إعراب القراءات السبع وعللها - ج ٢

الحسين بن أحمد بن خالويه الهمذاني النحوي الشافعي

إعراب القراءات السبع وعللها - ج ٢

المؤلف:

الحسين بن أحمد بن خالويه الهمذاني النحوي الشافعي


المحقق: الدكتور عبدالرحمن بن سليمان العثيمين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مكتبة الخانجي
الطبعة: ١
ISBN الدورة:
977-5046-07-6

الصفحات: ٦٧٣
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

وعليه نتوكل وبه نستعين

(ومن سورة مريم عليها‌السلام)

١ ـ قوله تعالى : (كهيعص) [١]

فيها خمس قراءات :

قرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم بتفخيم الحروف كلّها ، وكان نافع قراءته بين بين ؛ وذلك أنّ هذه الحروف تذكّر وتؤنّث ، وتمدّ وتقصر ، وتمال وتفخّم ، فيقال : ياء وطاء ، ويا وطاء.

ومن العرب من ينحو به نحو الواو فيقول : طو ويو وهو. وقد قرأ بذلك الحسن كُهُيُعص (١).

وقرأ عاصم فى رواية أبي بكر والكسائيّ بإمالة هذه الحروف.

وقرأ ابن عامر ، وحمزة بفتح الهاء وإمالة الياء كَهَيعَصَ وكأنّهما كرها تواتى الفتحات والكسرات ، فأمالا بعضا ، وفتحا بعضا.

وقرأ أبو عمرو ضدّ ذلك ، فكسر الهاء وفتح الياء لهذه العلّة التى تقدمت.

__________________

(١) القراءة فى المحتسب : ٢ / ٣٦ ، والبحر المحيط : ٦ / ١٧٢.

٥

وحدّثنى محمّد بن الحسن الأنبارىّ ، عن ابن فرح ، عن أبى عمر ، عن اليزيديّ ، عن أبى عمرو أنّه قرأ كهِيِعص بكسر الهاء والياء. قال : قلت لأبى عمرو ، لم كسرت الهاء؟ قال : لئلا تلتبس بالهاء التى للتنبيه ، قلت : فلم كسرت الياء؟ قال : لئلّا تلتبس بالياء التى للنّداء إذا قلت : يا رجل ، ويا زيد. وهذا حسن جدّا.

قال ابن مجاهد : واللّفظ بهذه الحروف أن تنظر فما كان منها على حرفين كان أقصر مدّا نحو «ها» ، و «يا» ، وما كان على ثلاثة أحرف / كان أطول مدّا نحو «كاف» و «صاد»

فإن قيل لك : فإنّ أبا عمرو وغيره ممّن أدغم الدّال فى الذّال من ص* ذِّكر (١) جعلوه أطول من كاف؟

فالجواب فى ذلك : أنّ الألف إذا وقع بعدها حرف مشدّد نحو دابّة ، وشابّة ، وتابّة ـ وهى العجوز ـ فلا بدّ من مدّه ؛ تمكينا للحرف المدغم ، وليكون حاجزا بين السّاكنين.

واختلف أهل التأويل فى (كهيعص).

قال قوم : أقسم الله تعالى بحروف المعجم (٢) ، ثم اجتزأ ببعض عن بعض.

وقال آخرون : بل وهو شعار للسّورة (٣).

وقال عبد الرحمن بن أبى بكر : لله تعالى مع كلّ نبىّ سرّ ، وسرّ الله تعالى مع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى القرآن الحروف المقطعة.

__________________

(١) سورة ص : الآيتان : ١ ، ٢.

(٢) فى زاد المسير : ٥ / ٢٠٥ ، رواه على بن أبى طلحة عن ابن عباس.

(٣) قاله الحسن ومجاهد ، فى زاد المسير أيضا.

٦

فإن سأل سائل : ما معنى قول علىّ رضى الله عنه (١) : يا كاف ها ، يا ع ص اغفر لى؟

فالجواب فى ذلك : أنّ عليّا رضى الله عنه كان يتأوّل كلّ حرف من الحروف المقطّعة اسما من أسماء الله عزوجل ، فالكاف من (كهيعص) الكافى ، والهاء : الهادى ، والصّاد : من صادق ، والعين : من عليم. كأنّه قال : يا كافى يا هادى ، يا عليم ، يا صادق ، ثم اجتزأ ببعض الحروف عن كلّ ، كما تقول العرب : ألاتا ، تريد : ألا ترحل؟ فيقول : بلى فا ، أى : بلى فأفعل. قال الشّاعر : (٢)

ناداهم أن ألجموا الأتا

قول امرى للجلبات عبّا /

ثم تنادوا بعد تلك الضّوضا

منهم بهاب وهل وبا با

ومن ذلك حديث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٣) : «كفى بالسّيف شا» أراد أن يقول عليه‌السلام : شاهدا ، ثم قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لو لا أن يتتابع فيه الغيران والسكران».

٢ ـ وقوله تعالى : ص* (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) [٢]

أدغم الدّال فى الذّال. أبو عمرو وحمزة ، والكسائىّ. تخفيفا لقرب مخرج الدّال من الذّال.

والباقون يظهرون إذا لم يتجانسا ، وليسا أختين.

وكان أبو عمرو يسكّن الرّاء من ذكرْ ويدغمها فى الراء من رَّحمة فيقول ذكرْ رَّحمة ربّك.

__________________

(١) قول على رضى الله عنه فى زاد المسير : ٥ / ٢٠٥.

(٢) شرح شواهد الشافية : ٢٦٧ ، ٢٧٣.

(٣) سنن ابن ماجه : ٢ / ٨٦٨ حديث رقم (٢٦٠٦) كتاب الحدود حديث سلمة بن المحبّق (شاهد) على تمام الكلمة ، وبتقديم كلمة السكران على الغيران. وفيض القدير : ٤ / ٥٥١.

٧

والباقون يظهرون إذا كانا من كلمتين ؛ ولأنّ الرّاء الأولى متحركة ، وقد مضى مثل ذلك فيما سلف من الكتاب ، والتّقدير فى الآية : ذكر ربّك عبده بالرّحمة.

٣ ـ قوله تعالى : (إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي) [٥].

قرأ ابن كثير ـ فيما قرأت على ابن مجاهد (١) عن قتبل ـ ورآئىَ بفتح الياء ، والمدّ. والباقون يسكّنون الياء تخفيفا ؛ لطول الحرف مع الهمزة.

وفيها قراءة ثالثة : روى عبيد (٢) عن شبل عن ابن كثير من وَرَاىَ وكانت مثل هداى.

وقد ذكرت علّة ذلك فى سورة (ابرهيم) عليه‌السلام والوراء : ولد الولد ممدود (٣) ، الوراء : الخلف ، والوراء : القدّام (٤). ومعنى هذه الآية : خفت الموالى من ورائى أى : أمامى وقدّامى ، قال الشّاعر (٥) : /

__________________

(١) السبعة لابن مجاهد : ٤٠٧.

(٢) السبعة لابن مجاهد : ٤٠٧ ، وزاد المسير : ٥ / ٢٠٨.

(٣) الصحاح واللسان والتاج (ورى) والجمهرة : ٣ / ٢٥٣ ، والتهذيب : ١٥ / ٣٠٥.

(٤) الأضداد للأصمعى : ٢٠ ، وأضداد ابن السكيت : ١٧٦ ، أضداد قطرب : ١٠٦ ، والتّوزى : ١٧٣ ، وأضداد أبى الطيب اللغوى : ٢ / ٦٥٧ ، والصّحاح واللسان والتّاج : (ورى).

(٥) البيت لسّوار بن المضرّب التّميمىّ مع ثلاثة أبيات أنشدها المبرد فى الكامل ١ / ٦٢٨ قال : وكان أحد من هرب من الحجّاج سوار بن المضرّب ففى ذلك يقول :

أقاتلى الحجّاج إن لم أزر له

دراب وأترك عند هند فؤاديا

فإن كان لا يرضيك حتّى تردّنى

إلى قطرىّ لا أخالك راضيا

إذا جاوزت درب المجيزين ناقتى

فباست أبى الحجّاج لمّا ثنائيا

أيرجو بنو مروان سمعى وطاعتى

وقومى تميم والفلاة ورائيا

قال المبرّد : ورائى هاهنا بمعنى : أمامى .. كما ورد الشاهد فى مجاز القرآن : ٢ / ١ ، وأضداد ابن الأنبارى : وأضداد أبى الطيّب : ٢ / ٦٥٩ ، وهو فى الصّحاح واللّسان والجمهرة وغيرها.

٨

أيرجو بنو مروان سمعى وطاعتى

وقومى تميم والفلاة ورائيا

والورى مقصور : داء فى الجوف ، والورى أيضا الخلق ، يقال : ما أدرى أىّ الورى هو؟ وأىّ الطمش (١) هو؟ وأىّ ترخم (٢) ، وأىّ الطّبل هو؟ وأىّ برنساء (٣) هو؟ كلّ ذلك معناه : لا أدرى أىّ النّاس هو؟

وذكر الحجّاج عن هارون عن محمّد بن إسحق عن أبيه وهب عن كعب مولى سعيد بن العاص عن سعيد بن العاص قال (٤) ، أملى علىّ عثمان بن عفان رضى الله عنه ، وإنّى خَفَّتِ الموالى من ورآئى.

أى : ذهبت وقلّت ، والموالى : بنو الأعمام. قال الشّاعر (٥) : ـ

مهلا بنى عمّنا ، مهلا موالينا

لا تنبشوا بيننا ما كان مدفونا

فالمولى : ابن العمّ ، والمولى : المعتق ، والمولى : المعتق ، والمولى : النّاصر ، والمولى : الأولى ، والمولى : الولىّ ، والمولى : الإمام.

٤ ـ وقوله تعالى : (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) [٦].

قرأ أبو عمرو والكسائىّ جزما جوابا للأمر ، وإنما صار جواب الأمر

__________________

(١) قال ابن دريد فى الجمهرة : ١ / ٢٩١ : «الطّبس : لغة فى الطمش ، وهم الناس ، يقولون : مافى الطمش مثله ولا فى الطبس» وقال فى ج ـ ٣ / ٤٨٠ : «الطّبن والطمش والطبش والطّبل : الجمع من الناس».

(٢) فى تهذيب اللّغة : ٧ / ٣٨٣ عن أبى عبيد عن أبى زيد.

(٣) فى تهذيب اللّغة : ١١ / ٤٥٢ ، عن أبى عبيد عن أبى زيد.

(٤) معانى القرآن للفراء : ٢ / ١٦١ ، وزاد المسير : ٥ / ٢٠٨ ، والبحر المحيط : ٦ / ١٧٤.

(٥) البيت للفضل بن العباس بن عتبة بن أبى لهب فى الحماسة لأبى تمام : ٧١ (رواية الجواليقى) وجمع شعر الفضل ونشر فى مجلة البلاغ ببغداد.

٩

مجزوما ؛ لأنّ الأمر مع جوابه بمنزلة الشّرط ـ والجزاء ـ أى : هب لى وليّا ، فإنّك إن وهبته لى ورثنى.

قرأ الباقون (يَرِثُنِي) بالرّفع على تقدير : فإنه يرثنى ، ومن اختار الرّفع قال : (وَلِيًّا) نكرة ، فجعلت (١)(يَرِثُنِي)(٢) صلة كما تقول : أعرنى دابة أركبها ، ولو كان الاسم معرفة لكان الاختيار الجزم ، كما قال تعالى (٣)(فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللهِ) / والنكرة نحو قوله (٤) : (خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ).

ولمن رفع حجّة أخرى : أنّ الآية قد تمّت عند قوله (وَلِيًّا). وقال ابن مجاهد : من جزم جاز له أن يقف على (وَلِيًّا) ، ومن رفع لم يجز ؛ لأنّه صلة.

قال أبو عبد الله : الصّلة من الموصول كالشّرط من الجزاء لا يتمّ أحدهما إلّا بصاحبه ، فمن أجاز الوقف على (وَلِيًّا) ؛ لأنّهما رأس آية جعلها وقفا حسنا لا تاما ؛ لأنّ الحسن ما حسن الوقف عليه وقبح الابتداء به. وقال المفسرون التّقدير : هب الذى يرثنى. ولو قال قائل إنما رفعت (يَرِثُنِي) لأنّ معناه هب لى وليا وارثا. والفعل المضارع إذا حلّ محلّ اسم الفاعل لم يكن إلّا رفعا كقوله تعالى (٥) : (وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ) أى مستكثرا. وقرأ سعيد ابن جبير (٦) / هب لى أُوَيْرِثا أراد : وويرثا فانقلبت الواو همزة مثل :

__________________

(١) كتب فى هامش الورقة من الأصل : «صوابه (فجعل)».

(٢) مجاز القرآن لأبى عبيدة : ٢ / ١ ، ومعانى القرآن للفراء : ٢ / ١٦٢.

(٣) سورة الأعراف : آية : ٧٣.

(٤) سورة التوبة : آية : ١٠٣.

(٥) سورة المدثر : آية : ٦.

(٦) البحر المحيط : ٦ / ١٧٤ ، رواها لمجاهد.

١٠

(وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ)(١) والأصل : وقّتت وويرثا تصغير وارث كما تقول فى صالح : صويلح.

٥ ـ وقوله تعالى : (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا) [٨].

قرأ حمزة والكسائىّ (عِتِيًّا) و (صِلِيًّا)(٢) و (جِثِيًّا)(٣) وبِكيّا (٤) وكذلك حفص ، إلا (بُكِيًّا) فإنّه ضمّ. والباقون يضمّون كلّ ذلك ، فمن كسر أوائل هذه الحروف. فلمجاورة الياء (٥) والأصل الضمّ ؛ لأنّها جمع فاعل مثل جالس وجلوس ، وكذلك صال وصلىّ والأصل / صلوى ، وبكوى على وزن فعول ، فانقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فى الياء. فالتّشديد من جلل ذلك.

والأصل فى عُتيّا : عتو ؛ لأنّه من عتا يعتو ، والأول من بكى يبكى. كما قال تعالى (٦)(وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً).

فإن قيل لك : قيل فى هذه السّورة : عُتيّا بالياء ، ولم يقل : عتوّا بالواو؟

فالجواب فى ذلك : أنّ عتيّا جمع عات ، وأصل عات : عاتو فانقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها ، فبنوا الجمع على الواحد فى قلب الواو ياء ؛ لأنّ

__________________

(١) سورة المرسلات : آية : ١١.

(٢) سورة مريم : آية : ٧٠ (ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا).

(٣) سورة مريم : آية : ٧٢ (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا).

(٤) سورة مريم : آية : ٥٨ (خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا).

(٥) حجة القراءات لأبى زرعة : ٤٣٩.

(٦) سورة الفرقان : آية : ٢١.

١١

الجمع أثقل من الواحد ، وقوله : (وَعَتَوْا عُتُوًّا) مصدر (١) والمصدر يجرى مجرى الواحد حكما ، وإن كان فى اللّفظ مشاركا للجمع ، ألا ترى أنّك تقول : قعد قعودا ، وقوم قعود.

فإن قيل : فعتيّا فى (مريم) أيضا مصدر فلم قلب؟

فقل : ليوافق رءوس الآى ، فاعرفه.

فإن قيل : فلم لم يختلف فى قوله (٢) : (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) فيقرأ مِضيِا كما قرىء بِكِيّا؟

فالجواب فى ذلك أنّ الاعتلال ، والخروج عن الأصل إنّما يكون فى الجمع للعلّة التى أنبأتك بها ، و (مُضِيًّا) مصدر ، تقول : مضى يمضى مضيّا ، ولو كان جمعا لماض لقلت : قوم مضىّ ومضىّ ، كما تقول : بكيّ وبكيّ ، إنّما قال الله تعالى : (فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا) أى : مضاء ، وهذا واضح بحمد الله. وفى حرف عبد الله (٣) ، وقد بلغت من الكبر عسيّا يقال : للشيخ إذا كبر / عسا يعسو ، وعتا يعتو إذا يبس (٤).

٥ ـ وقوله تعالى : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ) [٩].

قرأ حمزة والكسائىّ ، وقد خلقناك.

وقرأ الباقون : (وَقَدْ خَلَقْتُكَ) بالتاء.

__________________

(١) حجة القراءات لأبى زرعة : ٤٣٩.

(٢) سورة يس : آية : ٦٧.

(٣) هو ابن مسعود. معانى القرآن للفرّاء : ٢ / ١٦٢ ، وزاد المسير : ٥ / ٢١١.

(٤) تفسير غريب القرآن لابن قتيبة : ٢٧٢ ، والصّحاح واللّسان والتاج : (عسا).

١٢

فمن قرأ بالتّاء فحجّته : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) ، ولم يقل : علينا.

ومن قرأ بلفظ الجمع ، فلأنّ الله تعالى قد قال بعد الآية : (وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا) [١٣] أى : رحمة من عندنا ، والعرب تقول : حنانيك أى : رحمة بعد رحمة (١) كما قال : لبّيك وسعديك. قال الشّاعر (٢) : ـ

أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا

حنانيك بعض الشرّ أهون من بعض

وسمعت أبا عمر يقول : (وَحَناناً) قال : هيبة من لدنّا.

وذكر الله تعالى نعمه على يحيى بن زكريا حيث خلقه ولم يك شيئا موجودا مرئيا عند المخلوقين. فأمّا الله تعالى فعلمه ما لم يكن كعلمه به بعد أن كوّنه. وقد كان يحيى عليه‌السلام فى علم الله شيئا. وإنّما سمى يحيى لأنّه حيي من عقيمين كانت أمّه أتت عليها خمس وتسعون سنة وأبوه نيّف وتسعون لا يولد لهما فحيى من بين ميّتين قد يئسا من الولد.

٦ ـ وقوله : (لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) [٧].

قيل : لم يسمّ أحد يحيى قبل يحيى. وقال آخرون : السّمىّ : الولد واحتجّوا بقوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [٦٥].

قال أبو عبد الله : وسمعت القاضى أبا عمران بن الأشيب يقول : يحيى أفضل من عيسى عند أهل التّأويل ؛ لأنّ الله / تعالى سلّم على يحيى فقال :

__________________

(١) الزّاهر لابن الأنبارى : ١ / ٢٠٠.

(٢) البيت لطرفة بن العبد ، ملحقات ديوانه : ١٤٢. وهو من شواهد الكتاب : ١ / ١٧٤ ، والمقتضب : ٣ / ٢٢٤ ، وشرح المفصّل لابن يعيش : ١ / ١١٨.

١٣

(وَسَلامٌ عَلَيْهِ) [١٥] وعيسى يسلّم على نفسه فقال : (وَالسَّلامُ عَلَيَ) [٣٣] والأمر عندى واحد ؛ لأنّ عيسى لم يسلم على نفسه فى حال البلوغ والنّطق ، وإنّما أنطقه الله فى المهد صبيّا إمارة لنبوّته ، وأنّه من غير فحل.

٧ ـ وقوله تعالى : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً) [١٩].

قرأ أبو عمرو وحده إنّما أنا رسول ربّك ليهب لك بالياء أى : ليهب الله لك؟

وقرأ الباقون : (لِأَهَبَ لَكِ) جبريل يخبر عن نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟.

فإن قال قائل : الهبة لله تعالى فلم أخبر جبريل عن نفسه صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟

ففى ذلك قولان.

أحدهما : إنّما أنا رسول ربّك. يقول الله : «لأهب لك».

والقول الثّانى : لأهب أنا لك بأمر الله ، إذ كان النافخ فى جيبها بأمر الله تعالى.

ورأيت أبا عبيد قد ضعّف قراءة أبى عمرو واختياره ؛ لخلاف المصحف قال : ولو جاز لنا تغيير المصحف لجاز لنا فى كلّ ذلك.

قال أبو عبد الله : ليس هذا خلافا للمصحف ؛ لأنّ حروف المدّ واللّين وذوات الهمز يحوّل بعض إلى بعض وتلين. ولا يسمّى خلافا ، ألا ترى أنّ نافعا فى رواية ورش قرأ ليلّا يكون للنّاس (١) يريد : لئلّا ، فجعل الهمزة ياء ، والقراء يقرأون : إذا وإيذا ، وكذلك ورش عن نافع مثل قراءة أبى عمرو ، ليهب ،

__________________

(١) سورة البقرة : آية : ١٥٠ ، وسورة النساء : آية : ١٦٥.

١٤

وإنما الخلاف نحو كالصّوف المنقوش / و (كَالْعِهْنِ)(١) وو اسأل بنى إسرائيل و (سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ)(٢) فأمّا التّليين فلا يسمى خلافا.

٨ ـ وقوله تعالى : (نَسْياً مَنْسِيًّا) [٢٣] قرأ حمزة وحفص عن عاصم (نَسْياً) بفتح النون ، والباقون بالكسر. فمن فتح أراد المصدر نسيت الشّىء أنسى نسيا ونسيانا. ويقال : هذا شىء لقا ـ مقصور ـ ونسي. قال الشّاعر (٣) : ـ

كأنّ لها فى الأرض نسيا تقصّه

على أمّها وإن تحادثك تبلت

معنى تبلت أى : تعقب وتصدق. فأمّا النّسء ـ بالفتح والهمز ـ فالتأخير قرأ ابن كثير إنّما النّسؤ زيادة فى الكفر (٤) والنّسؤ : اللّبن ، قال عروة بن الورد (٥) :

بآنسة الحديث رضاب فيها

بعيد النّوم كالعنب العصير

أطعت الآمرين بصرم سلمى

فطاروا فى البلاد اليستعور

سقونى الخمر (٦) ثمّ تكنّفوني

عداة الله من كذب وزور

__________________

(١) سورة القارعة : آية : ٥.

(٢) سورة البقرة : آية : ٢١١.

(٣) البيت فى اللسان : (نسي) للشّنفرى. ويراجع : المفضليات : ١٠٩ ، ومجاز القرآن : ٢ / ٢٤ ، ومجالس ثعلب : ٣٥٣ وجمهرة ابن دريد : ١ / ٢٥٦ ، والمخصص : ١٤ / ٢٧ ويروى : (تخاطبك).

(٤) سورة التّوبة : آية : ٣٧.

(٥) الأبيات فى ديوان عروة بن الورد بشرح ابن السّكيت : ٥٥ ـ ٦٠ وأوردها ابن دحية فى تنبيه البصائر : (النّسىء). قال : «وإنّما سميت النّسىء لتأخرها فى الدّنّ حتى تطيب ...».

(٦) صححت فى الهامش : «النسىء» ولم أصححها كما أراد الناسخ ؛ لأنّ المؤلف أشار إلى هذه الرّواية فيما بعد. وكان عليه أن يذكر رواية (النسىء) هنا ؛ لأنها محلّ الشاهد ، ويشير هناك إلى هذه الرّواية.

١٥

اليستعور : البلاد البعيدة (١). والخيتعور : الداهيه والخيتعور : الغدر ، والمرأة الغدّارة ، والخيتعور : الأسد : قال الشّاعر (٢) :

كلّ أنثى وإن بدا لك منها

آية الحبّ حبّها خيتعور

إنّ من غرّه النّساء بشىء

بعد هند لجاهل مغرور

ويروى : «سقونى النّسىء» يعنى اللّبن. وكان ابن الأعرابىّ ينشد : «سقونى النّسي» (٣) أى : شىء نسّانى عقلى.

٩ ـ وقوله تعالى : (فَناداها مِنْ تَحْتِها) [٢٤].

قرأ نافع وحمزة والكسائىّ / وحفص عن عاصم (مِنْ تَحْتِها) بكسر الميم.

وقرأ الباقون مَن تحتها بالفتح ف «من» اسم ، و «من» حرف ، فمن فتح أراد : عيسى عليه‌السلام ، ومن كسر أراد : جبريل عليه‌السلام.

١٠ ـ وقوله تعالى : (تُساقِطْ عَلَيْكِ) [٢٥]

__________________

(١) اليستعور : قال ابن دحية فى تنبيه البصائر (النسىء) : «اليستعور : موضع قرب حرّة المدينة فى عضاه من سمر وطلح. وقال أبو حنيفة الدّنيورى : اليستعور شجر يستياك به ينبت بالسّراة. واليستعور أيضا من أسماء الدّواهى». وينظر كتاب النبات لأبى حنيفة الدّينورىّ : ٢٢٩ قال : «أخبرنى بعض أعراب السّراة أنّ أشدّ المساويك إنقاء للثّغر وتبييضا له مساويك اليستعور ومنابته بالسراة وفيها شىء من مرارة مع لين» ثم أنشد بيت عروة المذكور.

(٢) البيت لحجر بن عمرو آكل المرار فى الأغانى : ١٦ / ٣٥٣ (دار الكتب). وهو فى تهذيب اللغة : ٣ / ٢٧٤ ، واللسان : (خثعر). (٣) قال ابن دحية : «ويروى : (سقونى الخمر) كأنّ الراوى فسّر النسىء بالخمر ، وهكذا قرأته على الأستاذ النّحوى أبى القاسم السّهيلىّ ، وقرأت فى مجمل الإمام اللّغوى أبى الحسين أحمد بن فارس على إصلاح ما ذكره الإمام أبو عبيد فى «الغريب المصنّف» وعلماؤنا يقولون هذا خطأ إنما «النّسى» بغير همز أى ما ينسى العقل». ويراجع مجمل اللغة : ٨٦٦.

١٦

قرأ حمزة وحده تَساقط خفيفا.

والباقون تسّاقط عليك مشدّدا ، أرادوا : تتساقط فأدغموا التاء فى السّين. وحمزة أسقط تاء مثل تذّكرون وتذكرون. وقد بيّنت نحو ذلك فيما سلف. وروى حفص عن عاصم (تُساقِطْ عَلَيْكِ) جعله فاعل ساقط يساقط مساقطة فهو مساقط. وحدّثنى أحمد عن علىّ عن أبى عبيد أن البراء بن عازب قرأ يسّاقط عليك (١) بالياء والتّشديد ، أراد : يتساقط فأدغم ، فمن ذكّر رده على الجذع. ومن أنّث ردّه على النّخلة. (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا) قيل : بغباره ، وقيل : برنيّا (٢) وقيل : كانت النّخلة صرفانة (٣) وهو رطب يملأ الضّرس ، وهو أملأ للضّرس ، وكان الجذع جذعا يابسا أتي به ليبنى به بناء فاهتزّ خضرا وأينع بالرّطب بإذن الله تعالى.

(قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [٢٤] قال الحسن (٤) : كان والله عيسى سريّا فقيل له : إنّ السّرىّ : النّهر ، فقال : أستغفر الله. وقرأ أبو حيوة (٥) : يُسْقِط عليك. وروى عنه (٦) يَسْقُط عليك ففى هذا الحرف من القراءات : يسّاقط وتسّاقط ويساقط وتساقط وتسقط وتسقط وتساقط (٧).

__________________

(١) فى مختصر الشّواذ للمؤلف : ٨٤ ، وفى تهذيب اللغة : ٨ / ٣٩٣ أضاف إليه مسروق ، وفى زاد المسير : ٥ / ٢٢٣ «وقرأ يعقوب وأبو زيد عن المفضّل يسّاقط بالياء مفتوحة مع تشديد السين وفتح القاف. فى جزء قراءات النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأبى عمر الدورى : ١٢٦ بسنده إلى عبد الله بن أرقم يقول : «سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقرأ من الليل : يسّاقط عليك رطبا جنيّا بالياء» قال محقق الجزء : «إسناده ضعيف جدّا».

(٢) ضرب من التّمر. تهذيب اللّغة : ١٥ / ٢١٣ ، واللّسان : (برن).

(٣) جنس من التمر تهذيب اللّغة : ١٢ / ١٦٣ ، واللّسان : (صرف).

(٤) هو الحسن البصرى ، والحكاية عنه فى زاد المسير : ٥ / ٢٢٢.

(٥) قراءة أبى حيوة فى زاد المسير : ٥ / ٢٢٣ وأضاف إليه أبىّ بن كعب ، والبحر المحيط ٦ / ١٨٥.

(٦) البحر المحيط : ٦ / ١٨٥.

(٧) مختصر الشّواذ للمؤلّف : ٨٤.

١٧

١١ ـ وقوله تعالى : (وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ) [٣١]

قرأ الكسائىّ وحده وأوصينى بالإمالة من أجل الياء ؛ لأنّ الأصل فيه قبل الإضافة أوصى مثل أودى فلمّا أضافه إلى النّفس تركه ممالا.

وأمّا من فتح فقال : إذا قلت : أوصى ثمّ أضافه المتكلم إلى نفسه صارت الألف ياء ، مثل قضى وقضيت وأوصى وأوصيت ، فإذا قلت قضانى ورمانى صارت الياء ألفا فأتبعوا اللّفظ الخطّ ، والكسائىّ جرى على الأصل ؛ لأنّ من خالفه فى (أَوْصانِي) فقد وافقه. قالت إحديهما (١) فى الإمالة.

وحجّة الباقين أنّ (إِحْداهُما) كتب فى المصحف بالياء (وَأَوْصانِي) بالألف.

١٢ ـ وقوله تعالى : (ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِ) [٣٤].

قرأ عاصم وابن عامر (قَوْلَ الْحَقِ) بالنّصب جعل له مصدرا كما تقول : قلت قولا وقلت حقّا ، وقول الحقّ : قول الله تعالى. والعرب تقول : قال زيد قولا وقال قيلا وقال قالا ، فيجعلون الواو ألفا. وكذلك الياء فى العيب والعاب ، وفى حرف أبىّ (٢) ذلك عيسى ابن مريم قال الحقّ.

والباقون يرفعون على تقدير : ذلك عيسى ابن مريم ذلك قول الحقّ مبتدأ وخبرا ، فعيسى قول الله وكلمة الله ، ورسول الله ، وعبد الله ، وروح الله ؛ لأنّه

__________________

(١) سورة القصص : آية : ٢٦ فى الأصل : «وقالت ..».

(٢) قال الحق قراءة ابن مسعود والأعمش فى تفسير الطبرى : ١٦ / ٦٣ والبحر المحيط : ٩ / ١٨٩ ، وقال الله الحق قراءة ابن مسعود فى الكشاف : ٢ / ٥٠٩ ، وقال الحق قراءة طلحة والأعمش فى البحر المحيط ٦ / ١٨٩.

١٨

بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) فهى الكلمة ، والقول. وسمّى روح الله ، لأنّه كان رحمة على من بعث إليه إذا آمنوا به.

١٣ ـ قوله تعالى : (وَإِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) [٣٦] /

قرأ حمزة والكسائىّ وعاصم وابن عامر (إِنَّ اللهَ) بالكسر.

وقرأ الباقون وأنّ بالفتح

فمن فتح أضمر فعلا وقضى إن الله ربى وربكم. ومن كسر جعله ابتدا لأنّ «إنّ» إذا كانت مكسورة كانت ابتداء ، واحتجّوا بأنّ فى حرف أبىّ إنّ الله ربّى وربّكم بغير واو.

١٤ ـ وقوله تعالى : (أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ) [٦٧].

قرأ نافع وعاصم وابن عامر (أَوَلا يَذْكُرُ) بالياء خفيفا.

والباقون يشدّدون. وقد ذكرت علّته فى غير موضع.

١٥ ـ وقوله تعالى (إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً) [٥١].

قرأ عاصم وحمزة والكسائىّ (مُخْلَصاً) بفتح اللّام.

أى أخلصهم الله واختارهم ، أعنى : الأنبياء موسى معهم فصار مخلصا.

والباقون مخلِصا بكسر اللّام مثل (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)(١) أى : أخلص هو لله التّوحيد ، فصار مخلصا.

١٦ ـ وقوله تعالى : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) [٦٥].

__________________

(١) سورة الأعراف : آية : ٢٩.

١٩

روى هارون عن أبى عمرو هلْ تَّعلم له مدغما. وكذلك حمزة والكسائىّ يدغمان لقرب اللّام من التّاء.

والباقون يظهرون ؛ لأنّهما من كلمتين ففرقوا بين المتصل والمنفصل. فالمتصل (التَّابُوتُ)(١) والمنفصل هلْ تَّعلم ومعنى قوله : (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا) أيسمى الولد. وقيل : هل تعلم فى السّهل والجبل والبحر والمشرق والمغرب أحدا اسمه الله (٢) غير الله عزوجل.

١٧ ـ وقوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا) [٧٢].

قرأ الكسائىّ وحده ثم نُنْجى خفيفا من أنجى ينجى.

والباقون (نُنَجِّي) والأمر بينهما قريب ، نجى وأنجى مثل / كرم وأكرم ، و «ثم» حرف نسق ؛ لأنّ الله تعالى قال : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها) [٧١] فما أحد إلّا وهو يرد النار تحلّة القسم ، الدّليل على ذلك قوله تعالى : (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا) وقال آخرون : ليس يرد الموحّد النار. واحتجّوا بما حدّثنى ابن مجاهد. قال : حدّثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل عن أبيه عن أبى داود عن شعبة عن عبد الله بن السّائب قال : حدّثنى من سمع ابن عبّاس يقرأ (٣) : وإن منهم إلّا واردها يعنى : من الكفّار. وكذلك قرأها ابن كثير فى رواية ، وعكرمة. وحدّثنى ابن مجاهد أيضا قال : حدّثنى إسماعيل بن عبد الله بن إسماعيل ، عن أبى زيد فى قوله : (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها). قال : ورود المسلمين المرور على الجسر ، وورود الكافرين الدّخول.

__________________

(١) سورة البقرة : آية : ٢٤٨.

(٢) زاد المسير : ٥ / ١٥١.

(٣) البحر المحيط : ٦ / ٢١٠.

٢٠