الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

أ. د. محمود حمدي زقزوق

الموسوعة القرآنيّة المتخصصة

المؤلف:

أ. د. محمود حمدي زقزوق


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٩٠٢

الوحى

الإيمان بالوحى الإلهى ضرورة حتمية للإيمان بالقرآن وبالرسالة ؛ لأن الوحى هو وسيلة إنزال القرآن على قلب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما صرح بذلك فى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) (١) ومن ثم كانت قضية الوحى بأبعادها المختلفة لها عظيم الأهمية فى مجال البحث القرآنى مما يستلزم إلقاء الضوء عليها وإزالة اللبس المكتنف لها.

ويعرّف الوحى لغة : بأنه الإعلام فى خفاء ، وأصله كما قال الراغب : الإشارة السريعة. ومجمع القول فى معناه اللغوى : أنه الإعلام الخفى السريع الخاص بمن يوجّه إليه بحيث يخفى على غيره (٢). ويتفرع عن هذا المدلول اللغوى عدة معان للوحى كالإشارة والكتاب والرسالة والأمر والتفهيم (٣).

أما الوحى بمعناه الشرعى : فهو إعلام الله تعالى لنبىّ من أنبيائه بحكم شرعى ونحوه بطريقة خفية غير معتادة للبشر (٤).

وللوحى إطلاقات عديدة ورد بها فى القرآن الكريم مفرعة عن المدلول اللغوى الأصلى لمادة «الوحى» و «الإيحاء» :

فمن ذلك : إطلاق الوحى بمعنى الإلهام الفطرى للإنسان كما فى قوله تعالى :

(وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ) (٥) وقوله تعالى : (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي) (٦).

ومن ذلك : إطلاق الوحى بمعنى الإلهام الغريزى للحيوان ؛ كما فى قوله تعالى :

(وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (٧).

ومن ذلك : إطلاق الوحى مرادا به الإشارة السريعة على سبيل الرمز والإيماء كما فى قوله تعالى فى حق نبى الله زكريا ـ عليه‌السلام ـ : (فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) (٨).

ومن ذلك : إطلاق الوحى بمعنى وسوسة الشيطان وتزيينه الشر للإنسان ؛ كما فى قوله تعالى : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ

١

لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ) (٩).

وبنفس المعنى يأتى التعبير بالوحى لدلالة وسوسة شياطين الجن إلى شياطين الإنس أو بعض الجن إلى بعض ، أو بعض الإنس إلى بعض ، كما فى قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ) (١٠) (١١).

وكذلك ورد الوحى ـ فى التنزيل ـ بمعنى الإلهام أو الرؤيا المنامية ، كما فى قوله تعالى :

(إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ) (١٢) (١٣).

كما جاء إطلاق الوحى ـ فى التنزيل.

بمعنى الأمر والتعليم ، كما فى قوله تعالى :

(فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا) (١٤) (١٥).

وجاء إطلاق الوحى مرادا به إلقاء الله إلى الملائكة من أمره ، وإجراء له مجرى القول ، وذلك فى قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (١٦) (١٧).

ثم لقد جاء إطلاق الوحى بمعناه الشرعى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وإلى غيره من الأنبياء فى آيات عديدة كما فى قوله تعالى : (إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً) (١٨).

كما جاء إطلاق الوحى إلى جميع الرسل السابقين فى قوله عز شأنه : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ) (١٩).

******

*ونتوقف عند وحى الله تعالى إلى الملائكة لنتعرف حقيقته :

فقد جاء وحى الله إلى الملائكة فى قوله تعالى : (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) (٢٠).

كما صرح القرآن العزيز بأنه تعالى يوحى إلى ملك الوحى ما يوحيه الملك إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك فى قوله سبحانه : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (٢١) أى : أوحى الله تعالى إلى عبده جبريل ـ عليه‌السلام ـ ما أوحاه جبريل إلى نبيّه سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٢٢).

* ولأن وحى الله تعالى إلى ملائكته من الأمور الغيبية التى لا نعلم كيفيتها إلا

٢

بالتوقيف والنقل عن صحيح السنة ومقبولها ، فإننا نعمد إلى ما روى من السنة الصحيحة فى هذا الصدد :

فيروى البخارى عن عبد الله بن مسعود ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات شيئا ، فإذا فزّع عن قلوبهم وسكن الصوت عرفوا أنه الحق ، ونادوا ما ذا قال ربكم؟ قالوا : الحق» (٢٣). ولا مرية فى أن أهل السماوات هم الملائكة.

كما أخرج الإمام أحمد وأبو داود عن أبى معاوية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إنّ الله ـ عزوجل ـ إذا تكلم بالوحى سمع أهل السماء للسماء صلصلة كجرّ السلسلة على الصفاء ، فيصعقون ، فلا يزالون كذلك حتى يأتيهم جبريل ، فإذا جاء جبريل فزّع عن قلوبهم.

قال : ويقولون : يا جبريل ما ذا قال ربكم؟

قال : فيقول : الحق. قال فينادون : الحقّ ، الحقّ» (٢٤).

هذا مع الأخذ فى الاعتبار أن الملائكة ذواتهم نورانية علوية ، ويعتريهم من أثر الوحى هذا الصعق ، كما يعترى السماء ذاتها تلك الصلصلة ، ولا عجب فإنه تجلى الحق تعالى بصفة الكلام القديم وأنّى للمحدثات بالصمود لسطوتها!! إنهم من فزعهم يحسبون أن الساعة قد حان مرساها.

فقد أخرج ابن مردويه من حديث ابن مسعود مرفوعا : «إذا تكلم الله بالوحى سمع أهل السماوات صلصلة كصلصلة السلسلة على الصفوان ، فيفزعون ، ويرون أنه من أمر الساعة» (٢٥)!!

وسيأتى مزيد تبيان لتلقى الملك الوحى سماعا من الله تعالى فى تناولنا للوحى القرآنى خلال هذا البحث بإذن الله تعالى.

******

أنواع الوحى ومراتبه :

فنجد الأصل فى معرفة ذلك ـ قرآنيا ـ قوله تعالى شأنه : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (٢٦). فقد استنبط أساطين المفسرين منها جملة أنواع للوحى الإلهى إلى من اصطفاهم الله تعالى من البشر :

النوع الأول : ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب مناما ، وهو ما يعرف بوحى الرؤيا الصادقة ، كرؤيا خليل الرحمن ـ عليه‌السلام ـ التى قصّها القرآن فى قوله تعالى : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (٢٧).

وكرؤيا النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه يدخل المسجد

٣

الحرام ، حيث قال تعالى : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ) (٢٨).

النوع الثانى : ما كان الوحى فيه إلقاء فى القلب يقظة ، بالإلهام الذى يقذفه الله تعالى فى قلب مصطفاه ، على وجه من العلم الضرورى الذى لا يستطيع له دفعا ولا يجد فيه شكا ولا إشكالا ، ومن هذا النوع : ما رواه أبو نعيم عن أبى أمامة والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إن روح القدس نفث فى روعى : أنه لن تموت نفس حتى تستوفى رزقها» (٢٩).

النوع الثالث : ما كان الإيحاء فيه يقظة من غير طريق الإلهام. وذلك كإيحاء الزبور لنبى الله داود ـ عليه‌السلام ـ فقد روى عن مجاهد رضي الله عنه أن الزبور أوحى إليه فى صدره إلقاء فى اليقظة وليس بإلهام ، والفرق فى ذلك : أن الإلهام لا يستدعى صورة كلام نفسى حتما فقد وقد ، وأما اللفظى : فلا.

وأما إيحاء الزبور فإنه يستدعيه (٣٠).

النوع الرابع : ما كان الوحى فيه بالتكليم مشافهة ومكافحة عيانا بغير حجاب ولا واسطة ، كما وقع لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة المعراج ، فقد استشهد الأئمة من المفسرين لرؤية النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ربه عند تفسير قوله تعالى :

(وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) (٣١) بما فى حديث أنس عند البخارى من قوله : «... ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبّار رب العزة فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى إليه فيما أوحى خمسين صلاة ....». (٣٢)

ومناط هذا الاستدلال : إرجاع الضمائر فى :

(ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) وكذا الضمير المنصوب فى (وَلَقَدْ رَآهُ) لله تعالى ، ومن ثم يتقرر ثبوت الوحى المباشر مع الرؤية عيانا وهو أرفع أنواع الوحى.

النوع الخامس : ما كان الوحى فيه من وراء حجاب ، بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة ، بأن يسمع كلاما من الله من غير رؤية السامع من يكلمه ، كما سمع سيدنا موسى ـ عليه‌السلام ـ من الشجرة ، ومن الفضاء فى جبل الطور ، قال تعالى : (فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٣٣) وليس المراد بالحجاب فى قوله تعالى : (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) : حجاب الله تعالى عن عبده حسّا ، إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حسا ، وإنما المراد : المنع من رؤية الذات الأقدس بلا واسطة (٣٤).

النوع السادس : هو ما كان الوحى فيه

٤

بواسطة ملك يرسله الله تعالى إلى مصطفاه من البشر ، وهذا النوع هو المعروف بالوحى الجلىّ ، وهو المذكور فى قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ).

هذا : ووجه انحصار هذه الأنواع الستة فى الأقسام الثلاثة المذكورة فى الآية الكريمة ـ التى صدرنا بها هذا المبحث ـ أن القسم الأول ـ المستنبط من قوله سبحانه : (إِلَّا وَحْياً) ينتظم الأنواع الأربعة الأولى ، وهى :

الوحى المنامى ، والإلهامى ـ بالنفث فى الروع ـ ، والإلقائى فى الصدر بصورة الكلام النفسى ، والتكليم مشافهة مع الرؤية.

والقسم الثانى : المذكور فى قوله تعالى :

(أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) يختص بالنوع الخامس. وكذلك القسم الثالث ـ المأخوذ من قوله تعالى : (أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) يختص بالنوع السادس الأخير.

* تلك هى الأنواع الرئيسية للوحى ، على أن الإمام الحليمى قد ذكر أن الوحى كان يأتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ستة وأربعين نوعا ، فذكرها ، وغالبها من صفات حامل الوحى ، ومجموعها يدخل فيما ذكر (٣٥).

* وبناء على ما تقدم ، فإن مراتب الوحى يمكن أن تصنّف باعتبارين :

فباعتبار المشافهة والتلقى من المصدر دون حجاب أو واسطة يكون ترتيب الأقسام فى الآية الكريمة أولوية ، حيث ذكر أولا : الكلام بلا واسطة بل مشافهة ، ويندرج تحته ـ أولويا ـ : النوع الرابع ـ فى تصنيفنا الآنف ـ ثم النوع الثالث ، ثم النوع الثانى ، ثم الأول.

ثم ذكر ما كان بغير واسطة ولكن لا بالمشافهة ، بل من وراء الغيب ، وهو النوع الخامس. ثم ذكر ثالثا : الكلام بواسطة الإرسال.

وأما بالاعتبار الثانى ـ وهو باعتبار الجلاء والخفاء ـ فإن النوع السادس هاهنا وهو المصطلح على تسميته ب (الوحى الجلى) له الصدارة ، إذ هو أشهر الأنواع وأكثرها.

ولذلك كان وحى القرآن الكريم جلّه ـ على المعتمد الراجح ـ من هذا النوع. ووجه تفضيله : أنه مخصوص بالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وليس لأنه أشرف من وحى المشافهة.

ثم يليه الوحى فى اليقظة بدون حجاب سواء كان إيحاء مع استدعاء صورة الكلام النفسى ، أم إلهاما بالنفث فى الروع ، ثم الإلقاء المنامى فى القلب ـ الذى أخرج فيه الشيخان ـ عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رؤيا الأنبياء وحى» (٣٦). ثم التكليم من وراء حجاب.

٥

صور الوحى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وكيفياته :

فنجد العلماء قد ذكروا له تسع صور تجسد كيفياته وصفاته :

فالصورة الأولى : أن يأتى ملك الوحى إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى مثل صلصلة الجرس ، فقد روى البخارى فى صحيحه بسنده عن السيدة عائشة ـ رضى الله تعالى عنها ـ أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس ـ وهو أشده علىّ ـ فيفصم عنى وقد وعيت ما قال ..». (٣٧)

لقد شبّه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم صوت الملك لدى مجيئه بالوحى بصوت صلصلة الجرس.

والصلصلة فى الأصل : صوت وقوع الحديد بعضه على بعض ، ثم أطلق على كل صوت له طنين. وقيل : هو صوت متدارك لا يدرك فى أول وهلة ، ولا يتبينه أول ما يسمعه حتى يفهمه بعد.

والجرس ـ بفتح الراء ـ مشتق من الجرس ـ بسكون الراء ـ وهو الحسّ ، ويطلق على ناقوس صغير أو سطل فى داخله قطعة نحاس يعلق منكوسا على البعير ، فإذا تحرك تحركت النحاسة فأصابت السطل فحدثت الصلصلة (٣٨).

وقال بعض العلماء : إن الصلصلة صوت خفق أجنحة الملك ، والحكمة فى تقدمه للوحى أن يقرع سمعه صلى‌الله‌عليه‌وسلم الوحى فلا يبقى مكان لغيره ، ولما كان الجرس لا يحصل صلصلة إلا متداركة ، وقع التشبيه به دون غيره من الآلات.

فإن الكلام العظيم له مقدمات تأذن بتعظيمه للاهتمام به ، وإنما كان شديدا عليه ليستجمع قلبه فيكون أوعى لما سمع (٣٩).

كذلك أخرج الإمام أحمد فى مسنده عن سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضى الله عنهما ـ أنه قال : سألت النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هل تحس بالوحى؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «نعم.

أسمع صلاصل ، ثم أسكت عند ذلك ، فما من مرة يوحى إلىّ إلا ظننت أن نفسى تفيض» (٤٠). وهذا الحديث يفسر قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى حديث البخارى المتقدم ـ عن هذه الكيفية للوحى : «وهو أشده علىّ»!!

ومع هذه الحالة المذكورة يكون النفث من الملك فى روع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كما تقدم ، إذ يقول الحافظ ابن حجر : (وأما النفث فى الروع فيحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين ـ أى الصلصلة والتمثل رجلا ـ فإذا أتاه الملك فى مثل صلصلة الجرس نفث حينئذ فى روعه) (٤١). وظاهر ذلك خفاء ذات الملك لدى الصلصلة.

٦

وأما الصورة الثانية للوحى : فهى أن يأتى الملك للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى صورة رجل ، فيكلمه بالوحى ، كما قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فى تتمة حديث البخارى الذى أوردنا صدره فى بيان الصورة الأولى ـ : «وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا فيكلمنى ، فأعي ما يقول» ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصّد عرقا!!. وقد زاد أبو عوانة فى صحيحه : «وهو أهونه علىّ». كما ذكر فى «الإتقان».

وفى توضيح تمثّل الملك النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم رجلا.

قال إمام الحرمين : معناه : أن الله أفنى الزائد من خلقه ، أو أزاله عنه ثم يعيده إليه بعد.

وقال شيخ الإسلام سراج الدين البلقينى :

إن ما ذكره إمام الحرمين لا ينحصر الحال فيه ، بل يجوز أن يكون الآتى هو جبريل بشكله الأصلى ، إلا أنه انضم فصار على قدر هيئة الرجل ، وإذا ترك : عاد إلى هيئته.

ثم قال الحافظ ابن حجر معقّبا : والحق أن تمثيل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا ، بل معناه : أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أيضا :

أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى ، بل يخفى على الرائى فقط. والله أعلم (٤٢).

ونستحضر هنا : أن النفث فى الروع يحتمل أن يكون مع هذه الحالة أيضا كما تقدم.

والصورة الثالثة : هى المقابلة للثانية ـ وهى أن ينخلع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن صورته البشرية ، ويدخل فى الصورة الملكية بتمكين الله ـ تعالى ـ له ذلك ، ويتلقى الوحى من الملك. وهذه ـ كما ذكر العلماء ـ أصعب الحالتين (٤٣).

ثم الصورة الرابعة : أن يوحي رب العزة إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى المنام بلا واسطة ، كما جاء فى سنن الترمذي مرفوعا : «أتانى الليلة ربى تبارك وتعالى فى أحسن صورة فقال : يا محمد ، أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ ....» (٤٤) الحديث.

ومما يجب التنبيه إليه هنا أن الحق ـ تعالى ـ منزه عن الصورة الحسية ، فإذا رئى ـ سبحانه ـ على وصف يتعالى عنه كان لتلك الرؤيا ضرب من التأويل ، كما نقل الحافظ ابن حجر عن الواسطى : أن من رأى ربه على صورة شيخ كان إشارة إلى وقار الرأى ، وغير ذلك (٤٥).

والصورة الخامسة : أن يأتى ملك الوحى جبريل إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى النوم فيوحى إليه بما أمره الله تعالى به. وقد عدّ بعض العلماء من هذا القبيل سورة (الكوثر) ، بيد أن التحقيق أنها نزلت فى اليقظة (٤٦) ، كما

سيأتى فى تناول الوحى القرآنى فى محله.

والصورة السادسة : أن يأتى الملك

٧

جبريل ـ عليه‌السلام ـ إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقظة على صورته الأصلية تماما بلا تمثل ولا تغير بانضمام ونحوه ، فيراه بستمائة جناح ينتشر منها اللؤلؤ والياقوت ، ويوحى إليه على تلك الهيئة الملكية الأصلية كما نقله الإمام العينى عن السهيلى فى بيان صورة الوحى من (عمدة القارى) (٤٧).

ويؤيده ما رواه الإمام مسلم عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ مرفوعا : «لم أره ـ يعنى جبريل ـ على الصورة التى خلق عليها إلا مرتين ..». وفى رواية الترمذى عن السيدة عائشة : «لم ير محمد جبريل فى صورته إلا مرتين : مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة فى أجياد». كما نقل الحافظ ابن حجر عن سيرة (سليمان التيمى) : «أن جبريل أتى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حراء ، وأقرأه : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ثم انصرف ، فبقى مترددا ، فأتاه من أمامه فى صورته فرأى أمرا عظيما» (٤٨)!!

ثم الصورة السابعة : هى وحى الملك إسرافيل إلى النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد جاء فى «مسند أحمد» ـ بإسناد صحيح ـ عن الشعبى : «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزلت عليه النبوة وهو ابن أربعين سنة ، فقرن بنبوته إسرافيل ـ عليه‌السلام ـ ثلاث سنين ، فكان يعلمه الكلمة والشيء ، ولم ينزل القرآن ، فلما مضت ثلاث سنين قرن بنبوته جبريل ، فنزل القرآن على لسانه عشرين سنة ...» (٤٩)

وقد نقل الإمام السيوطى ـ عقب هذه الرواية ـ قول ابن عساكر : والحكمة فى توكيل إسرافيل : أنه الموكل بالصور الذى فيه هلاك الخلق وقيام الساعة ، ونبوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مؤذنة بقرب الساعة وانقطاع الوحى (٥٠).

والصورة الثامنة للوحى : أن يكلم الله تعالى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى اليقظة كفاحا بلا واسطة ويسمعه كلامه ، كما حدث فى ليلة الإسراء والمعراج حيث أوحى إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم خواتيم سورة البقرة ، وقد استدل الإمام السيوطى لذلك بما أخرجه الإمام مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال :

«لما أسرى برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ...». إلى أن قال : «فأعطى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاثا : أعطى الصلوات الخمس ، وأعطى خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئا «المقحمات» أى : الكبائر التى تقحم أهلها فى النار» (٥١).

ثم الصورة التاسعة : هى النفث فى الرّوع ، بأن ينفث فى روع النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم الكلام نفثا ، أى ينفخ فى قلبه الوحى كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

«إن روح القدس نفث فى روعى ...». وقد مرّ بتخريجه متفرعا عن النوع الثانى من أنواع الوحى وهو الإلقاء الإلهامى فى اليقظة.

ومن ثم : كانت الكيفيات والصور الوصفية

٨

أخص من الأنواع لا مطابقة لها. وقد عده الإمام السيوطى فى كيفيات الوحى ـ وكذا الحافظ فى «الفتح» عدّه فى فنون الوحى الذى يأتى بحامل ، وذكرا أنه يحتمل أن يرجع إلى إحدى الحالتين (أى الصلصلة وتمثل الملك رجلا). ولا يخفى أن التعبير بالاحتمال ونحوه لا يحصل النفث فيهما ، بل يحتمل أن يكون فى حالة ثالثة مغايرة للحالتين.

وقد صرح الحافظ ابن حجر بأن للوحى حالات مغايرة لها ، وهى : إما من صفة الوحى ، كمجيئه كدويّ النحل ، والنفث فى الروع ، والإلهام ، والرؤيا الصالحة ، والتكليم ليلة الإسراء بلا واسطة. وإما من صفة حامل الوحى كمجيئه فى صورته التى خلقه الله عليها له ستمائة جناح ، ورؤيته على كرسى بين السماء والأرض ، وقد سدّ الأفق. (٥٢)

الوحى القرآنى :

أما عن (الوحى القرآنى) بخصوصه ، فإن له خصائص فى نوعيته وكيفية تلقيه والحالة التى يتنزل بها على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

فالخصيصة الأولى : أن جميع القرآن قد تلقاه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى اليقظة ، ولم يكن شىء منه فى المنام ـ على وجه الاستقلال ـ على القول الراجح والمعتمد لدى أساطين علماء التنزيل.

ولئن ذهب قوم إلى أن بعض الوحى القرآنى كان مناميا احتجاجا بما رواه مسلم عن سيدنا أنس أنه قال : «بينا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهرنا ، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه مبتسما فقلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟

فقال : أنزل علىّ آنفا سورة ، فقرأ : «بسم الله الرحمن الرحيم. (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))».

فإن هذا مردود عليه : بما نقله الإمام السيوطى (٥٣) عن الإمام الرافعى فى «أماليه» إذ قال : فهم فاهمون من الحديث أن السورة نزلت فى تلك الإغفاءة ، وقالوا : من الوحى ما كان يأتيه فى النوم ؛ لأن رؤيا الأنبياء وحى.

قال : وهذا (أى أن رؤيا الأنبياء وحى) صحيح ، لكن الأشبه أن يقال : إن القرآن كله نزل فى اليقظة ، وكأنه خطر له فى النوم سورة الكوثر المنزلة فى اليقظة ، أو عرض عليه الكوثر الذى نزلت فيه السورة ، فقرأها عليهم وفسّرها لهم.

ثم قال : وورد فى بعض الروايات أنه أغمى عليه ، وقد يحمل ذلك على الحالة التى كانت تعتريه عند نزول الوحى ، ويقال لها برحاء الوحى. انتهى.

(ثم عقّب الإمام السيوطى بقوله) : قلت :

الذى قاله الرافعى فى غاية الاتجاه ، وهو الذى كنت أميل إليه قبل الوقوف عليه ،

٩

والتأويل الأخير أصح من الأول ؛ لأن قوله :

«أنزل علىّ آنفا». يدفع كونها نزلت قبل ذلك.

بل نقول : نزلت تلك الحالة ، وليس الإغفاءة إغفاءة نوم ، بل الحالة التى كانت تعتريه عند الوحى ، فقد ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا (٥٣). وكذلك قال الإمام السيوطى عند ذكر الوحى المنامى : (وليس فى القرآن من هذا النوع شىء فيما أعلم) (٥٤).

ومن ثم : يترجح أن القرآن الكريم قد نزل كله على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حالة اليقظة ولم يكن شىء من الوحى القرآنى مناما.

والخصيصة الثانية : أن القرآن الكريم كله من قبيل ما اصطلح عليه علماء التنزيل ب (الوحى الجلى) ، فكما أنه لم يقع شىء من الوحى القرآنى مناما كذلك لم يكن شىء منه من قبيل الإلقاء الإلهامى الذى يقذف فى القلب ، مع أنه يكون على وجه من العلم الضرورى الذى لا يداخله الشك أو الاشتباه ، ولكن الحق ـ تعالى ـ جعله من قبيل التكليم الظاهر ؛ للمبالغة فى توثيقه على أكمل وجه وأوضحه (٥٥).

ولسنا ـ من هذا المنطلق ـ مع قول من زعم أن الوحى القرآنى لم يكن شىء منه من قبيل التكليم الشفاهى من الحق ـ تعالى ـ لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كفاحا من غير حجاب ولا واسطة ملك ، فقد ذكر الإمام السيوطى أن الآيتين من آخر سورة البقرة نزلتا ليلة المعراج ، كما عدّ من هذا النوع أيضا : بعض سورة (الضحى) ، و (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ؛ واستدل بحديث ابن مسعود ـ الذى أوردناه فى الصورة الثامنة للوحى ، وبما أخرجه ابن أبى حاتم من حديث عدى بن ثابت عن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال :

«سألت ربى مسألة ؛ وددت أنى لم أكن سألته ؛ قلت : أى ربّ ، اتخذت إبراهيم خليلا ، وكلّمت موسى تكليما؟ فقال : يا محمد ، ألم أجدك يتيما فآويت؟ وضالا فهديت؟ وعائلا فأغنيت؟ وشرحت لك صدرك ، وحططت عنك وزرك ، ورفعت لك ذكرك ، فلا أذكر إلا ذكرت معى؟» (٥٦).

كما نقل عن الهذلى أنه قال فى «الكامل» :

«نزلت (آمَنَ الرَّسُولُ) إلى آخرها بقاب قوسين» (٥٧)!!

وقد قدّمنا أن هذا النوع هو أشرف أنواع الوحى ، فلا غرو أن يكون للوحى القرآنى منه حظ معلوم.

بيد أن فريقا من العلماء قد قرر ـ بعد التسليم بهذا الوحى القرآنى الشفاهى لما مر من الأدلة ـ أنه يجوز أن يكون جبريل عليه‌السلام ـ قد نزل بهذه الآيات التى أوحى بها مشافهة مرة أخرى على سبيل التأكيد والتقرير ، فتكون مما تكرر نزوله ، ومن ثم تتقرر :

١٠

الخصيصة الثالثة للوحى القرآنى :

وهى أن الله تعالى قد وكل به جميعه أمين الوحى جبريل ـ عليه‌السلام ـ خاصة دون ملك سواه ، لقوله تعالى شأنه : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) (٥٨).

فالروح الأمين هو سيدنا جبريل ـ عليه‌السلام ـ بإجماع المفسرين ، وقد سماه الله تعالى روحا لأنه جسم لطيف روحانى خلق من الرّوح ، أو لأنه روح كله لا كالناس الذين فى أبدانهم روح ، أو لأنه لمجيئه بالوحى والدين بمثابة الروح الذى تثبت معه الحياة (٥٩).

وقد نعت بالأمين : لأنه الحفيظ المؤتمن على وحى الله ، ومبلغه لأنبيائه.

كذلك سماه الله تعالى (روح القدس) فى قوله تعالى : (قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا) (٦٠).

وذلك لأنه الروح المطهرة من أدناس البشرية ، فالقدس : هو الطهر والنقاء ، والإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة.

وقد نقل عن النحاس أن القدس : هو الله تعالى ، والمعنى : أن جبريل روح الله تعالى ـ والإضافة للملكية ـ لأنه كان بتكوين الله تعالى له من غير ولادة (٦١) ، وفى كل هاتيك المعانى كان لجبريل مزيد اختصاص بها من بين سائر الملائكة ، إذ هو منهم كالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أفراد أمته ، ولذلك اختاره الله ـ سبحانه ـ لأشرف المهام ، فوكله بالكتب والوحى إلى الأنبياء ، وبالنصر عند الحروب ، وبالمهلكات إذا أراد أن يهلك قوما ، وقد أخرج ابن أبى حاتم عن عطاء : «أول ما يحاسب جبريل ؛ لأنه كان أمين الله على رسله» (٦٢).

* وإذا ما تساءلنا عن كيفية تلقى الأمين جبريل ـ عليه‌السلام ـ وحى القرآن من الله تعالى ، وهل تلقاه مباشرة أو بواسطة؟ فإننا نجد للعلماء أقوالا أربعة فى هذا الصدد :

أولها : أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قد تلقف التنزيل من الله تعالى تلقفا روحانيا ، قال بذلك العلامة الطيبى ، والقطب الرازى فى حواشيه على «الكشاف» ، حيث قال :

(والمراد بإنزال الكتب على الرسل أن يتلقفها الملك من الله تعالى تلقفا روحانيا ....) (٦٣).

وثانيها : أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قد أخذ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهذا هو المعنى الثانى لإنزال الكتب على الرسل ، حيث قال الطيبى : (لعل نزول القرآن على الملك : أن يتلقفه تلقفا روحانيا أو يحفظه من اللوح المحفوظ فينزل به على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيلقيه إليه) (٦٤).

١١

وثالثها : ما نقل عن الماوردى من أن الحفظة نجّمت القرآن على جبريل فى عشرين ليلة ، وأن جبريل نجّمه على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عشرين سنة (٦٥).

ورابعها : أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قد أخذ القرآن عن الله تعالى سماعا ، فقد قال البيهقى فى معنى قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) : (يريد والله أعلم : إنا أسمعنا الملك ، وأفهمناه إياه ، وأنزلناه بما سمع ...) (٦٦).

وقد رجح الحافظ السيوطى هذا القول الأخير بقوله : (ويؤيد أن جبريل تلقفه سماعا من الله تعالى : ما أخرجه الطبرانى ـ من حديث النواس بن سمعان مرفوعا ـ «إذا تكلم الله بالوحى أخذت السماء رجفة شديدة من خوف الله ، فإذا سمع بذلك أهل السماء صعقوا وخروا سجّدا ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فينتهى به على الملائكة ، فكلما مرّ بسماء سأله أهلها : ما ذا قال ربنا؟ قال : الحق ، فينتهى به حيث أمر» (٦٧).

ولا شك أن هذا القول أحرى بالقبول ، لقوة دليله من جهة ، ولاقتضائه عدم الوساطة بين الله تعالى وبين جبريل فى التلقى من جهة أخرى ، والتحرّز به من دعوى إنزال معناه دون لفظه بما تقضى إليه من موهمات من جهة ثالثة.

* فلقد رصد الإمام السيوطى لعلماء التنزيل فى بيان ما نزل به جبريل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى القرآنى ثلاثة أقوال ؛ نثبتها بمزيد تبيان وتحليل على النحو التالى :

القول الأول : أنه نزل بلفظ القرآن ومعناه ، حيث إنه من المرجح أن جبريل قد تلقف القرآن سماعا من الله تعالى ، وتكليما نفسيا بالصفة القديمة مع إلهامه بالألفاظ الدالة على المعانى القائمة بذاته تعالى ، كما هو محصل تقريرى الأصفهانى ـ فى مقدمة تفسيره ـ والقطب الرازى.

أو أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قد حفظ القرآن ـ بلفظه ومعناه ـ من اللوح المحفوظ ، الذى أوجد الله تعالى فيه الكلمات والحروف الدالة على معنى القرآن القائم بذات الله تبارك وتعالى ، فنزل به لفظا ومعنى على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٦٨).

والقول الثانى : أن جبريل ـ عليه‌السلام ـ قد ألقى إليه المعنى فقط ، وأنه عبر عنها بهذه الألفاظ بلغة العرب ، وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية ، ثم إنه نزل به كذلك على النبى صلوات الله وسلامه عليه. ولم يثبت لأصحاب هذا الزعم الفاسد دليل عليه!!

والقول الثالث : أن جبريل قد نزل على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالمعانى خاصة ، وأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم علم تلك المعانى وعبر عنها بلغة العرب!!

١٢

وقد استدل الذاهبون إلى هذا الرأى المتهافت بظاهر قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ) (٦٩). حيث إن تخصيص النزول بالقلب ـ على أن المراد به العضو المخصوص ـ موجه بأن المعانى الروحية تنزل على الروح ثم تنتقل به إلى القلب ، لما بينهما من التعلق ، ثم تتصعد منه إلى الدماغ ، فينتقش بها لوح المتخيلة.

بيد أن هذا خلاف القول الصحيح عند المفسرين والمحدثين ، الذين وجّهوا لتخصيص القلب بالنزول : بأنه المدرك والمكلف دون سائر الجسد ، وهو المخاطب فى الحقيقة لأنه موضع التمييز.

وقد يقال : إنه لما كان له صلى‌الله‌عليه‌وسلم جهتان : جهة ملكية يستفيض بها ، وجهة بشرية يفيض بها ، جعل الإنزال على روحه صلى‌الله‌عليه‌وسلم المعبر عنها بالقلب ، حيث قال الراغب : إنها أحد إطلاقاته ؛ لأنها المتصفة بالصفات الملكية التى يفيض بها من الروح الأمين. وقد أشار إلى ذلك تعبير القرآن ب (على قلبك) دون (عليك).

وكذلك وجّه تخصيص الإنزال بالقلب ؛ بأنه إشارة إلى كمال تعلقه صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهمه ذلك المنزل ، حيث لم تعتبر واسطة فى وصوله إلى القلب الذى هو محل العقل كما يقتضيه ظاهر كثير من الآيات والأحاديث (٧٠).

ومن ثم يترجح القول الحق : وهو أن القرآن الكريم بلفظه ومعناه من عند الله تعالى لا مدخل لجبريل ولا لغيره فى ألفاظه ، فالله ـ سبحانه ـ هو الذى أبرز ألفاظ القرآن وكلماته مرتبة على وفق ترتيب كلماته النفسية لأجل التفهيم والتّفهّم ، كما نبرز نحن كلامنا اللفظى ـ ولله المثل الأعلى ـ على وفق كلامنا النفسى لأجل التفهيم والتفهم ، ولا ينسب الكلام بحال إلا إلى من رتبه فى نفسه أولا دون من اقتصر على حكايته وقراءته ، وإننا لنؤازر العلامة الزرقانى فى حكمه على زعم أن ألفاظ القرآن من عند جبريل أو النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : (وعقيدتى أنه مدسوس على المسلمين فى كتبهم ؛ وإلا فكيف يكون القرآن حينئذ معجزا واللفظ لمحمد أو لجبريل؟ ثم كيف تصح نسبته إلى الله واللفظ ليس لله؟ مع أن الله يقول : (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) (٧١).

وللإمام الجوينى تقرير فى قضية الوحى القرآنى يؤكد فيه صدوره عن الله لفظا ومعنى ؛ يقول فيه : (كلام الله المنزل قسمان :

قسم قال لجبريل : قل للنبى الذى أنت مرسل إليه : إن الله يقول : افعل كذا وكذا .... ففهم جبريل ما قاله ربه ثم نزل على ذلك النبى ، وقال له ما قاله ربه ، ولم تكن العبارة تلك العبارة ؛ كما يقول الملك لمن يثق به : قل لفلان :

١٣

يقول لك الملك : اجتهد فى الخدمة ، واجمع جندك للقتال ، فإن قال الرسول : يقول الملك :

لا تتهاون فى خدمتى ، ولا تترك الجند تتفرق ، وحثّهم على المقاتلة لا ينسب إلى كذب ولا تقصير فى أداء الرسالة.

وقسم آخر : قال الله لجبريل : اقرأ على النبى هذا الكتاب ، فنزل جبريل بكلمة من الله من غير تغيير ، كما يكتب الملك كتابا ويسلمه إلى أمين ويقول : اقرأه على فلان ، فهو لا يغيّر منه كلمة ولا حرفا) (٧٢).

وقد عقب على ذلك الإمام الحجة السيوطى شارحا وموضحا وموجها ومدللا فقال : (قلت : القرآن هو القسم الثانى ، والقسم الأول : هو السنة كما ورد أن جبريل كان ينزل بالسنة كما ينزل بالقرآن ، ومن هنا جاز رواية السنة بالمعنى لأن جبريل أداه بالمعنى ولم تجز بالقراءة (أى فى القرآن) بالمعنى ؛ لأن جبريل أداه باللفظ ، ولم يبح له إيحاءه بالمعنى. والسر فى ذلك : أن المقصود منه التعبد بلفظه والإعجاز به ، فلا يقدر أحد أن يأتى بلفظ يقوم مقامه ، وإن تحت كل حرف منه معانى لا يحاط بها كثرة ، فلا يقدر أحد أن يأتى بدله بما يشتمل عليه ، والتخفيف على الأمة حيث جعل المنزل إليهم على قسمين ، قسم يروونه بلفظ الموحى به ، وقسم يروونه بالمعنى ، ولو جعل كله مما يروى باللفظ لشقّ ، أو بالمعنى لم يؤمن التبديل والتحريف. فتأمل) (٧٣).

ولست أرى ما ارتآه العلامة الزرقانى فى نقده لكلام الإمام الجوينى المتقدم من أنه لا يوجد أمامنا دليل على أن جبريل كان يتصرف فى الألفاظ الموحاة إليه فى غير القرآن ، كيف وقد قال الإمام السيوطى عقب تعقيبه السابق مباشرة : (وقد رأيت عن السلف ما يعضد كلام الجوينى ، وأخرج ابن أبى حاتم من طريق عقيل عن الزهرى ، أنه سأل عن الوحى فقال : الوحى ما يوحى الله إلى نبى من الأنبياء ، فيثبته فى قلبه ، فيتكلم به ويكتبه ، وهو كلام الله ، ومنه ما لا يتكلم به ولا يكتبه لأحد ولا يأمر بكتابته ، ولكنه يحدّث به الناس حديثا ، ويبين لهم أن الله أمره أن يبينه للناس ويبلغهم إياه) (٧٤).

ومن ثم نقف على حقيقة الوحى القرآنى ونستيقن نزوله بلفظه ومعناه وبما حفل به من العظمة وقوة التأثير وجلال التنزيل ، وتبارك منزّله ـ جل وعلا ـ إذ يقول : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (٧٥). قال بعض المفسرين فى تفسيرها : (لو كانت الجبال مقام الإنسان فى الخطاب (أى القرآنى) لتدكدكت الجبال وتزررت ، وانفلقت الصخور

١٤

الصّمّ ، وانهدمت الشامخات العاليات فى سطوات أنواره ووجوم سنا أقداره)!! (٧٦).

ولعلنا نتصور حالة العالم قبل الوحى الشرعى ومدى احتياجه إليه ، ولا سيما فى بداية النصف الثانى من القرن السادس الميلادى حيث كان العالم مترديا فى حضيض الظلمة والضياع ، واستبدت به أسباب الفساد من كل جانب ، وعصفت به رياح الشرك والكفران ، فتداعى بناؤه العقدى والخلقى ، وسادته جاهلية عمياء ، وصار يترقب الهدم الذى يعقبه البناء ، إذ عمه الفساد فى كل الأرجاء كما قال تعالى : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٧٧) ، لقد فسر الإمام قتادة رضي الله عنه الفساد فى الآية الكريمة : بالضلالة والظلم (٧٨) ، وهذا تفسير محكم ، لأن الضلالة تعنى فساد القوة النظرية ، لفقدان نور الوحى الإلهى ، والظلم :

يعنى فساد القوة العملية والجانب السلوكى ، لفقدان استرشادهما بالإشعاع المعرفى اليقينى الذى يضيء القوة النظرية ، فصلاح القوتين إذن متوقف على الوحى الذى هو هدى الله لعباده.

* من ثم : كان العالم قبل البعثة المحمدية متعطشا مستشرفا للوحى الذى يتوقف عليه رشده وصلاحه ، أو بالأحرى : روحه ونوره ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٧٩).

فالتعبير عن الوحى القرآنى ـ فى الآية الكريمة ـ بالروح يشير إلى أن العالم قبل هذا الوحى كان جثة هامدة بلا روح ، وكذا التعبير عن هذا الوحى بأنه نور يشير إلى الظلمة الحالكة التى كان يرزح العالم فيها فى الجاهلية ، ثم يشير قوله تعالى : (نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) من الضلال الذى كان سائدا قبل الوحى المحمدى فى شتى الجوانب العقدية والسلوكية.

* وتتجسد حالة العالم قبل الوحى إليه جليا فى افتقاد مصدر الهداية فيما لا سبيل للعقل الوصول إليه من الجانب الغيبى فى أمور العقيدة ، وأعلاها معرفة الله تعالى وصفاته القدسية وما يجب له وما يستحيل عليه وما يجوز فى حقه تعالى.

كما تتجسد تلك الحاجة ـ فى توقف إدراك ما وراء الطبيعة من عالم ما بعد الموت من البرزخ والبعث والحساب والجزاء ـ على الأدلة السمعية التى تأتى بطريق الوحى.

وكذلك الهداية التشريعية التى تنظم

١٥

العلاقة مع الله ـ تعالى ـ بالعبادات ومع الخلق بالمعاملات ، ومع النفس بتزكيتها بالأخلاق الصالحة واقتلاع الأخلاق السيئة ، كل ذلك عجزت عنه عقول البشر ، لأن حقائق الأشياء وسبل إصلاحها لا يحيط بها ـ على الحقيقة ـ إلا موجدها ، (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)؟ (٨٠)

إن منطق العقل والتجربة يقضى بالرجوع ـ فى صيانة كل صنعة وإصلاحها ـ إلى صانعها لتظل فى وضعها الأمثل ، وقد أودع الخالق ـ جل وعلا ـ منهج إصلاح الخليقة فى دستوره العظيم (القرآن المجيد) الذى هو مصدر الهداية والكمال الأعلى ، وقد صرح بذلك ـ سبحانه ـ فى قوله تعالى : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) (٨١).

ولقد اتفقت كلمة ذوى العقول الصحيحة على أن العقل والعلم البشرى لا يغنيان إطلاقا عن هداية الرسل بما أوحاه الله إليهم ، مهما ارتقت مدارك الحكماء والمفكرين فى معارفهم العقلية ، فإن حكمتهم وآراءهم وعلومهم إنما هى آراء بشرية ناقصة ، وظنون لا تبلغ من عالم الغيب إلا أنه موجود مجهول (٨٢)!! وهى عرضة للخطأ والتخطئة والخلاف فيها على أية حال. وأحكامها نسبية ، فإلام التحاكم إذا عند الاختلاف الذى هو من سنن الأحكام الاجتهادية؟

هنا تتجسد ضرورة الوحى والبيان النبوى لحسم النزاع والخلاف ، كما نطق التنزيل فى قوله تعالى : (وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (٨٣).

وإذا تحصل لنا من جملة ما سبق : أن صلاح البشر بالدين مبنى على الإيمان بالغيب والوقوف فيه عند خبر الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ ولا يمكن إصلاحهم بالعلوم المادية الكسبية وحدها ، فإنه يقع فى دائرة اليقين أنه لا سبيل إلى إنقاذ البشرية فى هذا العصر إلا بإثبات الوحى المحمدى الموحد لإنسانيتهم ، المزكى لأنفسهم واتباع هديه الذى هو مناط السعادتين الدنيوية والأخروية (٨٤) ، وهو المخرج الوحيد لكل ما تعانيه الإنسانية من شقاء وظلم وعناء وجموح واستبداد ، وقد أوضح التنزيل منهج الهداية والنجاة بقوله تعالى : (قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (٨٥).

*****

١٦

ولعلنا نتساءل عن (بدء الوحى) : متى وكيف بدأ؟؟

ولقد تكفلت السنة الصحيحة فى الجواب عن ذلك ، فيروى الشيخان والترمذي والنسائى وغيرهم بإسنادهم عن السيدة عائشة أم المؤمنين ـ رضى الله تعالى عنها ـ أنها قالت :

«أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحى الرؤيا الصالحة فى النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنث فيه ـ وهو التعبد ـ الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها ، حتى جاءه الحق وهو فى غار حراء ، فجاءه الملك فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى حتى بلغ منى الجهد ، ثم أرسلنى فقال : اقرأ ، قلت : ما أنا بقارئ ، فأخذنى فغطنى الثالثة ، ثم أرسلنى فقال :

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) ، فرجع بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرجف فؤاده ، فدخل على خديجة بنت خويلد ـ رضى الله عنها ـ فقال : زمّلوني ... زملونى ... فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فقال لخديجة وأخبرها الخبر : لقد خشيت على نفسى ، فقالت خديجة : كلا والله ما يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتحمل الكلّ ، وتكسب المعدوم ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق.

فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى ابن عم خديجة ، وكان امرأ تنصر فى الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العبرانى فيكتب من الإنجيل بالعبرانيّة ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمى فقالت له خديجة : يا ابن عمّ ، اسمع من ابن أخيك.

فقال له ورقة : يا ابن أخى ، ما ذا ترى؟

فأخبره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خبر ما رأى ، فقال له ورقة : هذا الناموس الذى نزّل الله على موسى ، يا ليتنى فيها جذع ، ليتنى أكون حيا إذ يخرجك قومك! فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أو مخرجيّ هم؟ قال : نعم ، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا ، ثم لم ينشب ورقة أن توفى وفتر الوحى» (٨٦).

* ولنا فى هذا الحديث الجامع وقفات عدة : ـ

فالوقفة الأولى : عند توقيت أوّليّة الوحى وسرّ نوعيّته فى هذا البدء : فقد روى ابن سعد بإسناده أن نزول الملك على النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بغار حراء كان يوم الاثنين لسبع عشرة خلت

١٧

من رمضان ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ ابن أربعين سنة. ونقل الحافظ ابن حجر عن البيهقى أن مدة الرؤيا كانت ستة أشهر. وعلى هذا فابتداء النبوة بالرؤيا وقع من شهر مولده وهو ربيع الأول بعد إكماله أربعين سنة ، وابتداء وحى اليقظة وقع فى رمضان (٨٧).

* أما عن حكمة بدء الوحى بالرؤيا الصادقة ، فقد ذكر الإمام العينى أن النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ابتدأ بها لئلا

يفجأه الملك ، ويأتيه بصريح النبوة ولا تحتملها القوى البشرية ، فبدأ بأول خصال النبوة وتباشير الكرامة من صدق الرؤيا مع سماع الصوت ، وسلام الحجر والشجر عليه بالنبوة ، ورؤية الضوء ، ثم أكمل الله له النبوة بإرسال الملك إليه فى اليقظة وكشف له عن الحقيقة كرامة له (٨٨).

* والوقفة الثانية : عند سر تحبيب الخلوة إليه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى غار حراء خلال فترة الوحى المنامى وقبل ظهور الملك بالوحى الجلى ، يقول العلماء : إن الخلوة فراغ القلب لما يتوجه له ، ومن ثم : فهى معينة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم على التفكر والتأمل إذ بها ينقطع عن مألوفات البشر ويخشع قلبه ، فإن البشر لا ينتقل عن طبعه إلا بالرياضة البليغة ، ثم إن الخلوة مبعث الصفاء الروحى الذى تستقبل الروح به فيوضات الأنوار الإلهية. وإنما كانت الخلوة والتعبد بجبل حراء بالذات ؛ لأنه كان يرى منه بيت ربه وهذه الرؤية عبادة! (٨٩)

* والوقفة الثالثة : عند حكمة غطّه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثلاث مرات ، فقد قيل : إنها التهيئة لتلقى الوحى القرآنى ، ليظهر فى ذلك الشدة والاجتهاد فى الأمور ، وإنما تكرر ثلاثا للمبالغة فى التثبت (٩٠).

* والوقفة الرابعة : للجواب عن تساؤل :

من أين علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الجائى إليه هو جبريل ـ عليه‌السلام ـ؟ وبما عرف أنه حق لا باطل؟

فقد أجيب عن ذلك : بأن الحق ـ تعالى ـ قد أقام للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم دليلا يقينيا على أن الجائى إليه ملك لا شيطان ، كما أقام المعجزة دليلا لنا على صدق الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم (٩١).

وأقول أيضا : إن الله تعالى أوجد فى قلب النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم علما ضروريا بأنه ملك الوحى جبريل ، وهذا العلم مستغنى عن الدليل.

* ثم الوقفة الخامسة : عند قول الملك له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) حيث استدل الجمهور على أن سورة (اقرأ) هى أول ما نزل من القرآن الكريم ، وفيها دليل فقهى على وجوب استفتاح القراءة ببسم الله.

عند بعض العلماء كما قال السهيلى ، وإن كان محل خلاف.

١٨

* والوقفة السادسة : عند قول ورقة :

(هذا الناموس الذى نزّل الله على موسى) فإن الناموس فى اللغة : هو صاحب سر الخير وهو هنا جبريل عليه‌السلام ، وقد سمى به لخصوصه بالوحى والغيب. وإنما خصص بالناموس الذى أنزله الله على موسى عليه‌السلام دون غيره من الأنبياء مع أن لكل نبى ناموسا ؛ لأنه أنزل عليه كتاب التوراة الذى هو أكبر كتب الأنبياء قبل القرآن ، بخلاف سائر الأنبياء فإن منهم من نزل عليه صحف ، ومنهم من نبئ بإخبار جبريل ـ عليه‌السلام.

* وأما الوقفة السابعة : فهى مع أول من آمن بالوحى المحمدى وبالرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ وعايشه مع أول شعاع الإسلام!

إنها السيدة خديجة ـ رضوان الله عليها ـ التى شهد حديث بدء الوحى بكمالها وجزالة رأيها وقوة نفسها ، وعظم فقهها ؛ حيث جمعت للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم جميع أنواع أصول المكارم وأمهاتها فى وصفها له وهى تهدئ روعه.

وإنه الصدّيق الأعظم سيدنا أبو بكر رضي الله عنه الذى جاء فى السيرة عن عمرو بن شرحبيل أنه دخل على السيدة خديجة إبان بدء الوحى القرآنى فذكرت له ما رآه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قالت له :

«يا عتيق ، اذهب مع محمد إلى ورقة» ـ وذلك فى مرة أخرى غير التى ذهبت فيها معه إلى ورقة ـ وإنه للحبر الجليل ورقة الذى شهد للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالوحى وبالرسالة ، وقال فيه النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما روى الحاكم فى «مستدركه» عن السيدة عائشة ـ رضى الله عنها ـ : «لا تسبوا ورقة فإنه كان له جنة أو جنتان».!! (٩٢)

ثم كانت (فترة الوحى) التى صرح بها حديث بدء الوحى فى نهايته ، حيث قال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ثم لم ينشب ورقة ـ أى لم يلبث ـ أن توفى وفتر الوحى». فما المقصود بفترة الوحى؟ وما مدتها؟ وما حكمتها؟.

* أما من حيث المعنى اللغوى : فالفترة مرة من الفتور ، وفى مفردات الراغب : الفتور سكون بعد حدة ، ولين بعد شدة ، وضعف بعد قوة (٩٣).

وأما المقصود بفترة الوحى : فقد ذكر العلامة ابن حجر وغيره أنه ليس المراد بفترة الوحى عدم مجىء جبريل إليه ؛ بل تأخر نزول القرآن فقط (٩٤).

* ومن ذلك يعلم : أن فترة الوحى القرآنى لا تعنى إطلاقا انقطاع اتصال النبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بربه أو بملك الوحى جبريل عليه‌السلام ، ولذلك لما تأخر الوحى عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وفهم

١٩

المشركون من ذلك أن الله ودّعه وقلاه أنزل الله تعالى قوله : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) ، وذلك ردا على زعمهم الخاطئ ، وثمة مرويات أخرى تعاضد ذلك فى سبب النزول ، منها ما أخرجه الشيخان عن جندب أنه قال : «قالت امرأة من قريش للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ما أرى شيطانك إلا قد ودعك ، فنزل : (وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)» (٩٥).

* وأما عن مدة فترة الوحى : فقد قال الحافظ ابن حجر : (وقع فى تاريخ أحمد بن حنبل عن الشعبى : أن مدة فترة الوحى كانت ثلاث سنين ، وبه جزم ابن إسحاق ، ثم قال :

(وليس المراد بفترة الوحى المقدرة بثلاث سنين ـ وهى ما بين نزول (اقرأ) و (يا أيها المدثر) عدم مجىء جبريل إليه ، بل تأخر نزول القرآن فقط) (٩٦).

ثم نقل عن السهيلى أنه قال : (جاء فى بعض الروايات المسندة أن مدة الفترة كانت سنتين ونصفا).

ثم عقب عليه بقوله : (وهذا الذى اعتمده السهيلى من الاحتجاج بمرسل الشعبى لا يثبت ، وقد عارضه ما جاء عن ابن عباس أن مدة الفترة المذكورة كانت أياما) (٩٧) ، وهو يشير بهذا إلى رواية ابن سعد عن الإمام ابن عباس حيث قال : (......... مكث أياما بعد مجىء الوحى لا يرى جبريل) (٩٨).

ثم حسم الحافظ الأمر بقوله ـ عند شرح أحاديث سبب نزول سورة (والضحى) :

(والحق أن الفترة المذكورة فى سبب نزول سورة (والضحى) ـ غير الفترة المذكورة فى ابتداء الوحى ؛ فإن تلك دامت أياما ، وهذه لم تكن إلا ليلتين أو ثلاثا) (٩٩).

* وأما عن حكمة فترة الوحى : فقد ذكر العلماء فيها وجوها عدة :

فمنها : ما ذكره الحافظ ابن حجر : (أن هذه الفترة كانت من مقدمات تأسيس أمر النبوة ، ليتدرج فيه وليمرن عليه ، وقد شق عليه فتوره حيث لم يكن خوطب عن الله بعد :

أنك رسوله ومبعوثه إلى عباده ، فأشفق أن يكون ذلك أمرا بدئ به ثم لم يرد استمراره.

فحزن لذلك ، حتى تدرج على احتمال أعباء النبوة والصبر على ثقل ما يرد عليه ، فتح الله له من أمره بما فتح) (١٠٠).

ومنها : ما ذكره شيخ الإسلام العينى : من أن فتور الوحى مدة إنما كان كذلك ليذهب ما كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ وجده من الروع ، وليحصل له التشوق إلى العود).

ومنها كذلك : دلالة قاطعة على أن هذا الوحى من عند الله ـ تعالى ـ وأن التنزيل

٢٠