مجد البيان في تفسير القرآن

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي

مجد البيان في تفسير القرآن

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد حسين الإصفهاني النجفي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة البعثة
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٦٣

[خطبة الكتاب]

بسم الله الرحمن الرحيم

ربّ يسّر بحقّ م. ع. ف. ح. ح (ع)

الحمد لله الّذي أنزل على عبده الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه ، وسراجا لا يخبأ توقّده ، وبحرا لا يدرك قعره ، ومنهاجا لا يضلّ نهجه ، وشعاعا لا يظلم ضوءه ، وفرقانا لا يخمد برهانه ، وتبيانا لا تهدم أركانه ، وشفاء لا تخشى أسقامه ، وعزّا لا تهزم أنصاره ، وحقّا لا تخذل أعوانه. فهو معدن الايمان وبحبوحته ، وينابيع العلم وبحوره ، ورياض العدل وغدرانه ، وأثافيّ الاسلام وبنيانه ، وأودية الحقّ. وغيطانه وبحر لا ينزفه المنتزفون ، وعيون لا ينضبها الماتحون ، ومناهل لا يغيضها الواردون ومنازل لا يضلّ نهجها المسافرون ، وأعلام لا يعمي عنها السائرون ، وآكام لا يجوز عنها القاصدون. جعله الله ريّا لعطش العلماء ، وربيعا لقلوب الفقهاء ، ومحاجّ لطرق الصّلحاء ، ودواء ليس بعده داء ، ونورا ليس معه ظلمة ، وحبلا وثيقا عروته ، ومعقلا منيعا ذروته ، وعزّا لمن تولّاه ، وسلما لمن دخله ، وهدى لمن ائتمّ به ، وعذرا لمن انتحله ، وبرهانا لمن تكلّم به ، وشاهدا لمن خاصم به ، وفلجا لمن حاجّ به ، وحاملا لمن حمله ، ومطيّة لمن أعمله ، وآية لمن توسّم ، وجنّة لمن استلأم ،

__________________

(١) هذه الفقرة الّتي كتبها المؤلّف (قده) مع البسملة في صدر كلّ صفحة من تفسيره يعني بها : ربّ يسّر بحقّ محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم‌السلام ـ ، كما مرّ ذكرها ومعناها في مقدّمتنا

١

وعلما لمن وعى ، وحديثا لمن روى ، وحكما لمن قضى.

نحمدك اللهمّ يا من تجلّى لعباده (١) في كتابه من غير أن يكونوا رأوه بما أراهم من قدرته ؛ وخوّفهم من سطوته ، وكيف محق من محق بالمثلات ، واحتصد من احتصد بالنغمات (٢)؟ الّذي بعث محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله بقرآن قد بيّنه وأحكمه ، ليعلم العباد ربّهم إذ جهلوه ، وليقرّوا به إذ جحدوه ، وليثنوه بعد إذ أنكروه. فهو الناصح الّذي لا يغشّ والهادي الّذي لا يضلّ ، والمحدّث الّذي لا يكذب ؛ ما جالسه أحد إلّا قام عنه بزيادة أو نقصان ، زيادة من هدى ونقصان من عمى ؛ ليس على أحد بعد القرآن من فاقة ، ولا لأحد قبله من غنى ، وفيه شفاء من أكبر الداء وهو الكفر والنفاق والغيّ والضلال ، وما توجّه العباد إلى الله بمثله ؛ ظاهره أنيق وباطنه عميق ، لا تفنى عجائبه ولا تكشف الظلمات إلّا به ؛ آمر زاجر وصامت ناطق ، حجّة الله على خلقه أخذ عليهم ميثاقه ، وارتهن عليه أنفسهم ، أتمّ نوره وأكرم به دينه ؛ شافع مشفّع ، وقائل مصدّق ؛ من شفع له القرآن يوم القيامة شفّع فيه ، ومن يمحل به القرآن يوم القيامة صدّق عليه ؛ قد اوصينا بأن نستشفي به أدوائنا ، ونستعين به على لأوائنا ، ونستدلّ به على ربّنا ، ونستنصحه على أنفسنا ، ونتّهم عليه آرائنا ، ونستغشي فيه أهوائنا (٣).

والصّلوة والسّلام على عبده ورسوله الّذي أرسله بالدّين المشهور والعلم المأثور والكتاب المسطور والنور الساطع والضياء اللّامع والأمر الصادع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله موضع سرّه وملجأ (٤) أمره وعيبة علمه ، وموئل حكمه ، وكهوف كتبه ، وجبال دينه ؛ أساس

__________________

(١) في المخطوطة : «لعبادك».

(٢) في النهج : «النقمات».

(٣) من أوّل خطبة الكتاب إلى هنا مأخوذة من كلمات أمير المؤمنين ـ عليه‌السلام ـ ، فراجع نهج البلاغة ، خ ١٩٨ و ١٤٧ و ١٧٦ و ١٨ و ١٨٣.

(٤) في المخطوطة : «لجأ».

٢

الدّين وعماد اليقين ، أزمّة الحقّ وأعلام الدّين وألسنة الصدق ؛ فيهم كرائم القرآن وهم كنوز الرّحمن ، عيش العلم وموت الجهل ، يخبر حلمهم عن علمهم ، وصمتهم عن حكم منطقهم ، لا يخالفون الحقّ ولا يختلفون فيه ؛ هم دعائم الاسلام وولائج الاعتصام.

[السبب الباعث لتأليف هذا الكتاب]

أمّا بعد ، فانّي طالما كنت أتمنّى التّوفيق لكتابة تفسير مشتمل على بيان ظواهر الآيات ، والمواعظ المستخرجة منها ، والمعارف والعلوم المشيرة إليها ، وجملة من النكات الصوريّة والمعنويّة المحتوية عليها وأشباه ذلك ، منضمّا إلى ذكر الأخبار المنقولة في طيّها مع بيان ما نحتاج إلى البيان منها ، وتطبيقها على مدلول الآيات عند المخالفة بين ظواهرها ، والجمع بين ما اختلف ظواهرها ، واستخراج المعاني الكليّة منها ليكون الكتاب جامعا بين علمي الكتاب والسنّة ، الّذين امرنا بالتمسّك بهما ؛ مع أنّي لم أعثر إلى الآن على تفسير مشتمل على تلك المقاصد المهمّة مع تكثّرها ؛ وكانت العوائق تمنعني عن الاقدام منضمّة إلى علمي بقصوري عن السبق في ذلك الميدان ، وانحطاط رتبتي عن التعرّض لذلك ، وخوفي عن الوقوع في تفسير شيء من كلام الله تعالى وأوليائه بالرّأي ، أو متصرّفا فيه بهواي ؛ إلى أن اجتمع رأيي في الاقدام على ذكر ما يسنح بالبال من المطالب المذكورة وما شابهها على وجه العرض على أذهان إخواني في الدّين وطلّاب العلم واليقين ، فينظروا فيها بعين الدقّة والانصاف دون الجور والاعتساف ، فما وجدوه حقيقا بالقبول فمن فضل الله ومنّه على عبده ، وما وجدوه سقيما فمن قصوري وتقصيري ؛ فأكون كمن يعرض السلعة على الطالبين متبرّئا من عيوبه ، مذعنا بنقصانه ، فمن وجد شيئا منها مرغوبا أخذه وإلّا تركه أو صحّحه.

ولا أدّعي في شيء منها إصابة نظري وفكري ؛ فانّ معاني كلمات الله وأوليائه

٣

وحقائقها وراء ما يصل إليه هذه العقول الناقصة المبتلية بأهوية النفس ووساوس الشيطان ، وليس المعصوم إلّا من عصمه الله تعالى.

فشرعت فيه آيسا من حولي وقوّتي وعلمي معتصما بحول الله وقوّته وهدايته ملتمسا منه التوفيق في إتمام ما عزمت عليه على نهج يحبّه ويرضاه ، مستعيذا به من وساوس الشيطان والآراء والأهواء ، مستشفعا إليه برسوله وآله ـ صلوات الله عليهم ـ في ذلك كلّه ، سائلا منه أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ، وذخيرة ليوم الدّين ، وأن يباركه لاخواني المؤمنين ، إنّه هو الرّؤوف الرّحيم ، الّذي يتولّى الصالحين.

ربّ عليك توكّلت وإليك أنبت وبك اعتصمت ، فهبني يا إلهي من عندك هداية وتوفيقا وتسديدا وتأييدا ، ولا تكلني إلى نفسي ؛ إنّك حسبي ونعم الوكيل وأنت على كلّ شيء قدير ، ولا ملجأ ولا منجا لنا منك إلّا إليك.

ولنمهّد قبل الشروع في عنوان الآيات مقدّمات.

٤

المقدمات

٥
٦

[المقدّمة] الاولى

فى نبذة ممّا ورد في الوصيّة بالتمسّك بالقرآن والتدبّر فيه

وجملة من أوصافه منضمّة إلى استبصارات عقليّة

[في فضل القرآن وأوصافه ، والوصيّة بالتمسّك به]

قال الله سبحانه :

(أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟)(١)

وقال تعالى :

(أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ؟)(٢)

وقال في وصفه :

(مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ.)(٣)

وعن محمّد بن يعقوب (ره) في الكافي ، ومحمّد بن مسعود العيّاشي باسناديهما عن الصّادق ، عن أبيه ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«أيّها الناس! إنّكم في دار (٤) هدنة (٥) ، وأنتم على ظهر سفر والسّير بكم سريع ، وقد رأيتم اللّيل والنّهار والشّمس

__________________

(١) محمّد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ / ٢٤.

(٢) المؤمنون / ٦٨.

(٣) ص / ٢٩.

(٤) العيّاشي : «زمان».

(٥) خ. ل : «حضر».

٧

والقمر يبليان كلّ جديد ، ويقرّبان كلّ بعيد ، ويأتيان بكلّ موعود ، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز (١).

قال : فقام المقداد بن الأسود فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وما دار الهدنة؟ فقال :

دار بلاغ (٢) وانقطاع ، فاذا التبست عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم ، فعليكم بالقرآن ، فانّه شافع مشفّع وماحل (٣) مصدّق ، ومن جعله أمامه قاده إلى الجنّة ، ومن جعله خلفه ساقه إلى النّار ؛ وهو الدّليل يدلّ على خير سبيل ، وهو كتاب فيه تفصيل وبيان وتحصيل ، وهو الفصل ليس بالهزل ، وله ظهر وبطن ، فظاهره حكم (٤) وباطنه علم ، ظاهره أنيق وباطنه عميق ؛ له تخوم وعلى تخومه تخوم (٥) ، لا تحصى عجائبه ولا تبلى غرائبه ، فيه مصابيح الهدى ومنار (٦) الحكمة ، ودليل على المعرفة لمن عرف الصّفة.» (٧)

__________________

(١) العيّاشي : «المفاز».

(٢) العيّاشي : «بلاء».

(٣) في المخطوطة : «مماحل».

(٤) العيّاشي : «حكمة».

(٥) في المخطوطة : «تخومة» ، وفي بعض نسخ الكافي في الموارد الثلاثة : «نجوم» بدل «تخوم».

(٦) العيّاشي : «المنازل».

(٧) العيّاشي : «ودليل على المعروف لمن عرفه» ، والحديث في الكافي ، ج ٢ ، كتاب فضل القرآن ، ص ٥٩٨ ، ح ٢ ؛ والعيّاشي ، ج ١ ، ص ٢ ، ح ١ ؛ ونوادر الراوندي مع ما زاد في الكافي وسيأتي كما في البحار ، ج ٩٢ ، باب فضل القرآن ، ص ١٧ ، ح ١٧ ؛ وهكذا في الصّافي والبرهان.

٨

وزاد في الكافي :

«فليجل جال بصره ، وليبلغ الصفة نظره ، ينج من عطب ويخلص (١) من نشب ، فانّ التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور ، فعليكم بحسن التخلّص وقلّة التربّص.»

أقول :

في الصّحاح : «هدن يهدن هدونا : سكن ، وهدّنه أي : سكّنه ـ إلى أن قال : ـ والاسم منها الهدنة ، ومنه قولهم : هدنة على دخن أي : سكون على غلّ.»

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «مشفّع» معناه ظاهرا : مقبول الشّفاعة.

وفيه أيضا : «يقال : محل به إذا سعى به إلى السلطان وهو ماحل ومحول. وفي الدّعاء : فلا تجعله ماحلّا مصدّقا.» انتهى. ولعلّه من هنا قيل في معناه : «يمحل بصاحبه إذا لم يتبع ما فيه ؛ أعني : يسعى به إلى الله تعالى» (٢) ، وما قيل في تفسيره من أنّه : «الخصم المجادل» (٣).

وأصل المحل : الجدب ، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض ، فيمكن إرادته هنا على معنى أنّ القرآن مجدب لمن لم يكن من أهله لا يمطر عليهم بمياه العلوم والمعارف والحكم.

وفيه أيضا : «الأنق : الفرح والسّرور ، وقد أنق بالكسر يأنق أنقا ، وشيء أنيق أي : حسن.» و «التخوم» على ما قيل جمع تخم بمعني : منتهى الشّيء.

وقوله : «لمن عرف الصّفة» قيل : «أي صفة التعرّف وكيفيّة الاستنباط.» (٤) ويحتمل إرادة صفة القرآن من دقائق إشارته ونكاته.

__________________

(١) خ. ل : «يتخلّص».

(٢) راجع الصافي ، ج ١ ، المقدّمة الاولى ، ص ٩.

(٣) نفس المصدر.

(٤) نفس المصدر.

٩

و «العطب» : الهلاك ، ونشب الشيء نشوبا أي : علق فيه. فلعلّ المراد من النشب العلاقة ، وإليه يرجع تفسيره بالوقوع فيما لا مخلص منه.

إعلم أنّ الدّنيا دار يسكنها الانسان مدّة منقطعة إذا بلغ إليها انقطع عنها وانقطعت عنه ، وهي تبلغ الإنسان إلى الآخرة ، والعاقل يحصّل منها ما يبلغه إلى نعيم الأبد ، والانسان فيها على ظهر سفر مبدءه الولادة وآخره الموت ، فانّه أجزاء البدن من التّراب وغيره قد تحرّكت عن أماكنها واجتمعت وترقّت إلى أن صارت نطفة ، ثمّ سارت النطفة سيرا معنويّا بطريق التكميل إلى أن صارت بدنا للانسان ، ثمّ تسير سيرا إلى العلوّ والكمال صاعدة إلى أواسط الشباب ، ثمّ تسير سيرا مستويا إلى أوان الانحطاط ، ثمّ تسير هابطا إلى أوان الموت. فهذا أحد أمثلة صراط الآخرة المذكور فيه انقسامه إلى الأقسام الثلاثة. وإن شئت فلاحظ مجموع حركات الانسان من مكان الولادة إلى مكان الموت وسكناته ؛ فانّك تجده كشخص سافر من المكان الأوّل إلى الثّاني بتؤودة وبطىء ؛ كالمريض المريد لمكان بعيد ، فانّه يكثر سكونه ويقلّ زمان حركته ، وهذه المسافة مطابقة لمدّة العمر أعني : الزمان المقدّر لحياة كلّ شخص ، فالسير بهم سريع ؛ لانّه لا يتصوّر شيء أسرع سيرا من الزّمان ، سواء جعلناه منتزعا عن حركة فلك الافلاك ، أو جعلناه موجودا ثابتا في الواقع على نحو التقضّي والتصرّم ، واللّيل والنّهار يأتيان بكلّ حادث مقدّر في كلّ منهما ؛ لأنّ الامور مرهونة باوقاتها ، فاذا جاء وقتها أتى بها ، سواء كان بلاء جديد واندراس عامر ، أو أمرا بعيدا بحسب أجزاء الزمان ، فكلّ ما وعد يأتيان بها بمجيء وقته ، والشّمس والقمر بتأثيريهما المتضادّين في الأشياء يبليان كلّ جديد ، ويؤثران في الكون والفساد ؛ فكلّ منهما كان موعودا أو قريبا آتيا به. والمراد بالتأثير ليس هو التأثير الاستقلاليّ ، بل على الوجه الّذي نذكره في محلّه ـ إن شاء الله تعالى ـ.

١٠

كما أنّ بعض النسب المتقدّمة لا يخلو عن توسّع بحسب اللّغة والعرف ، فلا ينبغي للعاقل أن يعتقد الدّنيا دار قرار ومنزل استيطان ، ولا لها استقرارا وثباتا ، ولا أمرا مقصودا بنفسه ، ولا يستبعد بلاء جسده وجميع أمتعة الدّنيا ، ولا الموت ولا البرزخ والآخرة الموعودة ؛ لأنّها ثابتة عند أزمنتها وانقضاء الزمان المتوسّط بيننا وبينها يأتي بها ، فكان ما هو كائن عن قليل لم يكن ، وما لم يكن بعد عن قليل لم يزل.

ثمّ إنّ أسباب الفتن من الجهالات والشّبهات الباطلة والاعتقادات الفاسدة ، وما شاكلها كالأخبار الكاذبة وبدع المبتدعين منضمّة إلى كلمات المعاصي وغيرها ، ورؤية كلّ شيء بخلاف ما هو عليه ، وملاذ الدنيا وشهواتها الباعثة لحدوث الاهوية إذا اجتمعت وتراكمت صارت مانعة عن رؤية الحقّ وإدراكه ، وسببا لالتباس الحقّ على الطالب للحقّ ، فيغيّر كاللّباس الّذي يغطّي الانسان من حيث إحاطته بالبصيرة ، ومنعها عن تأثير أسباب الهداية كوقاية اللّباس عن الحرّ والبرد ، وتأثّر البدن عن إشراق نور الشّمس ومن حيث سواده ، ومقابلته لنور المعرفة كقطع اللّيل الشّديد الظلام ، بل لعلّك إذا لاحظتها بالبصيرة الباطنة شاهدتها كألبسة سود مماثله لقطع اللّيل في الصورة فضلا عن المشابهة في السواد والايحاش ، ومنع الادراك بحيث إذا أخرج يده لم يكديريها.

والمخلص عنها القرآن ، فانّه شافع إلى الله لمن تتّبعه وتمسّك به وصار من أهله ، يستدعي ويسأل ويقتضي معنى من أحد سبحانه دفعا لهم ، كما يشفع لهم حسّا وصورة يوم القيامة مقبول الشفاعة في المقامين ، يخلّص الله أتباعه منها باقتضائه ، ويمنع خيراته عمّن لم يتمسّك به وخالفه ، ويسعى به الله سبحانه ، ويقتضي طرده وإبعاده مصدّق عند الله تعالى في شهادته وفي حكمه على هذه الطائفة ؛ بل الاولى في جميع ما أخبر به عن الامور الآتية ، بل الماضية والموجودة ؛ فمن ائتمّ به وجعله

١١

أمامه وسار خلفه فأمكن الكتاب من زمامه فصار قائده يحلّ حيث حلّ ثقله (١) وينزل حيث كان منزله ساقه إلى الجنّة ، ومن أعرض عنه بوجه قلبه وخالفه وسار على خلافه قاده إلى الله ، كما قال سبحانه :

(وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً)(٢).

فمثله كماء النيل لبني إسرائيل وأصحاب فرعون ، فمن استنصحه نصحه ، ومن نظر فيه بأهوائه زيد في ضلالته وجهالته ، ومن لم يؤمن به صار كافرا به.

وهو الدّليل الّذي يدلّ على خير سبيل كما وصفه تعالى بقوله :

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)(٣).

يريهم الطريق ويوصل إلى المطلوب من مقام الزّلفى إلى الله سبحانه والرضوان ونعيم الآخرة الأبديّة الخالصة عن الأكدار ، بل إلى نعم الآخرة والاولى ومصالحهما.

وفيه تفصيل الحقّ عن الباطل ، والهدى عن الضلال ، والرشد عن الغيّ ، وبيان المعارف والنشآت من الاولى والاخرى ، وتحصيل العلوم والخيرات والكمالات.

فهو الفصل الّذي ليس فيه شيء من الهزل الباطل ، وله ظاهر وباطن ، فظاهره حكمة علمية وعملية ، وباطنه علوم دقيقة ، ظاهره حسن معجب لفظا ومعنى ، فصاحة وبلاغة ، وباطنه علوم عميقة لا تصل إلى قعرها إلّا الرّاسخون في العلم ؛ لمعانيه مبادىء ونهايات ، ولنهاياته نهايات ، فعجائبه لا تحصى ، وغرائبه لا تبلى بفناء العمر وكثرة التدبّر والتفكّر والبحث ، بل هو جديد دائما وغريب بديع أبدا ؛ كلّما لاحظه أدرك منه شيئا غير ما تفطّن له من قبل.

فيه مصابيح الهدى يدرك الانسان بها هدايته في كلّ مقام ، ويطرد عن الطالب

__________________

(١) «الثقل» بالفتح : متاع المسافر.

(٢) الاسراء / ٨٢.

(٣) الاسراء / ٩.

١٢

كلمات أهويته وجهالاته ، ومنار الحكمة فيظهر به وجوه الحكمة العلميّة والعمليّة وحكمة الله في إجراء العالم ، ويستدلّ به عليها ، ودليل على معرفة الحقّ والخلق لمن عرف كيفيّة التعرّف وإشاراته ونكات بيانه ، فهو الّذي ينبغي إجالة اولي الأبصار بصيرته فيه ؛ إذ لا شيء أحقّ بصرفه وإنفاقه من هذا المصرف.

وليبلغ نظره إلى صفات الحقّ الّتي تجلّى بها في صفاته وأسمائه الحسنى الظاهرة به ، واسترشاده إلى أن يبلغ إلى كنه ما وصفه لعباده في ظاهره ونكاته وإشاراته ولطائفه وحقائقه ، حتّى ينجو السالك فيه من الهلاك الحقيقي معنى في هذا اليوم وصورة في الغد ، ويتخلّص من العلائق والاندار من الوقوع فيما لا مخلص منه ، ويصل إلى مقام الموحّدين المنقطعين إليه سبحانه ، المستكنّين المستغنين به عمّن سواه.

وهذا السّلوك الفكريّ النظريّ موجب لحياة قلب من له بصيرة ، يسلك به في نور القرآن كمشي المستنير بالنور في القرآن ؛ فانّ النور الحسّي يظهر المحسوسات للماشي الحسّي ، ونور القرآن يظهر المعاني والطرق المعنويّة للسالك فيها معنى.

وعلى العاقل قصر الهمّ في التخليص الحسن عن التشبّث وقلّة التربّص والمقام فيها ؛ فانّ الكيّس من جدّ واجتهد في تحصيل الخلاص والنجاة بعد معرفته بطريقه وترك الرّاحة. والله الموفّق للصواب.

وعنهما باسنادهما عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :

«القرآن هدى من الضلالة ، وتبيان من العمى ، واستقالة من العثرة ، ونور من الظلمة ، وضياء من الأجداث (١) ، وعصمة من الهلكة ، ورشد من الغواية ، وبيان من الفتن ، وبلاغ

__________________

(١) الكافي : «الاحداث» ، والعيّاشي : «الأحزان».

١٣

من الدّنيا إلى الآخرة ؛ وفيه كمال دينكم (١) ، وما عدل أحد من (٢) القرآن إلّا إلى النّار» (٣).

اعلم أنّ الهدى والضلالة كما يطلقان في الطريق الحسّي ، كذلك يقعان على الطرق المعنويّة الّتي يسلكها اولوا الألباب للوصول إلى الله سبحانه ورضوانه والنعم الباقية الصوريّة والمعنويّة. والانسان في هذه الدّار سالكة بمعارفه وجهالاته ، وأخلاقه الحسنة والقبيحة ، وأعماله الحسنة والسيّئة إلى القرب إلى الله سبحانه والبعد منه ، وإلى الخروج من الحجب وزيادتها على نفسه ، وإلى نعيم حقيقيّ وجحيم كذلك ، وإلى جنّة وإلى نار ؛ وكما أنّ الماشي إلى مقصد كما يحتاج إلى دلالة يستدلّ بها إلى المقصود حذرا من الضلال كذلك السالك المعنويّ يحتاج إلى هدى يستهدي به حتّى لا يضلّ عن مقصوده ، بل هو أشدّ احتياجا لكثرة طرق الضلالة ؛ كما يشير إليه قوله تعالى :

(وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ ، فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ)(٤).

حيث أتى السبل بصيغة الجمع ، والقرآن يهدي للّتي هي أقوم كما نصّ سبحانه عليه (٥). وكذا العمى قد يطلق على صفة العين الظاهرة باعتبار انعدام البصر عنه ؛ وقد يقع على العين المثاليّة باعتبار انعدام صفة الابصار عنه ، فلا يرى الامور المثاليّة وقد يقع على العقل باعتبار انعدام صفة التعقّل عنه ، فلا يعقل الأشياء الّتي من شأنها

__________________

(١) وزاد العيّاشي هنا : «فهذه صفة رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله ـ للقرآن.»

(٢) الكافي والعيّاشي : «عن».

(٣) الكافي ، ج ٢ ، كتاب فضل القرآن ، ص ٦٠٠ ، ح ٨ ؛ والعيّاشي ، ج ١ ، ص ٥ ، ح ٨ ؛ وهكذا في الصافي والبحار والبرهان.

(٤) الأنعام / ١٥٣.

(٥) إشارة إلى آية ٩ سورة الاسراء ، وقد مرّ آنفا.

١٤

أن يدركها. وربما يطلق العمى على نفس خفاء الشيء عند شأنية ظهوره في كلّ من المقامات الثلاثة ، خفي من المبصرات الحسيّة والمثاليّة والمدركات العقليّة عند شأنية إدراكه فقد عمى عنه ، والقرآن تبيان لما خفي من العلوم والمعارف والمدركات الباطنيّة ، وتبيان به يرتفع الغشاوة والعشاوة عن البصيرة الباطنيّة ، فيصير الانسان بصيرا بعد ما كان أعمى. وبه يطلب إقالة العثرات باستجلاب حال التوبة الماحية للعثرات ومن مواعظه وبياناته واستشفائه من الأمراض الباطنيّة لترتفع ببركته والاستدلال عليه لرفع الشكوك والشبهات. وهو نور من الظلمة ، فانّ النّور حقيقته ما بسببه يظهر الأشياء ، وقد قيل في تفسيره : «الظاهر بنفسه المظهر لغيره» (١). والقرآن يظهر به العلوم والمعارف وسائر الامور المتعلّقة بالنشأتين لمن كان بصيرا غير أعمى القلب ؛ (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ). (٢) كما أنّ نور الشّمس يظهر المحسوسات للبصير كذلك القرآن يظهر المعاني وغيرها لصاحب البصيرة ، وكما يرتفع ظلمة اللّيل باشراق الشّمس كذلك ترتفع ظلمة الجهل والوهم وغيرها ممّا أشرنا إليه بنور القرآن.

ولعلّك إن كنت ممّن تعرف النّور والظلمة الموجودين في باطن العالم ومراتب القرآن الحكيم ، استغنيت به عن ما ذكرنا وغيره فيه وفي أمثاله.

وممّا أشرنا إليه يظهر وجه كونه ضياء من الجدث المحتمل لارادة القبر وللهيكل الحيواني ؛ إذ ضياء القرآن تدخل في باطن الانسان بأيّ اعتبار أخذوه ويبقى في البرزخ ، بل دائما أبدا إذا اجتمع بما يعتبر في بقائه.

وهو عصمة من الهلكة الصوريّة ، كما يدلّ على نبذة منه ما ذكر في خواصّ جملة الآيات والسور ، والمعنويّة ، لأنّ الكفر والجهل والأخلاق الرذيلة وهوى

__________________

(١) راجع مجمع البحرين.

(٢) ق / ٣٧.

١٥

النفس وميلها إلى المعاصي والنّيات ترتفع ببركة قرائته وتبياناته ومواعظه وزواجره ودلالاته وغيرها من سائر بركاته. فيخلّص الانسان من الشقاوة الباقية ، ويوصله إلى السعادة الحقيقيّة.

فهو رشد من الغواية ، يحصل منه التّميز بين الضارّ والنافع الحقيقيّ ، كما أنّ الرّشد المالي عقل كيفيّة استثمار المال ، وترك تضييعه والتميز بين المعاملة الضارّة والنافعة ، وجميع أعضاء الانسان وعمره وأمواله ، وجميع ما يرتبط به من نعم الدّنيا أموال يمكن الانتفاع بها لمنافع الآخرة ؛ فانّ الدنيا مزرعة الآخرة. وعقل الانسان أنحاء التصرّفات اللّائقة وصورة ما يمضي منها رشد حقيقيّ يحصل من بركة القرآن.

فهو البيان لفتن الدّنيا وغيرها ، كما هو بيان لكلّ بدعة وضلالة وشبهة وما ضاهاها.

والبلاغ من الدنيا للآخرة ، بل مخرج للانسان عن نشئة الدّنيا الدنيّة إلى دار السّلام ، ففيه كما في الدّين ، الّذي من عدل عنه صار إلى النّار المعنويّة والحسّيّة.

وعن العيّاشي باسناده عن الحارث الأعور ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في حديث قال :

«سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : أتاني جبرئيل عليه‌السلام فقال :

يا محمّد! ستكون في امّتك فتنة.

قلت : فما المخرج منها؟

فقال : كتاب الله ، فيه بيان ما قبلكم من خبر ، وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ؛ من ولّيه (١) من

__________________

(١) العيّاشي : «والله».

١٦

جبّار فعمل بغيره قصمه (١) الله ، ومن التمس الهدى في غيره أضلّه الله ؛ وهو حبل الله المتين ، وهو الذّكر الحكيم ، وهو الصّراط المستقيم لا تزيغه الأهوية ، ولا تلبسه الألسنة ، ولا ـ يخلق على الرد ، ولا ينقض (٢) عجائبه ، ولا يشبع منه العلماء. هو الّذي لم يلبث (٣) الجنّ إذ سمعه أن قالوا : (إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً* يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ)(٤) من قال به صدق ومن عمل به أجر ، ومن اعتصم به فقد هدي إلى صراط مستقيم. هو الكتاب العزيز الّذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، تنزيل من حكيم حميد» (٥).

وسيظهر لك بعض ما يتبيّن به كثير من هذه الفقرات ممّا لم يظهر بما سبق فيما يأتي ـ إن شاء الله تعالى ـ.

[في الوصيّة بالتّمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام ، وأنّهم الكتاب النّاطق]

وروى عليّ بن إبراهيم القمّيّ في تفسيره عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال في جملة كلام :

«ألا وإنّي سائلكم عن الثقلين!

قالوا : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله! وما الثقلين (٦)؟

__________________

(١) «القصم» : انكسار الظهر بشدّة.

(٢) العيّاشيّ : «ينقضى».

(٣) في بعض نسخ العيّاشي : «لم تكنّه».

(٤) راجع سورة الجنّ ، آية ١ و ٢.

(٥) العيّاشيّ ، ج ١ ، ص ٣ ، ح ٢ ؛ والصافي ، ج ١ ، المقدّمة الاولى ، ص ٩ ، نقلا عنه ؛ وهكذا في البحار والبرهان.

(٦) القمّي : «الثقلان».

١٧

قال : كتاب الله الثقل الأكبر طرف بيد الله وطرف بأيديكم ، فتمسّكوا به لن تضلّوا ولن تزلّوا ؛ والثقل الأصغر عترتي أهل بيتي ، فانّه قد نبّأني اللّطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض كاصبعيّ هاتين ـ وجمع بين سبّابتيه ـ ولا أقول كهاتين ـ وجمع بين سبّابته والوسطى ـ ، فتفضل هذه على هذه» (١).

وروايات الثقلين على اختلاف ألفاظها كثيرة من الفريقين متواترة.

ولا يخفى عليك أنّ الكتاب كتابان : كتاب صامت ، وكتاب ناطق مشتمل على ما اشتمل عليه الصامت ، كما أنّ الصامت مبيّن لما اشتمل عليه الناطق ؛ كمناهاة مكتوب القرآن لملفوظه ، فهما كالسبّابتين ، وكلّ منهما دالّ على الآخر ؛ كالمرآتين المتقابلتين اللّتين يظهر في كلّ منهما الآخر بما انعكس فيها. فانّ كلّ ما اشتمل عليه القرآن من معرفة الله سبحانه بأسمائه وصفاته وأفعاله وآثاره ، ومعرفة حقائق الاشياء في المبدء والبرزخ والمعارف ووجوه الحكمة فيها ، وبيان صفات المواليد الثلاثة وأحوال الانسان وشقاوته وسعادته وما يؤدّي إلى كلّ منهما ، وبيان ما وقع وما يقع ، وأحكام الله سبحانه ، وغيرها ممّا يدلّ عليها دلالة لفظيّة ، موجودة في نفس الامام عليه‌السلام منقوشة بالوجود العلميّ الّذي هو أعلى مرتبة من الوجود اللّفظيّ والكتبيّ. وكلّ ما يحكي عنه القرآن بجميع أنواعه حكاية لفظيّة وضعيّة يدلّ عليه علوم الامام عليه‌السلام دلالة علميّة مرآتيّة. فكما أنّ المطّلع على ألفاظ القرآن ينتقل منها إلى تلك المعاني كذلك المطّلع على علومه ينتقل إليها ، وكلّ أثر يوجده الأوّل من التّقريب والتّعريف والتّعليم ، والبشارة والانذار ، والتكميل

__________________

(١) القمّيّ ، ج ١ ، مقدّمة الكتاب ، ص ٣ ؛ والبحار ، ج ٢٣ ، باب فضائل أهل البيت ـ عليهم‌السلام ـ ، ص ١٢٩ ، ح ٦١.

١٨

والترقّي إلى عالم القدس ، والنصح والدعاء إلى الله سبحانه بأنواع المقرّبات يترتّب على الثاني أيضا ، بل الموجود في الثاني المعاني والألفاظ قوالب لها يحكي عنها.

فانّ الامام عليه‌السلام هو الّذي عنده علم الكتاب ، وكلّ شيء أحصى الله سبحانه في الامام المبين بالوجود العلميّ ، وفي الكتاب الكريم بالوجود اللّفظي ، وفرق ظاهر بين كتاب العلم ونفس العالم المنتقش فيها العلوم. فالامام عليه‌السلام بهذا الاعتبار كتاب ناطق كتب الله سبحانه في لوحه معاني القرآن وألفاظه ، وتجلّى فيه بصفاته وآياته وأفعاله ؛ مع استجماعه لسائر الشؤون من تخلّقه بما يستحقّه القرآن من الأخلاق ، وعمله بما يرغب إليه من الأفعال ، وامتثاله لأحكامه في جميع المقامات. فهو كتاب إلهيّ ، وانقياد وعمل بمقتضاه وغيرها.

فهو الداعي إلى الله على نحو دعاء القرآن مع زيادة القبول والدعاء بالفعل فانّ أخلاقه وأعماله تدعو العارف بها إلى التشبّه بها خصوصا مع المناسبة الظاهريّة في هيكل البشريّة. فهما من حيث الحكاية متشاركان في جميع المقامات وإن ازداد الثاني على الاوّل بامور اخر ، وكلّ منهما يدلّ على صاحبه ويشهد بحقيقته وتبيّنه ؛ إذ جميع صفات الامام عليه‌السلام مسطور في الكتاب ، ويشهد له بذلك ، وإلّا لم يكن تبيانا لكلّ شيء ، كما أنّ جميع صفات القرآن لفظا ومعنىّ وغيرهما تحصى في الامام عليه‌السلام ، ويشهد له بالحقيقة تفصيلا علما ولفظا وتخلّقا ، وهو على صورة القرآن تماما مع إجابته وقبوله.

[بيان أنّ الكتاب هو الثّقل الأكبر]

فان قلت : فعلى هذا الثقل الأكبر هو الامام عليه‌السلام دون الكتاب والخبر مصرّح بخلافه.

قلت : إذا لاحظنا سائر مراتب القرآن ومقاماته دون مقام اللّفظ والكتب والنقش ، فمن جملة مقاماته مقام قلب النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله والامام عليه‌السلام ؛ إذ هو آيات بيّنات

١٩

في صدور الّذين اوتوا العلم. ومن جملتها مقامات اخر لسنا نتعرّض لبيانها.

والامام أيضا مشتمل على جميع تلك المقامات ، فالقرآن بجميع مقاماته عندهم ولا يبطل بذلك المقايسة والمفاضلة نظرا إلى اتّحادهما حينئذ ؛ إذ ربّما يصحّ بملاحظة الاعتبارات والحيثيّات ، فيصحّ أن يلاحظ المقايسة بين القرآن بتمام شؤونه ، أو خصوص المرتبة اللّفظيّة والكتبيّة ، وبين الامام عليه‌السلام باعتبار كونه صورة قبول القرآن والاجابة والتخلّق به. والأوّل في مقام الفعل والاقتضاء ، والآخر مقام الانفعال والاجابة. فالقرآن أكبر شأنا من هذه الملاحظة كما أنّه منسوب إلى الحقّ ومن صفاته ، والآخر من صفات العبد وإن كان الامام عليه‌السلام هو الآية الكبرى التامّة ؛ لكنّه لم يلحظ في المقايسة.

ويصحّ أن يلاحظ بين جميع مراتب القرآن مع المندرج فيها مرتبة عند الامام عليه‌السلام مقيسا إلى الامام عليه‌السلام بسائر شؤونه إذا قطع النظر عن كونه حاملا لمراتب القرآن ، ويصحّ أن يلاحظ النسبة بين القرآن بجملتها ، وما صدر عن العترة في الظاهر قولا فقط أو مع ما ظهر من أفعالهم ، فانّه المتمسّك به لعامّة الناس لو أخذوا به ، وحينئذ فالكتاب أكبر منه. ولا أستبعد أن يكون السرّ في هذا التعبير ملاحظة حال السامعين ، وعدم قابليّتهم لكشف أزيد من ذلك عندهم ، أو أنّ أهل الظاهر الّذين هم الجمهور يرون كتاب الله منتسبا مضافا إلى الحقّ ، والامام عليه‌السلام مستقلّا غير مضاف إليه سبحانه. فالأوّل أشرف من الثاني إذا لوحظا كذلك ، فافهم ما ذكر ، وليكن ببالك فلعلّه يتّضح به جملة من الأخبار المؤوّلة لكثير من الآيات بهم عليهم‌السلام ؛ كما رواه عليّ بن إبراهيم القمّيّ ، عن أبي بصير بسند متّصل في تفسير قوله تعالى : (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ)(١) عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال :

«الكتاب عليّ عليه‌السلام لا شكّ فيه ، (هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) قال : فيه

__________________

(١) البقرة / ٢.

٢٠