الإمام المهدي عليه السلام في القرآن والسنّة

سعيد أبو معاش

الإمام المهدي عليه السلام في القرآن والسنّة

المؤلف:

سعيد أبو معاش


المحقق: عبدالرحيم مبارك
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مجمع البحوث الاسلامية
الطبعة: ٣
ISBN: 978-964-444-775-4
الصفحات: ٦٠٣

١
٢

٣
٤

الإهداء

إلى ثأر الله الأعظم ..

والمنتقم لدماء الشهداء والمظلومين ..

وأمل المستضعفين في الأرض ..

ومنجي البشريّة من الظلم والجور ..

الإمام المهديّ صاحب الزمان ..

تقبّل جهدي المتواضع بقبولك الحسن الجميل ..

عجّل الله فرجك الشريف.

وأنار بظهورك ديجور الظلمات ..

وبسط العدل في الشرق والغرب ..

وأظهر دين الحقّ على الأديان كلّها ولو كره المشركون.

٥

شكر وتقدير

يدرك الكتّاب والقرّاء جيّدا مدى الجهد الذي يبذله الإخصّائيّون في إخراج كتاب وتنقيحه ، فيقدّمون خدمة ثقافيّة جليلة.

والكتاب الذي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ راجعه ودققه فنّيّا السيّد رضا ارغياني وشارك في تنظيم صفحاته وتنضيدها السيّدان علي برهاني وحسين الطائي ، وقد فوّض عرض الآيات القرآنية وضبطها إلى السيد علاء البصري ، قابله السيّد رضا سيادت وتولى تنفيذ الغلاف السيد ابراهيم البصري.

ولذا نشكر هؤلاء السادة ونثمّن جهودهم ، راجين الله تعالى أن يرزقهم ثواب العاملين في حقل نشر الثقافة الإسلامية وترويجها.

مجمع البحوث الإسلامية

٦

المقدّمة

الاعتقاد بالمهديّ المنتظر عليه‌السلام

يمثّل الاعتقاد بالمهديّ المنتظر أحد الأمور الّتي آمن بها المسلمون على اختلاف مذاهبهم وفرقهم ، وفقا للبشارة الّتي تناقلتها أجيالهم الواحد تلو الآخر عن نبيّهم الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله بمجيء رجل من ولد فاطمة عليها‌السلام ، اسمه اسم رسول الله ، وكنيته ككنيته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يملأ الأرض عدلا كما ملئت ظلما وجورا ؛ وبنزول عيسى عليه‌السلام وصلاته خلف المهديّ عليه‌السلام ومساعدته إيّاه في تنفيذ رسالته في قتل الدجّال وإرساء أسس العدل. وقد نقل علماء العامّة والخاصّة ومنذ بداية القرن الثالث الهجريّ ، أحاديث المهديّ في مؤلّفاتهم وموسوعاتهم الحديثيّة ، وتعدّى البعض ذلك إلى تأليف مؤلّفات خاصّة في المهديّ المنتظر ، وصرّح كثير منهم بوجوب قتل من أنكر ظهور المهديّ ، استنادا إلى ما روي عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله من كفر من أنكر المهديّ ، وكفر من كذّب به (١).

ويشترك المسيحيّون مع المسلمين في الإيمان بفكرة المهديّ المنتظر من خلال اعتقادهم بنزول عيسى عليه‌السلام ، وهو أمر متسالم بينهم ، لا يختلف فيه اثنان منهم. بل يشترك مع المسلمين في الإيمان بظهور مصلح عالميّ أهل الأديان والشعوب الأخرى على اختلاف أفكارهم وآرائهم ، وإن اختلفوا معهم في مصداق ذلكم المصلح العالميّ.

القرآن الكريم والاعتقاد بالمهديّ المنتظر عليه‌السلام

ويمكن لمن يستقرئ القرآن الكريم أن يعثر على مجموعة كبيرة من الآيات القرآنيّة

__________________

(١) عقد الدرر ٢٠٩ ، ٩ ؛ العرف الورديّ للسيوطيّ ٢ : ٨٣ ؛ فرائد السمطين ٢ : ٣٣٤ ، ح ٥٨٥. وقد نقل الفريقان أحاديث الإمام المهديّ عليه‌السلام ، فوردت أحاديثه في الموسوعات الحديثيّة للعامّة ، وتناقلتها من العامّة كتب الصحاح والمصنّفات الحديثيّة الضخمة ، بل أفرد لها بعض علمائهم مؤلّفات مستقلّة ، أو عقدوا له أبوابا ضمن مؤلّفاتهم ، ابتداء من عبد الرزّاق الصنعانيّ (ت ٢٣٥ ه‍) في مصنّفه ، ومرورا بابن سعد (ت ٢٣٠ ه‍) في طبقاته ، وابن أبي شيبة (ت ٢٣٥ ه‍) في مصنّفه ، وأحمد بن حنبل (ت ٢٤١ ه‍) في مسنده ، والبخاريّ (ت ٢٥٦ ه‍) في صحيحه وتاريخه الكبير ، ومسلم (ت ٢٦١ ه‍) في صحيحه ، وابن ماجة (ت ٢٧٣ ه‍) في سننه ، وأبي داود (ت ٢٧٥ ه‍) في سننه ، والترمذي (ت ٢٧٩ ه‍) في سننه ، ونعيم بن حمّاد (ت ٣٢٨ ه‍) في الفتن ، والطبرانيّ (ت ٣٦٠ ه‍) في معاجمه الثلاثة ، والحاكم النيسابوريّ (ت ٤٠٥ ه‍) في مستدركه ، وأبي نعيم الأصفهانيّ (ت ٤٣٠ ه‍) في تاريخ اصفهان والأربعون حديثا في المهديّ وأبي عمرو الداني (ت ٤٤٤ ه‍) في سنته ، والديلميّ (ت ٥٠٩ ه‍) في الفردوس ... وكثيرين غيرهم ممّا لا يتّسع المجال لذكرهم.

٧

الكريمة تبشّر بغلبة هذا الدين الحنيف وظهوره التامّ على سواه من الأديان ، وبأنّ الله عزّ اسمه سيحفظ هذا الدين برغم كيد الكائدين ؛ وأن يعثر أيضا على مجموعة كبيرة من الآيات المفسّرة بالمهديّ ، وتذكر خروجه ونزول عيسى عليه‌السلام ، كما تذكر أشراط الظهور.

السّنّة والاعتقاد بالمهديّ المنتظر عليه‌السلام

أمّا السنّة الشريفة ، فقد وردت فيها أحاديث كثيرة متواترة قطعيّة الصدور في البشارة بظهور المهديّ المنتظر ، وفي تعيين اسمه وسماته وسيرته ، وفي علامات ظهوره. يدعم هذا الحشد الضخم من الروايات المتسالم عليها بين الفريقين حشد آخر في أنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة ، وروايات في أنّ الارض لا تخلو من حجّة ؛ وأنّ الدين لا يزال قائما حتّى تقوم الساعة أو يكون اثنا عشر خليفة ، كلّهم من قريش.

بيد أنّ مصداق المهديّ المنتظر بقي لدى البعض يكتنفه شيء من الغموض ، أمّا البعض الآخر ـ ومنهم الشيعة الإماميّة ـ فقد كان لديهم ذلك المصداق واضحا جليّا لا يساورهم فيه أدنى ريب ، وتناقلوا أحاديث تبيّن المقصود بالخلفاء الاثني عشر من قريش ، وتذكر نصّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عليهم بأسمائهم ، الواحد تلو الآخر ، أوّلهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وآخرهم المهديّ : محمّد بن الحسن العسكريّ عليهما‌السلام.

ونقل الشيعة أحاديث كثيرة متواترة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن أئمّتهم الهدى عليهم‌السلام في النصّ على المهديّ عليه‌السلام ، ونقلت تفاصيل ولادته وأسماء من شاهده ، وذكرت نوّابه الخاصّين والتواقيع الّتي كانت ترد منه عليه‌السلام إلى النّاس ، وتضمّنت علامات ظهوره وسيرته.

شبهات حول المهديّ عليه‌السلام

ومن الطبيعيّ أن تتعرّض مسألة المهديّ المنتظر ـ لأهمّيتها وحيويّتها ـ لتشكيك الأعداء والمعاندين ، شأنها في ذلك شأن عقائد المسلمين الأخرى ؛ فقد سعى أعداء الأمّة الإسلاميّة الّذين شكّكوا في قرآنها الكريم ، وطعنوا في نبيّها المرسل صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والّذين هزءوا دوما بإيمان المسلمين بالغيب ، واستبعدوا حقيقة ظهور المعجزات على يدي النّبيّ الكريم ؛ سعوا إلى التشكيك في مسألة المهديّ ، وعدّوا انتظاره ممّا لا طائل بعده ، وتجاوزوا ذلك إلى اعتبار أمره من الأساطير! مع أنّ علماءهم قد اعترفوا قبل ذلك ـ على مضض ـ بسموّ الحضارة الإسلاميّة بين حضارات العالم ، وبكونها الحضارة الوحيدة المرشّحة لاحتلال دور رياديّ في عالمنا المعاصر ، وأقرّ أحدهم بأنّ الفكر الإسلاميّ الشيعيّ حيّ تبعا للإيمان بفكرة الإمام الحيّ ، يعني

٨

المهديّ عليه‌السلام (١). وقد سعى البعض الآخر من أعداء الأمّة إلى تكرار شبهات أثارها البعض في مراحل متقدّمة حول مسألة المهديّ ، مع أنّ علماء الفريقين قد ناقشوا تلك الشبهات وبيّنوا بطلانها. من أمثال أنّ المهديّ هو عيسى عليه‌السلام (٢) ؛ وأنّه من ولد الحسن عليه‌السلام (٣) ؛ وأنّ اسم أبيه كاسم أب النّبيّ عليه‌السلام (٤). وتساءل بعضهم ـ في تشكيك ـ عن عمره الطويل ، وعن الحكمة في غيبته ؛ بل أنكر بعضهم ولادته أصلا ، وقال : إنّ مسألة المهديّ لا تعدو أن تكون أمرا تواطأ عليه علماء الشيعة في القرن الرابع الهجريّ لحفظ كيان الشّيعة وصونهم عن التفرّق والتمزّق! ... (٥) إلى سواها من التخرّصات الّتي لا تستند إلى حجّة ولا يعضدها دليل.

وهذا الأثر الذي يقدّمه مجمع البحوث الإسلاميّة إلى القرّاء الأعزّاء اليوم إنّما هو مساهمة في ترسيخ هذا المعتقد الأصيل من المعتقدات الإسلاميّة ، كما نطق به القرآن الكريم والأحاديث التفسيريّة والأحاديث المبشّرة بظهور الإمام المهديّ عليه‌السلام وبقيام دولته العالميّة المرتقبة : نسأل الله عزوجل أن نفع به ، وأن يوفّق المؤلّف الفاضل لما يحبّه ويرضاه.

__________________

(١) الفيلسوف هنري كاربن : «الشمس الساطعة» ص ٧٠ ومحاورته مع العلّامة الطباطبائيّ صاحب تفسير الميزان.

(٢) اعتمادا على حديث رواه ابن ماجة بإسناده عن محمّد بن خالد الجنديّ ، عن أبان بن أبي صالح ، عن الحسن ، عن أنس عن النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله. وقد ذكر الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» (٤ : ٤٤٠) نقلا عن صامت بن معاذ أنّه طلب الحديث فوجده عن محمّد بن خالد الجنديّ ، عن أبان بن أبي عيّاش (المعروف بوضع الحديث) وليس عن أبان بن أبي صالح. ثمّ قال الحاكم : فذكرت ما انتهى إليّ من علّة هذا الحديث تعجّبا ، لا محتجّا به في «المستدرك على الشيخين».

(٣) بناء على رواية يرويها أبو إسحاق السبيعيّ المدلّس عامل بني أميّة ، عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، على الرغم من انقطاعها ، وعلى الرغم من أنّ أبا إسحاق لم ير أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقد كان عمره حين استشهد عليه‌السلام لا يزيد على السنتين. انظر ترجمته في «التهذيب» ٨ : ٦٣ ـ ٦٧ ، وغيره وقد روّج لهذه الرواية مؤيّد ومهدويّة محمّد بن عبد الله بن الحسن المثنّى.

(٤) مستندين في ذلك إلى رواية مختلقة روّج لها العبّاسيون في بداية أمرهم لدعم مهدويّة المهديّ العبّاسيّ فأخذوا بها على الرغم من أنّ مروّج هذه النّظريّة : المنصور العبّاسيّ قد اعترف حين توطّد ملكه بأنّ ابنه محمّد بن عبد الله ليس هو المهديّ الّذي جاءت بذكره الروايات ، وأنّه إنّما سمّاه المهديّ تيمّنا. انظر «مقاتل الطّالبيّين» ص ١٦٦.

(٥) سيأتي الكلام في هذا الكتاب عن عمر الإمام المهديّ عليه‌السلام والحكمة في غيبته ، وعن ولادته والنّصّ عليه من النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

٩
١٠

تمهيد

اصل الإمامة في الإسلام

يعتقد الشيعة ـ تبعا لعقيدتهم في عدل الله تعالى وحكمته ولطفه بعباده ـ أنّه قد نصب أولياء معصومين يمثّلون امتدادا طبيعيّا لخطّ الرسالة ، ويكونون أمناء على وحي الله سبحانه ، وقدوة لعباده ، وأنّ الباري عزوجل لا يترك دونها حجّة. وأنّ هؤلاء الأئمّة هم عباد الله المخلصون الّذين لم يشركوا بالله تعالى طرفة عين. ذلك أنّ الشرك ظلم بنصّ القرآن الكريم (١) ، والله عزوجل لا ينال عهده ظالما (٢). وأنّ الأئمّة في مرتبة من العلم والفضل لا يرقى إليها أحد ، فهم أصفياء الله وخالصته من خلقه. وأنّ الباري أوجب على العباد الرجوع إلى هؤلاء الأئمّة والاستنارة بنور هديهم عليهم‌السلام ، وهو أمر تحتّمه ضرره رجوع الجاهل إلى العالم :

(أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(٣).

ألا ترى كيف احتجّ إبراهيم عليه‌السلام على أبيه : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا)(٤)؟

كما يعتقدون ـ بنصّ القرآن الكريم في آية التطهير ـ أنّ الله قد أذهب الرجس عن أهل البيت وطهّرهم عن كلّ دنس وشين ، فأضحوا معصومين بعصمة من الله عزوجل.

لا تخلو الأرض من حجّة

وقد روى المسلمون من طرق عدّة حديث : «إنّ الأرض لا تخلو من قائم لله بحجّة» (٥) ، وروي عن أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام «ما زالت الأرض إلّا ولله فيها الحجّة ، يعرّف الحلال والحرام ، ويدعو النّاس إلى سبيل الله» (٦) ، و «إنّ الحجّة لا تقوم لله عزوجل على خلقه إلّا بإمام حتّى يعرف» (٧) ، بل رووا عنهم عليهم‌السلام : «لو لم يبق في الأرض إلّا اثنان ، لكان أحدهما الحجّة» (٨).

__________________

(١) قال تعالى : «إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» لقمان : ١٣. (٢) يونس : ٣٥ ؛ «لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ».

(٣) البقرة : ١٢٤. (٤) مريم : ٤٣.

(٥) نقل من العامّة : ابن قتيبة في «عيون الأخبار» : ٧ ؛ وابن عبد ربّه في العقد الفريد ١ : ٢٦٥ ؛ والبيهقيّ في «المحاسن والمساوئ» : ٤٠ ؛ والخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد ٦ : ٤٧٩ ، ترجمة إسحاق النخعيّ ؛ والخوارزميّ في «المناقب» : ١٣ ؛ والرّازيّ في «مفاتيح الغيب» ٢ : ١٩٢ (نقلا عن «المهديّ المنتظر في الفكر الإسلاميّ» : ٧٩).

(٦) اصول الكافي ١ : ١٣٦ ، ح ٣ باب «أنّ الأرض لا تخلو من حجّة».

(٧) نفس المصدر ١ : ١٣٥ ح ١ و ٢ ، باب «أنّ الحجّة لا تقوم لله على خلقه إلّا بإمام»

١١

وقد روى الفريقان أحاديث متسالما عليها في أنّ من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة (١). ورووا عن النّبيّ الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله أحاديث متواترة من عدّة طرق أحاديث توصي الأمّة بالتمسّك بأهل البيت عليهم‌السلام وتصفهم بأنّهم الثقلان اللذان خلّفهما النّبيّ في أمّته ؛ وبأنّهم كسفينة نوح : من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق ؛ وأنّهم مثل حطّة من دخله كان آمنا ؛ ثمّ رووا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله نصّ على خلفائه بأسمائهم ، وأنّه أوصى إليهم الواحد تلو الآخر.

الإمام المهديّ عليه‌السلام خاتم الأئمّة عليهم‌السلام

ويمثّل الإمام المهديّ عليه‌السلام الحلقة الأخيرة من سلسلة الإمامة ، وعلى الرغم من أنّ البرهان العقليّ في مسألة اللطف الإلهيّ ، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة ، كاف في التدليل على أمره ، الأمر الّذي أدركه حتّى أتباع المذاهب الأخرى ، بل الواقفون في صفّ أعداء شيعة أهل البيت عليهم‌السلام (٢) ؛ فإنّ البرهان النقلي قائم على وجوده من خلال الأحاديث المتعاضدة الّتي بلغت حدّ التواتر في البشارة به على لسان النّبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ ناهيك عن الأخبار الواردة في ولادته وفيمن ورآه وكلّمه ، وفي معجزاته وتوقيعاته ونوّابه. ونجد أنّ الإمامين العسكريّين عليهما‌السلام بعامّة ، والإمام الحسن العسكريّ عليه‌السلام بخاصّة ، قد بذلا جهودا كبيرة في إعداد القواعد الشّيعيّة لغيبة الإمام المهديّ حتّى قبل تحقّق ولادته ، فنلحظ ـ على سبيل المثال ـ أنّهما يختاران وكلاءهما ويوثّقانهم بمختلف ألفاظ التوثيق ، عالمين بأنّهم سيكونون من النّواب الخاصّين للإمام المهديّ عليه‌السلام. كما نلحظ أنّ العسكريّين عليهما‌السلام يتّخذان ـ وبالتّدريج ـ أسلوب الاحتجاب عن الشيعة ، ويتعاملون مع قواعدهم الشيعيّة من خلال الوكلاء ، كما نرى الروايات الكثيرة الّتي تحدّثت عن غيبة الإمام ، وعن فضل الانتظار الّذي يعدّ فيه الفرد المسلم نفسه ليكون مؤهّلا لنصرة الإمام عند ظهوره في تحقيق رسالته التّاريخيّة.

__________________

(٨) نفس المصدر ١ : ١٣٧ ، ح ١ ، باب «أنّه لو لم يبق في الأرض إلّا رجلان ، لكن أحدهما الحجّة».

(١) وردت هذه الأحاديث بعبارات مختلفة ذات مضمون واحد. انظر : مسند أحمد ٤ : ٩٦ ؛ طبقات ابن سعد ٥ : ١٤٤ ؛ المعجم الأوسط للطبرانيّ ١ : ١٧٥ ، ح ٢٢٧ ؛ التاريخ الكبير للبخاريّ ٦ : ٤٤٥ ، رقم ٢٩٤٣ ؛ شرح النهج لابن أبي الحديد ٩ : ١٤٧ ؛ المعجم الكبير للطبرانيّ ١٠ : ح ١٠٦٨٧.

(٢) قال ابن أبي الحديد في شرح عبارة «إنّ الأرض لا تخلو من حجّة» : كيلا يخلو الزمان ممّن هو مهيمن لله تعالى على عباده ومسيطر عليهم. (شرح نهج البلاغة ١٨ : ٣٥١) ، وقد فهم ابن حجر العسقلاني منه أنّه إشارة إلى مهديّ أهل البيت عليهم‌السلام ، فقال ما نصّه : «وفي صلاة عيسى عليه‌السلام خلف رجل من هذه الأمّة مع كونه في آخر الزمان وقرب قيام الساعة دلالة للصحيح من الأقوال : أنّ الأرض لا تخلو من قائم لله بحجّة» (فتح الباري شرح صحيح البخاري ٦ : ٣٨٥). (نقلا عن «المهديّ المنتظر في الفكر الإسلاميّ» ٧٩ و ٨٠).

١٢

مقدّمة المؤلّف

الحمد لله حقّ حمده الّذي وجب ، وصلّى الله على محمّد عبده المنتجب ، ونبيّه المنعوت بالخلق العظيم ، والمبعوث الى الثقلين بكتابه الكريم ، وعلى إمام الأولياء أمير المؤمنين وسيّد الوصيّين عليّ بن أبي طالب ، صلوات الله عليه وعلى أولاده الأئمّة الأصفياء ، الّذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

والحمد لله الّذي ختم النبوّة والرسالة بمحمّد المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وشرّفنا بولاية وصيّه عليّ المرتضى ، وأبنائه الطاهرين ، ثمّ ختم الوصاية والولاية بنجله الصالح الإمام الثاني عشر المهديّ ، الحجّة القائم بالحقّ ، عجّل الله تعالى فرجه ، وسهّل مخرجه ، وأهلك أعداءه ، وجعلنا من شيعته وأنصاره واللائذين تحت لوائه والمستشهدين بين يديه ، إله الحقّ آمين.

وبعد ، فهذا كتابي يضمّ دررا من الأحاديث المتلألئة الأنوار ، من معدن الوحي والتنزيل مستخرجة ، وفي سلك الإمامة والولاية منظومة ، حيث استفاضت في البشارة بظهور إمامنا الغائب المنتظر ، وإشراق الدنيا بنوره ، وسعادة العالمين في أيّامه الميمونة.

وقد رتّبتها حسب الآيات القرآنية ودلالاتها عليه نصّا أو إشارة أو تأويلا ، مبتهلا إلى الله سبحانه وتعالى ، راجيا من كرمه أن لا يحرمني جزيل ثوابه ، وأن يجعل سعيي في نظمي هذه الدرر وجمعي هذه الغرر ، خالصا لوجهه الكريم ، ويثبّت ببركته لساني بالقول الثابت في الحياة الدنيا ، وقدمي على الصراط يوم تزلّ الأقدام.

عبد آل محمّد

١٣
١٤

سورة البقرة

الآية الاولى قوله تعالى : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ)(١).

١ ـ الشّيخ الصدوق رحمه‌الله بإسناده عن يحيى بن أبي القاسم ، قال : سألت الصادق عليه‌السلام عن قول الله عزوجل : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فقال : المتّقون شيعة عليّ عليه‌السلام ، والغيب فهو الحجّة الغائب ، وشاهد ذلك قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٢)(٣).

٢ ـ وروى الشّيخ الصدوق عن غير واحد من أصحابنا ، عن داود بن كثير الرقيّ ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال : من آمن اقرّ بقيام القائم أنّه حقّ (٤).

٣ ـ وروى الشّيخ الصدوق أيضا بإسناده عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في حديث يذكر فيه الأئمّة الاثني عشر ومنهم القائم عليه‌السلام قال : قال رسول

__________________

(١) البقرة : ١ ـ ٣.

(٢) يونس : ٢٠.

(٣) كمال الدّين وتمام النعمة ٢ / ٣٤٠ ؛ بحار الأنوار ٥١ / ٥٢ و ١٢٤.

(٤) نفس المصدر.

١٥

الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : طوبى للصابرين في غيبته ، طوبى للمقيمين على محبّتهم ، اولئك من وصفهم الله في كتابه فقال : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ثمّ قال : (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(١)(٢).

٤ ـ وقال أيضا : حدّثنا عليّ بن أحمد بن موسى ؛ قال : بإسناده عن يحيى بن أبي القاسم قال : سألت الصادق جعفر بن محمّد عليهما‌السلام عن قول الله عزوجل : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) فقال : المتّقون شيعة عليّ عليه‌السلام والغيب فهو الحجّة الغائب ، وشاهد ذلك قول الله عزوجل (وَيَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ)(٣) فأخبر عزوجل أنّ الآية هي الغيب ، والغيب هو الحجّة ، وتصديق ذلك قول الله عزوجل : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)(٤) يعني حجّة (٥).

٥ ـ وقال : حدّثنا أبي ؛ قال : حدّثنا سعد بن عبد الله بإسناده عن عليّ ابن رباب ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : في قول الله عزوجل : (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ)(٦) فقال : الآيات هم الأئمّة ، والآية المنتظرة هو القائم عليه‌السلام ، فيومئذ لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل قيامه بالسيف ، وإن آمنت بمن تقدّمه من آبائه عليهم‌السلام (٧).

٦ ـ وروى الحافظ رجب البرسيّ عن عمّار ، عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في كتاب الواحدة ، في حديث طويل قد بيّن فيه مناقب نفسه القدسيّة ، وجاء فيه قوله : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) قال : الغيب : هو الرجعة ويوم القيامة ويوم القائم ، وهي أيّام آل محمّد ، وإليها الاشارة بقوله : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) فالرجعة لهم ، ويوم القيامة لهم ، ويوم القائم لهم ، وحكمه إليهم ، ومعوّل للمؤمنين فيه عليهم (٨).

__________________

(١) المجادلة : ٢٢.

(٢) المحجّة فيما نزل في القائم (ع) ١٧ ، نقلا عن الشيخ الصدوق.

(٣) يونس : ٢٠.

(٤) المؤمنون : ٥٠.

(٥) كمال الدّين وتمام النعمة ١ / ١٧ و ١٨.

(٦) الأنعام : ٥٣.

(٧) كمال الدّين ١ / ١٨.

(٨) مشارق أنوار اليقين للحافظ البرسي ١٥٩.

١٦

كلام الشيخ الصدوق في الغيبة

قال الشيخ الصدوق في المراد من الغيبة قال : ولقد كلّمني رجل بمدينة السلام فقال لي : إنّ الغيبة قد طالت ، والحيرة قد اشتدّت ، وقد رجع كثير عن القول بالإمامة لطول الأمد ، فكيف هذا؟ فقلت له : إنّ سنّة الأوّلين في هذه الامّة جارية حذو النعل بالنعل ، كما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في غير خبر ، وأنّ موسى عليه‌السلام ذهب إلى ميقات ربّه على أن يرجع إلى قومه بعد ثلاثين ليلة فأتمّها الله عزوجل بعشرة ، فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة ، ولتأخّره عنهم فضل عشرة أيّام على ما واعدهم ، استطالوا المدّة القصيرة وقست قلوبهم وفسقوا عن أمر ربهم عزوجل وعن أمر موسى عليه‌السلام ، وعصوا خليفته هارون واستضعفوه وكادوا يقتلونه ، وعبدوا عجلا جسدا له خوار من دون الله عزوجل ، وقال السامريّ لهم : (هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى)(١) وهارون يعظهم وينهاهم عن عبادة العجل ويقول : (يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي* قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى) (٢) (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ) (٣).

والقصّة في ذلك مشهورة ، فليس بعجيب أن يستطيل الجهّال من هذه الامّة مدّة غيبة صاحب زماننا عليه‌السلام ، ويرجع كثير منهم عمّا دخلوا فيه بغير أصل وبصيرة ، ثمّ لا يعتبرون بقول الله تعالى ذكره حيث يقول : (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ)(٤). فقال [الرجل] : وما أنزل الله عزوجل في كتابه في هذا المعنى؟ قلت : قوله عزوجل : (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ* الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) يعني بالقائم عليه‌السلام وغيبته ...

وقد كلّمني بعض المخالفين في هذه الآية فقال : معنى قوله عزوجل : (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) أي بالبعث والنشور وأحوال القيامة ؛ فقلت له : لقد جهلت في تأويلك وضللت

__________________

(١) طه : ٨٨.

(٢) طه : ٩٠ و ٩١.

(٣) الأعراف : ١٥٠.

(٤) الحديد : ١٦.

١٧

في قولك ، فإنّ اليهود والنصارى وكثيرا من فرق المشركين والمخالفين لدين الإسلام يؤمنون بالبعث والنشور والحساب والثواب والعقاب ، فلم يكن الله تبارك وتعالى ليمدح المؤمنين بمدحة قد شركهم فيها فرق الكفر والجحود ، بل وصفهم الله عزوجل ومدحهم بما هو لهم خاصّة ، لم يشركهم فيه أحد غيرهم.

وجوب معرفة المهديّ عليه‌السلام

ولا يكون الإيمان صحيحا من مؤمن إلّا من بعد علمه بحال من يؤمن به ، كما قال الله تبارك وتعالى (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)(١) فلم يوجب لهم صحّة ما يشهدون به إلّا من بعد علمهم ، ثمّ كذلك لن ينفع إيمان من آمن بالمهديّ القائم عليه‌السلام حتّى يكون عارفا بشأنه في حال غيبته ، وذلك انّ الائمة : قد أخبروا بغيبته ، ووصفوا كونها لشيعتهم فيما نقل عنهم واستحفظ في الصحف ، ودوّن في الكتب المؤلّفة من قبل أن تقع الغيبة بمائتي سنة أو أقل أو أكثر ، فليس أحد من أتباع الائمّة عليهم‌السلام إلّا وقد ذكر ذلك في كثير من كتبه ورواياته ، ودوّنه في مصنفاته. وهي الكتب الّتي تعرف بالأصول مدوّنة عند شيعة آل محمّد عليهم‌السلام من قبل الغيبة بما ذكرنا من السنين ، وقد أخرجت ما حضرني من الأخبار المسندة في الغيبة في هذا الكتاب في مواضعها ، فلا يخلو حال هؤلاء الأتباع المؤلّفين للكتب أن يكونوا علموا الغيب بما وقع الآن من الغيبة ، فألّفوا ذلك في كتبهم ودوّنوه في مصنّفاتهم من قبل كونها ، وهذا محال عند أهل اللبّ والتحصيل ، أو أن يكونوا قد أسّسوا في كتبهم الكذب ، فاتّفق الأمر لهم كما ذكروا ، وتحقّق كما وضعوا من كذبه بهم على بعد ديارهم واختلاف آرائهم وتباين أقطارهم ومحالهم ، وهذا أيضا محال كسبيل الوجه الأول ، فلم يبق في ذلك إلّا أنّهم حفظوا عن أئمّتهم المستحفظين للوصيّة ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من ذكر الغيبة وصفة كونها في مقام بعد مقام إلى آخر المقامات ما دوّنوه في كتبهم وألّفوه في أصولهم ، وبذلك وشبهه فلج الحقّ وزهق الباطل ، إنّ الباطل كان زهوقا.

وإنّ خصومنا ومخالفينا من أهل الأهواء المضلّة قصدوا لدفع الحقّ وعناده بما وقع

__________________

(١) الزخرف : ٨٦.

١٨

من غيبة صاحب زماننا القائم عليه‌السلام واحتجابه عن أبصار المشاهدين ، ليلبسوا بذلك على من لم تكن معرفته متقنة ، ولا بصيرته مستحكمة.

إثبات الغيبة والحكمة فيها

وأضاف الشيخ الصدوق قائلا : إنّ الغيبة الّتي وقعت لصاحب زماننا عليه‌السلام قد لزمت حكمتها ، وبان حقّها ، وفلجت حكمتها ، للذي شاهدناه وعرفناه من آثار حكمة الله عزوجل واستقامة تدبيره في حججه المتقدّمة في الأعصار السالفة ، مع أئمّة الضلال وتظاهر الطواغيت ، واستعلاء الفراعنة في الحقب الخالية ، وما نحن بسبيله في زماننا هذا من تظاهر أئمّة الكفر بمعونة أهل الافك والعدوان والبهتان.

وذلك أنّ خصومنا طالبونا بوجود صاحب زماننا عليه‌السلام كوجود من تقدّمه من الأئمّة ، فقالوا : إنّه قد مضى على قولكم من عصر وفاة نبيّنا أحد عشر إماما ، كلّ منهم كان موجودا معروفا باسمه وشخصه بين الخاصّ والعامّ ، فإن لم يوجد كذلك ، فقد فسد عليكم أمر من تقدّم من أئمّتكم كفساد أمر صاحب زمانكم هذا في عدمه وتعذّر وجوده.

فأقول ـ وبالله التوفيق ـ :

إنّ خصومنا قد جهلوا آثار حكمة الله تعالى ، وأغفلوا مواقع الحقّ ومناهج السبيل في مقامات حجج الله تعالى مع أئمّة الضلال في دول الباطل في كل عصر وزمان ، إذ قد ثبت أنّ ظهور حجج الله تعالى في مقاماتهم في دول الباطل على سبيل الإمكان والتدبير لأهل الزمان ، فإن كانت الحال ممكنة في استقامة تدبير الأولياء لوجود الحجّة بين الخاصّ والعامّ ، كان ظهور الحجّة كذلك ، وإن كانت الحال غير ممكنة من استقامة تدبير الأولياء لوجود الحجّة بين الخاصّ والعامّ ، وكان استتاره ممّا توجبه الحكمة ويقتضيه التدبير ، حجبه الله وستره إلى وقت بلوغ الكتاب أجله ، كما قد وجدنا من ذلك في حجج الله المتقدّمة من عصر وفاة آدم عليه‌السلام إلى حين زماننا هذا ، منهم المستخفون ومنهم المستعلنون ، بذلك جاءت الآثار ونطق الكتاب (١).

__________________

(١) كمال الدّين وتمام النعمة ١ / ١٦ ـ ٢١.

١٩

٧ ـ روى الصدوق بالإسناد عن سدير الصيرفي قال : دخلت أنا والمفضّل بن عمر وأبو بصير وأبان بن تغلب ، على مولانا أبي عبد الله جعفر بن محمّد عليه‌السلام ، فرأيناه جالسا على التراب وعليه مسح خيبريّ مطوّق بلا جيب ، مقصر الكمّين ، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ، ذات الكبد الحرى ، قد نال الحزن من وجنتيه ، وشاع التغيّر في عارضيه ، وأبلى الدموع محجريه ، وهو يقول : سيّدي ، غيبتك نفت رقادي ، وضيّقت عليّ مهادي ، وأسرت منّي راحة فؤادي ، سيّدي غيبتك أوصلت مصابي بفجائع الأبد ، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد ، فما أحسّ بدمعة ترقى من عيني ، وأنين يفتر من صدري عن دوارج الرزايا وسوالف البلايا ، إلّا مثّل لعيني عن غوابر أعمّها وأفظعها ، وبواقي أشدّها وأنكرها ، ونوائب مخلوطة بغضبك ، ونوازل معجونة بسخطك.

قال سدير : فاستطارت عقولنا ولها ، وتصدّعت قلوبنا جزعا من ذلك الخطب الهائل والحادث الغائل ، وظننّا أنّه سمة لمكروهه قارعة أو حلّت به من الدهر بائقة.

فقلنا : لا أبكى الله ـ يا ابن خير الورى ـ عينيك. من أيّ حادثة تستنزف دمعتك ، وتستمطر عيونك؟ وأيّة حالة حتّمت عليك هذا المأتم؟

قال : فزفر الصادق عليه‌السلام زفرة انتفخ منها جوفه ، واشتدّ منها خوفه ، وقال : ويلكم إنّي نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم ؛ وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا والرزايا ، وعلم ما كان وما يكون الى يوم القيامة ، الّذي خصّ الله تقدّس اسمه به محمّدا والأئمّة من بعده عليه وعليهم‌السلام ، وتأمّلت فيه مولد قائمنا وغيبته وإبطاءه وطول عمره ، وبلوى المؤمنين به من بعده في ذلك الزمان ، وتولّد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته وارتداد أكثرهم عن دينهم ، وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم ، الّتي قال الله تقدّس ذكره : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)(١) يعني الولاية ، فأخذتني الرّقة ، واستولت عليّ الاحزان.

فقلنا : يا ابن رسول الله ، كرّمنا وشرّفنا بإشراكك إيّانا في بعض ما أنت تعلمه من علم ذلك.

__________________

(١) الإسراء : ١٣.

٢٠