البيان في غريب إعراب القرآن - ج ١

أبو البركات بن الأنباري

البيان في غريب إعراب القرآن - ج ١

المؤلف:

أبو البركات بن الأنباري


المحقق: الدكتور طه عبد الحميد طه
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: الهيئة المصريّة العامّة للكتاب
الطبعة: ٢
ISBN: 977-419-176-5
الصفحات: ٤٢٣
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢
٣
٤

المقدمة

ابن الأنبارى

هو (عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن مصعب بن أبى سعيد) كمال الدين أبو البركات بن الأنبارى (١) وقد اختلفت كتب الطبقات اختلافا يسيرا فى تسميته ، ولم يذكر جده الثانى (مصعب) إلا صاحب طبقات الشافعية الكبرى ، ويذكر القفطى جده (عبيد الله) والزيادة والنقص بعد ذلك تتصل بكنيته أو وصفه (٢).

كان مولده فى شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ، وتوفى فى ليلة الجمعة تاسع شعبان من سنة سبع وسبعين وخمسمائة ، ودفن يوم الجمعة بباب (أبرز) (٣) بتربة الشيخ أبى إسحاق الشيرازى (٤).

حياته :

لم تسعفنا المصادر بأخبار شافية عن ذلك الرجل الذى انتهت إليه زعامة العلم فى العراق ، وكان قبلة الأنظار بين أساتذة (النظامية) يرحل إليه العلماء من جميع

__________________

(١) طبقات الشافعية للسبكى.

(٢) (عبد الرحمن بن محمد بن أبى سعيد أبو البركات النحوى المعروف بابن الأنبارى) تاريخ الكامل. (عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله بن أبى سعيد الإمام أبو البركات كمال الدين الأنبارى) بغية الوعاة للسيوطى.

(أبو البركات كمال الدين عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الأنصارى الأنبارى) فوات الوفيات.

(أبو البركات عبد الرحمن بن أبى الوفاء محمد بن عبيد الله بن أبى سعيد الأنبارى ، الملقب كمال الدين) وفيات الأعيان.

(الكمال ابن الانبارى النحوى ، العبد الصالح أبو البركات عبد الرحمن بن محمد بن عبيد الله الشافعى) شذرات الذهب.

(عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبى سعيد الأنبارى أبو البركات الملقب بالكمال النحوى) إنباه الرواة.

(٣) اسم المقبرة التى دفن فيها (باب أبرز) هى إحدى مقابر بغداد.

(٤) إنباه الرواة ١٧١ ـ ٢.

٥

الأقطار ، وقد تخاطف الطلاب والأدباء تصانيفه ، وطولب بالتأليف فى مختلف علوم اللغة ، فلم يرد طلب المشتغلين عليه ، وألف لهم ، حتى ذاعت تصانيفه وانتشرت شهرته ، وكان خليقا بهذا العالم الفذ أن يكون له تاريخ حافل بالأخبار ، يحكى تفاصيل حياته ويروى دقائق طفولته وشبابه وكهولته.

ولعل القصور فى ذلك يرجع إلى أنه عاش حياة علمية خالصة فلم يختلط بحياة الناس العامة ، وعلى ذلك لم توجد له أخبار مثيرة ، وإن كان يشير بنفسه إلى اختلاطه حين يذكر بعض المسائل التى كان يحاج بها أساتذته ، منهم (الحواليقى وابن الشجرى).

وحين يشير إلى ردوده على بعض المسائل التى سئل عنها من أولاد الحليفة والتى ضمنها كتابه (المسائل الخرسانية). ومن أن المستضىء (١) حمل إليه خمسمائة دينار فردها فقيل له : «اجعلها لولدك» فقال : «إن كنت خلقته فأنا أرزقه (٢)».

وتروى المصادر أيضا أنه تزوج وله ولد ، وأنه أخذ العلم عن أبيه الذى لم تذكر المصادر أى شىء يدل على مكانة ذلك الوالد من الناحية الاجتماعية أو العلمية.

وهكذا تجمل الكتب حياته إجمالا عجيبا وتكاد المصادر تجمع على أقوال واحدة تتردد فيها جميعا ، ثم تذكر كتب التراجم أن له كتابا يسمى (تاريخ الأنبار (٣)) فإذا قيض لهذا الكتاب أن يظهر ، فإنى أعتقد أنه سوف يلقى ضوءا على حياة رجلنا وغيره من الرجال الذين ينتسبون لهذا البلد.

ومهما يكن من أمر ، فهو الفقيه المتفنن ، صاحب التصانيف المفيدة ، والورع والزهد ، كان إماما صدوقا فقيها مناظرا غزير العلم ورعا زاهدا تقيا عفيفا خشن

__________________

(١) الإمام المستضىء بأمر الله أمير المؤمنين أبو محمد الحسن بن يوسف المستنجد ... توفى ثانى ذى القعدة ٥٧٥ ه‍. تاريخ الكامل ١٨٧ ـ ١١.

(٢) شذرات الذهب ٣٥٩ ـ ٤.

(٣) الأنبار : بلدة على الضفة الشرقية للفرات على بعد عشرة فراسخ (نحو ٦٥ كم) غربى بغداد عامرة كثيرة النخيل والزروع والثمار الحسنة ، ولزمها هذا الاسم الفارسى ، لأن كسرى كان يتخذ فيها أنابير الطعام ، ومن كثرة مخازن الحنطة والشعير فيها ، والتاريخ يعرفها أول عاصمة لدولة بنى العباس ، فقد اتخذها أول خلفائهم أبو العباس السفاح مقرا له بعد الحيرة ، وبقيت كذلك أيام المنصور حتى بنى بغداد فانتقل إليها. انظر (الأنبار) فى معجم البلدان لياقوت ، وكتاب البلدان لليعقوبى ، ووفيات الأعيان ؛ ومفرد الأنبار (نبر) بكسر النون وسكون الباء.

٦

العيش والملبس ، داخل الأندلس ، وقد ذكر ذلك ابن الزبير فى الصلة ، وكان من الأئمة المشار إليهم فى علوم النحو ، وسكن بغداد من صباه إلى أن مات ، وسمع بالأنبار عن أبيه وتفقه على مذهب الشافعى بالنظامية على ابن الرزاز ، وأعاد بها الدرس وقرأ اللغة على الشيخ أبى منصور موهوب بن الخضر الحواليقى ، وقرأ النحو على النقيب أبى السعادات بن الشجرى ، ولم يكن ينتمى فى النحو إلا إليه ، وبرع فى الأدب حتى صار شيخ وقته ، وصار شيخ العراق فى الأدب غير مدافع ، ودرّس فى المدرسة النظامية النحو مدة ، ثم انقطع فى منزله منشغلا بالعلم والعبادة ؛ وأقرأ الناس العلم على طريقة سديدة وسيرة جميلة من الورع والمجاهدة والنسك ، وترك الدنيا ومحاسنة أهلها ، واشتهرت تصانيفه وظهرت مؤلفاته وتردد الطلبة إليه واستفادوا منه ، وكان مقيما برباط له شرقى بغداد فى الخاتونية الخارجة (١).

قال الموفق عبد اللطيف : «لم أر فى العباد والمنقطعين أقوى فى طريقه ولا أصدق منه فى أسلوبه ، جد محض ، لا يعتريه تصنع ، ولا يعرف السرور ولا أحوال العالم ، وكان له من أبيه دار يسكنها ، ودار وحانوت مقدار أجرتهما نصف دينار فى الشهر يقنع به ويشترى منه ورقا. وكان لا يوقد عليه ضوءا ، وتحته حصير قصب ، وعليه ثوب وعمامة من قطن يلبسهما يوم الجمعة ، فكان لا يخرج إلا للجمعة ، ويلبس فى بيته ثوبا خلقا ، وكان ممن قعد فى الخلوة عند الشيخ أبى النجيب (٢)».

قلت (٣) : «سمع الحديث عن أبى منصور بن محمد بن عبد الملك بن خيرون (٥٣٩ ه‍) ، وأبى البركات عبد الوهاب بن المبارك الأنماطى (٥٣٨ ه‍) ، وأبى نصر أحمد بن نظام الملك (٥٦١ ه‍) وغيرهم ، وحدث باليسير ، روى عنه الحافظ أبى بكر الحازمى (٥٨٤ ه‍) ، وابن الديثنى وطائفة ، ومن تصانيفه فى المذهب (هداية الذاهب فى معرفة المذاهب ، وبداية البداية) وفى الأصول (الداعى إلى الإسلام فى أصول الكلام) والنور اللائح فى اعتقاد السلف الصالح ، واللباب ، وغير

__________________

(١) طبقات الشافعية ٢٤٨ ـ ٤ ـ بغية الوعاة ٣٠١.

(٢) عبد الله بن سعد بن الحسين بن القاسم بن علقمة بن معاذ بن عبد الرحمن الشيخ أبو النجيب السهروردى ، الصوفى الزاهد الفقيه الإمام الجليل أحد أئمة الطريقة ومشايخ الحقيقة ... روى عنه ابن عساكر وزين الأمناء أبو البركات وخلق ... توفى سنة ٥٦٣ ه‍ ـ طبقات الشافعية ٢٥٦ ـ ٣.

(٣) القائل : السبكى صاحب طبقات الشافعية.

٧

ذلك ، وفى اللغة والنحو ما يزيد على الخمسين مصنفا ، وله شعر حسن (١) ذكروا أن له شعرا ، فروى له ابن شاكر الكتبى هذه المقطوعة :

العلم أوفى حلية ولباس

والعقل أوفى جنة الأكياس

كن طالبا للعلم تحى وإنما

جهل الغنى كالموت فى الأرماس

وصن العلوم عن المطامع كلها

لترى بأن العلم عز الباس

والعلم ثوب والعفاف طرازه

ومطامع الإنسان كالأدناس

والعلم نور يهتدى بضيائه

وبه يسود الناس فوق الناس (٢)

وأورد له القفطى مقطوعتين هذه إحداهما :

تدرع بجلباب القناعة والباس

وصنه عن الأطماع فى أكرم الناس

وكن راضيا بالله تحيا منعما

وتنجو من الضراء والبؤس والباس

فلا تنس ما أوصيته من وصية

أخى ، وأى الناس من ليس بالناس

وقد صور هذا الشعر حياة ابن الأنبارى العالم الزاهد المتصوف ، ولئن لم يعجبنا هذا الشعر من الناحية الفنية ، وهذا ملحظ على كل ما يصدر عن العلماء من شعر ، ولكن صدقه ودلالته القلبية واضحة.

إن كتب التراجم ، وواقع الكتب التى ألفها الأنبارى يشيران إلى براعته فى النحو ، فقد تخصص فيه وبرع فى سن مبكرة فى هذا العلم ، وذلك لأننا إذا رجعنا إلى تاريخ وفاة أساتذته فى اللغة والحديث والنحو ، نجد أن آخرهم وهو ابن الشجرى (توفى ٥٤٢ ه‍) ولم يتتلمذ على أحد بعده إلا على الشيخ أبى النجيب ، وكانت تلمذته عليه فى التصوف ، وتأثر به فى العبادة والزهد والانقطاع ، وعلى هذا يكون قد استوعب علم النحو وبرز فيه وهو بعد لم يتجاوز الثلاثين من عمره ، فقد ناظر وجادل أستاذيه الحواليقى وابن الشجرى كما أثبت ذلك فى ترجمته لهما فى كتابه (نزهة الألبا).

__________________

(١) طبقات الشافعية ٢٤٨ ـ ٤.

(٢) وفيات الأعيان ٣٢٠ ـ ٤ ـ وذكر صاحب الوفيات (ابن خلكان) أنه لقى جماعة من تلاميذه.

٨

مذهبه النحوى :

المطلع على كتب ابن الأنبارى فى النحو ، لا يداخله شك فى انتماء الرجل إلى المذهب البصرى ، ولسنا فى مجال مناقشة السبب فى ذلك ، لأن ابن الأنبارى حين يتكلم عن أستاذه الشريف بن الشجرى يسلسل أساتذته السابقين وكل منهم بصرى معروف ، فيقول : «وكان الشريف بن الشجرى أنحى من رأينا من علماء العربية وآخر من شاهدنا من حذاقهم وأكابرهم ، وتوفى سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة ، وعنه أخذت علم العربية ، وأخبرنى أنه أخذه عن ابن طباطبا ، وأخذه ابن طباطبا عن ابن عيسى الربعى عن أبى على الفارسى ، وأخذه أبو على عن أبى بكر بن السراج وأخذه ابن السراج عن أبى العباس المبرد ، وأخذه المبرد عن أبى عثمان المازنى وأبى عمر الجرمى ، وأخذه عن أبى الحسن الأخفش ، وأخذ الأخفش عن سيبويه وأخذه سيبويه عن الخليل بن أحمد ، وأخذه الخليل عن عيسى بن عمر ، وأخذه عيسى ابن عمر عن أبى إسحاق ، وأخذه ابن أبى إسحاق عن ميمون الأقرن عن عنبسة الفيل ، وأخذه عنبسة الفيل عن أبى الأسود ، وأخذه أبو الأسود الدؤلى عن أمير المؤمنين عليه‌السلام» (١).

مذهبه الفقهى :

ولا جدال أيضا أنه شافعى المذهب فقد قرن اسمه (بالشافعى) والمدرسة التى تخرج فيها (النظامية) قامت لإحياء المذهب الشافعى ، ولا يتصدر للتعليم فيها إلا من نبغ من علماء هذا المذهب ، وقد أخلص لمذهبه ومدرسته لأنه درس فيها مدة طويلة وكانت أخصب أيام حياته فى التأليف ، فطالما صدّر كتبه بأنه ألفها حين طلب منه المشتغلون عليه بالمدرسة النظامية أن يؤلف لهم ، ووضع إنتاجه خدمة للعلم والمتعلمين ، ولكن الشيخ لم يستطع فى أخريات أيامه أن يصبر على قيود الوظيفة ، فاعتزلها وتفرغ لإكمال تآليفه ، ولعقد حلقات الوعظ والدرس ، واقترب اقترابا شديدا من التصوف وبخاصة بعد أن اتصل بالشيخ أبى النجيب الصوفى ، وإن أخلاقه وطبيعته لتحبب إليه هذا المذهب الصوفى ، فقد اشتهر فى حياته كلها بالورع والزهد.

رحلاته :

ليس هناك دليل قاطع على أن ابن الأنبارى غادر بغداد ، فلم يظهر أثر ذلك فى

__________________

(١) نزهة الألبا ٤٨٥.

٩

كتاب من كتبه ، ولم يشر أية إشارة إلى ذلك فى تصانيفه ، وكان لا بد أن أشير إلى هذا الموضوع لأن السيوطى نقل عن ابن الزبير فى الصلة أنه رحل إلى الأندلس ، ومكث فيها مدة. ورد على ذلك ابن مكتوم ، فقال : «ذكر الحافظ المؤرخ أبو جعفر أحمد ابن إبراهيم الزبير الثقفى العاصمى فى تاريخه للأندلس الذى وصل به صلة أبى القاسم ابن بشكوال أن أبا البركات عبد الرحمن بن الأنبارى الملقب بالكمال هذا ، دخل الأندلس ووصل إلى أشبيلية وأقام بها زمانا. ولا أعلم أحدا ذكر ذلك غيره ، وهو مستغرب يحتاج إلى نظر ، والظاهر أنه سهو. والله أعلم».

ثقافته :

إن المطلع على ثبت الكتب التى ألفها ابن الأنبارى يعلم أن الرجل قد ألم بجميع الفنون العربية التى عرفت فى القرن السادس الهجرى ، ولقد كان لسمة العصر ووجود المدارس أثر ظاهر فى ذلك. لأن علماء ذلك العصر كانوا يتنقلون فى مرحلة التعليم بين حلقات الدرس ويختلفون إلى العلماء الذين يتصدرون للتدريس فى كل موضوع ، فيأخذون أطرافا من علوم العربية وعلوم الفقه وغير ذلك ، وهكذا فعل ابن الأنبارى ، فإنه جلس إلى العلماء واستمع منهم ، وأعجب بهم وأخذ عنهم ، وأثرّ فيه أحدهم تأثيرا كبيرا جعله يتخصص فى مادة النحو ، ذلك العالم هو ابن الشجرى الذى ترجم له واعترف بفضله وبتأثيره عليه ، ولقد ظهرت هذه النتيجة واضحة جلية فى كتبه وبخاصة المطول منها ، وهى نحوية خالصة. وكثير من رسائله التى أشار إليها فى كتبه وذكر أسماءها ، وكذلك الرسائل التى ذكرتها كتب التراجم ، فهى جميعا يغلب عليها صفة النحو ، ولا يخفى أنه نسب إلى النحو ، فقيل النحوى (كما ذكرنا ذلك فى تسمياته فى أول البحث) وهكذا برع وظهرت مواهبه فى ذلك الفن حتى استوعبه حفظا وفهما ، وساعده على ذلك ما امتاز به من عقلية رياضية ساعدته على فهم المناظرات والحدال النحوى ، حتى أسهم فى ذلك حين كان يناقش أستاذيه الحواليقى وابن الشجرى.

حقا لم يضع ابن الأنبارى نحوا جديدا ، وما كان ذلك يصعب عليه لو نشده ، والذين ألفوا فى النحو بعد سيبويه لم يخرجوا عن النطاق المضروب ، ولم يبتدعوا قواعد جديدة ، ولكن ابن الأنبارى ألف فى النحو بطريقة خاصة ، أخذ المادة القديمة وبناها بناءا جديدا ، وألبسها ثوبا عجيبا جميلا لم يشهده الناس من قبل ، لذلك كان له من عبقريته وذكائه وعقليته خير معين فى ابتكار علم جديد هو (علم أصول النحو) ،

١٠

كذلك وضع طريقة واضحة ومبادئ فى أدب المناظرة والحدل فى كتابه (الإغراب فى جدل الإعراب).

مؤلفاته :

كانت الحقبة التى عمل فيها مدرسا بالنظامية من أخصب الحقب إنتاجا فى حياته ، ففيها ألف أول كتاب فى نوعه ، وهو كتاب (الإنصاف فى مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين) وقد ألفه لكبار المشتغلين عليه ، جمع فيه جل مسائل الخلاف ، وصورها على نمط جديد فى التأليف لم يألفه الناس من قبل ، فراج ذلك الكتاب وشغف به المتعلمون وكثر الانتفاع به ، وقد أثبت ذلك فى مقدمة الكتاب إذ قال : «وبعد فإن جماعة من الفقهاء المتأدبين والأدباء المتفقهين المشتغلين علىّ بعلم العربية بالمدرسة النظامية ـ عمر الله مبانيها ورحم بانيها ـ سألونى أن ألخص لهم كتابا لطيفا يشتمل على مشاهير المسائل الخلافية بين نحويى البصرة والكوفة على ترتيب المسائل الخلافية بين الشافعى وأبى حنيفة ، ليكون أول كتاب صنف فى علم العربية على هذا الترتيب ، وألف على هذا الأسلوب ، لأنه ترتيب لم يصنف عليه أحد من الخلف ، فتوخيت إجابتهم على وفق مسألتهم ، وتحرّيت إسعافهم لتحقيق طلبتهم ، وفتحت فى ذلك الطريق ، ذكرت من مذهب كل فريق ما اعتمد عليه أهل التحقيق واعتمدت فى النصرة على ما أذهب إليه من مذهب أهل الكوفة أو البصرة على سبيل الإنصاف لا التعصب والإسراف» (١).

وألف الشيخ كتابا آخر فى النحو ، سار فى ترتيبه على النمط المعروف ، فبوّب النحو فى صورة أسئلة يلقيها ويجيب عليها ، ولكنه اتّبع منهجه الخاص به الفريد فى نوعه ، حيث أخذ يعلل الظواهر النحوية ويبين وجوه الخلاف ويلخصها تلخيصا موجزا لا يمل منه القارئ. ثم يحيل التفصيل فى الخلاف على كتابه (الإنصاف).

لقد تعمق ابن الأنبارى فى فلسفة النحو فى (الإنصاف) ، وقرب هذه الفلسفة للأذهان ووضحها فى (أسرار العربية) متوخيا التسهيل والإيجاز ، يقول فى مقدمة أسرار العربية :

«وبعد فقد ذكرت فى هذا الكتاب الموسوم (بأسرار العربية) كثيرا من مذاهب النحويين المتقدمين والمتأخرين من البصريين والكوفيين وصحّحت ما ذهبت إليه منها

__________________

(١) مقدمة الإنصاف ٣ ـ ١.

١١

بما يحصل به شفاء الغليل ، وأوضحت فساد ما عداه بواضح التعليل ، ورجعت فى ذلك كله إلى الدليل ، وأعفيته من الإسهاب والتطويل ، وسهلته على المتعلم غاية التسهيل» (١).

ثم وجد ابن الأنبارى أن فن المناظرة والجدال والمحاورة يسم ذلك العصر ، فقد شغف به المتعلمون والفقهاء والمتأدبون ، وبرعوا فى هذا فيما يتصل بأصول الفقه والنحو ، فالتمسوا من الأستاذ الذى انتهت إليه زعامة الأدب والنحو فى بغداد أن يضع لهم قوانين يسيرون عليها حين يتجادلون ، وقواعد يتبعونها حين يتناظرون ، على أن تقوم هذه القواعد على أسس سليمة وقواعد متينة لا يحيدون عنها حتى لا يصبح الجدال العلمى مجرد ترّهات وأباطيل ، ويسلك المناظر سبيل الخطأ لمجرد المناقشة ، فيؤلف ابن الأنبارى لهم كتاب (الإغراب فى جدل الإعراب) وفى مقدمته يبين الغرض منه ويشرح المقصود من تأليفه فيقول : «وبعد ، فإن جماعة من الأصحاب اقتضونى بعد تلخيص كتاب (الإنصاف فى مسائل الخلاف) تلخيص كتاب فى جدل الإعراب مسعرّى عن الإسهاب ، مجردا عن الإطناب ، ليكون أول ما صنف لهذه الصناعة فى قوانين الجدل والآداب ، ليسلكوا به عند المجادلة والمحاورة والمناظرة سبيل الحق والصواب ، ويتأدبوا به عند المحاورة والمذاكرة والمضاجرة فى الخطاب. فأجبتهم على وفق طلبتهم ، طلبا للثواب ، وفصّلته اثنى عشر فصلا على غاية من الاختصار تقريبا على الطلاب فالله تعالى ينفع به إنه كريم وهاب» (٢).

ويخرج لنا بعد ذلك كتابه فى (علم أصول النحو) ولم يكتب له مقدمة تبين الغرض منه ولكنه أشار إليه فى كتابه (نزهة الألبا) حيث قال : «إن علوم الأدب ثمانية : النحو واللغة والتصريف والعروض والقوافى وصنعة الشعر وأخبار العرب وأنسابهم. وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما وهما : الجدل فى النحو ، وعلم أصول النحو ، فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه من قياس العلة وقياس الشبه وقياس الطرد إلى غير ذلك على حد أصول الفقه ، فإن بينهما من المناسبة ما لا يخفى لأن النحو معقول من منقول كما أن الفقه معقول من منقول» (٣).

وهكذا حقق ابن الأنبارى الأمنية التى طالما داعبت أذهان علماء النحو من القديم.

__________________

(١) مقدمة أسرار العربية ٢.

(٢) الإغراب فى جدل الإعراب ٣٥.

(٣) نزهة الألبا ١١٧.

١٢

أما مؤلفه (نزهة الألبا فى طبقات الأدبا) فهو كتاب صغير الحجم ولكنه جمع فيه تراجم المتقدمين والمتأخرين ، فى تركيز عجيب يفيد الطالب والأستاذ معا ، مع صفاء الأسلوب وتحقيق الأخبار وسرعة الإدراك لخصائص الرجال.

وأخيرا يؤلف لنا الأستاذ الشيخ كتابه الجامع الذى تعرض فيه إلى إعراب غريب القرآن الكريم ، والذى اعتقد أنه ختم به مؤلفاته وبخاصة المطول منها وهو الكتاب الذى حققناه. وقد جمعنا أسماء مؤلفاته من كتب التراجم ، فزاد عددها على السبعين ، وفى اعتقادى أن معظمها رسائل صغيرة. وهاك أسماء كتبه مرتبة حسب الحروف.

١ ـ «الاختصار فى الكلام على ألفاظ تدور بين النظار».

٢ ـ «أخف الأوزان».

٣ ـ «أسرار العربية» طبع فى ليدن ١٨٨٦ م ، ١٣٠٣ ه‍ ـ وطبع فى دمشق مطبعة الترقى ١٣٧٧ ه‍ ـ ١٩٥٧ م. أشار إليه المؤلف فى (البيان).

٤ ـ «الأسمى فى شرح الأسماء» هكذا فى (الوافى) للصفدى ـ وفى الوافى بالوفيات (الأسنى فى شرح أسماء الله الحسنى). وذكره فى (أسرار العربية) ص ٤٦ باسم (الأسماء فى شرح الأسماء). وورد فى (البيان) لفظ (الأسمى).

٥ ـ «أصول الفصول فى التصوف».

٦ ـ «الأضداد».

٧ ـ «الإغراب فى جدل الإعراب» حققه الأستاذ سعيد الأفغانى ، وطبع بمطبعة الجامعة السورية ١٣٧٧ ه‍ ـ ١٩٥٧ م ـ وأشار إليه مؤلفه فى كتابه (نزهة الألبا) ص ١١٧ باسم علم الجدل. وجاء فى (الوافى) باسم (الإغراب فى علم الإعراب).

٨ ـ «الإنصاف فى مسائل الخلاف بين البصريين والكوفيين» طبع فى ليدن ١٩١٣ م. وطبع بمصر ١٣٦٤ ه‍ ـ ١٩٤٥ م ـ وأشار إليه المؤلف فى (أسرار العربية) فى ثمانية مواضع. وفى (البيان) فى ثلاثين موضعا.

٩ ـ «بداية الهداية» فى المذهب ، طبقات الشافعية ٢٤٨ / ٤ ، ويعنى بالمذهب (علم الأصول).

١٣

١٠ ـ «البلغة فى أساليب اللغة».

١١ ـ «البلغة فى الفرق بين المذكر والمؤنث».

١٢ ـ «البيان فى جمع أفعل أخف الأوزان» هكذا فى أكثر المصادر. ولكن السيوطى جعل كلا من (أخف الأوزان) و (البيان فى جمع أفعل) كتابا مستقلا.

١٣ ـ «تاريخ الأنبار» الذى نود الوقوع عليه ليجلى لنا تاريخ بلد أخرج علماء ينتسبون إليه :

١٤ ـ «تصرفات لو». وجاء فى (الوافى) باسم (كتاب لو). ويقول المؤلف فى (البيان) : «وقد أفردنا فى (لو) كتابا».

١٥ ـ «تفسير غريب المقامات الحريرية».

١٦ ـ «التفريد فى كلمة التوحيد».

١٧ ـ «التنقيح فى مسلك الترجيح» (فى الخلاف) زيادة فى كشف الظنون : وورد باسم (مسلك التنقيح فى مسألة الترجيح) و (التنقيح فى مسألة الترجيح). وقال المؤلف فى البيان فى ثنايا كلامه عن الخلاف الفقهى : «وقد بينا ذلك مستوفى فى كتابنا الموسوم (بالتنقيح فى مسائل الترجيح بين الشافعى وأبى حنيفة) رحمة الله عليهما».

١٨ ـ «جلاء الأوهام وجلاء الأفهام فى متعلق الظرف فى قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ) ويقول عنه فى البيان : «ليلة منصوب على الظرف بأحل ، وقد أفردنا فى ذلك كتابا».

١٩ ـ «الجمل فى علم الجدل».

٢٠ ـ «الجوهرة فى نسب النبى وأصحابه العشرة».

٢١ ـ «الحض على تعلم العربية».

٢٢ ـ «حلية العقود فى الفرق بين المقصور والممدود».

٢٣ ـ «حواشى الإيضاح».

١٤

٢٥ ـ «الداعى إلى الإسلام فى علم الكلام» فى الأصول.

٢٦ ـ «ديوان اللغة».

٢٧ ـ «رتبة الإنسانية فى المسائل الخرسانية».

٢٨ ـ «الزهرة» فى اللغة.

٢٩ ـ «زينة الفضلاء فى الفرق بين الضاد والظاء».

٣٠ ـ «شرح الحماسة»

٣١ ـ «شرح ديوان المتبنى».

٣٢ ـ «شرح السبع الطوال». جاء فى (أسرار العربية) ص ٣٠٣ : «وقد ذكرنا ذلك فى كتابنا الموسوم بالمرتجل فى شرح السبع الطوال».

٣٣ ـ «شرح المقبوض فى العروض».

٣٤ ـ «شرح مقصورة ابن دريد». يقول المؤلف فى (البيان) : «وقد بيناها فى كتاب الإشارة فى شرح المقصورة».

٣٥ ـ «شفاء السائل فى بيان رتبة الفاعل» وذكره فى البيان باسم (شفاء السائل عن رتبة الفاعل) فى موضع ، وفى آخر باسم (شفاء السائل فى بيان رتبة الفاعل).

٣٦ ـ «عقود الإعراب».

٣٧ ـ «عمدة الأدباء فى معرفة ما يكتب بالألف والياء» أهملته كتب التراجم ، وذكره صاحب (قاموس الأعلام) محيلا على (بغية الوغاة) و (وفيات الأعيان) و (فوات الوفيات) وهو ليس فيها جميعا. وذكره صاحب كشف الظنون وقال : «أوله الحمد لله على توالى الآلاء ...».

٣٨ ـ «غريب إعراب القرآن» (هكذا فى جميع كتب التراجم ، وصحته (البيان فى غريب إعراب القرآن).

٣٩ ـ «الفائق فى أسماء المائق» يقول المؤلف فى (نزهة الألبا) ص ٣٨ : «واللغوب الأحمق ، وله أسماء كثيرة ذكرناها مستوفاة فى كتابنا الموسوم بالفائق فى أسماء المائق».

١٥

٤٠ ـ «الفصول فى معرفة الأصول» فى النحو ، وذكر فيه أوضاع الأصول المشابهة لأصول الفقه ، وذكره فى (الإغراب) ص ١٤.

٤١ ـ «فعلت وأفعلت».

٤٢ ـ «قبسة الأديب فى أسماء الذيب» يقول فى البيان : «والهملع الذئب ، وقد أفردنا فى أسمائه كتابا».

٤٣ ـ «قبسة الطالب فى شرح خطبة أدب الكاتب».

٤٤ ـ «كتاب الألف واللام» ورد الاسم فى (أسرار العربية) ص ٣٤٥ ، ٤٠١ ـ وفى (البيان).

٤٥ ـ «كتاب حيص بيص». الحيص بيص : معناهما الشدة والاختلاط ، وقد لقب بهما الشاعر سعد بن محمد بن سعد بن صيفى (ت ٥٥٤ ه‍) «كان يلقب بالحيص بيص ... قيل : إنه رأى الناس فى شدة وحركة ، فقال : ما للناس فى حيص بيص ، فلزمه ذلك لقبا ...» قال بعضهم : كان صدرا فى كل علم ، مناظرا محجاجا ، ينصر مذهب الجمهور ، ويتكلم فى مسائل الخلاف ، فصيحا بليغا ، يتبادى فى لغته ، ويلبس زى أمراء العرب ، ويتقلد بسيفين ، ويعقد القاف ، وله ديوان شعر مشهور» طبقات الشافعية ٢٢١ / ٤ ـ تاريخ الكامل ١٨٥ / ١١.

٤٦ ـ «كتاب فى يعفون» وفى البغية (معفون). ويقول المؤلف فى البيان : «وقد أفردنا فى الكلام على (يعفون) كتابا».

٤٧ ـ «كتاب كلا وكلتا».

٤٨ ـ «كتاب كيف» وجاء فى البيان : «وفى (كيف) كلام طويل ، وقد أفردنا فيه كتابا».

٤٩ ـ «كتاب لو». يقول فى البيان : «وقد أفردنا فى (لو) كتابا» ، وجاء فى بغية الوعاة (تصرفات لو).

٥٠ ـ «كتاب ما» يقول المؤلف فى البيان : «وما تأتى فى كلامهم على وجوه كثيرة ، وقد أفردنا فيها كتابا».

١٦

٥١ ـ «اللباب المختصر». وفى بغية الوعاة (اللباب. المختصر). وفى الوافى (اللباب) (المختصر) وكأنهما كتابان.

٥٢ ـ «لمع الأدلة» فى أصول النحو. حققه الأستاذ سعيد الأفغانى مع كتاب (الإغراب فى جدل الإعراب) فى مجلد واحد. مطبعة الجامعة السورية ١٣٧٧ ه‍ ـ ١٩٥٧ م.

٥٣ ـ «اللمعة فى صنعة الشعر» رسالة حققها الأستاذ السيد عبد الهادى هاشم.

وقد بلغ مع المقدمة بضع عشرة صفحة. ونشرت فى مجلة المجمع العلمى بدمشق (م. ٣٠ ص ٥٩٠ ـ ٦٠٧).

٥٤ ـ «المرتجل فى إبطال تعريف الجمل».

٥٥ ـ «مسألة دخول الشرط على الشرط».

٥٦ ـ «المعتبر فى الفرق بين الوصف والخبر».

٥٧ ـ «مفتاح المذاكرة».

٥٨ ـ «المقبوض فى علم العروض».

٥٩ ـ «مقترح السائل فى (ويل أمه)».

٦٠ ـ «منثور العقود فى تجريد الحدود». جاء فى بغية الوعاة (منشور).

٦١ ـ «منثور الفوائد».

٦٢ ـ «الموجز فى القوافى» الرسالة الثانية التى نشرها الأستاذ عبد الهادى هاشم.

فى ثمانى صفحات. مجلة المجمع العلمى بدمشق (م ٣١ ص ٤٨).

٦٣ ـ «ميزان العربية». جاء فى شذرات الذهب ص ٢٥٨ / ٤ (كتاب الميزان فى النحو).

٦٤ ـ «نجدة السؤّال فى عمدة السؤال» هكذا فى كتب التراجم. يقول المؤلف فى البيان : «وقد بينا ذلك مستوفى فى كتابنا الموسوم ب (عدة السؤال فى عمدة السؤال)».

٦٥ ـ «نزهة الألبا فى طبقات الأدبا» مطبوع بمصر ١٢٩٤ ه‍.

٦٦ ـ «نسمة العبير فى التعبير».

٦٧ ـ «نغبة الوارد» جاء فى بغية الوعاة باسم (بغية الوارد).

١٧

٦٨ ـ «نقد الوقت».

٦٩ ـ «نكت المجالس» فى الوعظ.

٧٠ ـ «النوادر».

٧١ ـ «النور اللائح فى اعتقاد السلف الصالح» فى الأصول.

٧٢ ـ «الوجيز» فى التصريف. يقول فى البيان : «وكتاب الوجيز فى علم التصريف».

٧٣ ـ «هداية الذاهب فى معرفة المذاهب» فى المذهب.

١٨

كتاب البيان فى غريب إعراب القرآن

عرف هذا الكتاب فى كتب التراجم باسم : غريب إعراب القرآن ـ أو ـ إعراب القرآن. وذكر حاجى خليفة فى (كشف الظنون) أن لابن الأنبارى كتابا سماه (البيان). ثم جاء القول الفصل فى هذا بعد عثورى على النص المخطوط الذى حققته وقدمت له بدراسة وافية. والذى وجدت بأوله : «كتاب البيان فى غريب إعراب القرآن ، تأليف الإمام العلم الأوحد الزاهد أبى البركات عبد الرحمن بن أبى سعيد الأنبارى النحوى».

وقدم المؤلف لكتابه مقدمة موجزة قال فيها : «فقد لخصت فى هذا المختصر غريب إعراب القرآن على غاية من البيان توخيا للتفهيم لعل الله ينفع به إنه هو البر الرحيم».

وهذه أبرز السمات التى توضح لنا منهج ابن الأنبارى فى كتابه :

١ ـ كتاب (البيان) خالص فى إعراب القرآن الكريم ، مبين للوجوه المحتملة فى إعراب كثير من كلمات الآيات ، ولكنه لا يخلط شرحه النحوى بأى شرح معنوى أو بلاغى إلا فى النادر ، ثم هو يتتبع إعراب الكلمات التى تعددت الآراء فيها ، ولذلك نراه يتنقل بين الآيات على حسب ترتيبها منتقيا ما يحتاج إلى إعراب ، تاركا إعراب ما لا يحتاج إلى إعمال فكر ، ولم تختلف فيه الآراء.

٢ ـ يبدو أن كتاب (البيان) هو آخر كتب ابن الأنبارى التى ألفها ، وعلى وجه من التوكيد هو آخر المطولات من تآليفه ، وذلك لأنه :

أولا : رجع فى كثير من مسائله إلى كتابه المشهور (الإنصاف) فقد أحال عليه كثيرا من شرح الخلافات النحوية التى تحتاج إلى إسهاب وإطناب. وقد أورد اسم (الإنصاف) فى أكثر من ثلاثين موضعا فى (البيان). كذلك أحال الكثير من المسائل على (أسرار العربية) ويمكننا بعد هذا أن نرتب هذه المطولات حسب اعتماد اللاحق على السابق ، فنجد أن الإنصاف أسبقها ، ثم الأسرار ، ثم البيان.

ثانيا : جاء فى أول ورقة من (البيان) : «قرأ علىّ كتاب البيان فى غريب

١٩

إعراب القرآن العالم الفاضل ضياء الدين أبو الفتح عبد الوهاب ... (١) بن العينى نفعه الله بالعلم ، قراءة تصحيح وتهذيب ودراية ، وذلك فى سنة سبع وسبعين وخمسمائة» وهى السنة التى توفى فيها ابن الأنبارى بغير خلاف ، ويغلب على ظنى أن الذى قرئ عليه الكتاب هو ابن الأنبارى نفسه فى آخر أيامه فى الحياة.

٣ ـ كتاب (البيان) هو الصورة الأخيرة التى أودع فيها ابن الأنبارى خبرته النحوية ، كما كان سجلا للكتب والرسائل النحوية التى ألفها ، وذلك حين أحال الإفاضة فى المسائل على هذه الكتب التى أثبت منها أربعة عشر كتابا.

٤ ـ على الرغم من أن السمة الغالبة على الكتاب هى العناية بالناحية النحوية الخالصة ، إلا أنه استعان أحيانا بالتفسير ليوضح المعنى ويثبت صحة الإعراب الذى يفضله وفساد الإعراب الذى لا يساير المعنى الصحيح ، ويمكن أن نرجع فى ذلك إلى إعرابه لقوله تعالى : (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ)(٢) وفى إعراب قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً)(٣) وفى إعراب قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ)(٤).

٥ ـ كما نلمح علمه بالفقه ، وبخاصة الفقه الشافعى الذى تفقه فنه فى النظامية ، وإلى ذلك يشير عند ما يتكلم عن ـ قوله تعالى : (حَتَّى يَطْهُرْنَ)(٥).

٦ ـ ويتبع ابن الأنبارى القراءات ، ويذكرها مفصلة ثم يعود فيوجه كل قراءة التوجيه النحوى المعترف به ، «فالقراءة سنّة متبعة». على حد قوله وإن خرجت عن القياس ، فكلمة (استحوذ) مستعملة متداولة ، والقياس فيها (استحاذ) ، فإن شئت مثالا فارجع إلى إعرابه قوله تعالى : (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً)(٦) و (جَعَلْنا لَكُمْ فِيها) معايش» (٧).

٧ ـ ومع أن الكلمة قد أخذت صورة واحدة فى النطق ، إلا أنها قد تقع مواقع

__________________

(١) بياض فى الأصل.

(٢) البقرة ٢١٧.

(٣) البقرة ٤٨.

(٤) البقرة ٨٨.

(٥) البقرة ٢٢٢.

(٦) البقرة ٨٣.

(٧) الأعراف ١٠.

٢٠