جواهر الأصول

محمّد إبراهيم الأنصاري

جواهر الأصول

المؤلف:

محمّد إبراهيم الأنصاري


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار التعارف للمطبوعات
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٢٧

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

حضرة الرفيق المعظم والأخ العزيز حجة الاسلام العلامة الجليل آقاي شيخ محمد ابراهيم الانصاري دامت ألطافه.

بعد سلام وشوق بقدر ما أحمله لكم من حب وتقدير وإعجاب أخبركم عن وصول رسالتكم الكريمة التي كنت ـ علم الله ـ أترقبها وأتطلع اليها يوما بعد يوم لأطمئن على صحتكم الغالية وراحتكم التي هي شرط من شروط راحتي ، وتحقيق الاهداف الشريفة في التبليغ والتوجيه والهداية ، وقد تلقيت الرسالة الكريمة في هذا اليوم عصراً ، وهي تبشر عن جميع ذلك ، فحمدت الله وشكرته على عظيم نعمه وآلائه وسرني جداً بقاؤكم في تهران ، وتهيأ المجال الكافي لكم هناك ، فانه انسب وفوائده الدينية اكثر ولكي يعلم كل من ينبغي أن يعلم ان من كان مع الله كان الله معه وان العلم والاخلاص في العمل رأسمال لا يدانيه أي رأسمال آخر أسأل الله ان يقر عيوننا برجوعكم واجتماع الشمل وانتم على افضل ما نحب وتحبون.

اما الاحوال هنا فكما تعهدون ، وصحتي بخير ، وكان من المقرر تقريباً أن نشرع في بحث المنطق الذاتي في عشرة محرم ، ولكن عدة صدف ، أحدها مجيء آقاي موسى وغير ذلك اوجب عدم تحقق ذلك ، وقد استأنفنا في هذا اليوم البحث التحصيلي الاعتيادي.

سلامي على آقاي عبادي وعلى آقاي شهابي اذ اجتمعتم به مرة أخرى والرفقاء جميعاً يسلمون عليكم سلاماً مفصلاً ، والسلام عليكم أولاً وآخراً.

محمد باقر الصدر

١٤ محرم الحرام

١٣٨٥

٣

٤

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على أشرف الأنبياء وخاتم المرسلين محمد وآله الطيبين الطاهرين ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

أما بعد ...

فانه لما كان علم أصول الفقه من أهم العلوم الشرعية وأدقها ، ويحتاج اليه الفقيه فضل احتياج في عملية استنباط الأحكام الشرعية لمواكبة ما استحدث في هذا العصر من وقايع وأحداث تحتاج إلى بيان رأي الشارع المقدس فيها ، كما ويحتاجه طلبة العلوم الدينية في فهم ما بين أيديهم من فتاوى وأحكام.

ولما كان أستاذنا الأجلّ الفقيه الشهيد السعيد آية الله العظمى ومجدد علوم آل البيت في القرن العشرين الحاج السيد محمد باقر الصدر رضوان الله تعالى عليه خرِّيت هذه الصناعة وجهبذ هذا العلم العميق ، حيث سبر أغواره ، وغاص في أعماقه يلتقط الدرر وينظم اللآلئ الباهظة في مجلس درسه الشريف وقد كان ألقى علينا في سنة ١٤٨٣ للهجرة بحوثاً دقيقة تحتوي على مطالب شيّقة رائقة ، وتشتمل على نكات خفية رائعة في باب القطع ، وهو من أهم أبواب علم الأصول ان لم يكن أهمها على الاطلاق ، وقد تشرفنا بحضور بحثه الشريف ، ونلنا فخر التقاط درره الباهرة وكرامة تدوين كلماته الفاخرة ، وجمعناها في كراريس بانتظار أن تسنح الفرص لعرضها وتقديمها جاهزة لطالبها رأينا أنه من الضروري في هذا الوقت وبعد مرور ما يربو على عقد ونصف على رحيل هذا الحبر العلامة أن نضع بين أيدي

٥

العلماء الأفاضل والطلبة الأعزاء هذه البحوث القيّمة لما فيها من ميزات لا تكاد توجد في ما نشر سابقاً من تقارير بحوثه ، وذلك لأن ما بين يديك عزيزي القارئ هو زبدة أفكاره وتحقيقاته التي ألقاها في الدورة الأولى من دوراته الأصولية حيث كان اهتمامه بالبحث أكثر ، وتفرغه له أشد ، وكان انشغاله بالأمور الأخرى من سياسية واجتماعية ومن أمور المرجعية ولوازمها أقل ، لذلك ضمّن تلك الدورة مطالب وأفكار لا يمكن أن تصدر إلا عن ذهن صافٍ وفكر عميق وبال مرتاح وقريحة خصبة ، وكان السابق في طرق أبوابها والمبادر لكشف اللثام عن فرائدها وإلى اكتشاف غرائبها ونيل قصب السبق في تحرير مطالبها ، فرضوان الله تعالى عليه حياً وميتاً ، وجزاه الله عن الاسلام وأهله خير الجزاء.

ونحن إذ نقدم لكم ما فهمناه واستوعبناه وحررناه في مجلس درسه من غزير بحوثه ونير أفكاره نرجو لكم كامل الاستفادة ، ونأمل منكم الغضّ والمسامحة ، فان الكمال لله وحده والله من وراء القصد.

الراجي عفو ربه الرحيم

محمد ابراهيم الانصاري

الخامس من شهر صفر المظفر / ١٤١٥ ه‍ ـ

٦

المباحث العقلية

٧
٨

قال (قدس‌سره) : اعتاد السيد الاستاذ (قدس‌سره) على بيان مراتب للقواعد الأصولية رباعياً.

فقال : إن لها أربع مراتب طولية ، لأن المكلف اذا التفت الى الاحكام الشرعية :

فإما أن يحصل له العلم بها وجداناً ، فلا بد له من العمل على طبقه.

وإما أن يحصل له الظن المعتبر شرعاً بها ، فيعمل على طبق ظنه.

وإما أن يحصل له الشك ، فلا بد له من الرجوع الى الوظيفة العملية الشرعية فعلاً إن كان ، وإلا فيرجع الى الوظيفة العملية العقلية وإلى الأصول العقلية لا الشرعية.

والمراتب الأربع عنده طولية ، فما دامت الرتبة الأولى موجودة فلا يمكن الرجوع الى المرتبة الثانية ، وهكذا.

ولكن هذا الكلام ، مضافاً الى الاشكال في داخله ، يبتني على مبنى لا يمكن المساعدة عليه ، فانه مبني على وجود الجامع بين القواعد الأصولية ، وقد ذكرنا في أول الدورة أنه لا جامع بينها ، مضافاً إلى أن تقسيم القواعد الى المراتب الأربع والحكم بطوليتها لا يخلو عن اشكالات لا يهمنا التعرض لها مع عدم المساعدة على المبنى ، إلا أننا نتعرض لواحد منها من باب المثال. فما ذكره (قدس‌سره) من أنه لا يرجع الى الأصول العقلية ، أي المرتبة الرابعة ، إلا بعد عدم وجود المرتبة الثالثة ، أي الأصول الشرعية ، ليس بتام.

وذلك لأنه في موارد العلم الاجمالي ، بناء على كون العلم علة تامة لوجوب الموافقة القطعية لا مقتضياً له ، لا تصل النوبة الى الأصول الشرعية مع حكم العقل

٩

بوجوب الاحتياط.

توضيح ذلك : إن في موارد العلم الاجمالي حكمين ؛ أحدهما حرمة المخالفة القطعية ، ثانيهما وجوب الموافقة القطعية ، أما حرمة المخالفة القطعية فهو مقتضى منجزية العلم الاجمالي ، وهو خارج عن محل كلامنا ، وأما وجوب الموافقة القطعية ، ففيه مبنيان :

أولهما : ان العلم يكون موجباً للتنجيز بنحو تجب معه الموافقة القطعية الذي يسمى بمبنى العلية لكون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية.

ثانيهما : أن العلم يكون مستدعياً لذلك مقتضياً له ، بمعنى أنّه يستدعي وجوب الموافقة القطعية ما لم يمنع مانع ، أما إذا منع مانع من ذلك ، كما إذا رخّص الشارع بارتكاب أحد الأطراف فلا يكون مستدعياً له ، فلو أمكن جريان البراءة الشرعية في أحد الأطراف ، ولم يكن معارضاً بجريانها في الطرف الآخر يكون موجباً لوجوب الموافقة القطعية ، لا أنه يقتضي ذلك بنحو العلية التامة بحيث لا يمكن انفكاك المعلول عن علته التامة.

وعلى هذا ، فلو كان العلم الاجمالي موجباً للوجوب بنحو العلية التامة لا تصل النوبة الى الأصول الشرعية ، بل يجب الاحتياط بحكم العقل ، فما ذكره من أن الأصول العقلية في الرتبة المتأخرة عن الأصول الشرعية ، ليس بتام.

ويقع البحث في ثلاث جهات :

١٠

الجهة الأولى :

في المقسم

ونتعرض فيها لنقطتين :

النقطة الأولى

في شمول المقسم لغير البالغ

قال الشيخ الأعظم (ره) في بيان أبواب كتابه «الرسائل» :

إن المكلف إذا التفت الى الأحكام الشرعية فإما أن يحصل له العلم بها والقطع ، وإما أن يحصل له الظن ، وإما أن يحصل له الشك. فإن حصل له القطع لا بد له من العمل على قطعه ، وإن حصل له الظن لا بد له من الرجوع الى الإمارات الظنية المعتبرة شرعاً ، وان حصل له الشك فان كان لشكه حالة سابقة يبني عليها ، وإلا يرجع الى الأصول الشرعية والعقلية (١).

وذكر المحقق الخراساني (قدس‌سره) تصريحاً في حاشيته على الرسائل ، على ما أذكر ، وإيماء في الكفاية أن المراد من المكلف البالغ الذي وضع عليه القلم ، لا خصوص من تنجز عليه التكليف ، وأن المشتق لا بد من مبدأ الاشتقاق فيه ، فحينئذٍ لا يمكن جعل المكلّف مقسماً لما ذكر من الأقسام ؛ اذ بينها من لم يكن عليه تكليف ، أو لم ينجّز عليه ، كما في الأحكام التي تختص بالمقلد ولا مساس لها

__________________

(١) الرسائل ، الشيخ الأنصاري ، ص ٣.

١١

بالمجتهد (١).

وكيفما كان فالمفروغ عنه فيما بينهم اعتبار البلوغ في المقسم مع أنه لا اختصاص له في البالغ ، بل يعم البالغ وغيره ، فإن الشبهات الحكمية التي يكون الانقسام بالنسبة اليها يعم غير البالغ أيضاً ، ويكون للقطع والظن والشك بالنسبة الى غير البالغ ـ والمراد به الصبي الرشيد المميز ـ أثرٌ فيها في موارد.

أحدها : في الشبهة الحكمية كما اذا التفت الصبي الى البلوغ ، وانه هل يحصل باكمال أربع عشرة سنة والدخول في الخامسة عشرة؟ أو يحصل باكمال الخامسة عشرة؟ فلو قطع بأحد الطرفين يعمل على طبق قطعه ، ولو ظن باحدهما ظناً معتبراً شرعاً يكون حجة له ، وأما اذا شك في ذلك فاطلاقات أدلة التكليف تكون شاملة له ، وبالنسبة الى دليل التخصيص ، وهو رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم يكون من قبيل دوران الأمر في المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر ، فيوجب اجمال المخصص على ما ذكرنا في بحث العموم ، وان لم يكن هناك اطلاق فلا بد له من الرجوع الى الأصول الشرعية ، أو العقلية.

ثانيها : الشبهة المفهومية الحكمية كما اذا التفت الى الانبات المجعول حداً للبلوغ ، وشك في مفهومه ، فتجري فيه الاقسام بعينها ، فلو لم يحصل له القطع أو الظن المعتبر ، وبقي على شكه يكون اطلاق أدلة التكليف شاملاً له ، إلا أن الشك في مفهوم الانبات وهو حد البلوغ يوجب دوران الأمر في المخصص المنفصل بين الأقل والأكثر ، وهو موجب للاجمال ، فان لم يكن له اطلاق فلا بد له من الرجوع الى الأصول العملية المجعولة للشاك وهي البراءة والاستصحاب.

ثالثها : ما اذا علم بشمول أدلة التكليف له ، وعدم خروجه عنها يقيناً ، كما في الأحكام التي يستقل بها العقل ويكون الحكم الشرعي مستفاداً في موردها من حكم العقل ، كما في حرمة القتل بالنسبة الى النفس المحترمة ، فان الصبي المميز الذي لم

__________________

(١) كفاية الأصول ، المحقق الخراساني ، المقصد ٦ ، ص ٢٥٧ ط. آل البيت.

١٢

يبلغ قبل بلوغه بيومين يعلم بأن أدلة حرمة قتل النفس شاملة له ولم يخرج عنها تخصيصاً ، فلا بد له من حصول المؤمِّن. هذه هي النقطة الأولى.

النقطة الثانية

في شمول المقسم لغير المجتهد

وأما النقطة الثانية وهي أن المقسم هل يختص بالمجتهد أو يعم المجتهد وغيره؟ فيكفينا في اثبات عموميته وشموله للمقلد أيضاً إثبات أن يترتب على المقلد بقطعه وظنه وشكه أثر ولو على نحو الموجبة الجزئية ، ولا يلزم أن يكون لها أثر في جميع الموارد ، واثبات الاثر بنحو الموجبة الجزئية بمكان من الامكان ، وذلك لأن المقلد اذا قطع بالحكم الشرعي الواقعي لا بد له من العمل على طبق قطعه ، كما ان المجتهد كذلك ، فلا فرق بينهما. إذا لم يحصل له القطع لا بد له من العمل على الامارات والطرق الظنية المجعولة من قبل الشارع ، كما في المجتهد.

نعم ، هناك فرق بينهما ، وهو أن الطرق والامارات الظنية كثيرة بالنسبة الى المجتهد كخبر الواحد وأمثاله ، وأما بالنسبة الى المقلد فالطريق منحصر بفتوى المجتهد ، فلا يمكن له الرجوع إلى غيره من الامارات كخبر الواحد مثلاًً ، وذلك لا من جهة عدم شمول ادلة الحجية للمقلد ، بل من جهة عدم تحقق شرط الرجوع الى الخبر فيه ، لان الشرط فيه أن يكون الشخص فاحصاً ، فخبر الواحد حجة لمن فحص عن المعارض ، وكذا الظهور حجة عن المخصص والمقيد ، والفحص وظيفة المجتهد ، والعامي لا يكون قادراً عليه.

وعلى هذا فان حصل له القطع بفتوى المجتهد فهو ، وإلا يرجع الى الظن المعتبر ان كان ، والا ، أي وإن لم يكن هناك قطع بالفتوى ولا طريق ظني معتبر ، بل بقي شاكاً في فتواه يرجع الى ما يستقل به عقله من الاحتياط وغيره ، فثبت أنه يكفينا في المقام الموجبة الجزئية.

نعم ، هناك بحث مستقل لم نرَ من بحثه فينا ، وهو البحث عن كيفية افتاء المجتهد للمقلد ، فنبحث عنه ويكون بحثاً تأسيسياً منا ، ونجعل عنوانه تحليل عملية

١٣

الافتاء أي افتاء المجتهد للمقلد.

تحليل عملية الافتاء

هناك مشكلة عويصة لا بد من التخلص منها ، وهي فيما اذا قطع المجتهد بالحكم الواقعي ووصل إليه ، لا مانع له من الافتاء للمقلد فيكون ذلك من رجوع الجاهل الى العالم وأهل الخبرة ، كما هو سيرة العقلاء في بقية الموارد والأمور العرفية ، فالمريض يرجع الى الطبيب في مرضه لأنه ذو خبرة في ذلك الفن ، هذا في الاحكام الواقعية التي يشترك فيها العالم والجاهل.

وأما في الاحكام الظاهرية فحيث إنها مختصة بالعالم والمجتهد لانه الفاحص والذي يقدر على الفحص دون غيره ، فان المجتهد قادر على الفحص عن المعارض للخبر في بابه ، وعن المخصص والمقيد في باب ظهور الخبر في العموم او الاطلاق فيكون شرط حجية الخبر متحققاً في المجتهد دون المقلد ، وكذا في باب الأصول العملية فان موضوعها «من فحص ولم يجد دليلاً فشك وتحير» ، يجري في حقه البراءة والاستصحاب وغيرهما من الاصول ، وهو المجتهد دون المقلد ، فانه غير قادر على الفحص عن الدليل ، فالاحكام الظاهرية مختصة بالمجتهد ولا تشمل المقلد ، حينئذ يقع الاشكال في انه كيف يجوز للمقلد الرجوع الى المجتهد؟ وكيف يمكن للمجتهد الافتاء للعامي؟ مع أن الحكم الظاهري مختص به ولا يشمل العامي ، فلا يكون من قبيل الموارد التي يرجع الجاهل فيها الى أهل الخبرة ويكون الحكم فيها مشتركاً بين العالم والجاهل ، ويزيد الاشكال وضوحاً فيما اذا كان الحكم الذي يفتي به المجتهد للمقلد غير مرتبط بالمجتهد أصلاً ، بل يكون من الأحكام المختصة بالمقلد ، كما اذا افتى بمسائل الحيض والنفاس ، ولا بد في التخلص عن الاشكال والجواب عنه من التكلم في مقامات ثلاثة :

المقام الأول : البحث عن أن أدلة الأحكام الظاهرية هل تشمل المقلد ايضاً؟ أم هي مختصة بالمجتهد؟

المقام الثاني : البحث عن أنه على فرض عدم شمول أدلة الأحكام الظاهرية

١٤

للمقلد هل يمكن توجيه افتاء المجتهد فيها للمقلد على طبق القاعدة أم لا؟

المقام الثالث : في البحث عن انه على فرض عدم شمول ادلة الأحكام الظاهرية للمقلد ، وعدم امكان توجيه افتاء المجتهد فيها للمقلد على طبق القاعدة ، لا بد من استفادة خصوصية من أدلة جواز التقليد يستفاد منها كيفية جواز رجوع المقلد للمجتهد ، فان رجوع المقلد للمجتهد جائز بلا اشكال في الأحكام الظاهرية.

والبحث انما وقع في المبرر له وكيفيته ، وإلا فلا كلام في أصل جوازه ، ونتكلم الآن في المقام الثاني لأن ترتيب البحث توضيحياً هكذا ، وان كان ترتيبه الفني يقتضي التكلم أولاً في المقام الأول ، وبعده في المقام الثاني ، وبعده في المقام الثالث ، إلا أنا نتكلم أولاً في المقام الثاني ، وبعده في المقام الثالث ، ثم بعد ذلك نتكلم في المقام الاول.

المقام الثاني

أحسن ما يستفاد من مجموعة كلمات المحققين في الأبواب المختلفة في المقام الثاني هو أن يقال : إن أدلة الأحكام الظاهرية وإن لم تشمل المقلد فرضاً ، بل تختص بالمجتهد ، إلا أنه اذا دلّت صحيحة زرارة على وجوب السورة في الصلاة مثلاً ، يكون المجتهد بمقتضى أدلة حجية الخبر الواحد عالماً وبصيراً بالواقع ، وهو وجوب السورة تعبداً ، وذلك لان الحكم الظاهري في باب الامارات هو الحجية ، وأما مؤدى الامارة فهو حكم واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك ، وان ما اخذ في موضوعه الشك هو حجية الامارة لا مؤداها ، غاية الأمر أن المؤدى حكم واقعي تعبدي ، لا وجداني فاذا كان المجتهد عالماً وبصيراً بالواقع بمقتضى دليل الحجية ، وكان له كشف للواقع لا مانع له من ان يفتي العامي بذلك الحكم الواقعي المشترك فيه العالم والجاهل ، ويكون قوله قولاً بعلم لا قولاً بغير علم ، فيدخل في قاعدة رجوع الجاهل الى العالم ، كما في سائر الموارد بلا فرق بينها. هذا ملخص ما أفاده المحققون في المقام لكن متفرقاً.

إلا أنه يرد عليه أولاً : انه لو تم في باقي الامارات لا يتم في باقي الأصول

١٥

العملية لعدم الكشف عن الواقع فيها ، وعدم كونها طريقاً اليه ، بل هي تعين وظيفة الشاك. في مقام العمل ، «فكل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام» يعين وظيفة الذي شك في حرمة التتن مثلاً ، ولم يجد دليلاً ، وبقي متحيراً بعد الفحص عن الدليل ، وهو المجتهد دون المقلد لعدم كونه قادراً على الفحص ، فالحكم بحلية شرب التتن مختص بالمجتهد فكيف يجوز له ان يفتى للمقلد.

ويرد عليه ثانياً : انه لو تم في باب الامارات فانما يتم على مبنى الكشف والطريقية ، وهو مبنى الميرزا النائيني (قدس‌سره) ، ولا يتم على مبنى المشهور ، كصاحب الكفاية والمحقق الاصفهاني (قدس‌سرهما) من ان وظيفة الامارة جعل الحكم المماثل ، اذ على هذا المبنى غاية ما يستفاد من دليل الحجية هو الحكم المماثل ، وهو لا يكون مشتركاً بين المجتهد والمقلد ، بل يختص بالمجتهد فكيف يمكن ان يفتي بذلك الحكم المختص به للعامي.

ويرد عليه ثالثاً : انه مضافاً الى انه لا يتم في غير الامارات ، ومضافاً الى انه لا يتم في الامارات بناء على جعل الحكم المماثل ، لا يتم في باب الامارات ايضاً حتى بناء على مبنى الكشف والطريقية ، وذلك لان سيرة العقلاء في باب رجوع الجاهل الى العالم انما تجري فيما اذا كان علم العالم حاصلاً عن طريق الصناعة والفن لا من أي طريق كان ولو من طريق الرؤيا ، فلو رأى شخصٌ المعصوم في المنام فقطع من قوله بجميع الاحكام لا يجوز لغيره تقليده في ذلك لعدم جريان السيرة في مثل ذلك ، فتحصل انه لو قلنا في المقام الاول باختصاص الاحكام الظاهرية بالمجتهد لا يمكن توجيه عملية الافتاء فنياً في المقام الثاني.

المقام الثالث

وأما المقام الثالث فقد يقال فيه ، قد يستفاد من أدلة جواز التقليد بان علم المجتهد علم المقلد ، وفحصه فحص المقلد تنزيلاً ، فالمقلد وان لم يكن عالماً بالحكم وجداناً إلا أنه عالم به تنزيلاً بالتعبد الشرعي ، فمن ناحية هذه الخصوصية المستفادة من أدلة جواز التقليد ، وهي التنزيل الشرعي يجوز للمجتهد ان يفتي

١٦

العامي بالاحكام.

ولكن هذا المبنى يختلف عن المبنى الأول ، وهو مبنى الطريقية ، من ناحية انه على مبنى الطريقية يكون الحكم على طبق القاعدة ومشمولاً للسيرة العقلائية كما مر ، واما على هذا المبنى لا يمكن الاستدلال على جواز التقليد بالسيرة العقلائية ، بل لا بد من التماس دليل شرعي لفظي أو عقلي كالاجماع ينزل علم المجتهد منزلة علم العامي وفحصه بمنزلة فحص المقلد ، ويرفع يدنا عن السيرة العقلائية التي هي أهم أدلة جواز التقليد ، وهذا أثر مهم.

ويختلفان ايضاً في اثر مهم آخر وهو : انه بناء على مبنى التنزيل اذا لم يقطع المجتهد بأعلمية نفسه ، واحتمل اعلمية غيره لا يجوز له الافتاء للعامي ؛ لانه لم يحرز حينئذ أن علمه يكون بمنزلة علم العامي ، وفحصه بمنزلة فحصه ، بل يحتمل ان يكون غيره أعلم ، ويكون علم الأعلم وفحصه بمنزلة علم العامي وفحصه بمقتضى وجوب تقليد الأعلم ، فيكون اخبار المفضول اخباراً بغير علم ، وكذا الحال بالنسبة الى العدالة ؛ فما لم يحرز عدالة نفسه لا يجوز له الافتاء ، كما انه لا يجوز للعامي تقليده ما لم يكن محرزاً لعدالته وأعلميته أو ما يشابه الأعلمية.

وهذا بخلاف مبنى الطريقية فانه يجوز فيه للمجتهد ان يفتي للعامي وإن لم يحرز أعلمية نفسه ، واحتمل اعلمية غيره ؛ لانه حينئذ يفتي بالحكم الواقعي الذي يشترك فيه العالم والجاهل ، ولا يكون من شرائط العمل بالواقع ان لا يكون رأي الأعلم مخالفاً ، ولا يكون احتمال اعلمية الغير مانعاً عن الافتاء ، كما انه يجوز للعامي تقليد هذا المجتهد اذا اعتقد اعلميته. فهذان الاثران ، وهما : جواز افتاء المجتهد في صورة عدم قطعه بأعلمية نفسه ، وجواز تقليد العامي له اذا ثبت عند العامي أعلميته ، مترتبان على مبنى الطريقية ، كما أنهما مترتبان على العلم الوجداني من المجتهد بالواقع بلا كلام ولا إشكال.

وهناك مبنى متوسط بين هذين المبنيين ، أي مبنى الطريقية ومبنى التنزيل وهو : ان يجعل فتوى المجتهد في مسألة محققاً لموضوع جواز التقليد في مسألة

١٧

اخرى ، كما اذا علم المجتهد نجاسة الماء المتغير بالنجاسة بالعلم الوجداني ، فيجوز للمقلد تقليده في هذه المسألة ، فاذا زال تغيره يشك في زوال النجاسة وعدمها فيستصحب المجتهد ، وكذا العامي نجاستها ، أما المجتهد فلتحقق أركان الاستصحاب ، وهو اليقين السابق والشك اللاحق بالنسبة اليه ، وأما المقلد فانه وإن لم يكن له يقين وجداني بالنجاسة سابقاً إلا أنه يقلد المجتهد في الحكم بكون التغير موجباً لنجاسة الماء فيحقق له اليقين السابق بالنجاسة ، ويشك الآن ببقائها ، فيتم بالنسبة اليه ايضاً أركان الاستصحاب ، فيجري في حقه.

وهذا المبنى أحسن من المبنى الثاني ، وهو مبنى التنزيل ، من وجه ، ومثله من وجه ، وأسوأ منه من وجه.

أما انه احسن منه : فمن جهة انه مثل مبنى الطريقية في كونه على طبق القاعدة ، فتجري فيه السيرة العقلائية لعدم احتياجه الى خصوصية زائدة تستفاد من ادلة جواز التقليد ، بل يكون تقليد المجتهد في مسألة موجباً لجوازه في بقية المسائل ، وتكون المسألة الأولى في أول السلسلة ، وهذا بخلاف مبنى التنزيل فانه يحتاج الى دليل التنزيل لأن ينزل علم المجتهد منزلة علم العامي.

وأما انه مثل المبنى الثاني : فمن جهة انه في هذا المبنى ايضاً اذا لم يحرز المجتهد اعلمية نفسه ، بل احتمل اعلمية غيره لا يجوز له الافتاء للعامي ، كما ان العامي ايضا اذا لم يثبت عنده اعلمية ذلك المجتهد لا يجوز له تقليده ، وكذا الحال في العدالة.

والوجه في ذلك : ان المجتهد اذا لم يقطع بأعلمية نفسه واحتمل اعلمية غيره لا يحرز بأن علمه بنجاسة الماء المتغير حجة على العامي ، بل يحتمل ان يكون علم غيره ، وهو الأعلم ، حجة عليه ، فلا يتحقق اركان الاستصحاب بالنسبة الى العامي كي يفتيه به ويحكم ببقاء النجاسة في فرض زوال التغير.

وأما انه أسوأ من مبنى التنزيل : فمن جهة انه لو كان هناك اثر يترتب على علم العامي يكون العامي عالماً على مبنى التنزيل ولو بالتنزيل والتعبد الشرعي ، واما على

١٨

المبنى الأخير فلا يكون عالماً تنزيلاً ايضاً ، بل هو مقلد للعالم. وتظهر الثمرة في العلم الاجمالي بناء على مبنى العلية ، وأن العلم الاجمالي علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، فانه على مبنى التنزيل اذا علم المجتهد بنجاسة احد الإناءين يكون علمه علم المقلد ، وفحصه فحص المقلد ، وموجباً لوجوب الموافقة القطعية عليه ، وهذا بخلاف المبنى الثالث فان علم المجتهد لا يكون فيه علم العامي لا وجداناً ولا تعبداً ، فلا يكون موجباً لوجوب الموافقة القطعية عليه.

هذه هي المباني الموجودة في المقام ، فان ثبت في المقام الأول أن الأحكام الظاهرية تعم المجتهد والمقلد فلا تصل النوبة الى هذه المباني وإلا فان تم المبنى الأول وهو مبنى الطريقية والكاشفية فهو ، والا ، فيعين المبنى الثالث ، وذلك لأن المبنى الثاني ، وهو مبنى التنزيل ، وان كان موافقا لارتكاز المتشرعة لأن المرتكز في اذهانهم ان عمل المجتهد هو عمل المقلد ، إلا أن هذا الارتكاز لا يكون حجة وموجباً لتعيين هذا المبنى واثباته ، بل يتوقف اثباته على أمرين :

أحدهما : أن أدلة جواز التقليد شاملة للتقليد في الأحكام الظاهرية.

الثاني : أن لا يكون هناك دافع عن الاشكال إلا الالتزام بمبنى التنزيل ويثبت مبنى التنزيل بدليل الاقتضاء حينئذ ، ولكن هذا الأمر الثاني غير تام لوجود المبنى المتوسط فيكون مانعاً عن تمامية دليل الاقتضاء اذ مع وجوده لا ينحصر المبرر لجواز الافتاء وشمول أدلة جواز التقليد الى المبنى الثاني ليثبت بدليل الاقتضاء.

اتضح مما ذكرنا : انه لا مانع من الافتاء بالنسبة الى الاحكام الواقعية ، وأما الأحكام الظاهرية فلا بد في توجيه جواز الافتاء فيها من احد المباني المتقدمة :

إما القول بعمومية دليل الأحكام الظاهرية ، وشمولها للمجتهد والعامي ، وعدم اختصاصها بالمجتهد في المقام الأول.

وإما القول بمبنى الكشف ، والطريقية في المقام الثاني.

وإما الالتزام بمبنى التنزيل ، أو المتوسط في المقام الثالث.

١٩

وتمام ما ذكرناه انما كان بالنسبة الى الاحكام المرتبطة بالمجتهد والمقلد ، وأما الاحكام التي لا ارتباط لها بالمجتهد ، بل تختص بالمقلد كالأحكام المختصة بالنساء ، فيجيء فيها الاشكال بعينه ، ويجري فيها جميع المباني المتقدمة إلا مبنى واحد وهو مبنى الكشف والطريقية ، وذلك لأنه في الأحكام التي يكون لها ارتباط بالمجتهد ، قلنا بان دليل الحكم الظاهري يثبت حجية الحكم الظاهري للمجتهد ، ويستكشف من الحكم الظاهري الحكم الواقعي المشترك بين المجتهد والمقلد ، فلا مانع من ان يفتي للمقلد بذلك الحكم الواقعي ، وأما في الحكم الغير المرتبط به فحيث انه لا اثر لظنه بالنسبة الى نفسه فلا يمكن اعتبار ظنه قطعا وعلماً ، بخلاف الأحكام المشتركة فان لظنه بالواقع من الأحكام الظاهرية فيها اثر بالنسبة اليه فيمكن اعتبار ظنه علما ، ولا يصير هذا الاعتبار لغوا ، فاذا كان ظنه علما باعتبار الشارع يجوز له الاخبار عن الواقع للمقلد ، واما في الاحكام المختصة بالمقلد فحيث انه لا أثر لظنه بالنسبة اليه فيصير اعتبار ظنه لغوا ، فلا يمكن اعتباره ، فلا يكون عالما بالواقع باعتبار من الشارع ، ولا يجوز له الاخبار عنه.

ويمكن الجواب عنه بانه لا مانع من اعتبار ظنه حينئذ ايضا علما فلا يصير لغوا.

اما بحسب مقام الثبوت : فبناء على ان الظن كما يقوم مقام القطع الطريقي يقوم مقام القطع الموضوعي ايضا ، وأثره جواز الافتاء للمجتهد حينئذ فلا يكون لغوا ، بل يعتبر ظنه علما بلحاظ جواز الافتاء له.

وأما بحسب مقام الاثبات : فيختلف باختلاف التعبير في لسان الأدلة ، فبعض التعبيرات لا تكون شاملة له ، كصدق العادل ، فان الظاهر منه أن لزوم التصديق انما هو بلحاظ الآثار المترتبة على عمل المكلف والمصدق وهو المقلد دون الاثر المترتب بالنسبة للمجتهد ، وبعضها يكون شاملا للآثار المترتبة بالنسبة الى المجتهد ، كقوله (عليه‌السلام) : «ما أديا عني فعني

٢٠