مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني

مناهل العرفان في علوم القرآن - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمّد عبدالعظيم الزرقاني


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار إحياء التراث العربي للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٥
الجزء ١ الجزء ٢

١

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) ، والصلاة والسلام على من أرسله الله بالقرآن رحمة للعالمين وفرجا ، سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحابته ، وأتباعه ومحبيه وأمته.

أما بعد ، فهذا كتاب «مناهل العرفان في علوم القرآن». كتبته تحقيقا لرغبة طلابى المتخصصين في الدعوة والإرشاد من كلية أصول الدين بالجامعة الأزهرية. مستمدا معارفه ـ بعد فتوح الله وتوفيقه ـ مما كتب علماء الإسلام قديما وحديثا ، فى القرآن الكريم وعلومه ، والتفسير ومقدماته ، وعلم تاريخ التشريع ، وعلمى الكلام والأصول ، وعلوم اللغة العربية ومعاجمها ، وعلمى الفلسفة والاجتماع ، وعلمى النفس والأخلاق ، وبعض البحوث المنثورة هنا وهناك ، فى غضون الرسائل والمجلات ، من عربية صميمة ، ومترجمة منقولة.

وإلى الله تعالى أضرع ، أن يكتب لى فيه النجاح والتوفيق والقبول ، وأن يحقق به النفع المرجوّ والأثر المأمول. (إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ).

٢

مقدّمة

فى القرآن وعلومه ومنهجى في التأليف

القرآن الكريم : كتاب ختم الله به الكتب ، وأنزله على نبى ختم به الأنبياء ، بدين عام خالد ختم به الأديان.

فهو دستور الخالق لإصلاح الخلق ، وقانون السماء لهداية الأرض ، أنهى إليه منزله كلّ تشريع ، وأودعه كلّ نهضة ، وناط به كلّ سعادة.

وهو حجة الرسول وآيته الكبرى : يقوم في فم الدنيا شاهدا برسالته ، ناطقا بنبوته ، دليلا على صدقه وأمانته.

وهو ملاذ الدين الأعلى : يستند الاسلام إليه في عقائده وعباداته ، وحكمه وأحكامه ، وآدابه وأخلاقه ، وقصصه ومواعظه ، وعلومه ومعارفه.! وهو عماد لغة العرب الأسمى : تدين له اللغة في بقائها وسلامتها ، وتستمدّ علومها منه على تنوعها وكثرتها ، وتفوق سائر اللغات العالمية به في أساليبها ومادّتها.

وهو ـ أولا وآخرا ـ القوّة المحوّلة التى غيّرت صورة العالم ، ونقلت حدود الممالك ، وحوّلت مجرى التاريخ ، وأنقذت الانسانية العاثرة ، فكأنما خلقت الوجود خلقا جديدا.! لذلك كله ، كان القرآن الكريم موضع العناية الكبرى من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وصحابته ، ومن سلف الأمة وخلفها جميعا إلى يوم الناس هذا.

وقد اتخذت هذه العناية أشكالا مختلفة ، فتارة ترجع إلى لفظه وأدائه ، وأخرى إلى أسلوبه وإعجازه ، وثالثة إلى كتابته ورسمه ، ورابعة إلى تفسيره وشرحه إلى غير ذلك.

٣

ولقد أفرد العلماء كل ناحية من هذه النواحى بالبحث والتأليف ، ووضعوا من أجلها العلوم ودوّنوا الكتب ، وتباروا في هذا الميدان الواسع أشواطا بعيدة ، حتى زخرت المكتبة الإسلامية بتراث مجيد من آثار سلفنا الصالح ، وعلمائنا الأعلام. وكانت هذه الثروة ولا تزال مفخرة نتحدّى بها أمم الأرض ، ونفحم بها أهل الملل والنّحل في كل عصر ومصر!

وهكذا أصبح بين أيدينا الآن مصنفات متنوعة ، وموسوعات قيّمة ، فيما نسميه علم القراءات ، وعلم التجويد ، وعلم النسخ العثمانى ، وعلم التفسير ، وعلم الناسخ والمنسوخ ، وعلم غريب القرآن ، وعلم إعجاز القرآن ، وعلم إعراب القرآن ، وما شاكل ذلك من العلوم الدينية والعربية ، مما يعتبر بحق أروع مظهر عرفه التاريخ لحراسة كتاب هو سيد الكتب ، وبات هذا المظهر معجزة جديدة مصدّقة لقوله سبحانه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ).

ولقد أنجبت تلك العلوم الآنفة وليدا جديدا ، هو مزيج منها جميعا ، وسليل لها جميعا ، فيه مقاصدها وأغراضها ، وخصائصها وأسرارها ، «والولد سرّ أبيه».

وقد أسموه (علوم القرآن) وهو موضوع دراستنا في هذا الكتاب إن شاء الله.

وسأحاول فيما أكتبه أن أمزج بين حاجة الأزهريين إلى البحث والتحليل ، وبين رغبات جماهير القراء المعاصرين في تقريب الأسلوب وتعبيد السبيل ، ما وسعنى الإمكان.

وسأضطر بسبب ذلك إلى شىء من الإسهاب والتطويل ، ولكنها تضحية ضئيلة بجانب تأدية رسالتنا في وجوب الاتصال الدينى بالجماهير.

وسأعرض ـ بعون الله وتأييده ـ لعلاج الشبهات التى أطلق بخورها أعداء الإسلام ، وسددوا سهامها الطائشة إلى القرآن ، ولكن عند المناسبة وسنوح الفرصة.

٤

وسنجتزئ في كل مبحث ببعض أمثلة من القرآن الكريم ، دون أن احاول ما حاوله سلف الكاتبين من استيعاب كل فرد لكل نوع ؛ فإن حبل ذلك طويل وثقيل ، على حين أن الناظر يكفيه الإيضاح بقليل من التمثيل.

وسأجعل نقاط المنهج المقرر عناوين بارزة بين المباحث التى يقوم عليها هذا الكتاب مقتفيا في الغالب أثر تلك النقط في التسمية وفي الترتيب. (وَما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ)

المبحث الأول

فى معنى علوم القرآن

يقتضينا منهج البحث التحليلى لهذا المركب الإضافى ، أن نتحدث عن طرفيه ، وعن الإضافة بينهما ، ثم عن المراد بهذا المركب بعد نقله وتسمية هذا الفن المدوّن به.

(١) أما العلوم : فجمع علم ، والعلم في اللغة مصدر يرادف الفهم والمعرفة ، ويرادف الجزم أيضا في رأى. ثم تداولت هذا اللفظ اصطلاحات مختلفة :

فالحكماء : يريدون به صورة الشيء الحاصلة في العقل ، أو حصول الصورة في العقل ، أو تعلق النفس بالشىء على جهة انكشافه. والتحقيق عندهم هو الاطلاق الأول.

والمتكلمون : يعرّفون العلم : بأنه صفة يتجلى بها الأمر لمن قامت به ، وهو مراد من قال منهم : «إنه صفة توجب لمحلها تمييزا لا يحتمل النقيض» ولو كان هذا التمييز بوساطة الحواس كما هو رأى الأشعرى.

ويطلق العلم في لسان الشرع العام : على معرفة الله تعالى وآياته ، وأفعاله في عباده وخلقه. قال الإمام الغزالى في الإحياء : «قد كان العلم يطلق على العلم بالله تعالى وآياته وبأفعاله في عباده وخلقه ، فتصرفوا فيه بالتخصيص حتى اشتهر في المناظرة مع الخصوم

٥

فى المسائل الفقهية وغيرها. ولكن ما ورد في فضل العلم والعلماء أكثره في المعنى الأول» ا ه وهو يفيد أن العلم الشرعى الخاص يطلق على أخص من هذا الذى ذكره الغزالى في لسان الشرع العام ، ولكن بحسب ما يقتضيه المقام. بل لقد نص الغزالى نفسه في الإحياء أيضا على أن الناس اختلفوا في العلم الذى هو فريضة على كل مسلم ، وقال : إنهم تفرّقوا فيه إلى عشرين فرقة. ثم ذهب إلى أن المراد به علم المعاملة الشامل لما يصلح الظاهر من عبادات وعادات إسلامية ، ولما يصلح الباطن من عقائد الإسلام وأخلاقه.

والماديون : يزعمون أن العلم ليس إلا خصوص اليقينيات التى تستند إلى الحسّ وحده وسنناقش مذهبهم في مبحث نزول القرآن.

ولسنا بسبيل بيان تلك الاصطلاحات الآنفة الذكر ، فلها علومها وكتبها ومباحثها ، إنما هو عرض عام ، يعرف منه كيف أن لفظا واحدا ـ هو العلم ـ أنهكته الاصطلاحات المتعددة ، وتداولته النقول المتنوعة ، فلا تقعنّ في لبس إذا ورد عليك في صور شبه متعارضة.

العلم في عرف التدوين العام :

والذى يعنينا كثيرا هو العلم في اصطلاح آخر ، هو اصطلاح علماء التدوين ، لأننا بصدد الكلام في علوم القرآن كفنّ مدوّن.

قالوا : يطلق العلم على المسائل المضبوطة بجهة واحدة. والغالب أن تكون تلك المسائل نظرية كلية ، وقد تكون ضرورية ، وقد تكون جزئية. أقول : وقد تكون شخصية أيضا كمسائل علم الحديث رواية ، فإنها في الواقع قضايا شخصية موضوعها ذات النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

وقال السعد في «المقاصد» وعبد الحكيم على المطول : ما يفيد أن العلم المدون قد يطلق على طائفة من التصورات ، أى المفردات التى يتصورها العقل مضبوطة بجهة واحدة.

وأقول : يمكن أن نستخلص من ذلك كله أن العلم في عرف التدوين العام يقال على المعلومات المنضبطة بجهة واحدة سواء أكانت وحدة الموضوع أم وحدة الغاية ؛ وسواء

٦

أكانت تلك المعلومات تصورات كعلم البديع ، أم تصديقات. وسواء أكانت تلك التصديقات قضايا كلية ـ وهو الغالب ـ أم جزئية أم شخصية كعلم الحديث رواية.

هذا كله إطلاق واحد من إطلاقات ثلاثة لعلماء التدوين. والإطلاق الثانى عندهم :

هو الإدراك أى إدراك تلك المعارف السالفة. والإطلاق الثالث : هو على ما يسمونه ملكة الاستحصال أى التى تستحصل بها تلك المعارف. أو ملكة الاستحضار أى التى تستحضر بها المعارف بعد حصولها. وأول هذه الإطلاقات هو أولاها بالقبول لأنه المتبادر من نحو قولهم : «تعلمت علما من العلوم ، وموضوع العلم كذا» والتبادر ـ كما يقولون ـ أمارة الحقيقة. ذلك ما أردنا بسطه في الكلام على لفظ «علوم» من قولنا «علوم القرآن».

٢ ـ أما لفظ القرآن : فهو في اللغة مصدر مرادف للقراءة ، ومنه قوله تعالى : (إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ، فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ثم نقل من هذا المعنى المصدرى وجعل اسما للكلام المعجز المنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من باب إطلاق المصدر على مفعوله.

ذلك ما نختاره استنادا إلى موارد اللغة ، وقوانين الاشتقاق ، وإليه ذهب اللحيانى وجماعة. أما القول بأنه وصف من القرء بمعنى الجمع ، أو أنه مشتق من القرائن. أو أنه مشتق من قرنت الشيء بالشىء ، أو أنه مرتجل أى موضوع من أول الأمر علما على الكلام المعجز المنزل ، غير مهموز ولا مجرد من أل ، فكل أولئك لا يظهر له وجه وجيه ، ولا يخلو توجيه بعضه من كلفة ، ولا من بعد عن قواعد الاشتقاق وموارد اللغة.

وعلى الرأى المختار فلفظ قرآن مهموز ؛ وإذا حذف همزه فإنما ذلك للتخفيف ، وإذا دخلته «ال» بعد التسمية فإنما هى للمح الأصل لا للتعريف.

ويقال للقرآن : فرقان أيضا ، وأصله مصدر كذلك ثم سمى به النظم الكريم ، تسمية للمفعول أو الفاعل بالمصدر ، باعتبار أنه كلام فارق بين الحق والباطل ، أو مفروق

٧

بعضه عن بعض في النزول ، أو في السور والآيات. قال تعالى : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً) ثم إن هذين الاسمين هما أشهر أسماء النظم الكريم. بل جعلهما بعض المفسرين مرجع جميع أسمائه ، كما ترجع صفات الله على كثرتها إلى معنى الجلال والجمال. ويلى هذين الاسمين في الشهرة : هذه الأسماء الثلاثة : الكتاب ، والذكر والتنزيل. وقد تجاوز صاحب البرهان حدود التسمية ، فبلغ بعدتها خمسة وخمسين ، وأسرف غيره فى ذلك حتى بلغ بها نيفا وتسعين ، كما ذكره صاحب التبيان. واعتمد هذا وذاك على إطلاقات واردة في كثير من الآيات والسور ، وفاتهما أن يفرقا بين ما جاء من تلك الألفاظ على أنه اسم ، وما ورد على أنه وصف ، ويتّضح ذلك لك على سبيل التمثيل ، فى عدهما من الأسماء ، لفظ «قرآن» ولفظ «كريم» أخذا من قوله تعالى (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ) كما عدّا من الأسماء لفظ «ذكر» ولفظ «مبارك» اعتمادا على قوله تعالى :

(وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) على حين أن لفظ قرآن وذكر في الآيتين ، مقبول كونهما اسمين. أما لفظ كريم ومبارك ؛ فلا شك أنهما وصفان كما ترى. والخطب في ذلك سهل يسير ، بيد أنه مسهب طويل ، حتى لقد أفرده بعضهم بالتأليف. وفيما ذكرناه كفاية (وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ).

القرآن في الاصطلاح

معلوم أن القرآن كلام الله ، وأن كلام الله غير كلام البشر ، ما في ذلك ريب. ومعلوم أيضا أن الإنسان له كلام ، قد يراد به المعنى المصدرى ، أى التكلم ، وقد يراد به المعنى الحاصل بالمصدر ، أى المتكلّم به. وكل من هذين المعنيين : لفظى ونفسى. فالكلام البشرى اللفظى بالمعنى المصدرى : هو تحريك الإنسان للسانه وما يساعده في إخراج الحروف من المخارج. والكلام اللفظى بالمعنى الحاصل بالمصدر : هو تلك الكلمات

٨

المنطوقة ، التى هى كيفية في الصوت الحسى ، وكلا هذين ظاهر لا يحتاج إلى توضيح. أما الكلام النفسى بالمعنى المصدرى ، فهو تحضير الإنسان في نفسه بقوته المتكلمة الباطنة ، للكلمات التى لم تبرز إلى الجوارح ؛ فيتكلم بكلمات متخيّلة يرتّبها في الذهن بحيث إذا تلفظ بها بصوت حسى كانت طبق كلماته اللفظية. والكلام النفسى بالمعنى الحاصل بالمصدر : هو تلك الكلمات النفسية والألفاظ الذهنية المترتبة ترتّبا ذهنيا منطبقا عليه الترتّب الخارجى.

ومن الكلام البشرى النفسى بنوعيه قوله تعالى : (فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ : أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً). ومنه الحديث الشريف الذى رواه الطبرانى عن أمّ سلمة أنها سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقد سأله رجل فقال : «إنّى لأحدّث نفسى بالشىء لو تكلّمت به لأحبطت أجرى» فقال عليه‌السلام : «لا يلقى ذلك الكلام إلّا مؤمن» فأنت ترى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سمّى ذلك الشيء الذى تحدثت به النفس كلاما ، مع أنه كلمات ذهنية لم ينطق بها الرجل مخافة أن يحبط بها أجره. وهذا الإطلاق من الرسول يحمل على الحقيقة لأنها الأصل ولا صارف عنها.

كذلكم القرآن كلام الله ـ ولله المثل الأعلى ـ قد يطلق ويراد به الكلام النفسى ، وقد يطلق ويراد به الكلام اللفظى. والذين يطلقونه إطلاق الكلام النفسى هم المتكلمون فحسب ، لأنهم المتحدثون عن صفات الله تعالى النفسية من ناحية ، والمقررون لحقيقة أن القرآن كلام الله غير مخلوق من ناحية أخرى. أما الذين يطلقونه إطلاق الكلام اللفظى ، فالأصوليون والفقهاء وعلماء العربية ، وإن شاركهم فيه المتكلمون أيضا ، بإطلاق ثالث عندهم كما يتبين لك بعد. وإنما عنى الأصوليون والفقهاء بإطلاق القرآن على الكلام اللفظى ، لأن غرضهم الاستدلال على الأحكام وهو لا يكون إلا بالألفاظ. وكذلك علما العربية يعنيهم أمر الإعجاز ، فلا جرم كانت وجهتهم الألفاظ.

٩

والمتكلمون يعنون أيضا بتقرير وجوب الإيمان بكتب الله المنزلة ومنها القرآن ، وبإثبات نبوة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمعجزة القرآن. وبدهى أن ذلك كله مناطه الألفاظ ، فلا بدع أن ساهموا فى هذا الإطلاق الثالث.

القرآن عند المتكلمين

ثم إن المتكلمين حين يطلقونه على الكلام النفسى لملاحظون أمرين :

أحدهما : أن القرآن علم أى كلام ممتاز عن كل ما عداه من الكلام الإلهى.

ثانيهما : أنه كلام الله ، وكلام الله قديم غير مخلوق ، فيجب تنزهه عن الحوادث وأعراض الحوادث.

وقد علمت أن الكلام النفسى البشرى يطلق بإطلاقين أحدهما : على المعنى المصدرى وثانيهما على المعنى الحاصل بالمصدر. فكذلك كلام الله النفسى. يطلق بإطلاقين أحدهما :

على نظير المعنى المصدرى للبشر. وثانيهما : على نظير المعنى الحاصل بالمصدر للبشر. وإنما قلنا (على نظير) لما هو مقرر من وجوب تنزه الكلام الإلهى النفسى عن الخلق وأشباه الخلق. فعرفوه بالمعنى الأول الشبيه بالمعنى المصدرى البشرى. وقالوا : «إنه الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الحكمية. من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس».

وهذه الكلمات أزلية مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية. وهى مترتبة غير متعاقبة. كالصورة تنطبع فى المرآة مترتبة غير متعاقبة. وقالوا فى تعريفهم هذا : إنها حكمية لأنها ليست ألفاظها حقيقية مصوّرة بصورة الحروف والأصوات. وقالوا : إنها أزلية ، ليثبتوا لها معنى القدم. وقالوا : إنها مجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية لينفوا عنها أنها مخلوقة. وكذلك قالوا : إنها غير متعاقبة ، لأن التعاقب يستلزم الزمان ، والزمان حادث. وأثبتوا لها الترتب ، ضرورة أن القرآن حقيقة مترتبة بل ممتازة بكمال ترتبها وانسجامها.

١٠

إذا عرفت هذا الإطلاق الأول عند المتكلمين ، سهل عليك أن تعرف إطلاقهم الثانى للقرآن الكريم : وهو أنه تلك الكلمات الحكمية الأزلية المترتبة فى غير تعاقب ، المجردة عن الحروف اللفظية والذهنية والروحية. وهو تعريف للقرآن كلام الله بما يشبه المعنى الحاصل بالمصدر لكلام البشر النفسى. ذانك إطلاقان اختص بهما المتكلمون كما رأيت.

وهناك إطلاق ثالث للقرآن يقول به المتكلمون أيضا لكن يشاركهم فيه الأصوليون والفقهاء وعلماء العربية. ذلك أنه هو :

«اللفظ المنزّل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس» الممتاز بخصائصه التى سنذكرها بعد قليل.

فهو مظاهر وصور لتلك الكلمات الحكميّة الأزلية ، التى أشرنا إليها آنفا ويطلق القرآن إطلاقا رابعا على النقوش المرقومة بين دفّتى المصحف ، باعتبار أن النقوش دالة على الصفة القديمة ، والكلمات الغيبية ، واللفظ المنزل. وهذا إطلاق شرعى عام. ولنضرب لك مثلا يوضح ذلك المقام الذى ضلّت فيه الأفهام ، وزلّت فيه الأقدام.

رجل شاعر ، كشرف الدين البوصيرى رحمه‌الله ـ لا ريب أنه كان يحمل فى نفسه قوّة شاعرة ، يسطيع أن يصوغ بها ما شاء من غرر القصائد ، وعند ما اتجهت شاعريّته فعلا ، أن يمتدح أفضل الخليقة صلوات الله وسلامه عليه بقصيدته المعروفة بالهمزيّة ، لا شك أنه عالج النظم فى نفسه ، واستحضر المعانى والألفاظ والأوزان ، حتى تمثل له ذلك القصيد فى نفسه وتأثرت نفسه به ، على وجه إذا تكلم به بصوت حسى كان عين نظمه المقفّى الموزون. ثم لا شك أنه نطق بقصيده بعد ، ثم كتبه بعد أن أنشده. فهذا الاسم الشهير بالهمزية فى مدح خير البرية ، يمكن أن نقرب

١١

به الاطلاقات الأربعة التى أطلقنا بها القرآن الكريم : يصح أن نطلق الهمزية على القوة الشاعرة لذلك الرجل باعتبار اتجاهها إلى هذا النظم الخاص ، الذى تمثّل فى نفسه من قبل أن ياخذ صورة اللفظ والنقش ويصح أن نطلقها على هذا النظم الخاص ، الذى تمثل فى نفسه من قبل أن يظهر بمظهر الألفاظ والنقوش كذلك. ويصح أن نطلقها على هذا النظم بعد أن تمثّل أصواتا ملفوظة وحروفا موزونة. ويصح أن نطلقها على هذا النظم متمثلا فى صورته المرسومة ، ونقوشه المكتوبة.

القرآن عند الأصوليين والفقهاء وعلماء العربية

أظننى قد أطلت عليك ولكن المقام دقيق وخطير ، فلا تضق ذرعا بهذا التطويل والتمثيل ، ثم استمع لما وعدتك إياه من بيان معنى القرآن على أنه اللفظ المنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس.

هذا الاطلاق كما علمت ـ ينسب إلى علماء الأصول والفقه واللغة العربية. ويوافقهم عليه المتكلمون أيضا. غير أن هؤلاء الذين أطلقوه على اللفظ المنزل الخ اختلفوا فى تعريفه : فمنهم من أطال فى التعريف وأطنب ، بذكر جميع خصائص القرآن الممتازة. ومنهم من اختصر فيه وأوجز. ومنهم من اقتصد وتوسط. فالذين أطنبوا عرفوه (بأنه الكلام المعجز المنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المكتوب فى المصاحف ، المنقول بالتواتر ، المتعبد بتلاوته) وأنت ترى أن هذا التعريف جمع بين الإعجاز ، والتنزيل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والكتابة فى المصاحف ، والنقل بالتواتر ، والتعبد بالتلاوة. وهى الخصائص العظمى التى امتاز بها القرآن الكريم. وإن كان قد امتاز بكثير سواها. ولا يخفى عليك أن هذا التعريف كان يكفى فيه ذكر بعض تلك الأوصاف ويكون جامعا مانعا ، غير أن مقام التعريف مقام إيضاح وبيان ، فيناسبه الاطناب لغرض زيادة ذلك والبيان. لذلك استباحوا لأنفسهم أن يزيدوا فيه ويسهبوا.

والذين اختصروا وأوجزوا فى التعريف : منهم من اقتصر على ذكر وصف

١٢

واحد هو الإعجاز. ووجهة نظرهم فى هذا الاقتصار أن الإعجاز هو الوصف الذاتى للقرآن. وأنه الآية الكبرى على صدق النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والشاهد العدل على أن القرآن كلام الله.

ومنهم من اقتصر على وصفين : هما الإنزال والإعجاز وحجتهم أن ما عدا هذين الوصفين ليس من الصفات اللازمة للقرآن. بدليل أن القرآن قد تحقق فعلا بهما دون سواهما على عهد النّبوّة.

ومنهم من اقتصر على وصفى النقل فى المصاحف والتواتر ، لأنهما يكفيان فى تحصيل الغرض ، وهو بيان القرآن وتمييزه عن جميع ما عداه.

والذين توسطوا : منهم من عرض لإنزال الألفاظ ، وللكتابة في المصاحف وللنقل بالتواتر فحسب ، موجّها رأيه بأن المقصود هو تعريف القرآن لمن لم يدركه زمن النبوة ، وأن ما ذكره من الأوصاف هو من اللوازم البينة لأولئك الذين لم يدركوها ، بخلاف الإعجاز فإنه غير بيّن بالنسبة لهم ، وليس وصفا لازما لما كان أقل من سورة من القرآن.

ومن أولئك الذين تواسطوا من عرض للإنزال والنقل بالتواتر والتعبد بالتلاوة فقط ، مستندا إلى أن ذلك هو الذى يناسب غرض الأصوليين. وعرّفوه بأنه : (اللفظ المنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المنقول عنه بالتواتر ، المتعبد بتلاوته) فاللفظ جنس في التعريف ، يشمل المفرد والمركب. ولا شك أن الاستدلال على الأحكام كما يكون بالمركبات يكون بالمفردات ، كالعامّ والخاص والمطلق والمقيد. وخرج بالمنزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما لم ينزل أصلا مثل كلامنا ، ومثل الحديث النبوى ، وما نزل على غير النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كالتوراة والإنجيل. وخرج بالمنقول تواترا جميع ما سوى القرآن من منسوخ التلاوة والقراءات غير المتواترة ، سواء أكانت مشهورة نحو قراءة ابن مسعود «متتابعات» عقيب قوله تعالى (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) أم كانت آحادية كقراءة ابن مسعود أيضا لفظ «متتابعات» عقيب قوله سبحانه (وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) فإن شيئا

١٣

من ذلك لا يسمى قرآنا ، ولا يأخذ حكمه. وخرجت الأحاديث القدسية إذا تواترت بقولهم «المتعبد بتلاوته».

هل القرآن علم شخص؟

أسلفنا أن القرآن يطلق على الصفة القديمة ، ويطلق على الكلمات الحكمية الأزلية ، وهذان الإطلاقان لا تعدد فيهما البتة ، لا حقيقة ولا اعتبارا. بل هما منزهان عنه ، لأن التعدد من أمارات الحدوث. كيف وهما قديمان؟! وإذا فلفظ القرآن علم شخص بهذين الإطلاقين لا محالة. أما إذا أريد بالقرآن «اللفظ المنزل» فهنا يكون الخلاف. فالرأى السائد أنه علم شخص ، مدلوله تلك الآيات المنزلة الممتازة بخصائصها العليا من أول الفاتحة إلى آخر سورة الناس. وهذه الألفاظ المعيّنة لا يقدح في تشخصها اختلاف المتلفظين ولا تعدد القارئين ، كما لا يقدح في تشخص محمود مثلا أن يكون في مكة أو في المدينة ، ولا أن يتقلب في أطوار مختلفة من طفولة إلى شيخوخة ، ومن صحة إلى مرض ، ومن حياة إلى موت ، ونحو ذلك. وبعضهم يجعله علم جنس ، نظرا إلى تعدد هذه الألفاظ المنزلة بتعدد قارئيها وكاتبيها. وهذا مردود من وجهين ، أحدهما : أن علم الجنس ضرورة نحوية اقتضتها أحكام لفظية ، كامتناع إضافته ، ودخول أل عليه. ولا ضرورة هنا لفظية.

ثانيهما : أن علم الجنس نكرة في المعنى. وأفراده منتشرة متعددة حقيقة لا اعتبارا.

والتعدد الملحوظ هنا اعتبارى لا حقيقى. للقطع بأن ما يقرؤه أو يكتبه كل منا فهو القرآن عينه لا فرد من أفراده.

هل يصاغ للأعلام تعاريف

بقى علينا أن نتساءل : إذا كان القرآن علما فكيف ساغ أن يصاغ له تعريف

١٤

بل تعاريف على نحو ما سبق؟ مع أن التعاريف لا تكون إلا للكليات ، والعلم جزئى مركب من الماهية ومشخصاتها. والمشخصات لا يمكن معرفتها إلا بالاطلاع عليها بالحواس كالإشارة مثلا ، أو بالتعبير عنها باسم علم؟

ولنا على ذلك أجوبة ثلاثة :

أولها : أنا نمنع أن التعاريف لا تكون إلا للكليات. لم لا يجوز أن تعرف الجزئيات بأمور كلية لا يتحقق مجموعها في الخارج إلا في هذا الشخص بخصوصه. وهذا الجواب قريب مما ذكره صاحب التلويح إذ قال : «الحق أن الشخص يمكن أن يحدّ بما يفيد امتيازه عن جميع ما عداه بحسب الوجود ، لا بما يفيد تعينه وتشخّصه بحيث لا يمكن اشتراكه بين كثيرين بحسب العقل. فإن ذلك إنما يحصل بالإشارة لا غير» ا ه.

ثانيها : أنا نسلم أن التعاريف لا تكون إلا للكليات. لكن ما ذكروه ليس بتعريف حقيقى إنما هو ضابط مميّز ، وليس بمعرّف.

ثالثها : أن هذا تعريف على رأى الأصوليين الذين لا يشترطون في التعاريف أجناسا ولا فصولا. بل الحد عندهم هو الجامع المانع مطلقا. وعليه فيصح أن يحد الشخص عند الأصوليين دون المناطقة.

إطلاق القرآن على الكل وعلى أبعاضه

لا شك أن القرآن يطلق على الكل وعلى أبعاضه. فيقال لمن قرأ اللفظ المنزل كله : إنه قرأ قرآنا. وكذلك يقال لمن قرأ ولو آية منه : إنه قرأ قرآنا. لكنهم اختلفوا :

فقيل إن لفظ قرآن حقيقة في كل منهما ، وإذا يكون مشتركا لفظيّا. وقيل هو موضوع للقدر المشترك بينهما ، وإذا يكون مشتركا معنويا ، ويكون مدلوله حينئذ كليّا.

١٥

وقد يقال : إن إطلاقه على الكل حقيقة وعلى البعض مجاز. والتحقيق أنه مشترك لفظى ، بدليل التبادر عند إطلاق اللفظ على الكل وعلى البعض كليهما ، والتبادر أمارة الحقيقة. والقول بعلمية الشخص فيه كما حققنا آنفا يمنع أنه مشترك معنوى ، فتعين أن يكون مشتركا لفظيّا. وهو ما يفهم من كلام الفقهاء إذ قالوا مثلا : (يحرم قراءة القرآن على الجنب) فإنهم يقصدون حرمة قراءته كله أو بعضه على السواء.

معنى علوم القرآن بالمعنى الإضافى

الآن وقد انتهينا من الكلام على المتضايفين في لفظ «علوم القرآن» ننتقل بك إلى أن الإضافة بينهما تشير إلى طوائف المعارف المتصلة بالقرآن سواء أكانت تصورات أم تصديقات ، على ما عرفت وجه اختياره في مدلول لفظ العلم في عرف التدوين العام.

وإنما جمعت هذه العلوم ولم تفرد لأنه لم يقصد إلى علم واحد يتصل بالقرآن. إنّما أريد شمول كل علم يخدم القرآن أو يستند إليه. وينتظم ذلك علم التفسير ، وعلم القراءات ، وعلم الرسم العثمانى ، وعلم إعجاز القرآن ، وعلم أسباب النزول ، وعلم الناسخ والمنسوخ ، وعلم إعراب القرآن ، وعلم غريب القرآن ، وعلوم الدين واللغة إلى غير ذلك. وتلك أشتات من العلوم توسّع السيوطى فيها حتى اعتبر منها علم الهيئة والهندسة والطب ونحوها. ثم نقل عن أبى بكر بن العربى في قانونه التأويل أنه قال : «علوم القرآن ٧٧٤٥٠ خمسون وأربعمائة وسبعة آلاف وسبعون ألف علم ، على عدد كلم القرآن مضروبة في أربعة. إذ أن لكل كلمة ظهرا وبطنا ، وحدا ومطلعا. هذا في المفردات فحسب. أما إذا اعتبرت التراكيب وما بينها من روابط كان ما لا يحصى ، مما لا يعلمه إلا الله تعالى» ا ه بتصرف قليل.

وأحب أن تعرف أن هذا الكلام من السيوطى وابن العربى ، محمول على ضرب

١٦

كبير من التأويل والتوسع ، بأن يراد من العلوم كل ما يدل عليه القرآن من المعارف ، سواء أكانت علوما مدوّنة أم غير مدوّنة ، وسواء أكانت تلك الدلالة تصريحية أم تلميحية ، عن قرب أم عن بعد. فأمّا أن تراد العلوم المدوّنة صراحة فدون ذلك خرط القتاد وصعود السماء.

القرآن كتاب هداية وإعجاز

وتحقيق القول في هذا الموضوع : أن القرآن الكريم كتاب هداية وإعجاز ، من أجل هذين المطمحين نزل ، وفيهما تحدّث ، وعليهما دلّ. فكل علم يتصل بالقرآن من ناحية قرآنيته ، أو يتّصل به من ناحية هدايته أو إعجازه ، فذلك من علوم القرآن. وهذا ظاهر في العلوم الدينية والعربية.

أما العلوم الكونية ، وأما المعارف والصنائع ، وما جدّ أو يجدّ في العالم من فنون ومعارف كعلم الهندسة والحساب ، وعلم الهيئة والفلك ، وعلم الاقتصاد والاجتماع ، وعلم الطبيعة والكيمياء ، وعلم الحيوان والنبات ، فإن شيئا من ذلك لا يجمل عدّه من علوم القرآن ؛ لأن القرآن لم ينزل ليدلّل على نظريّة من نظريات الهندسة مثلا ، ولا ليقرّر قانونا من قوانينها. وكذلك علم الهندسة لم يوضع ليخدم القرآن في شرح آياته ، أو بيان أسراره. وهكذا القول في سائر العلوم الكونية والصنائع العالمية. وإن كان القرآن قد دعا المسلمين إلى تعلمها وحذقها والتمهّر فيها خصوصا عند الحاجة إليها. وإنما قلنا : إنه لا يجمل اعتبار علوم الكون وصنائعه من علوم القرآن مع أن القرآن يدعو إلى تعلمها ؛ لأن هناك فرقا كبيرا بين الشيء يحثّ القرآن على تعلّمه في عموماته أو خصوصاته ، وبين العلم يدلّ القرآن على مسائله أو يرشد إلى أحكامه ، أو يكون ذلك العلم خادما للقرآن بمسائله أو أحكامه أو مفرداته. فالأول ظاهر أنه لا يعتبر من علوم القرآن بخلاف الثانى. وهو ما نريد أن نرشدك إليه ، وأن تحرص أنت بدورك عليه.

(م ـ ٢ مناهل العرفان)

١٧

القرآن يحضّ على الانتفاع بالكون

أجل : إن القرآن حضّ على معرفة علوم الكون وصنائع العالم ، وحثّ على الانتفاع بكل ما يقع تحت نظرنا في الوجود. قال سبحانه وتعالى (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وقال جلّت حكمته (وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). فلا يليق بالمسلمين وهم المخاطبون بهذا أن يفرّوا من وجه هذه المنافع العامّة ، ولا أن يزهدوا في علوم الكون ، ولا أن يحرموا أنفسهم فوائد التمتّع بثمرات هذه القوى العظيمة التى أودعها الله لخلقه ، فى خزائن سماواته وأرضه. ولهذا نصّ علماؤنا على أنّ تعلّم تلك العلوم الكونية ، وحذق هذه الصناعات الفنية ، فرض من فروض الكفايات ، ما داموا في حاجة إليها لمصلحة الفرد أو المجموع وذلك لأن البقاء في هذه الحياة للأصلح ، والحياة في هذا الوجود للسلام المسلّح ، والأسلحة في كل عصر عامّة وفي هذا العصر خاصّة إنما تقوم على التمهّر في العلوم وعلى السبق فى حلبة الصناعات والفنون. والويل فينا للضعيف ، والحظ كلّ الحظ للقوى ، والله تعالى يقول : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) : والنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول فيما رواه مسلم عن أبى هريرة : «المؤمن القوىّ خير من المؤمن الضعيف ، وفي كل خير. احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ولا تعجز. وإن أصابك شىء فلا تقل : لو أنّى فعلت كذا كان كذا وكذا. ولكن قل : قدّر الله ، وما شاء فعل. فإنّ لو تفتح عمل الشيطان»

إعجاز علمىّ للقرآن

وأحبّ ألّا أنتهى من هذا الموضوع حتى أنبهك إلى شىء آخر جذير بالنظر والتقدير : وهو أن القرآن الكريم في طريقة عرضه للهداية والإعجاز على الخلق قد حاكم الناس إلى عقولهم ، وفتح عيونهم إلى الكون وما في الكون من سماء وأرض ،

١٨

وبر وبحر ، وحيوان ونبات ، وخصائص وظواهر ؛ ونواميس وسنن. وكان القرآن فى طريقة عرضه هذه موفّقا كل التوفيق ، بل كان معجزا أبهر الإعجاز ؛ لأن حديثه عن تلك الكونيّات كان حديث العليم بأسرارها ، الخبير بدقائقها ، المحيط بعلومها ومعارفها ، على حين أن هذا الذى جاء بالقرآن رجل أمّىّ ، نشأ في أمة أمّيّة جاهلة ، لا صلة لها بتلك العلوم وتدوينها ، ولا إلمام لها بكتبها ومباحثها. بل إن بعض تلك العلوم لم ينشأ إلا بعد عهد النبوة ومهبط الوحى بقرون وأجيال. فأنّى يكون لرجل أمى كمحمد ذلك السجلّ الجامع لتلك المعارف كلها إن لم يكن تلقّاه من لدن حكيم عليم؟ قال سبحانه مقررا لهذا الإعجاز العلمى : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ. بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ، وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) ولعل من الحكمة أن نسوق لك نموذجين من القرآن على سبيل التمثيل ؛ أولهما في سورة النور إذ يقول الله تعالى : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ) قل لى ـ بربك ـ ألا يملكك العجب حين تقرأ هذا النصّ الكريم الذى يتفق وأحدث النظريات العلمية فى الظواهر الطبعية : من سحاب ، ومطر ، وبرق؟!.

النموذج الثانى : يقول الله تعالى في سورة القيامة مبينا ومقررا كمال اقتداره على إعادة الإنسان وبعثه بعد موته : (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ. بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ). أرجو أن تقف قليلا عند تخصيصه «البنان» بالتسوية في هذا المقام. ثم تستمع بعد ذلك إلى هذا العلم الوليد (علم تحقيق الشخصية) فى عصرنا الأخير ، وهو يقرر أن أدق شيء وأبدعه في بناء جسم الإنسان ، هو تسوية البنان ، حتى إنه لا يمكن أن تجد بنانا لأحد يشبه بنان آخر بحال من الأحوال. وقد انتهوا من هذا القرار إلى أن حكّموا البنان في كثير من القضايا والحوادث

١٩

(فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ)! ولا أريد أن أطيل عليك في هذا ؛ فمعجزات القرآن العلمية لها ميدان آخر. إنما هى نظرة خاطفة نوضح بها المراد بعلوم القرآن ، ونوجّه بها كلام السيوطى في الإتقان ، ونعتذر فيها عن ابن العربى في التأويل.

والله وحده هو المحيط بأسرار كتابه. ولا يزال الكون وما يحدث فى الكون من علوم وفنون وشئون : لا يزال كل أولئك يشرح القرآن ويفسره ، ويميط اللثام عن نواح كثيرة من أسراره وإعجازه ، مصداقا لقوله جلّ ذكره (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ). (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ).

٤ ـ معنى علوم القرآن كفن مدون ، وموضوعه ، وفائدته

أما بعد ، فقد تبيّن لك فيما سبق ، أن لفظ علوم القرآن يراد بمعناه الإضافى ما يشمل العلوم الدينية والعربية ، ونفيدك هنا أن هذا اللفظ نقل من ذلك المعنى الإضافى ، ثم جعل علما على الفن المدوّن ، وأصبح مدلوله بعد النقل وهو علم ، غير مدلوله قبل النقل وهو مركب إضافى ، ضرورة أن هذا الفن ليس هو مجموعة العلوم الدينية والعربية ، بل هو غيرها ، وإن كان مستمدّا منها ، ومأخوذا عنها ، ويمكن أن نعرّفه : بأنه مباحث تتعلق بالقرآن الكريم من ناحية نزوله ، وترتيبه ، وجمعه ، وكتابته ، وقراءته وتفسيره ، وإعجازه ، وناسخه ومنسوخه ، ودفع الشبه عنه ، ونحو ذلك.

وموضوعه القرآن الكريم من أية ناحية من النواحى المذكورة في التعريف. بخلاف علوم القرآن بالمعنى الإضافى ، فإن موضوعه هو مجموع موضوعات تلك العلوم المنضوية تحت لوائه. وموضوع كل واحد منها هو القرآن الكريم من ناحية واحدة من تلك النواحى. فعلم القراءات مثلا موضوعه القرآن الكريم من ناحية لفظه وأدائه ، وعلم التفسير موضوعه القرآن الكريم من ناحية شرحه ومعناه ، وهلمّ جرّا.

وفائدة هذا العلم : ترجع إلى الثقافة العالية العامة في القرآن الكريم ، وإلى التسلح بالمعارف القيّمة فيه ، استعدادا لحسن الدفاع عن حمى الكتاب العزيز ، ثم إلى سهولة

٢٠