠ في عمره ١١ في خروجه من المدينة إلى مكة إلى العراق ١٢ في مصرعه ومقتله.

الأول في ولادته ع

ولد بالمدينة بخمس خلون من شعبان سنة أربع من الهجرة وكانت والدته الطهر البتول فاطمة ع علقت به بعد أن ولدت أخاه الحسن ع بخمسين ليلة هكذا صح النقل فلم يكن بينه وبين أخيه ع سوى هذه المدة المذكورة ومدة الحمل ولما ولد وأعلم النبي ص به أخذه وأذن في أذنه.

قيل أذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى.

قال الشيخ المفيد رحمه‌الله ولد بالمدينة في التاريخ المذكور قال وجاءت به أمه فاطمة ع إلى جده رسول الله ص فاستبشر به وسماه حسينا وعق عنه كبشا وكذلك قال الحافظ عبد العزيز الجنابذي رحمه‌الله تعالى.

الثاني في نسبه ع

نسبه نسب أخيه الحسن ع وقد تقدم ذكره وهو النسب الذي

٣

افترع هام الكواكب (١) شرفا وعلا وفاق النيرات سنا وسناء فلا حاجة إلى إعادة ذكره.

الثالث في تسميته

قال كمال الدين رحمه‌الله هذا الاسم سماه به رسول الله ص فإنه لما أعلم به أخذه وأذن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى وقال سموه حسينا فكانت تسميته أخيه بالحسن وتسميته بالحسين صادرة عن النبي ص ثم إنه ص عق عنه وذبح عنه كبشا وحلقت والدته ع رأسه وتصدقت بوزن شعره فضة كما أمرها رسول الله ص وقد تقدم ذلك في أخبار الحسن ع.

الرابع في كنيته ولقبه

قال كمال الدين رحمه‌الله ك نيته أبو عبد الله لا غير وأما ألقابه فكثيرة الرشيد والطيب والوفي والسيد والزكي والمبارك والتابع لمرضاة الله والسبط فكل هذه كانت تقال له وتطلق عليه وأشهرها الزكي لكن أعلاها رتبة ما لقبه به رسول الله ص في قوله عنه وعن أخيه إنهما سيدا شباب أهل الجنة فيكون السيد أشرفها وكذلك السبط فإنه صح عن رسول الله ص أنه قال حسين سبط من الأسباط وسيأتي هذا الحديث في الفصل الخامس تلو هذا إن شاء الله تعالى.

قال ابن الخشاب رحمه‌الله يكنى بأبي عبد الله لقبه الرشيد والطيب والوفي والسيد والمبارك والتابع لمرضاة الله والدليل على ذات الله عزوجل والسبط.

الخامس

في إمامته وما ورد في حقه من النبي ص قولا وفعلا

أما إمامته ع فدليلها النص من أبيه وجده ع ووصيه أخيه

__________________

(١) افترع : علا. والهام : رأس كل شيء.

٤

الحسن ع إليه فكانت إمامته بعد وفاة أخيه بما قدمناه ثابتة وطاعته لجميع الخلق لازمة وإن لم يدع إلى نفسه ع للتقية التي كان عليها والهدنة الحاصلة بينه وبين معاوية والتزم الوفاء بها وجرى في ذلك مجرى أبيه أمير المؤمنين وثبوت إمامته بعد النبي ص مع الصموت وإمامة أخيه الحسن ع بعد الهدنة مع الكف والسكوت وكانوا في ذلك على سيرة نبي الله ص وهو في الشعب محصور وعند خروجه مهاجرا من مكة فلما مات معاوية وانقضت مدة الهدنة التي كانت تمنع الحسين بن علي ع من الدعوة إلى نفسه أظهر أمره بحسب الإمكان وأبان عن حقه للجاهلين به حالا بحال إلى أن اجتمع له في الظاهر الأنصار فدعا ع إلى الجهاد وشمر للقتال وتوجه بولده وأهل بيته من حرم الله وحرم رسوله ص نحو العراق للاستنصار بمن دعاه من شيعته على الأعداء.

وقدم أمامه ابن عمه مسلم بن عقيل رضي الله عنه وأرضاه للدعوة إلى الله والبيعة له فبايعه أهل الكوفة على ذلك وعاهدوه وضمنوا له النصرة والنصيحة ووثقوا له في ذلك وعاقدوه ثم لم تطل المدة بهم حتى نكثوا بيعته وخذلوه وأسلموه وقتل بينهم ولم يمنعوه وخرجوا إلى الحسين ع فحضروه ومنعوه المسير في بلاد الله واضطروه إلى حيث لا يجد ناصرا ولا مهربا منهم وحالوا بينه وبين ماء الفرات حتى تمكنوا منه وقتلوه فمضى ع ظمآن مجاهدا صابرا محتسبا مظلوما قد نكثت بيعته وانتهكت حرمته ولم يوف له بعهد ولا رعيت فيه ذمة عقد شهيدا على ما مضى عليه أبوه وأخوه ع والصلاة والرحمة.

أقول مناقب الحسين ع واضحة الظهور وسنا شرفه ومجده مشرق النور فله الرتبة العالية والمكانة السامية في كل الأمور فما اختلف في نبله وفضله واعتلاء محله أحد من الشيعة ولا الجمهور.

عرف العالمون فضلك بالعلم

وقال الجهال بالتقليد

٥

وكيف لا يكون كذلك وقد اكتنفه الشرف من جميع أكنافه وظهرت مخائل السؤدد على شمائله وأعطافه وكاد الجلال يقطر من نواحيه وأطرافه وهذا قول لا أخاف أن يقول مسلم بخلافه الجد محمد المصطفى والأب علي المرتضى والجدة خديجة الكبرى والأم فاطمة الزهراء والأخ الحسن ذو الشرف والفخار والعم جعفر الطيار والبيت من هاشم الصفوة الأخيار فهو وأخوه ع صفوة الصفوة ونور الأنوار وهو في نفسه السيد الشريف والطود المنيف والشجاع الغطريف والأسد الهصور (١) والفارس المذكور والعلم المشهور.

أتاه المجد من هنا وهنا

وكان له بمجتمع السيول

وقد تقدم في أخبار أبيه وأخيه ما هو قسيمهما فيه فما افترعا غارب (٢) مجد إلا افترعه ولا جمعا شمل سؤدد إلا جمعه ولا نالا رتبة علاء إلا نالها ولا طالا هضبة عز (٣) إلا طالها وأنا أذكر في هذا الفصل شيئا مما ورد في وصف فضائله وما ورد فيه التذاذا بتكرير مناقبه ومفاخره وطربا بعد مزاياه ومآثره وإن كان في تضاعيف هذا الكتاب من نعوته وصفاته ما فيه غنية كافية لأولي الألباب والله الموفق للصواب.

قال يعلى بن مرة سمعت رسول الله ص يقول حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط.

وروي عن أبي عوانة يرفعه إلى النبي ص أنه قال إن الحسن والحسين شنفا العرش (٤) وإن الجنة قالت يا رب أسكنتني الضعفاء والمساكين فقال الله تعالى لها أما ترضين أني زينت أركانك بالحسن والحسين قال فماست كما تميس

__________________

(١) الغطريف : السيّد. والهصور : الأسد.

(٢) الغارب : أعلى كل شيء.

(٣) الهضبة : ما ارتفع من الأرض. وقيل : الجبل الطويل الممتنع المنفرد.

(٤) الشنف : القرط الأعلى.

٦

العروس فرحا (١).

وروي عن جعفر بن محمد الصادق ع قال اصطرع الحسن والحسين بين يدي رسول الله ص فقال رسول الله ص إيها حسن خذ حسينا فقالت فاطمة ع يا رسول الله أتستنهض الكبير على الصغير فقال رسول الله ص هذا جبرئيل يقول للحسين إيها حسين خذ الحسن.

وروي عن أم الفضل بنت الحارث أنها دخلت على رسول الله ص فقالت يا رسول الله رأيت البارحة حلما منكرا (٢) قال وما هو قالت إنه شديد قال ما هو قالت رأيت كأن قطعة من جسدك قطعت فوضعت في حجري فقال رسول الله ص رأيت خيرا تلد فاطمة ع الحسين (٣) قالت وكان في حجري كما قال رسول الله ص فدخلت يوما على النبي ص فوضعته في حجره ثم حانت مني التفاته فإذا عينا رسول الله ص تهرقان بالدموع (٤) فقلت بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما لك قال أتاني جبرئيل فأخبرني أن أمتي ستقتل ابني هذا وأتاني بتربة من تربته حمراء.

وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت بينا رسول الله ص ذات يوم جالس والحسن والحسين ع في حجره إذ هملت عيناه بالدموع (٥) فقلت يا

__________________

(١) ماس : تبختر.

(٢) الحلم ـ بالضم ـ : ما يراه النائم في نومه لكنه قد غلب على ما يراه من الشر والقبيح كما غلبت الرؤيا على ما يراه من الخير والحسن ، وربما استعمل كل مكان الآخر.

(٣) وقد مر مثل هذا الحديث في باب فضل الحسن (ع) عن أم الفضل وكثيرا ما تجد الروايات في فضائل الحسنين (ع) شبيهة متنا وسندا في كتب الفريقين ، ولعلّ الوجه في ذلك كون الاسمان قريبان في الكتابة فصار هذا سببا لاشتباه الرواة أو النسّاخ وقد وقع نظيره في ساير الأبواب أيضا كما لا يخفى على المتتبع في الآثار والاخبار.

(٤) هرق الماء : صبه.

(٥) هملت عينه : فاضت.

٧

رسول الله ما لي أراك تبكي جعلت فداك فقال جاءني جبرئيل ع فعزاني بابني الحسين وأخبرني أن طائفة من أمتي تقتله لا أنالهم الله شفاعتي.

وروي بإسناد آخر عن أم سلمة رضي الله عنها قالت خرج رسول الله ص من عندنا ذات ليلة فغاب عنا طويلا وعاد وهو أشعث أغبر ويده مضمومة فقلت يا رسول الله ما لي أراك أشعث مغبرا فقال أسري بي في هذا الوقت إلى موضع من العراق يقال له كربلاء فأريت فيه مصرع الحسين ابني وجماعة من ولدي وأهل بيتي فلم أزل ألقط دمائهم فها هي في يدي وبسطها لي فقال لي خذيها فاحتفظي بها فأخذتها فإذا هي شبه تراب أحمر فوضعته في قارورة وسددت رأسها واحتفظت بها فلما خرج الحسين ع من مكة متوجها إلى العراق كنت أخرج تلك القارورة في كل يوم فأشمها وأنظر إليها وأبكي لمصابه فلما كان اليوم العاشر من المحرم وهو اليوم الذي قتل فيه ع أخرجتها في أول النهار وهي بحالها ثم عدت إليها في آخر النهار فإذا هي دم عبيط فصحت في بيتي وبكيت وكظمت غيظي مخافة أن تسمع أعداؤهم بالمدينة فيسرعوا بالشماتة فلم أزل حافظة للوقت واليوم حتى جاء الناعي ينعاه فحقق ما رأيت.

وروي أن النبي ص كان ذات يوم جالسا وحوله علي وفاطمة والحسن والحسين ع فقال لهم كيف أنتم إذا كنتم صرعى وقبوركم شتى فقال له الحسين ع أنموت موتا أو نقتل قتلا فقال بل تقتل يا بني ظلما ويقتل أخوك ظلما وتشرد ذراريكم (١) في الأرض فقال الحسين ع ومن يقتلنا يا رسول الله قال شرار الناس قال فهل يزورنا بعد قتلنا أحد قال نعم يا بني طائفة من أمتي يريدون بزيارتكم بري وصلتي فإذا كان يوم القيامة جئتها إلى الموقف حتى آخذ بأعضادها فأخلصها من أهواله وشدائده

قلت هذا الخبر بهذه السياقة نقلته من إرشاد الشيخ المفيد رحمه‌الله تعالى وعندي فيه نظر فإن الحسين ع كان أصغر الجماعة الذين ذكرهم ع

__________________

(١) شرد شملهم : فرق جمعهم. وقيل : التشريد تفريق على اضطراب.

٨

فكيف خصه بالسؤال والجواب دونهم وكيف صدع قلبه على صغره وحداثته بذكر القتل وأزعج قلب الأم ع بما لقي به ولديها ع وكيف تفرغ الحسين ع مع سماع هذا جميعه إلى أن يسأل عن الزوار والله سبحانه أعلم.

" وروى عبد الله بن شريك العامري قال كنت أسمع أصحاب محمد ع إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون هذا قاتل الحسين بن علي ع وذلك قبل أن يقتل بزمان طويل.

وروى سالم بن أبي حفصة قال قال عمر بن سعد للحسين يا با عبد الله إن قبلنا ناسا سفهاء يزعمون أني أقتلك فقال الحسين ع إنهم ليسوا بسفهاء ولكنهم حلماء أما إنه يقر بعيني أنك لا تأكل بر العراق بعدي إلا قليلا.

" وروى يوسف بن عبيدة قال سمعت محمد بن سيرين يقول لم نر هذه الحمرة في السماء إلا بعد قتل الحسين ع.

وروى سعد الإسكاف قال قال أبو جعفر محمد بن علي ع كان قاتل يحيى بن زكريا ع ولد زنا وكان قاتل الحسين بن علي ع ولد زنا ولم تحمر السماء إلا لهما.

وروى سفيان بن عيينة عن علي بن زيد عن علي بن الحسين ع قال خرجنا مع الحسين ع فما نزلنا منزلا ولا ارتحلنا منه إلا وذكر يحيى بن زكريا ع وقال يوما من الأيام من هوان الدنيا على الله عزوجل أن رأس يحيى بن زكريا أهدي إلى بغي من بغايا من بني إسرائيل وتظاهرت الأخبار بأنه لم ينج أحد من قاتل الحسين ع وأصحابه رضي الله عنهم من قتل أو بلاء افتضح به قبل موته.

قال الشيخ كمال الدين رحمه‌الله الفصل الخامس فيما ورد في حقه من جهة النبي ص قولا وفعلا وهو فصل مستحلى الموارد والمصادر ومستعلى المحامد والمآثر مسفر عن جمل المناقب السوافر مشعر بأن الحسن والحسين ع أحرزا على المعالي وأفخرا المفاخر فإن رسول الله ص

__________________

(١) أسفرت المرأة : كشف عن وجهها.

٩

خصهما من مزايا العلاء بأتم معنى ومنحهما من سجايا الثناء كل مثنى فأفرد وثنى ومدح وأثنى وأنزلهما ذروة السناء الأسنى فأما ما يخص الحسن ع فقد تقدم في فضله وأما تمام المشترك وما يخص الحسين فهذا أوان إحراز خصله

فمنه حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أخرجه الإمام أحمد بن حنبل والترمذي كل منهما في صحيحه يرويه عنه بسنده وقد تقدم طرف منه في فضل فاطمة ع (١) وجملة الحديث أن حذيفة قال لأمه دعيني آتي رسول الله ص فأصلي معه وأسأله أن يستغفر لي ولك فأتيته وصليت معه المغرب ثم قام فصلى حتى صلى العشاء ثم انفتل فتبعته فسمع صوتي فقال من هذا حذيفة قلت نعم قال ما حاجتك قلت تستغفر لي ولأمي فقال غفر الله لك ولأمك إن هذا ملك لم ينزل الأرض قط من قبل هذه الليلة استأذن ربه أن يسلم علي ويبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة وأن الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة.

ومنه ما أخرجه الترمذي أيضا أن النبي ص أبصر حسنا وحسينا فقال اللهم إني أحبهما فأحبهما.

ومنه ما رواه ابن الجوزي رحمه‌الله بسنده في صفة الصفوة عن رسول الله ص أنه قال إن هذان ابناي فمن أحبهما فقد أحبني يعني الحسن والحسين.

ومن المشترك جملة تقدمت في فضل الحسن ع فلا حاجة إلى إعادتها هاهنا.

ومنه ما أخرجه أيضا الترمذي بسنده عن يعلى بن مرة قال قال رسول الله ص حسين مني وأنا من حسين أحب الله من أحب حسينا حسين سبط من الأسباط.

" ومنه ما نقله الإمام محمد بن إسماعيل البخاري والترمذي رضي الله عنهما بسندهما كل واحد منهما في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنه وسأله رجل عن دم البعوض

__________________

(١) راجع ص ٧٨ من هذا الجزء.

١٠

فقال ممن أنت فقال من أهل العراق فقال انظروا إلى هذا يسألني عن دم البعوض وقد قتلوا ابن النبي ص وسمعت النبي ص يقول هما ريحانتاي من الدنيا.

وروي أنه سأله عن المحرم يقتل الذباب فقال يا أهل العراق تسألوني عن قتل الذباب وقد قتلتم ابن رسول الله ص وذكر الحديث وفي آخره وهما سيدا شباب أهل الجنة.

" ومنه ما أخرجه الترمذي رحمه‌الله في صحيحه بسنده عن سلمى الأنصارية قالت دخلت على أم سلمة زوج النبي ص وهي تبكي فقلت ما يبكيك قالت رأيت الآن النبي ص في المنام وعلى رأسه ولحيته التراب فقلت ما لك يا رسول الله قال شهدت قتل الحسين آنفا.

" ومنه ما أخرجه البخاري والترمذي رضي الله عنهما في صحيحيهما كل منهما بسنده عن أنس رضي الله عنه قال أتي عبيد الله بن زياد برأس الحسين ع فجعل في طست فجعل ينكته فقال في حسنه شيئا قال أنس فقلت والله إنه كان أشبههم برسول الله ص وكان مخضوبا بالوسمة.

وفي رواية الترمذي فجعل يضرب بقضيب في أنفه ولقد وفق الترمذي فإنه لما روى هذا الحديث وذكر فعل ابن زياد زاده الله عذابا نقل ما فيه اعتبار واستبصار فإنه روى في صحيحه بسنده عن عمار بن عمير قال لما قتل عبيد الله بن زياد وجيء برأسه ورءوس أصحابه ونضدت في المسجد في الرحبة فانتهيت إليهم والناس يقولون قد جاءت قد جاءت فإذا حية قد جاءت تخلل الرءوس حتى جاءت فدخلت في منخر عبيد الله بن زياد فمكث هنيئة ثم خرجت فذهبت حتى تغيبت ثم قالوا قد جاءت ففعلت ذلك مرارا.

قال علي بن عيسى عفا الله عنه بكرمه ووفقه لتأدية شكر إحسانه ونعمه لا ريب أن هذه موعظة لأولى الأبصار وعجيبة من عجائب هذه الدار وصغيرة بالنسبة إلى

__________________

(١) نكت الأرض بقضيب : ضربها به فأثر فيها.

١١

ما أعد الله لهؤلاء الظلمة من عذاب النار فإنهم ركبوا من قتل الحسين وأهله وسبي حريمه ما لا يركب مثله مردة الكفار ولا يقدم عليه إلا من خلع ربقة الدين وجاهر الله بالعداوة فحسبه جهنم (وَبِئْسَ الْقَرارُ).

قلت وقد ذكره عز الدين بن الأثير الجزري رحمه‌الله في تاريخه.

وروى الحافظ عبد العزيز بن الأخضر الجنابذي في كتابه معالم العترة الطاهرة مرفوعا إلى عائشة قالت كانت لنا مشربة (١) فكان النبي ص إذا أراد لقاء جبرئيل ع لقيه فيها فلقيه رسول الله ص مرة من ذلك فيها وأمر عائشة أن لا يصعد إليه أحد ودخل حسين بن علي ولم تعلم حتى غشيهما فقال له جبرئيل من هذا فقال رسول الله ص ابني فأخذه النبي ص فجعله على فخذه فقال أما إنه سيقتل فقال رسول الله ص ومن يقتله قال أمتك فقال النبي ص أمتي تقتله قال نعم وإن شئت أخبرتك بالأرض التي تقتل فيها فأشار جبرئيل إلى الطف بالعراق وأخذ تربة حمراء فأراه إياها وقال هذه من تربة مصرعه.

ومن الكتاب المذكور عن الأصبغ بن نباته عن علي ع قال أتينا معه موضع قبر الحسين فقال علي ع هاهنا مناخ ركابهم وموضع رحالهم وهاهنا مهراق دمائهم فتية من آل محمد ص يقتلون بهذه العرصة تبكي عليهم السماء والأرض.

ومنه يرفعه إلى عبد الله بن مسعود قال بينما نحن جلوس عند النبي ص إذ دخل فتية من قريش فتغير لونه فقلنا يا رسول الله لا نزال نرى في وجهك الشيء نكرهه فقال أنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وإن أهل بيتي سيلقون بعدي تطريدا وتشريدا.

ومن كتابه مرفوعا إلى العوام بن حوشب قال بلغني أن رسول الله ص نظر إلى شباب من قريش كأن وجوههم سيوف مصقولة ثم رئي في وجهه كابة (٢) حتى

__________________

(١) المشربة : واحدة المشارب وهي العلالى. ه. م. أقول : ويقال لها غرفة أيضا.

(٢) الكأبة : الحزن والغم.

١٢

عرفوا ذلك فقالوا يا رسول الله ما شأنك قال إنا أهل بيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وأني ذكرت ما يلقى أهل بيتي من بعدي من أمتي من قتل وتطريد وتشريد.

وروى الجنابذي مرفوعا إلى يحيى بن أبي بكر عن بعض مشيخته قال قال الحسين بن علي ع حين أتاه الناس فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد أيها الناس انسبوني وانظروني من أنا ثم ارجعوا أنفسكم وعاتبوها فانظروا هل يحل لكم سفك دمي وانتهاك حرمتي ألست ابن بنت نبيكم ص وابن ابن عمه وابن أولى المؤمنين بالله أوليس حمزة سيد الشهداء عمي أولم يبلغكم قول رسول الله ص مستفيضا فيكم لي ولأخي أنا سيدا شباب أهل الجنة أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي وانتهاك حرمتي قالوا ما نعرف شيئا مما تقول فقال إن فيكم من سألتموه لأخبركم أنه سمع ذلك من رسول الله ص في وفي أخي الحسن سلوا زيد بن ثابت والبراء بن عازب وأنس بن مالك يحدثكم أنه سمع ذلك من رسول الله ص في وفي أخي فإن كنتم تشكون في هذا فتشكون في إني ابن بنت نبيكم ص فو الله ما تعمدت كذبا منذ عرفت إن الله تعالى يمقت على الكذب أهله ويضربه من اختلقه فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري منكم ولا من غيركم ثم أنا ابن بنت نبيكم ص خاصة دون غيره خبروني هل تطلبوني بقتيل منكم قتلته أو بمال استهلكته أو بقصاص من جراحة فسكتوا قال أفقر عباد الله إلى رحمته وشفاعة نبيه وأئمته ع علي بن عيسى أغاثه الله تعالى يوم الفزع الأكبر كأن الحسين ع فارس الحرب الذي لا يصطلى بناره ولا تقدم غلب الأسود على شق غباره ولم يقل هذا القول ضراعة ولا خوارا (١) فإنه كان عالما بما يئول أمره إليه عارفا بما هو قادم عليه عرف ذلك من أبيه وجده عليهم الصلاة والسلام واطلع على حقيقته بما خصه الله به من بين الأنام فله الكشف والنظر وهو وأخوه قبله وبنوه من بعده خيرة

__________________

(١) الخوار : الضعف والفتور.

١٣

الله من البشر ينظرون إلى الغيب من وراء ستر رقيق ويشاهدون بمرايا خواطرهم الصقيلة ويشهدون بعداوة العدو وصداقة الصديق وإنما كان ذلك القول منه وتكراره إقامة للحجة عليهم ودفعا في صدر من ربما قال لم أعلم أو كنت مشدوها (١) أو اشتبه علي الأمر فلم أهتد لوجه الصواب فنفى هذه الاحتمالات بإنذاره وإعذاره وتركهم ولا حاجز بينهم وبين عذاب الله وناره (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً)

السادس في علمه وشجاعته وشرف نفسه

أقول والله الموفق للصواب إن علوم أهل البيت ع لا تتوقف على التكرار والدرس ولا يزيد يومهم فيها على ما كان في الأمس ولا يعلمونها بالقياس والفكر والحدس لأنهم المخاطبون في أسرارهم المكلمون بما يسألونه قبل ارتداد النفس فسماء معارفهم وعلومهم بعيدة عن الإدراك واللمس فمن أراد ستر فضائلهم كان كمن أراد ستر وجه الشمس وهذا مما يجب أن يكون ثابتا مقررا في النفس فهم يرون عالم الغيب في عالم الشهادة ويقفون على حقائق المعارف في خلوات العبادة وتناجيهم أفكارهم في أوقات أذكارهم بما تسنموا به غارب الشرف والسيادة ويحصلون بصدق توجههم إلى جنات القدس ما بلغوا به منتهى السؤال والإرادة فهم كما في نفوس أوليائهم ومحبيهم وزيادة فما تزيد معارفهم في زمان الشيخوخة على معارفهم في زمان الولادة فهم خيرة الخير وزبدة الحقب وواسطة القلادة وهذه أمور تثبت لهم بالقياس والنظر ومناقب واضحة الحجول بادية الغرور ومزايا تشرق إشراق الشمس والقمر وسجايا تزين عنوان التواريخ وعيون السير فما سألهم مستفيد أو ممتحن فوقفوا ولا أنكر منكر أمرا من أمور الدين إلا علموا وعرفوا ولا جروا مع غيرهم في مضمار شرف إلا سبقوا وقصر مجاروهم وتخلفوا سنة جرى عليها الذين تقدموا وأحسن اتباعهم الذين خلفوا وكم عانوا في الجلاد والجدال أمورا

__________________

(١) المشدوه : المتحير المدهوش.

١٤

فتلقوها بالرأي الأصيل والصبر الجميل وما استكانوا ولا ضعفوا فلهذا وأمثاله سموا على الأمثال وشرفوا.

فأيهم اعتبرت أحواله وتدبرت أقواله وشاهدت جلاده وجداله وجدته فريدا في مآثره وحيدا في مزاياه ومفاخره مصدقا قديم أوله بحديث آخره فقد أفرغوا في قالب الكمال وتفردوا بجميل الخلال وارتدوا مطارف المجد والجلال وقالوا فأبانوا وبينوا تقصير كل من قال وأتوا بالإعجاز الباهر في الجواب والسؤال تقر الشقاشق إذا هدرت شقاشقهم (١) وتصغي الأسماع إذا قال قائلهم أو نطق ناطقهم ويكثف الهواء إذا قيست به خلائقهم ويقف كل ساع عن شأوهم فلا تدرك غايتهم ولا تنال طرائقهم سجايا منحهم بها خالقهم وأخبر بها صادقهم فسر بها أولياؤهم وأصادقهم وحزن لها مبانيهم ومفارقهم فإنه ص أزال الشبهة والالتباس وصرح بفضلهم لئلا يفتقر في إيضاحه إلى الدليل والقياس ونطق معلنا بشرفهم الداني الثمار الزاكي الغراس فقال لو سمع مقاله إنا بني عبد المطلب سادات الناس صلى الله عليه وعليهم أجمعين صلاة دائمة باقية إلى يوم الدين.

وقد حل الحسين ع من هذا البيت الشريف في أوجه ويفاعه (٢) وعلا محله فيه علوا تطامنت النجوم عن ارتفاعه واطلع بصفاء سره على غوامض المعارف فكشفت له الحقائق عند اطلاعه وسار صيته بالفواضل والفضائل فاستوى الصديق والعدو في استماعه فلما اقتسمت غنائم المجد حصل على صفاياه ومرباعه فقد اجتمع فيه وفي أخيه ع من خلال الفضل ما لا خلاف في اجتماعه وكيف لا يكونا كذلك وهما ابنا علي وفاطمة ع بلا فصل وسبطا النبي ص فأكرم بالفرع والأصل والسيدان الإمامان قاما أو قعدا فقد استوليا على الأمد وحازا الخصل والحسين ع هو الذي أرضى غرب السنان وحد النصل و

__________________

(١) الشقاشق جمع الشقيقة : طائر. وهدر الحمام : صوت.

(٢) اليفاع : ما ارتفع من الأرض.

١٥

غادر جثث الأعداء فرائس الكواسب بالهبر والفصل (١)

وأما شجاعته ع فقد قال كمال الدين رحمه‌الله اعلم وفقك الله على حقائق المعاني ووفقك لإدراكها أن الشجاعة من المعاني القائمة بالنفوس والصفات المضافة إليها فهي تدرك بالبصيرة لا بالبصر ولا تمكن معرفتها بالحس مشاهدة لذاتها إذ ليست أجساما كثيفة بل طريق معرفتها والعلم بها مشاهدة آثارها فمن أراد أن يعلم أن زيدا موصوف بالشجاعة فطريقه أن ينظر إلى ما يصدر منه فإذا أحدقت الرجال وحدقت الآجال وحقت الأوجال وتضايق المجال وحاق القتال (٢) فإن كان مجزاعا مهلاعا مرواعا مفزاعا فتراه يستركب الهزيمة ويستبقها ويستصوب الدنية ويتطوقها ويستعذب المفرة ويستفوقها ويستصحب الذلة ويتعلقها مبادرا إلى تدرع عار الفرار من شبا الشفار (٣) مشيحا عن الفخار (٤) باقتحام الأخطار في مقر القراع بكل خطار (٥) فذلك مهبول الأم (٦) مخبول الفهم مفلول الجمع معزول عن السمع مضروب بينه وبين الشجاعة بحجاب مكتوب بينه وبين الشهامة بإبراء في كتاب ولا تعرف نفسه شرفا ولا تجد عن الخساسة والدناءة منصرفا.

وإن كان مجسارا مجزارا كرارا صبارا يسمع من أصوات وقع الصوارم نغم المزاهر المطربة ويسرع إلى مصاف التصادم مسارعته إلى مواصلة النواضر المعجبة خائضا غمرات الأهوال بنفس مطمئنة وعزيمة مطنبة يعد مصافحة

__________________

(١) غادره : تركه وأبقاه. والهبر : ما اطمأن من الأرض والرمل.

(٢) حاق حيقا وحوقا به : أحاط.

(٣) شبا جمع الشباة وهو من السيف حده. والشفار جمع الشفرة : السكين العظيمة العريضة.

(٤) أشاح عن الشيء : أعرض.

(٥) قارع الابطال قراعا : ضارب بعضهم بعضا.

(٦) هبلته أمه : ثكلته.

١٦

الصفاح غنيمة باردة ومرامحة الرماح فائدة عائدة ومكافحة الكتائب مكرمة زائدة ومناوحة المقانب (١) منقبة شاهدة يعتقد أن القتل يلحقه ظلل الحياة الأبدية ويسعفه حلل المحامد السرمدية ويزلفه في منازل الفخار العلية المعدة للشهداء الأحدية جانحا إلى ابتياع العز بمهجته ويراها ثمنا قليلا جامحا عن ارتكاب الدنايا وإن غادره جماحه قتيلا.

يرى الموت أحلى من ركوب دنية

ولا يغتدي للناقصين عديلا

ويستعذب التعذيب فيما يفيده

نزاهته عن أن يكون دليلا

فهذا مالك أزمة الشجاعة وحائزها وله من قداحها معلاها وفائزها قد تفوق بها لبان الشرف واغتذاه وتطوق درة سحابه المستحلى وتحلاه وعبق نشر أرجه المنتشر مما أتاه ونطق فعله بمدحه وإن لم يفض فاه وصدق والله واصفه بالشجاعة التي يحبها الله.

وإذا ظهرت دلائل الآثار على مؤثرها وأسفرت عن تحقق مثيرها ومشمرها فقد صرح النقلة في صحائف السير بما رأوه وجزموا القول بما نقله المتقدم إلى المتأخر فيما رووه أن الحسين ع لما قصد العراق وشارف الكوفة سرب إليه أميرها يومئذ عبيد الله بن زياد الجنود لمقابلته أحزابا وحزب عليه الجيوش لمقاتلته أسرابا (٢) وجهز من العساكر عشرين ألف فارس وراجل يتتابعون كتائبا وأطلابا فلما حضروه وأحدقوا به شاكين في العدة والعديد ملتمسين منه نزوله على حكم ابن زياد وبيعته ليزيد فإن أبى ذلك فليؤذن بقتال يقطع الوتين وحبل الوريد ويصعد الأرواح إلى المحل الأعلى ويصرع الأشباح على الصعيد فتبعت نفسه الأبية جدها وأباها وعزفت عن التزام الدنية فأباها ونادته النخوة الهاشمية فلباها ومنحها بالإجابة إلى مجانبة الذلة وحباها فاختار مجالدة الجنود ومضاربة ظباها ومصارمة صوارمها وشيم شباها ولا يذعن

__________________

(١) المقانب : الذئاب الضارية.

(٢) سرب الماء : أساله. والاسراب جمع السرب : القطيع من الحيوان.

١٧

لوصمة (١) تسم بالصغار من شرفه خدودا وجباها.

وقد كان أكثر هؤلاء المخرجين لقتاله قد شايعوه وكاتبوه وطاوعوه وعاهدوه وتابعوه وسألوه القدوم عليهم ليبايعوه فلما جاءهم كذبوه ما وعدوه وأنكروه وجحدوه ومالوا إلى السحت العاجل فعبدوه وخرجوا إلى قتاله رغبة في عطاء ابن زياد فقصدوه فنصب ع نفسه وإخوته وأهله وكانوا نيفا وثمانين لمحاربتهم واختاروا بأجمعهم القتل على متابعتهم ليزيد ومبايعتهم فاعتلقتهم الفجرة اللئام ورهقتهم المردة الطغام ورشقتهم النبال والسهام وأوثقتهم من شبا شفارها الكلام.

هذا والحسين ع ثابت لا تخف حصاة شجاعته ولا تجف عزيمة شهامته وقدمه في المعترك أرسى من الجبال وقلبه لا يضطرب لهول القتال ولا لقتل الرجال وقد قتل قومه من جموع ابن زياد جمعا جما وأذاقوهم من الحمية الهاشمية رهقا وكلما (٢) ولم يقتل من العصابة الهاشمية قتيل حتى أثخن في قاصديه وقتل وأغمد ظبته في أبشارهم وجدل فحينئذ تكالبت طغام الأجناد على الجلاد وتناسبت الأجلاد في المفاضلة بالحداد وثبت كثرة الألوف منهم على قلة الآحاد وتقاربت من الأنوف الهاشمية الآجال المحتومة على العباد فاستبقت الأملاك البررة إلى الأرواح وباء الفجرة بالآثام في الأجساد فسقطت أشلاؤهم المتلاشية على الأرض صرعى تصافح منها صعيدا ونطقت حالهم بأن لقتلهم يوما (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) وتحققت النفوس المطمئنة بالله كون الظالم والمظلوم شقيا وسعيدا وضاقت (الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) على حرم الحسين ع وأطفاله إذ بقي وحيدا.

فلما رأى ع وحدته ورزء أسرته وفقد نصرته تقدم على فرسه إلى القوم حتى واجههم

__________________

(١) الوصمة : العار والعيب.

(٢) الرهق : الضعف. الذلة. الهلاك. والكلم : الجرح.

١٨

وقال لهم. يا أهل الكوفة قبحا لكم وتعسا حين استصرختمونا والهين فأتيناكم موجفين (١) فشحذتم علينا سيفا كان في أيماننا وحششتم علينا نارا (٢) نحن أضرمناها على أعدائكم وأعدائنا فأصبحتم ألبا (٣) على أوليائكم ويدا لأعدائكم من غير عدل أفشوه فيكم ولا ذنب كان منا إليكم فلكم الويلات هلا إذ كرهتمونا (٤) والسيف ما شيم والجأش ما طاش والرأي لم يستحصد ولكنكم أسرعتم إلى بيعتنا إسراع الدنيا وتهافتم إليها كتهافت الفراش ثم نقضتموها سفها وضلة وطاعة لطواغيت الأمة وبقية الأحزاب ونبذ الكتاب ثم أنتم هؤلاء تتخاذلون عنا وتقتلونا (أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ). ثم حرك إليهم فرسه وسيفه مصلت في يده وهو آيس من نفسه عازم على الموت وقال هذه الأبيات.

أنا بن علي الخير من آل هاشم

كفاني بهذا مفخر حين أفخر

وجدي رسول الله أكرم من مشى

ونحن سراج الله في الخلق تزهر

وفاطمة أمي سلالة أحمد

وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر

وفينا كتاب الله أنزل صادقا

وفينا الهدى والوحي والخير يذكر

ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا (٦)

بكأس رسول الله ما ليس ينكر

وشيعتنا في الناس أكرم شيعة

ومبغضنا يوم القيامة يخسر

ثم دعا الناس إلى البراز فلم يزل يقاتل ويقتل من برز إليه منهم من عيون

__________________

(١) أي مسرعين.

(٢) حش النار : أوقدها.

(٣) الالب ـ بالكسر والفتح لغة ـ : القوم يجتمعون على عداوة الإنسان.

(٤) وفي بعض النسخ «تركتمونا» مكان «كرهتمونا».

(٥) شام السيف شيما : أغمده. استله. (ضد) والجاش : رواع القلب إذا اضطرب عند الفزع. والطيش : الخفة. واستحصد الامر. استحكم.

(٦) وفي بعض النسخ «ونحن ولاة الأرض نسقى ولاتنا».

١٩

الرجال حتى قتل منهم مقتلة كثيرة فتقدم إليه شمر بن ذي الجوشن في جمعه وسيأتي تفصيل ما جرى بعد ذلك في فصل مصرعه ع إن شاء الله.

هذا وهو كالليث المغضب لا يحمل على أحد منهم إلا نفحه بسيفه (١) فألحقه بالحضيض فيكفي ذلك في تحقيق شجاعته وشرف نفسه شاهدا صادقا فلا حاجة معه إلى ازدياد في الاستشهاد آخر كلام كمال الدين رحمه‌الله.

قلت شجاعة الحسين ع يضرب بها المثل وصبره في مأقط الحرب (٢) أعجز الأواخر والأول وثباته إذا دعيت نزال ثبات الجبل وإقدامه إذا ضاق المجال إقدام الأجل ومقامه في مقابلة هؤلاء الفجرة عادل مقام جده ص ببدر فاعتدل وصبره على كثرة أعدائه وقلة أنصاره صبر أبيه ع في صفين والجمل ومشرب العداوة واحد فبفعل الأول فعل الآخر ما فعل فكم من فارس مدل ببأسه جدله ع فانجدل وكم من بطل طل دمه فبطل وكم حكم سيفه فحكم في الهوادي والقلل فما لاقى شجاعا إلا وكان لأمه الهبل وحشرهم الله وجازى كلا بما قدم من العمل وإذا علمت أن شعار الحسين ع وأصحابه أعل يا حق وشعار أعدائه أعل هبل علمت أن هؤلاء في نعيم لا يزول وأولئك في شقاء لم يزل وكما قتل أبوه وانتقل إلى جوار ربه قتل هو وانتقل وكان له عند الله مرتبة لا تنال إلا بالشهادة فتم له ما أراد وكمل وباء قاتلوه بنار الله المؤصدة في الآخرة ولا يهدي الله من أضل وما سلموا من آفات الدنيا بل عجلت لهم العقوبة فعمت من رضي ومن خذل ومن قتل فتبا لآرائهم الغائلة وعقولهم الذاهلة فلقد أعماهم القضاء إذ نزل (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) وسمعهم وأبصارهم فما منهم إلا من جار عن الصواب وعدل فما أنصف ولا عدل وضلوا عن الحق فما لهم فيه قول ولا عمل وقبحا وشقحا (٣) لتلك القلوب التي غطاها الرين فلم تفرق بين ما علا واستفل وسوأة لتلك الوجوه التي شوهها الكفر والفسوق والعصيان وسودها الخطأ والخطل وسبة

__________________

(١) نفحه بسيفه : تناوله به من بعيد أو ضربه بطائفة منه.

(٢) الماقط : المكان الضيق في الحرب على ما قيل.

(٣) قبحا وشقحا : أتباع وقيل معناهما واحد.

٢٠