مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

جواد الكاظمي

مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام - ج ٣

المؤلف:

جواد الكاظمي


المحقق: محمّد الباقر البهبودي
الموضوع : الفقه
الناشر: المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٠

١

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كتاب المكاسب

والبحث فيه على قسمين :

(الأول)

في البحث عن الاكتساب بقول مطلق ، وفيه آيات :

الاولى (الملك ١٥) (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ).

(هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً) ليّنة سهلة يسهل عليكم السلوك فيها (فَامْشُوا فِي مَناكِبِها) طرقها وفجاجها ، وهو مثل لفرط التذلّل ، فإنّ منكب البعير أنبأ شيء عن أن يطأه الراكب بقدمه ويعتمد عليه ، فإذا جعلها في الذلّ بحيث يمشي في مناكبها لم يبق شيء لم يتذلل. وقيل أراد بمناكبها جبالها ، وهو بالغ في التذلل أيضا ، فإن الجبال أصعب ما في الأرض.

(وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ) والتمسوا من نعم الله التي خلقها لكم ، وصورته صورة الأمر ، والمراد به الإباحة والاذن في أن يأكلوا مما خلقه الله لهم وجعله رزقا لهم على الوجه الذي أباحهم إياه. وفي الآية دلالة على اباحة طلب الرزق بجميع ما يمكن من أنواع التكسب بعد أن يكون حلالا.

(وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) أي نشوركم ، فيسائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم ويجازي

٢

كل أحد بحسب عمله ، وفي ذلك ترهيب وترغيب.

الثانية : (الحجر ٢١) (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ).

(وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) أي بسطناها (١) وجعلنا لها طولا وعرضا (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) جبالا ثابتة ترسيها أي تسكنها لئلا تميد وتتحرك وتستقروا عليها ، من أرسيت السفينة إذا حبستها بالمرساة. [وعن ابن عباس لمّا بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها بالجبال الثقال كيلا تميل بأهلها].

(وَأَنْبَتْنا فِيها) في الأرض أو في الجبال (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) مقدّر بمقدار معين معلوم (٢) تقتضيه الحكمة ، أو كل شيء موزون في العادة كالذهب والفضة والنحاس ونحوها ، أو المراد كل شيء مستحسن متناسب ، من قولهم «كلام موزون» و«أفعال موزونة».

(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ) جمع معيشة ، وهي طلب أسباب الرزق مدة الحياة أو المراد أنه جعل لكم فيها ما تعيشون به من الزرع والنبات والثمار والمطاعم والمشارب والملابس ، بل سائر ما يوجد في العالم مما يقوم به معيشتكم. فعلى الأول بمعنى المصدر ، وعلى الثاني بمعنى الحاصل به.

(وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) عطف على محل لكم ، وهو النصب على أنه مفعول به لجعلنا ، أو عطف على معايش. ويحتمل عطفه على الضمير المجرور ، أي جعلنا لكم ولمن لستم له برازقه معايش في الأرض ، وحكاية العطف على الضمير المجرور بدون اعادة الجار قد تقدمت (٣).

__________________

(١) انظر تعاليقنا على كنز العرفان عند تفسير الآية من ص ٢ الى ص ٦ فان فيها مباحث مفيدة.

(٢) انظر تعاليقنا على كنز العرفان ج ٢ ص ٣.

(٣) قد تقدمت في ج ٢ ص ٣١٢ من هذا الكتاب وفي تعاليقنا على كنز العرفان ج ٢ ص ٤ الى ص ٦.

٣

وكيف كان فالمراد به العيال والخدم والمماليك ، بل الدواب وسائر ما تظنون أنكم ترزقونهم ظنا كاذبا ، فان الله يرزقهم وإياكم ، فظنكم انكم ترزقونهم باطل فاسد. وقد جرى ذلك بناء على ظاهر حال بعض الجهلة الذين يظنون ذلك ، بل يظهرونه ويمنون على هؤلاء ويقولون لو لم نكن لما قدرتم على المعيشة. ففيه تقريع لهم ودليل على تخطئتهم في ذلك القول واشارة إلى أنه لا وجه للمنة ولا لتوقع المكافاة والإحسان في مقابلة ذلك الرزق ، فإنه من الله تعالى وله المنة في الجميع.

وقد أشير إلى ذلك في بعض الأخبار الواردة عنهم عليهم‌السلام (١) حيث قال لبعض أصحابه لما ذكر أنه يدخل عليه الضيفان والاخوان ويطعمهم «إن المنّة لهم عليك». قال : كيف ذلك وإنما أطعمهم من مالي ولهم المنة علي؟ قال عليه‌السلام : نعم لأنهم يأكلون رزق الله الذي رزقهم ويحصّلون لك الثواب والأجر.

ولا يرد أن مثل العبيد والإماء والعيال داخلون في «لكم» ، لظهور أن المراد به جميع أفراد نوع الإنسان ، لأنه لما كان المراد دخول الدواب معهم وكان إطلاق «من» على غير ذوي العقول لا يحسن الا مع ارادة التغليب أطلق كذلك. ولا يبعد أن تكون الفائدة في ذكرهم مرة في ضمن المجموع ومرة على الخصوص لزيادة الاعتناء في رد ذلك الزعم الباطل ـ فتأمل.

وفي الآية دلالة على أن اباحة السكون في جميع أجزاء الأرض والانتفاع فيها بجميع ما يمكن من أقسام الانتفاع والتصرف بكل ما يمكن من أنواع التصرف وعلى اباحة جميع ما في الأرض من النبات وغيرها وأنها مخلوقة لانتفاع الإنسان ، فيباح له التصرف فيها بأي وجه أراد الّا أن يدل الدليل على المنع من التصرف في بعض قطع الأرض أو في بعض النبات أو يمنع من استعماله ، كتحريم تناول السموم المخلوقة لغرض آخر ، لما فيه من الضرر بالنفس ، وهو حرام قطعا.

__________________

(١) انظر الوسائل الباب ٣٠ والباب ٣٩ من أبواب المائدة ج ٣ ص ٢٦٩ وص ٢٧١ ط الأميري ومستدرك الوسائل ج ٣ ص ٨٨ وص ٨٩ والبحار كتاب العشرة من ج ١٥ ص ٢٤٠ وص ٢٤٢.

٤

وبالجملة مقتضى الآية الإباحة في جميع ما ذكر وان خلافها يتوقف على الدليل وقد ورد بتفاصيل المنع أدلة يعلم تفاصيلها من محلها.

(وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ) أي وما من شيء ينتفع به العباد الا ونحن قادرون على إيجاده وتكوين أضعاف ما وجد منه [لأن مقدوراته تعالى غير متناهية لكن الذي يخرج منها إلى الوجود يجب أن يكون متناهيا] فالكلام على التجوز إما على تشبيه اقتداره على كل شيء وإيجاده بالخزائن المودعة فيها الأشياء ، وإما على تشبيه مقدوراته بالأشياء المخزونة التي لا يحوج إلى كلفة واجتهاد.

(وَما نُنَزِّلُهُ) من بقاع القدرة (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) نعلم أنه مصلحة ، فإنّ تخصيص بعض الاقدار بالإيجاد لا بد له من مخصص حكيم عارف بالمصالح.

وفي الحديث القدسي (١) «ان من عبادي من لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسده ، وان من عبادي من لا يصلحه الا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك».

وفيها أيضا دلالة على أن المخلوقات في الأرض مباحة للإنسان ، وهو في الأصل أيضا كذلك ، فقد تطابق العقل والنقل عليه.

الثالثة : (البقرة ١٦٨) (يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ).

(يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ) يمكن أن يراد الأكل بخصوصه ، وان يراد جميع التصرفات ، وتخصيص الأكل لكونه الغرض الأصلي من التصرف.

(حَلالاً طَيِّباً) حالان عن المجرور ، أو أن يكون الأول مفعولا مطلقا أو مفعولا به والثاني صفته.

[والحلال المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه ، وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد. والطيب بمعنى الطاهر ، وبمعنى ما يستلذ به ويستطاب. والحلال يوصف بالطيب ، كما أن الحرام يوصف بالخبيث].

__________________

(١) انظر الجواهر السنية ص ١١٦ مع تفاوت وهو في أصول الكافي باب الرضا بالقضاء الحديث ٤ وفي المرات ج ٢ ص ٨٥ وفي شرح ملا صالح المازندراني ج ٨ ص ١٩١.

٥

وفي الآية دلالة على إباحة أكل كل ما في الأرض لكل أحد حتى الكفار ، فان الخطاب لجميع أفراد الإنسان ، والأمر للإباحة بالمعنى الأعم الشامل للواجب والندب والمكروه والمباح أي لا يحرم عليكم الأكل من جميع ما تخرجه الأرض من الأرزاق التي يمكن أكلها إذا كانت مباحة طاهرة أو لذيذة يستطيبها الشرع أو الشهوة المستقيمة وعلى هذا فيندرج وجوب الأكل في بعض المواد منها.

وقد قيل ان سبب نزولها قوم حرموا على أنفسهم رفيع الأطعمة والملابس.

وفي مجمع البيان (١) نقلا عن ابن عباس أنها نزلت في ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وبنى مدلج ، فإنهم حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام البحيرة والسائبة والوصيلة ، فنهاهم الله عن ذلك.

(وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) وساوسه وخواطره ، أو ما ينقلهم به من معصية إلى معصية ، من خطو القدم وهو نقلها من مكان الى مكان. أو لا تتبعوا الهوى في تحريم الحلال وتحليل الحرام [فان اتباع الهوى كذلك من تسويلات الشيطان] وعن الصادقين عليهم‌السلام «ان من خطوات الشيطان الحلف بالطلاق والنذر في المعاصي وكل يمين بغير الله».

(إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) ظاهر العداوة عند ذي البصيرة ، وإن كان يظهر الموالاة لمن يغويه ، ومن ثمّ سماه وليا في قوله (أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ).

وقد يستفاد من الآية تحريم متابعة كل عدو في الدين ، حيث علل تحريم متابعة الشيطان بكونه عدوا ، فيتحقق التحريم حيث ما ثبتت العلة. وحينئذ فيمكن القول بعدم جواز متابعة أعداء الدين فيما لم يعلم جوازه بالدليل ، فلا يجوز الاقتداء بهم في الصلاة ولا سماع حكمهم ولا نقل الرواية عنهم ، الى غير ذلك من الأمور التي لم يعلم جوازها إلا في حال التقية.

الرابعة : (طه : ٨١) (كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى).

__________________

(١) المجمع ج ١ ص ٢٥٢.

٦

(كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ) أي من حلاله أو من مستلذاته ، والأمر للإباحة لأن الله تعالى لا يريد المباحات من الأكل والشرب في دار التكليف.

(وَلا تَطْغَوْا فِيهِ) ولا تتعدوا فيه فتأكلوه على غير وجه حدّه الله لكم كالسرف والبطر والمنع عن المستحق (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي) فيلزمكم عذابي ويجب لكم ، من حلّ الدين إذا وجب أداؤه ، ومن قرأ بضم الحاء أراد النزول.

ثم انّه تعالى بيّن حال من يحلل عليه غضبه بقوله (وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى) فقد تردى وهلك ، أو وقع في الهاوية ، وأصله أن يسقط من علو إلى أسفل قال (١).

«هوى من رأس مرقبة

ففتت تحتها كبده»

وفي الآية دلالة على إباحة الأكل من مستلذات الأشياء التي رزقها الله لبني ـ آدم أو من حلالها ، وعلى تحريم التعدي فيه ، بمعنى الأكل من الوجوه المحرمة أو الخبيثة أو الأكل على غير الوجه الذي حده كالاسراف والبطر والمنع عن المستحق.

ويمكن ارادة الجميع ، فيكون التحريم متعلقا بكل واحد من الأمرين ، فإن من كان في ماله حق الفقراء كان لهم فيه حصة ، فيحرم عليه الأكل منه قبل دفع حصتهم إذ هو بمثابة أكل مال الغير الذي هو التعدي والطغى. ويمكن ترك الأكل على وجه حرّمه الله الى وجه اباحه الله واذن فيه ، وعلى وجه الطاعة أيضا ، كالاستعانة به على غيره من الطاعات.

الخامسة : (ق : ١١) (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ

__________________

(١) البيت لأعرابي سقط ابنه من جبل فمات فرثاه أبوه وقيل القائل أم القتيل أنشده في الكشاف عند تفسير الآية ج ٣ ص ٨٠ والمرقبة ثنية مرتفعة يرقب عليها يقول الشاعر سقط من رأس جبل فصارت كبده تحت المرقبة متفرقة ويروى ففزت بتشديد الزاي بمعنى فزعت وروى ففرت بتشديد الراء وأصله فريت وهذه لغة طي يقولون المرأة دعت في دعيت والدار بنت في بنيت وروى هوى عن صخرة صلد مكان من رأس مرقبة.

٧

الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ. رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ).

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) مطرا وغيثا كثير المنافع (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) بساتين فيها أشجار وتحتها أنهار ولها أثمار (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) من اضافة الموصوف إلى الصفة ، أي الحب الذي من شأنه أن يحصد ، وهو حب الشعير والبر ونحوه مما يكون كذلك.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) أي طوالا عاليا في جهة السماء ، يقال جبل باسق أي عال أو حوامل ، من أبسقت الشاة إذا حملت ، فيكون من أفعل فهو فاعل كأينع فهو يانع ولعل افرادها بالذكر لفرط ارتفاعها وكثرة منافها.

(لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) منضود بعضه فوق بعض ، والمراد تراكم الطلع أو كثرة ما فيه من الثمر.

(رِزْقاً لِلْعِبادِ) مفعول له ، أي أنبتنا ذلك لرزقهم. ويجوز أن يكون مصدرا لأن الإنبات رزق أيضا ، أي رزقناهم رزقا. والرزق هو ما للحي الانتفاع به على وجه ليس لغيره منعه منه ، والحرام ليس برزق عندنا.

وفيها دلالة على اباحة جميع ما ينبت بالأرض من النبات واباحة التصرف فيه بما أراد ، فإنها مخلوقة للإنسان لأجل انتفاعه الا ما أخرجه الدليل. وهذه وأمثالها مما دل على الإباحة يستلزم اباحة التكسب بها بالبيع ونحوه.

(وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) أرضا جدبة مقحطة لإنبات فيها (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) أي مثل ما أحيينا هذه الأرض الميتة بالماء نحيى الموتى ونخرجهم من قبورهم ، لأن من قدر على أحدهما قدر على الآخر ، فالكاف في محل الرفع على الابتداء ، والخروج خبره والايات الدالّة على الإباحة على الوجه المتقدم كثيرة.

٨

القسم الثاني

في أشياء يحرم التكسب بها ، وفيه آيات :

الأولى : (المائدة : ٤٥) (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ).

(سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ) اي الحرام ، من سحته إذا استأصله ، لأنه مسحوت البركة. أو يعقب الاستيصال بالعذاب [قال تعالى (فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ)]

وفي الآية دلالة على تحريم أكل السحت والاكتساب به ، لأن الكلام في ذمهم وأن هذه الصفات القبيحة صفاتهم. ولكن اختلف في المراد منه : فقيل هو الحرام مطلقا ، وروى في مجمع البيان (١) أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أنه الرشوة في الحكم ، وعن علي عليه‌السلام (٢) انه الرشوة في الحكم ومهر البغي وكسب الحجام وعسيب الفحل وثمن الخمر وثمن الميتة وحلوان الكاهن والاستجعال في المعصية.

__________________

(١) المجمع ج ٢ ص ١٩٦ ومثله في كنز العرفان ج ٢ ص ١٢ ومثله في الكافي ج ١ ص ٣٦٣ باب السحت الحديث ٤ وهو في المرآة ج ٣ ص ٣٩٤ ورواه عن الكافي في البرهان ج ١ ص ٤٧٤ الحديث ٩ ونور الثقلين ج ١ ص ٥٢٥ الرقم ٢٠٢ ومثله في كتب أهل السنة انظر الدر المنثور ج ٢ ص ٢٨٣ وص ٢٨٤ والطبري ص ٢٣٩ الى ٢٤١.

وفيه أصل السحت كلب الجوع يقال منه فلان مسحوت المعدة إذا كان اكولا لا يلفى ابدا الا جائعا وانما قيل للرشوة السحت تشبيها بذلك كان بالمسترشى من الشره إلى أخذ ما يعطاه من ذلك مثل المسحوت المعدة من الشره الى الطعام.

(٢) المجمع ج ٢ ص ١٩٦ ومثله في كنز العرفان ج ٢ ص ١٢ واللفظ في المجمع الاستجعال في المعصية ومعناه طلب الجعالة وفي نسخ كنز العرفان بعضها الاستعمال وبعضها الاستكتاب وبعضها الاستكساب.

٩

وروى الكلينيّ في الحسن (١) عن عبد الله بن سنان قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قاض بين الفريقين يأخذ من السلطان على القضاء الرزق؟ قال : ذلك السحت.

وفي الصحيح (٢) عن عمار بن مروان قال : سألت أبا جعفر عليه‌السلام عن الغلول؟ فقال كل شيء غل من الامام فهو سحت ، وأكل مال اليتيم وشبهه سحت ، والسحت أنواع كثيرة ، منها أجور الفواجر وثمن الخمر والنبيذ والمسكر والربا بعد البينة ، فأما الرشا في الحكم فان ذلك الكفر بالله العظيم ورسوله.

وعن السكوني عنه عليه‌السلام (٣) قال : السحت ثمن الميتة وثمن الكلب ، وثمن الخمر ومهر البغي ، والرشوة في الحكم وأجر الكاهن.

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٣٥٨ باب أخذ الأجرة والرشا في الحكم الحديث ١ وهو في المرات ج ٢ ص ٢٣٢ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٢٢٢ بالرقم ٥٢٧ والفقيه ج ٣ ص ٤ بالرقم ١٢ وحكاه في البرهان ج ١ ص ٤٧٤ الحديث ١٣ ونور الثقلين ج ١ ص ٥٢٦ الرقم ٢١٠ والوسائل الباب ٨ من أبواب آداب القاضي ج ٣ ص ٣٩٤ ط الأميري.

وتعبير المصنف بالحسن لأجل وجود إبراهيم بن هاشم في السند وقد عرفت غير مرة صحته ثم ظاهر الحديث كون القاضي منسوبا من قبل سلطان الجور فليس قابلا للقضاء فما يأخذه سحت من هذا الوجه والا فالمشهور جواز ارتزاق القاضي من بيت المال ويمكن ان يكون المراد من الرزق من السلطان الأجرة.

وعلى اى فلا يرد على مصنف هذا الكتاب ما أورده العلامة الأنصاري قدس‌سره في كتاب المكاسب على من استدل بهذا الحديث على حرمة الرشوة إذ ليس في كلام المصنف الاستدلال لحرمة الرشوة وانما هو في بيان معنى السحت.

(٢) الكافي ج ١ ص ٣٦٣ باب السحت الحديث ١ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٤ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٦٨ بالرقم ١٠٦٢ وحكاه في نور الثقلين ج ١ ص ٥٢٥ بالرقم ١٩٩ والبرهان ج ١ ص ٤٧٤ الحديث ٦ وقريب منه الحديث ٢٣ عن العياشي.

(٣) الكافي ج ١ ص ٣٦٣ باب السحت الحديث ٢ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٤ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٦٨ بالرقم ١٠٦١ وحكاه في البرهان ج ١ ص ٤٧٤ ونور الثقلين ج ١ ص ٥٢٥ بالرقم ٢٠٠.

١٠

وعن سماعة (١) قال : قال السحت أنواع ، منها كسب الحجام إذا شارط وأجر الزانية وثمن الخمر ، فأما الرشا في الحكم فهو الكفر بالله العظيم.

ولا خلاف في تحريم ما اشتملت عليه هذه الاخبار ، سوى كسب الحجام مع الاشتراط ، فان الظاهر من أصحابنا أنه مكروه لا محرم ، ولم يذكر العلامة (٢) في المنتهى خلافا في كراهته عن أصحابنا وانما ذكر الخلاف فيه عن احمد من العامة (٣) ونقل عن أكثرهم الوفاق في الكراهة ، وردّ خبر سماعة (٤) بأنه خبر مقطوع السند ،

__________________

(١) الحديث رواه الكليني كما في المتن في الكافي ج ١ ص ٣٦٣ باب السحت الحديث ٣ عن زرعة عن سماعة عن أبي عبد الله وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٤ وحكاه في البرهان ج ١ ص ٤٧٤ الرقم ٨ ونور الثقلين ج ١ ص ٥٢٥ الرقم ٢٠١ ورواه الى قوله فاما الرشا في الحكم في التهذيب ج ٦ ص ٣٥٥ بالرقم ١٠١٣ والاستبصار ج ٣ ص ٥٩ بالرقم ١٩٥ عن عثمان بن عيسى عن سماعة وفيهما قال مضمرا غير مسند الى الامام.

والذي رواه في المنتهى مسئلة كسب الحجام هو هذا الحديث المروي في التهذيبين وترى الأحاديث الثلاثة في الوسائل الباب ٣٢ من أبواب ما يكسب به ج ٢ ص ٥٣٧ وص ٥٣٨ ط الأميري.

(٢) المنتهى ج ٢ ص ١٠١٩.

(٣) بل لم يثبت الخلاف منه أيضا بنحو مطلق ففي فتح الباري ج ٥ ص ٣٦٥ وذهب احمد وجماعة إلى الفرق بين الحر والعبد فكرهوا للحر الاحتراف بالحجامة ويحرم عليه الإنفاق على نفسه منها ويجوز له الإنفاق على الرقيق والدواب منها وأباحوها للعبد مطلقا انتهى.

(٤) اعتراض العلامة انما يرد على حديث التهذيبين وهو الذي رواه في المنتهى وقد عرفت قبيل ذلك ان في المسئلة حديثا آخر في الكافي ليس في سنده عثمان بن عيسى وفيه التصريح بالإسناد الى ابى عبد الله وهو الذي حكاه المصنف هنا.

ومع ذلك فالحكم بالقطع في حديث التهذيبين لا يخلو عن اشكال فلعل الإضمار في الحديث وقع من الشيخ قدس‌سره حيث روى الحديث الذي قبله بالرقم ١٠١٢ عن ابى عبد الله فاكتفى فيما بعده بالضمير عن اعادة الاسم الظاهر روما للاختصار ورعاية للبلاغة.

بل قد يقال لا يضر الإضمار ولو كان عن سماعه كما افاده صاحب المعالم في الفائدة الثامنة من مقدمة منتقى الجمان ج ١ ص ٣٥ والمحدث الكاشاني في المقدمة الثانية من مقدمات الوافي ص ١٢ والمامقاني في مقباس الهداية المطبوع مع تنقيح المقال ص ٤٧ من ان الراوي ـ

١١

لأن سماعة لم يسنده الى امام ، ومع ذلك ففي طريقه عثمان بن عيسى وهو واقفي وسماعة وهو فطحي (١).

وقد يستدلّ على كراهته بالأخبار الصحيحة المطلقة في الجواز ، كصحيحة معاوية بن عمار (٢) قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن كسب الحجام. فقال : لا بأس به.

__________________

 ـ قد يصرح باسم الإمام الذي يروى عنه في أول الروايات ثم يكتفى في الباقي بالضمير فيقول وسألته أو وقال أو نحو هذا الى ان يستوفى الروايات التي رواها عن هذا الامام فلما نقلت تلك الاخبار الى كتاب آخر وعرض القطع توهم الإضمار بل ادعى في مقباس الهداية انه كاد يحصل القطع بذلك في مضمرات سماعة وعلى بن جعفر للمتتبع.

(١) الاختلاف في شأن سماعة وانه منحرف أولا انما هو في وقفه وعدمه والأكثرون على أنه اثنى عشري لمكان توثيق النجاشي (انظر ص ١٤٦ ط المصطفوى) مع عدم ذكر انحراف له وكان دأب النجاشي التصريح بانحراف من يوثقه من المنحرفين وقد سرده الشيخ في أصحاب الإمام الصادق ص ٢١٤ بالرقم ١٩٦ وفي أصحاب الإمام الكاظم ص ٣٥١ بالرقم ٤ وحكم بوقفه هنا وقد حكموا باشتباه الشيخ من جهة وقف ابنه فحكم بوقفه.

وكذا وصفه بالوقف الصدوق في الفقيه ج ٢ ص ٧٥ باب ما يجب على من أفطر ذيل الحديث بالرقم ٣٢٨ وباب الصلاة في شهر رمضان ج ٢ ص ٨٨ الرقم ٣٩٧ وقالوا انه من اشتباه الصدوق اما من جهة وقف ابنه أو كثرة روايات زرعة عنه.

وأما فطحيته فحكم المامقاني باشتباه المولى صالح حيث قال انه فطحي نقل في قاموس الرجال ج ٥ ص ٤ نسبة هذا الاشتباه الى ابن إدريس أيضا وقد وقع هنا للعلامة أيضا.

(٢) الكافي ج ١ ص ٣٦٠ والسند هكذا على بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن إسماعيل عن الفضل بن شاذان عن ابن ابى عمير عن معاوية بن عمار عن ابى عبد الله وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٢ وقال حسن كالصحيح ورواه في التهذيب عن الفضل بن شاذان الى آخر السند ج ٦ ص ٣٥٥ الرقم ١٠١٢ والاستبصار ج ٣ ص ٥٩ بالرقم ١٩٤.

وذيل الحديث فقلت أجر التيوس قال ان كانت العرب لتعاير به ولا بأس وروى صدر الحديث في الفقيه ج ٣ ص ١٠٥ بالرقم ٤٣٢ عن معاوية بن عمار وروى الحديث في الوافي الجزء ١٠ ص ٣١.

١٢

__________________

 ـ والسر في تعبير العلامة المجلسي عن الحديث بالحسن كالصحيح وجود إبراهيم بن هاشم في أحد طريقيه ومحمد بن إسماعيل في طريقه الأخر أما إبراهيم بن هاشم فقد عرفت في ص ١٢٨ من المجلد الأول من هذا الكتاب صحة الحديث من أجله وأما محمد بن إسماعيل فقد أكثر الكليني الرواية عنه عن الفضل بن شاذان حتى قيل فيه أكثر من خمسمائة حديث كذلك وأكثر الرواية عنه في الكشي أيضا والمحمدون بنو إسماعيل يزيدون على اثنى عشر رجلا.

واختلف في المروي عنه في الكافي والكشي الراوي عن الفضل بن شاذان على ثلاثة أقوال الأول محمد بن إسماعيل بن بزيع نقل هذا القول عن المحقق الأردبيلي والثاني انه هو البرمكي واختاره شيخنا البهائي قدس‌سره انظر مشرق الشمسين من ص ٨ الى ص ١٠ والثالث انه أبو الحسن أو أبو الحسين محمد بن إسماعيل النيسابوري تلميذ الفضل بن شاذان وهذا مختار السيد الداماد في الرواشح انظر الرشحة التاسعة عشر من ٧٠ الى ص ٧٤ والمحدث الكاشاني انظر المقدمة الثانية من مقدمات الوافي ص ١٠ وقواه العلامة الشفتي في فوائده الرجالية وكذا المامقاني في خاتمة تنقيح المقال ص ٩٤ والبار فروشى انظر نخبة المقال من ص ٢٦٣ الى ص ٢٦٩ وعدة من الاعلام.

ثم النيسابوري هذا يقال له بندفر بفتح الباء وسكون النون وفتح الفاء وتشديد الراء والبند العلم الكبير جمعه بنود كفلس وفلوس وفر القوم بفتح الفاء وتشديد الراء وفرتهم بفتح الفاء أو كلاهما بالضم خيارهم وقد يقال بندويه مثال نفطويه.

واما البندقي كما عن بعض فقال المحقق الداماد قدس‌سره انى لست أراه مأخوذا عن دليل معول عليه ولا ارى له وجها على سبيل مركون إليه فإن بندقة بالنون الساكنة بين الباء الموحدة والدال المهملة المضمومتين قبل القاف أبو قبيلة من اليمن ولم يقع الى في كلام أحد من الصدر السالف من أصحاب الفن ان محمد بن إسماعيل النيسابوري كان من تلك القبيلة انتهى.

ثم احتمل كونه تصحيف بندفر من قلم الناسخين وعلى اى فانا في شأن هذا الرجل من المتوقفين ولا اجترى على تخطئة واحد من مثل الشيخ البهائي والمحقق الأردبيلي والمحقق الداماد المدققين المحققين المتتبعين ولنعم ما قيل بالفارسية :

جائي كه عقاب پر بريزد

از پشه لاغرى چه خيزد

١٣

وصحيحة الحلبي (١) عن ابى عبد الله عليه‌السلام أن رجلا سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن كسب الحجام. فقال : لك ناضح؟ فقال : نعم. فقال : اعلفه إياه ولا تأكله. ولو كان حراما لما جاز إعلافه الناضح أيضا.

__________________

 ـ ومع ذلك فالذي أراه ان الحديث الذي هو في طريقه يؤخذ به ويعتبر كاعتبار ما اصطلحوا عليه بالصحيح سواء سميناه بهذا الاسم أولا وذلك لمكان تنصيص أجلاء أصحابنا مثل صاحب المدارك والعلامة المجلسي والعلامة الحلي وغيرهم بصحة كثير من الأحاديث الذي هو في سنده فان كنت في ريب في ذلك فانظر الكتب الفقهية مسئلة جواز الاجتزاء بالتسبيحات الأربع مرة واحدة ومسئلة ما يقوله المأموم بعد انتصاب الامام من الركوع ومسئلة المواسعة والمضايقة توقن بصحة ما ادعيناه.

بل لم نقف على تصريح بالترديد في صحة مثل تلك الأحاديث إلا عن السبزواري فقد توقف في غير موضع من الذخيرة وقال ان محمد بن إسماعيل مشترك بين الثقة وغيره وحكم هؤلاء الاعلام الأجلة بصحة تلك الأحاديث المشار إليها اما أن يكون لأجل معرفتهم بشأن هذا الرجل وحكمهم بوثاقته أيا كان من المحمدين بنى إسماعيل أو لأجل علمهم بان كتاب الفضل بن شاذان كان بعينه عند صاحب الكافي وكان ذكره للواسطة لمجرد اتصال السند فهو أيضا شهادة من هؤلاء الاعلام بكون نقل الكليني عن أصل كتاب الفضل بن شاذان المتيقن كونه كتابا له وكون ذكر الواسطة لمجرد اتصال السند فكفى بذلك لمثل هذه الأحاديث جلالة وقدرا واعتمادا.

ولمزيد اتضاح ما شرحنا لك راجع ص ١٦٩ من المدارك ط ١٣٢٢ المطبوع معه حاشية العلامة البهبهاني قدس‌سره مسئلة الاجتزاء بالتسبيحات في الأخيرتين مرة واحدة والبحار ج ١٨ ط كمپانى ص ٣٥٣ ودقق النظر في عبارة هذين العلمين في شأن مثل هذه الأحاديث تجد فيها نكات دقيقة عميقة.

ثم التيوس جمع التيس على زنة فلس وهو المعز ـ وقوله ان كانت العرب لتعاير به ـ ان مخفة من المثقلة.

(١) التهذيب ج ٦ ص ٣٥٦ الرقم ١٠١٤ والاستبصار ج ٣ ص ٦٠ الرقم ١٩٦ والناضح البعير الذي يستقى عليه.

١٤

وروى زرارة في الموثق عن الباقر عليه‌السلام (١) قال : سألته عن كسب الحجام. فقال : مكروه له ان شارط ولا بأس عليك ان تشارطه وتماكسه وانما يكره له. ونحوها من الاخبار(٢).

[والمراد بالاشتراط اشتراط الأجرة على فعله ، سواء عينها أم أطلق ، ومقتضى الخبر الأخير أن المحجوم على الضد من الحاجم ، بمعنى أنه يكره له أن يستعمله من غير شرط ولا يكره معه].

الثانية : (النور ٣٣) (وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

(وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ) اماءكم (عَلَى الْبِغاءِ) على الزنا ، والمشهور أنها نزلت في عبد الله بن أبيّ ابن سلول رأس النفاق (٣) ، وكان له ست إماء يكرههن على الزنا ،

__________________

(١) الكافي ج ١ ص ٣٦٠ باب كسب الحجام الحديث ٤ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٢ وفيه وقال في المسالك يكره الحجامة مع اشتراط الأجرة على فعله سواء عينها أم أطلق فلا يكره لو عمل بغير شرط وان بذلت له بعد ذلك كما دلت عليه الاخبار هذا في طرف الحاجم واما المحجوم فعلى الضد يكره له ان يستعمل من غير شرط ولا يكره معه.

(٢) انظر الوسائل الباب ٣٦ و ٤٠ من أبواب ما يكتسب به ج ٢ ص ٥٣٩ وص ٥٤٠ ط الأميري والوافي الجزء العاشر ص ٣١ ومستدرك الوسائل من ص ٤٢٧ الى ص ٤٣٠ ج ٢.

(٣) انظر المجمع ج ٤ ص ١٤١ والطبري ج ١٨ ص ١٣٣ وابن كثير ج ٣ ص ٢٨٨ وفتح القدير ج ٤ ص ٣٠ والدر المنثور ج ٥ ص ٤٦ وقلائد الدرر ج ٢ ص ٢١٨ وأحكام القرآن لابن العربي ص ١٣٧٥ وتفسير الإمام الرازي ج ٢٣ ص ٢٢٠ والكشاف ج ٣ ص ٢٣٩ وفيه تخريج ابن حجر في الشاف الكاف.

ثم سلول على ما ذكره النووي في تهذيب الأسماء واللغات ج ١ ص ٢٦٠ بالرقم ٢٨٥ أم عبد الله فلهذا قال العلماء الصواب في ذلك ان يقال عبد الله بن ابى ابن سلول بالرفع بتنوين ابى وكتابة ابن سلول بالألف ويعرب اعراب عبد الله لأنه صفة له لا لأبي.

١٥

فشكت ثنتان منهن معادة ومسيكة الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فنزلت. والنص وان كان واردا في الإماء الا أن الإجماع منعقد على أن حال الحرائر كذلك في التحريم.

(إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً) تعففا ، ولعل التقييد بالشرط لكون الآية نزلت على سبب خاص (١) فوقع النهي على تلك الصفة ، لا أن الشرط مراد حتى يلزم منه جواز الإكراه عند عدم ارادة التحصن ، لأن مفهوم الشرط انما يعتبر لو لم يكن في الكلام فائدة سواه ، أو نقول إذا لم يردن التحصن لا يتأتى الإكراه ، فإنه الإلزام على خلاف مقتضى الطبع ، وأمر الطبيعة المؤاتية على البغاء لا يسمى مكرها ولا أمره إكراها.

وبالجملة مقتضى الآية تحريم الإكراه مع ارادة التحصن ، ولا يلزم من ذلك جوازه مع عدم ارادة التحصن ، فان عدم الحرمة جاز أن يكون لكون الإكراه غير مقدور ، أو نقول : غالب الحال أن الإكراه لا يحصل الا عند ارادة التحصن ، والكلام الوارد على سبيل الغالب لا يكون له مفهوم الخطاب كما يرى في قوله (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ).

ثم انا لو سلمنا أن مفهوم الشرط اقتضى الجواز فلنا أن نقول : هو مفهوم عارضه ما هو أقوى منه ، وهو الإجماع على عدم جوازه مطلقا فيضمحل الضعيف بمعارضته.

وقيل انّ «ان» بمعنى «إذ» ، لأن سبب النزول ورد على ذلك. وفي إيثار كلمة «ان» على «إذ» تنبيه على أن الباغيات كن يفعلن ذلك برغبة وطواعية منهن ، وان ما وجد من معادة ومسيكة من قبيل الشاذ النادر.

(لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي من كسبهن وبيع أولادهن (وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ

__________________

(١) وفي الانتصاف المطبوع ذيل الكشاف ج ٣ ص ٢٣٩ بيان يعجبنا نقله قال وعند العبد الفقير الى الله تعالى ان فائدة ذلك والله اعلم ان يبشع عند المخاطب الوقوع فيه لكي يتيقظ انه كان ينبغي له ان يأنف من هذه الرذيلة وان لم يكن زاجر شرعي.

ووجه التبشيع عليها ان مضمون الآية النداء عليه بان أمته خير منه لأنها آثرت التحصن عن الفاحشة وهو يأبى الا إكراهها عليها ولو ابرز مكنون هذا المعنى لم يقع الزاجر من النفس موقعه وعسى هذه الآية تأخذ بالنفوس الدنية فكيف بالنفوس العربية انتهى.

١٦

فَإِنَّ اللهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي للمكرهات لا للمكره ، فان الوزر عليه (١).

ولو قيل : انه مع الإكراه لا وزر عليهن ولا اثم ، فلا حاجة الى المغفرة. أجيب بأن الإكراه في تلك الصورة جاز أن يكون دون ما اعتبرته الشريعة من الإكراه بالقتل أو بما يخاف معه التلف أو ذهاب العضو من ضرب عنيف أو غيره حتى يسلم من الإثم ، وربما قصرت عن الحد الذي يعذر فيه فتكون آئمة ـ كذا أجاب في الكشاف وهو جيد ، غير أن الظاهر المتبادر تحريم الإكراه مطلقا والغفران معه مطلقا.

وأجاب القاضي بأن الإكراه (٢) لا ينافي المؤاخذة بالذات ، ولذلك حرم على المكره القتل وأوجب عليه القصاص.

وفيه نظر ، لورود النص في الصورة المخصوصة التي ذكرها ، وان الإثم فيها يتعلق بالمباشر ، والمخرج بالنص عن عموم الحكم لا يجعل نظيرا لما عداه من الصور التي لم تثبت خروجها بنص ، على أن الإجماع منعقد على عدم الإثم في صورة الإكراه على البغي ، وقد سئله هو أيضا في أول كلامه.

ويمكن توجيه كلامه بأن الذنب من حيث هو يقتضي ترتب الإثم على فعله ، ومن ثم ترتب الإثم على القاتل مع كونه مكرها لمكان الذنب الصادر عنه ، ولكن في

__________________

(١) ويؤيد هذا المعنى ما رووه من قراءة لهن غفور رحيم رواه في الكشاف والبيضاوي وابن كثير ونثر المرجان ج ٤ ص ٦٣٠ عن ابن مسعود ورواه الطبري عن سعيد بن جبير وفي قلائد الدرر عن ابن عامر وسعيد بن جبير وفي فتح القدير عن جابر بن عبد الله وسعيد بن جبير وفي المجمع عن ابن عباس وسعيد بن جبير وقال وروى ذلك عن ابى عبد الله (ع).

(٢) انظر ص ٤٦٨ ط المطبعة العثمانية وأجاب في فتح القدير بأنها وان كانت مكرهة فربما لا تخلو في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة أما بحكم الجبلة البشرية أو بكون الإلجاء قاصرا عن حد الإلجاء المزيل للاختيار انتهى والحق ان الغفران يستعمل في لسان القرآن في عدم المؤاخذة وان لم يكن ثمة اثم كما يحقق ذلك الآية ١٧٣ من سورة البقرة فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا اثم عليه ان الله غفور رحيم ومثله الآية ١٤٥ من سورة الانعام والآية ١١٥ من سورة النحل وفي كلام المصنف أيضا إشارة الى ذلك.

١٧

هذا [الموضع] تجاوز الله تعالى عن عقاب المكره لمكان الإكراه كما جوّز تناول الميتة لمكان الضرورة مع تصريحه بالمغفرة والرحمة بعد ذلك.

ويمكن أن يكون المراد أنه غفور رحيم للمكرهات والمكره معا ، بأن تكون المغفرة لهن على الإطلاق ولهم مع التوبة أو تفضلا. وفي الآية دلالة على تحريم الإكراه على الزنا والتكسب به وأخذ الأجرة عليه ونحو ذلك.

الثالثة : (لقمان ٦) (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ).

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) بأن يلهى عما يعنى ، كالأحاديث التي لا أصل لها والاساطير التي لا اعتبار فيها والمضاحك وفضول الكلام. وفي مجمع البيان أكثر المفسرين (١) على أن المراد بلهو الحديث الغناء ، وهو قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما ، وهو المروي عن أبي جعفر وابى عبد الله عليهما‌السلام ، وعن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : منه الغناء ، وعن ابى عبد الله عليه‌السلام أنه قال : هو الطعن في الحق والاستهزاء به.

واضافة اللهو الى الحديث بمعنى «من» ، وهي تبيينية ان أريد بالحديث المنكر ، والمعنى من يشتري اللهو من الحديث ، فان اللهو قد يكون من الحديث ومن غيره فبيّن بالحديث ، وان أريد ما هو أعم من المنكر كانت بمعنى من التبعيضية ، كأنه قيل من الناس من يشترى بعض الحديث وهو اللهو منه.

(لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه أو قراءة كتابة ، وقرأ أبو عمرو بفتح الياء ، بمعنى ليثبت على ضلالته ، أو يزيد فيه (بِغَيْرِ عِلْمٍ) أى بحال ما يشتريه أو بالتجارة الصادرة منه حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن.

(وَيَتَّخِذَها هُزُواً) ويتخذ السبيل سخرية واستهزاء. قيل إن سبب نزولها ما روى عن النضر بن الحرث (٢) حيث اشترى كتب الأعاجم وكان يحدث بها قريشا ويقول ان كان محمّد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بحديث رستم وإسفنديار و

__________________

(١) انظر المجمع ج ٤ ص ٣١٣.

(٢) المجمع ج ٤ ص ٣١٣ وقلائد الدرر ج ٢ ص ٢٢٢.

١٨

الأكاسرة. وقيل كان يشترى القيان ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ومنعه عنه. وقيل نزلت (١) في رجل اشترى جارية تغنيه ليلا ونهارا ، ونقله في المجمع عن ابن عباس ، قال : ويؤيده ما رواه أبو أمامة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) «لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهنّ وأثمانهن حرام».

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ) بسبب إهانتهم الحق واستيثار الباطل عليه. وفي الآية دلالة على تحريم الغناء كما هو المنقول عنهم عليهم‌السلام في تفسير اللهو.

وعنهم عليهم‌السلام (٣) «ما من رجل يرفع صوته بالغناء الا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والأخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت».

ولا خلاف بين علمائنا في تحريمه ، وربما فسر لهو الحديث بكسب المغنيات ، ورواه أبو بصير (٤) عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن كسب المغنيات. فقال : التي تدخل

__________________

(١) المجمع ج ٤ ص ٣١٣.

(٢) المجمع ج ٤ ص ٣١٣ وعنه نور الثقلين ج ٤ ص ١٩٤ بالرقم ١٠ وللحديث في المجمع تتمة وأخرجه أيضا في الكشاف ج ٣ ص ٤٩٠ مع تفاوت يسير وأخرجه في الدر المنثور ج ٥ ص ١٥٩ عن سعيد بن منصور واحمد والترمذي وابن ماجه وابن ابى الدنيا في ذم الملاهي وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي عن أبي أمامة عن النبي (ص).

(٣) الحديث جعله في المجمع ذيل الحديث الأول مع تفاوت في اللفظ وفيه عقيرته مكان صوته والعقيرة أيضا بمعنى الصوت وأخرجه كما في المتن في الكشاف ج ٣ ص ٤٩١ وقال ابن حجر أخرجه أبو يعلى وإسحاق والحارث من طريق أبي امامه وهو عند الطبراني من رواية يحيى بن الحارث عن القاسم في الحديث الذي قبله وأخرجه في الدر المنثور أيضا ج ٥ ص ١٥٩ ورواه مع تفاوت أيضا في جامع الاخبار عن أبي أمامة عن النبي ص ١٨٠ وحكاه عنه في مستدرك الوسائل ج ٢ ص ٤٥٧.

(٤) الكافي ج ١ ص ٣٦١ باب كسب المغنية الحديث ١ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٢ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٥٨ الرقم ١٠٢٤ ، والاستبصار ج ٣ ص ٦٢ الرقم ٢٠٧ وقريب منه في المضمون ما في الفقيه ج ٣ ص ٩٨ بالرقم ٣٧٦.

١٩

على الرجال حرام ، والتي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس ، وهو قوله تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ) الآية.

وظاهر أن قوله «وهو» راجع الى الأول ، وقد تظافرت الاخبار (١) بتحريمه ، فقد روى نصر بن قابوس (٢) قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : المغنية ملعونة ، ملعون من أكل كسبها ، ونحوها من الاخبار.

وظاهر رواية أبي بصير أن المغنية التي تدعى إلى الأعراس لا بأس بكسبها ، ونحوها روايته (٣) عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها.

قال الشيخ رحمه‌الله : الرخصة التي دلت هذه الاخبار عليها محمولة على من لا يتكلم بالأباطيل ولا يلعب بالملاهي من العيدان وأشباهها ولا بالقصب وغيره ، بل يكون ممن تزف العروس وتتكلم عندها بإنشاد الشعر والقول البعيد من الفحش و

__________________

(١) انظر الوسائل الباب ٤٣ و ٤٤ من أبواب ما يكتسب به ج ٢ ص ٥٤١ والباب ١٢٧ و ١٢٩ ص ٥٦٥ وص ٥٦٦ ط الأميري والوافي الجزء العاشر من ص ٣٢ الى ص ٣٥ ومستدرك الوسائل الباب ١٣ و ١٤ من أبواب ما يكتسب به ج ٢ ص ٤٣٠ وص ٤٣١ والباب ٧٨ و ٨٠ ص ٤٥٧ وص ٤٥٩.

وتفسير آيات الغناء في الدر المنثور ج ٥ ص ٨٠ وص ١٥٩ والطبري ج ١٩ ص ٤٩ وج ٢١ ص ٦٠ الى ص ٦٣ والبرهان ج ٣ ص ٩٠ وص ٩١ وص ١٧٦ وص ١٧٧ وص ٢٦٩ وص ٢٧٠ ونور الثقلين ج ٣ ص ٤٩٥ وص ٤٩٦ وج ٤ ص ٤١ وص ٤٢ وص ١٩٣ وص ١٩٤.

(٢) الكافي ج ١ ص ٣٦١ باب المغنية وشرائها الحديث ٦ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٢ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٥٧ بالرقم ١٠٢٠ والاستبصار ج ٣ ص ٦١ بالرقم ٢٠٣.

(٣) الكافي ج ١ ص ٣٦١ الباب المتقدم الحديث ٢ وهو في المرات ج ٣ ص ٣٩٢ ورواه في التهذيب ج ٦ ص ٣٥٧ بالرقم ١٠٢٣ والاستبصار ج ٣ ص ٦٢ بالرقم ٢٠٦ ولأبي بصير روايتان أخريان دالتان على جواز كسب المغنية التي تدعى إلى الأعراس وهما بالرقم ١٠٢٢ و ١٠٢٤ من التهذيب ورواهما في الكافي والاستبصار أيضا وقول المصنف قبيل ذلك وظاهر رواية أبي بصير إشارة إلى إحدى الروايتين.

٢٠