العقيدة وعلم الكلام

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري

العقيدة وعلم الكلام

المؤلف:

الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري


المحقق: الشيخ محمّد زاهد بن حسن بن علي الكوثري
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 978-2-7451-4364-6
الصفحات: ٦٤٥

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الإمام الكوثري

بقلم الأستاذ الكبير الشيخ محمد أبو زهرة

وكيل كلية الحقوق وأستاذ الشريعة بجامعة القاهرة

(رحمهما‌الله تعالى)

١ ـ منذ أكثر من عام (١) فقد الإسلام إماما من أئمة المسلمين الذين علوا بأنفسهم عن سفساف هذه الحياة ، واتجهوا إلى العلم اتجاه المؤمن لعبادة ربه ، ذلك بأنه علم أن العلم عبادة من العبادات يطلب العالم به رضا الله لا رضا أحد سواه ، لا يبغي به علوّا في الأرض ولا فسادا ، ولا استطالة بفضل جاه ، ولا يريده عرضا من أعراض الدنيا ، إنما يبغي به نصرة الحق لإرضاء الحق جلّ جلاله. ذلكم هو الإمام الكوثري ، طيّب الله ثراه ، ورضي عنه وأرضاه.

لا أعرف أنّ عالما مات فخلا مكانه في هذه السنين ، كما خلا مكان الإمام الكوثري ، لأنه بقيّة السلف الصالح الذين لم يجعلوا العلم مرتزقا ولا سلّما لغاية ، بل كان هو منتهى الغايات عندهم ، وأسمى مطارح أنظارهم ، فليس وراء علم الدين غاية يتغيّاها مؤمن ، ولا مرتقى يصل إليه عالم.

لقد كان رضي الله عنه عالما يتحقّق فيه القول المأثور «العلماء ورثة الأنبياء» وما كان يرى تلك الوراثة شرفا فقط ، ليفتخر به ويستطيل على الناس ، إنما كان يرى تلك الوراثة جهادا في إعلان الإسلام ، وبيان حقائقه ، وإزالة الأوهام التي تلحق جوهره فيبديه للناس صافيا مشرقا منيرا ، فيعشو الناس الى نوره ، ويهتدون بهداه ، وأنّ تلك الوراثة تتقاضى العالم أن يجاهد كما جاهد النبيّون ، ويصبر على البأساء والضراء كما صبروا ، وأن يلقى العنت ممن يدعوهم إلى الحق والهداية كما لقوا ، فليست تلك الوراثة شرفا إلا لمن أخذ في أسبابها ، وقام بحقها ، وعرف الواجب فيها ، وكذلك كان الإمام الكوثري رضي الله عنه.

٢ ـ إنّ ذلك الإمام الجليل لم يكن من المنتحلين لمذهب جديد ، ولا من الدعاة إلى أمر بديء لم يسبق به ، ولم يكن من الذين يسمهم الناس اليوم بسمة التجديد ، بل كان ينفر

__________________

(١) توفي الإمام الكوثري رحمه‌الله عام ١٣٧١ ه‍.

٥

منهم ، فإنه كان متّبعا ، ولم يكن مبتدعا ، ولكني مع ذلك أقول : إنه كان من المجدّدين بالمعنى الحقيقي لكلمة التجديد ، لأن التجديد ليس هو ما تعارفه الناس اليوم من خلع للربقة وردّ لعهد النبوّة الأولى ، إنما التجديد هو أن يعاد إلى الدين رونقه ويزال عنه ما علق به من أوهام ، ويبيّن للناس صافيا كجوهره ، نقيّا كأصله ، وإنه لمن التجديد أن تحيا السّنّة وتموت البدعة ويقوم بين الناس عمود الدين.

ذلك هو التجديد حقا وصدقا ، ولقد قام الإمام الكوثري بإحياء السنة النبوية ، فكشف عن المخبوء بين ثنايا التاريخ من كتبها ، وبيّن مناهج رواتها ، وأعلن للناس في رسائل دوّنها وكتب ألّفها سنّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من أقوال وأفعال وتقريرات ، ثم عكف على جهود العلماء السابقين الذين قاموا بالسنة ورعوها حقّ رعايتها ، فنشر كتبهم التي دوّنت فيها أعمالهم لإحياء السنة والدّين قد أشربت النفوس حبّه ، والقلوب لم ترنّق بفساد والعلماء لم تشغلهم الدنيا عن الآخرة ، ولم يكونوا في ركاب الملوك.

٣ ـ لقد كان الإمام الكوثري عالما حقا ، عرف علمه العلماء ، وقليل منهم من أدرك جهاده ، ولقد عرفته سنين قبل أن ألقاه ، عرفته في كتاباته التي يشرق فيها نور الحق ، وعرفته في تعليقاته على المخطوطات التي قام على نشرها ، وما كان والله عجبي من المخطوط بقدر إعجابي بتعليق من علّق عليه ، لقد كان المخطوط أحيانا رسالة صغيرة.

ولكن تعليقات الإمام عليه تجعل منه كتابا مقروءا ، وإنّ الاستيعاب والاطّلاع واتساع الأفق ، تظهر في التعليق بادية العيان ، وكلّ ذلك مع طلاوة عبارة ، ولطف إشارة ، وقوّة نقد ، وإصابة للهدف ، واستيلاء على التفكير والتعبير ، ولا يمكن أن يجول بخاطر القارئ أنه كاتب أعجمي وليس بعربي مبين.

ولقد كان لفرط تواضعه لا يكتب مع عنوان الكتاب عمله الرسميّ الذي كان يتولاه في حكم آل عثمان ، لأنه ما كان يرى رضي الله عنه أنّ شرف العالم يناله من عمله الرسمي وإنما يناله من عمله العلمي ، فكان بعض القارئين ـ لسلامة المبنى مع دقة المعنى ولإشراق الديباجة وجزالة الأسلوب ـ لا يجول بخاطره أنّ الكاتب تركي بل يعتقد أنه عربي ، ولد عربيّا ، وعاش عربيّا ، ولم تظلّه إلا بيئة عربية.

ولكن لا عجب فإنه كان تركيّا في سلالته وفي نشأته ، وفي حياته الإنسانية في المدة التي عاشها في الآستانة ، أما حياته العلمية فقد كانت عربية خالصة ، فما كان يقرأ إلا عربيّا ، وما ملأ رأسه المشرق إلا النور العربيّ المحمديّ ، ولذلك كان لا يكتب إلا كتابة نقية خالية من كل الأساليب الدخيلة في المنهاج العربي ، بل كان يختار الفصيح من الاستعمال الذي لم يجر خلاف حول فصاحته ، مما يدلّ على عظم اطّلاعه على كتب اللغة متنا ونحوا وبلاغة ، ثم هو فوق ذلك يقرض الشعر العربي فيكون منه الحسن.

٤ ـ لقد اختصّ رضي الله عنه بمزايا رفعته وجعلته قدوة للعالم المسلم ، لقد علا بالعلم عن سوق الاتجار ، وأعلم الخافقين أنّ العالم المسلم وطنه أرض الإسلام ، وأنه لا يرضى

٦

بالدّنيّة في دينه ، ولا يأخذ من يذل الإسلام بهوادة ، ولا يجعل لغير الله والحقّ عنده إرادة ، وأنه لا يصحّ أن يعيش في أرض لا يستطيع فيها أن ينطق بالحق ، ولا يعلي فيها كلمة الإسلام ، وإن كانت بلده الذي نشأ فيه ، وشدا وترعرع في مغانيه ، فإنّ العالم يحيا بالروح لا بالمادة ، وبالحقائق الخالدة ، لا بالأعراض الزائلة ، وحسبه أن يكون وجيها عند الله وفي الآخرة ، وأما جاه الدنيا وأهلها فظلّ زائل ، وعرض حائل.

٥ ـ وإنّ نظرة عبارة لحياة ذلك العالم الجليل ، ترينا أنه كان العالم المخلص المجاهد الصابر على البأساء والضرّاء ، وتنقّله في البلاد الإسلامية والبلاء بلاء ، ونشره النور والمعرفة حيثما حلّ وأقام. ولقد طوّف في الأقاليم الإسلامية فكان له في كل بلد حل فيه تلاميذ نهلوا من منهله العذب ، وأشرقت في نفوسهم روحه المخلصة المؤمنة ، يقدّم العلم صفوا لا يرنقه مراء ولا التواء ، يمضي في قول الحق قدما لا يهمّه رضي الناس أو سخطوا ما دام الذي بينه وبين الله عامرا.

ويظهر أن ذلك كان في دمه الذي يجري في عروقه ، فهو في الجهاد في الحقّ منذ نشأ ، وإنّ في أسرته لتقوى وقوّة نفس وصبر واحتمال للجهاد ، إنه من أسرة كانت في القوقاز ، حيث المنعة والقوّة وجمال الجسم والروح ، وسلامة الفكر وعمقه.

ولقد انتقل أبوه إلى الآستانة فولد على الهدى والحق ، فدرس العلوم الدينية حتى نال أعلى درجاتها في نحو الثامنة والعشرين من عمره ، ثم تدرّج في سلّم التدريس حتى وصل إلى أقصى درجاته وهو في سنة صغيرة ، حتى إذا ابتلي بالذين يريدون فصل الدنيا عن الدين ، لتحكم الدنيا بغير ما أنزل الله ، وقف لهم بالمرصاد ، والعود أخضر ، والآمال متفتحة ، ومطامح الشباب متحفّزة ، ولكنه آثر دينه على دنياهم ، وآثر أن يدافع عن البقايا الإسلامية على أن يكون في عيش ناعم ، بل آثر أن يكون في نصب دائم فيه رضا الله ، على أن يكون في عيش رافه وفيه رضا الناس ورضا من بيدهم شئون الدنيا ، لأن إرضاء الله غاية الإيمان.

٦ ـ جاهد الاتحاديين الذين كان بيدهم أمر الدولة لما أرادوا أن يضيّقوا مدى الدراسات الدينية ويقصّروا زمنها ، وقد رأى رضي الله عنه في ذلك التقصير نقصا لأطرافها ، فأعمل الحيلة ودبّر وقدّر ، حتى قضى على رغبتهم ، وأطال المدة التي رغبوا في تقصيرها ، ليتمكن طالب علوم الإسلام من الاستيعاب وهضم العلوم ، وخصوصا بالنسبة لأعجميّ بلسان عربيّ مبين.

٧ ـ وهو في كل أحواله العالم النّزه الأنف الذي لا يعتمد على ذي جاه في ارتفاع ، ولا يتملّق ذا جاه لنيل مطلب أو الوصول إلى غاية مهما شرفت ، فإنه رضي الله عنه كان يرى أن معالي الأمور لا يوصل إليها إلا طريق سليم ومنهاج مستقيم ، ولا يمكن أن يصل كريم إلى غاية كريمة إلا من طريق يصون النفس فيها عن الهوان ، فإنه لا يوصل إلى شريف إلا شريف مثله ، ولا شرف في الاعتماد على ذوي الجاه في الدنيا ، فإنّ من يعتمد عليهم لا

٧

يكون عند الله وجيها.

٨ ـ سعى رضي الله عنه بجدّه وعمله في طريق المعالي حتى صار وكيل مشيخة الإسلام في تركيا ، وهو ممن يعرف للمنصب حقّه ، لذلك لم يفرّط في مصلحة إرضاء لذي جاه مهما يكن قويّا مسيطرا ، وقبل أن يعزل في منصبه في سبيل الاستمساك بالمصلحة.

والاعتزال في سبيل الحقّ خير من الامتثال للباطل.

٩ ـ عزل الشيخ عن وكالة المشيخة الإسلامية ، ولكنه بقي في مجلس وكالتها الذي كان رئيسا له ، وما كان يرى غضّا لمقامه أن ينزل من الرئاسة إلى العضوية ما دام سبب النزول رفيعا ، إنه العلوّ النفسيّ لا يمنع العامل من أن يعمل رئيسا أو مرءوسا ، فالعزّة تستمدّ من الحق في ذاته ، ويباركها الحقّ جل جلاله.

١٠ ـ ولكنّ العالم الأبيّ العفّ التّقيّ يمتحن أشد امتحان ، إذ يرى بلده العزيز وهو دار الإسلام الكبرى ، ومناط عزّته ، ومحطّ آمال المسلمين يسوده الإلحاد ، ثم يسيطر عليه من لا يرجو لهذا الدين وقارا ، ثم يصبح فيه القابض على دينه كالقابض على الجمر ، ثم يجد هو نفسه مقصودا بالأذى ، وأنه إن لم ينج ألقي في غيابات السجن ، وحيل بينه وبين العلم والتعليم. عندئذ يجد الإمام نفسه بين أمور ثلاثة : إما أن يبقى مأسورا مقيّدا ، ينطفئ علمه في غيابات السجون ، وإنّ ذلك لعزيز على عالم تعوّد الدرس والإرشاد ، وإخراج كنوز الدّين ليعلّمها النّاس عن بينة ، وإما أن يتملّق ويداهن ويمالئ ، ودون ذلك خرط القتاد بل حزّ الأعناق ، وإما أن يهاجر وبلاد الله واسعة ، وتذكّر قوله تعالى : (أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها) [النّساء : ٩٧].

١١ ـ هاجر إلى مصر ثم انتقل إلى الشام ، ثم عاد إلى القاهرة ، ثم رجع إلى دمشق مرة ثانية ، ثم ألقى عصا التسيار نهائيا بالقاهرة ، وهو في رحلاته إلى الشام ومقامه في القاهرة كان نورا ، وكان مسكنه الذي كان يسكنه ضؤل أو اتّسع مدرسة يأوي إليها طلاب العلم الحقيقي ، لا طلاب العلم المدرسي ، فيهتدي أولئك التلاميذ إلى ينابيع المعرفة ، من الكتب التي كتبت وسوق العلوم الإسلامية رائجة ونفوس العلماء عامرة بالإسلام ، فردّ عقول أولئك الباحثين إليها ووجّههم نحوها ، وهو يفسّر المغلق لهم ، ويفيض بغزير علمه وثمار فكره.

١٢ ـ وإنّ كاتب هذه السطور لم يلق الشيخ إلا قبل وفاته بنحو عامين ، وقد كان اللقاء الرّوحيّ من قبل ذلك بسنين ، عند ما كنت أقرأ كتاباته ، وأقرأ تعليقه على ما يخرج من مخطوط ، وأقرأ ما ألّف من كتب ، وما كنت أحسب أنّ لي في نفس ذلك العالم الجليل مثل ما له في نفسي ، حتى قرأت كتابه «حسن التقاضي في سيرة الإمام أبي يوسف القاضي» فوجدته رضي الله عنه خصّني عند الكلام في الحيل المنسوبة لأبي يوسف بكلمة خير.

وأشهد أني سمعت ثناء من كبراء وعلماء ، فما اعتززت بثناء كما اعتززت بثناء ذلك الشيخ الجليل ، لأنه وسام علمي ممن يملك إعطاء الوسام العلمي.

٨

سعيت إليه لألقاه ، ولكني كنت أجهل مقامه ، وإني لأسير في ميدان العتبة الخضراء ، فوجدت شيخا وجيها وقورا ، الشيب ينبثق منه كنور الحق ، يلبس لباس علماء التّرك ، قد التفّ حوله طلبة من سورية ، فوقع في نفسي أنه الشيخ الذي أسعى إليه. فما أن زايل تلاميذه حتى استفسرت من أحدهم : من الشيخ؟ فقال : إنه الشيخ الكوثري ، فأسرعت حتى التقيت به لأعرف مقامه ، فقدّمت إليه نفسي ، فوجدت عنده من الرغبة في اللقاء مثل ما عندي ، ثم زرته فعلمت أنه فوق كتبه ، وفوق بحوثه ، وأنه كنز في مصر.

١٣ ـ وهنا أريد أن أبدي صفحة من تاريخ ذلك الشيخ الإمام ، لم يعرفها إلا عدد قليل :

لقد أردت أن يعمّ نفعه ، وأن يتمكّن طلاب العلم من أن يردوا ورده العذب ، وينتفعوا من منهله الغزير ، لقد اقترح قسم الشريعة على مجلس كلية الحقوق بجامعة القاهرة : أن يندب الشيخ الجليل للتدريس في علوم الشريعة ، من أقسام الدراسات العليا بالكلية ، ووافق المجلس على الاقتراح بعد أن علم الأعضاء الأجلاء مكان الشيخ من علوم الإسلام ، وأعماله العلمية الكبيرة.

ذهبت إلى الشيخ مع الأستاذ رئيس قسم الشريعة إبّان ذاك ، ولكننا فوجئنا باعتذار الشيخ عن القبول بمرضه ومرض زوجه ، وضعف بصره ، ثم يصرّ على الاعتذار ، وكلّما ألححنا في الرجاء لجّ في الاعتذار ، حتى إذا لم نجد جدوى رجوناه في أن يعاود التفكير في هذه المعاونة العلمية التي نرقبها ونتمنّاها ، ثم عدت إليه منفردا مرة أخرى ، أكرّر الرجاء وألحف فيه ، ولكنه في هذه المرة كان معي صريحا ، قال الشيخ الكريم ... إنّ هذا مكان علم حقّا ، ولا أريد أن أدرّس فيه إلا وأنا قويّ ألقي دروسي على الوجه الذي أحبّ ، وإنّ شيخوختي وضعف صحتي وصحّة زوجي ، وهي الوحيدة في هذه الحياة ، كلّ هذا لا يمكّنني من أداء هذا الواجب على الوجه الذي أرضاه.

١٤ ـ خرجت من مجلس الشيخ وأنا أقول أيّ نفس علويّة كانت تسجن في ذلك الجسم الإنساني ، إنها نفس الكوثرى.

وإنّ ذلك الرجل الكريم الذي ابتلي بالشدائد ، فانتصر عليها ، ابتلي بفقد الأحبة ، ففقد أولاده في حياته ، وقد اخترمهم الموت واحدا بعد الآخر ، ومع كل فقد لوعة ، ومع كل لوعة ندوب في النفس وأحزان في القلب. وقد استطاع بالعلم أن يصبر وهو يقول مقالة يعقوب : «فصبر جميل والله المستعان» ولكنّ شريكته في السرّاء والضراء أو شريكته في بأساء هذه الحياة بعد توالي النكبات ، كانت تحاول الصبر فتتصبّر ، فكان لها مواسيا ، ولكلومها مداويا ، وهو هو نفسه في حاجة إلى دواء.

ولقد مضى إلى ربّه صابرا شاكرا حامدا ، كما يمضي الصّدّيقون الأبرار ، فرضي الله عنه وأرضاه.

محمد أبو زهرة

٩

ترجمة

الإمام الكوثري (١)

الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد : فهذه نبذة مختصرة جامعة عن مؤلّف هذا الكتاب.

هو الإمام العلّامة المحدّث المحقّق الفقيه الأصولي المؤرّخ الصّوفي المتكلّم الشيخ محمد زاهد بن حسن بن علي الكوثري الحنفي.

ولد يوم الثلاثاء ٢٧ أو ٢٨ من شوال سنة ١٢٩٦ في قرية الحاج حسن (٢) أفندي وتلقى مبادئ العلوم على والده وعلى شيوخ دوزجة.

ثم انتقل إلى الآستانة سنة ١٣١١ فأخذ العلم عن كبار علمائها مثل : الشيخ العلّامة إبراهيم حقي الأكيني المتوفّى سنة ١٣١٨ ، والشيخ العلّامة علي زين العابدين الألصوني المتوفّى سنة ١٣٣٦ ، والشيخ حسن القسطموني المتوفّى سنة ١٣٢٩ ، والشيخ العلّامة يوسف ضياء الدين التكوشي المتوفّى سنة ١٣٣٩ ، وعمدته والده العلّامة حسن بن علي الكوثري المتوفّى سنة ١٣٤٥ عن مائة سنة رحمهم‌الله جميعا.

وقد تولّى عدة مناصب منها التدريس بجامع الفاتح وآخرها وكالة المشيخة الإسلامية في الدولة العثمانية.

وعند ما أطيح بالخلافة العثمانية وتولى عدوّ الله كمال أتاتورك سلطنة الدولة كان الشيخ من أشد المعارضين حتى حكم عليه بالإعدام ففرّ بدينه وهاجر إلى مصر ووصل إلى الإسكندرية سنة ١٣٤١ دون أن يودع أهله وسكن في القاهرة ثم رحل إلى الشام قبل أن يتمّ سنته الأولى من حين وصوله إلى مصر ، ثم زارها مرة أخرى في سنة ١٣٤٧ وكان مدة

__________________

(١) للتوسّع في ترجمته انظر الترجمة الوافية بعنوان «الإمام الكوثري» للأستاذ أحمد خيري في آخر مجموع «الفقه وأصول الفقه» من أعمال الإمام محمد زاهد الكوثري.

(٢) وهي قرية أنشأها والد المترجم رحمه‌الله وتقع على بعد خمس مراحل شرق الآستانة ، وتعرف الآن ببلدة دوزجة.

١٠

قيامه في الزيارتين بدمشق ما يقرب من سنة وعكف فيهما على المكتبة الظاهرية ينقب عن نفائس مخطوطاتها.

ثم ألقى عصا التسيار بمصر حتى توفي بها في يوم الأحد ١٩ من ذي القعدة سنة ١٣٧١ ه‍ رحمه‌الله رحمة واسعة.

وقد أجازه كبار علماء عصره من أمثال :

١ ـ العلّامة الشيخ يوسف الدجوي وقد سمع عليه الموطأ وقد توفي سنة ١٣٦٥.

٢ ـ والمحدّث العلّامة الشيخ أحمد رافع الطهطاوي المتوفّى سنة ١٣٥٥.

٣ ـ والمحدّث العلّامة الشيخ محمد جعفر الكتاني وقد سمع منه «الشمائل المحمديّة» بدمشق في رحلته الأولى سنة ١٣٤٢. وقد توفي سنة ١٣٤٥.

٤ ـ والعلّامة المحدّث الشيخ عبد الحي الكتاني المتوفّى سنة ١٣٨٢.

٥ ـ ومن كبار مشايخ الأزهر العلّامة محمد سالم الشرقاوي المعروف بالنجدي المتوفّى سنة ١٣٥٠.

٦ ـ والشيخ العلّامة محمد حبيب الله الشنقيطي المتوفّى سنة ١٣٦٣.

٧ ـ وأخوه العلّامة مفتي المدينة المنوّرة محمد الخضر الشنقيطي المتوفّى سنة ١٣٥٣.

٨ ـ ومولانا الشيخ العلّامة حكيم الأمة محمد أشرف علي التهانوي المتوفّى سنة ١٣٦٢.

وغيرهم من العلماء رحمهم‌الله جميعا.

وقد عرف عن المترجم رحمه‌الله تعالى التواضع وسعة الاطّلاع والحافظة القوية والإيثار والزهد والقوة في الحق ، والرد على المبتدعة ، وصون حمى الدين.

وتتلمذ عليه خلق لا يحصون قبل هجرته وبعدها واستجازه كبار معاصريه في العالم الإسلامي كما كان له سند عال.

وقد ترك رحمه‌الله تعالى مؤلفات كثيرة من شتى العلوم تشهد بعلومه وفضله ، منها ما هو مطبوع ، ومنها ما هو قيد الطبع :

١ ـ تأنيب الخطيب فيما ساقه في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب.

٢ ـ النكت الطريفة في التحدّث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة.

٣ ـ إحقاق الحق بإبطال الباطل في مغيث الخلق.

٤ ـ الإشفاق على أحكام الطلاق.

٥ ـ نظرة عابرة في مزاعم من ينكر نزول عيسى قبل الآخرة. وهو ضمن هذا المجموع الذي بين أيدينا.

٦ ـ من عبر التاريخ.

٧ ـ صفعات البرهان على صفحات العدوان.

٨ ـ محق التقوّل في مسألة التوسّل.

٩ ـ حسن التقاضي في سيرة أبي يوسف القاضي.

١١

١٠ ـ بلوغ الأماني في سيرة محمد بن الحسن الشيباني.

١١ ـ الإمتاع بسيرة الإمامين محمد بن زياد وصاحبه محمد بن شجاع.

١٢ ـ لمحات النظر في سيرة الإمام زفر.

١٣ ـ الحاوي في سيرة أبي جعفر الطحاوي.

١٤ ـ الاستبصار في التحدّث عن الجبر والاختيار.

١٥ ـ تذهيب التاج اللجيني في ترجمة البدر العيني.

١٦ ـ أقوم المسالك في رواية مالك عن أبي حنيفة وأبي حنيفة عن مالك.

١٧ ـ التحرير الوجيز فيما يبتغيه المستجيز. وهو ثبته.

١٨ ـ نبراس المهتدي من اجتلاء أنباء العارف بالله دمرداش المحمّدي.

١٩ ـ إرغام المريد في شرح النظم العتيد لتوسّل المريد.

٢٠ ـ المنتقى المفيد من العقد الفريد في علو الأسانيد.

٢١ ـ مقدمات وتعاليق وتقاريظ الإمام الكوثري ويحوي هذا الكتاب ما يقرب من ٦٠ مقدمة للشيخ على مختلف الكتب.

٢٢ ـ البحوث السّنيّة عن بعض رجال أسانيد الطريقة الخلوتية.

وغيرها من الكتب.

وأما كتبه المخطوطة : فمنها ما هو في حكم المفقود ومن أهم تلك الكتب :

١ ـ المدخل العالم لعلوم القرآن وهو من أهم كتبه.

٢ ـ إبداء وجوه التعدّي في كامل ابن عدي.

٣ ـ نقد كتاب الضعفاء للعقيلي.

٤ ـ التعقّب الحثيث فيما ينفيه ابن تيمية من الحديث.

٥ ـ رفع الريبة عن تخبطات ابن قتيبة.

٦ ـ الاهتمام بترجمة ابن الهمام.

٧ ـ تحذير الخلف من مخازي أدعياء السلف.

٨ ـ فصل المقال في تمحيص أحدوثة الأوعال.

٩ ـ عتب المغترين بدجاجلة المعمّرين.

وقد جمعت مقالاته التي كتبها في بعض المجلات ضمن كتاب «مقالات الكوثري» وهي حوالي ١١٧ مقالة.

كما حقّق رحمه‌الله تعالى ما يقرب من ٤٠ كتابا حلّاها بتعاليقه الوافية الممتعة.

وللتوسّع في ترجمته انظر الترجمة الوافية التى كتبها العلّامة الأديب البحّاثة الأستاذ :

أحمد خيري رحمه‌الله في كتابه «الإمام الكوثري» (١).

__________________

(١) وهذا الكتاب موجود في آخر مجموع «الفقه وأصول الفقه» من أعمال الإمام محمد زاهد الكوثري.

١٢

وممّن ترجم له :

١ ـ عزّت العطار الحسيني في مقدمة تأنيب الخطيب.

٢ ـ أحمد إبراهيم السراوي في مقدمة «طبقات ابن سعد» من الطبعة المصرية سنة ١٣٥٨.

٣ ـ الشيخ عبد الله الغماري في كتابه «سبيل التوفيق من ترجمة عبد الله بن الصديق» ذكره ضمن شيوخه.

٤ ـ الأعلام لخير الدين الزركلي رحمه‌الله ، وقد دسّ من بعض المنزهرين المعروفين بالدّسّ في كتب العلماء من ترجمة الإمام بعد وفاة المؤلف الزركلي رحمه‌الله جملة وتناوله بعض الفضلاء بالنقد في كتاب «الكوثري وتعليقاته».

٥ ـ الأستاذ زكي مجاهد رحمه‌الله في «الأخبار التاريخية».

٦ ـ محمود سعيد ممدوح في تراجم مشايخ الشيخ الفاداني «تشنيف الأسماع بشيوخ الإجازة والسماع» ، إلا أنه غمز الشيخ رحمه‌الله تبعا لمشايخه المغاربة المعروفين بذلك.

وأما الذين أثنوا على الإمام واعترفوا بعلمه وفضله فخلق لا يحصون عبّروا عن ذلك باللّسان والبنان فمن الذين أثنوا عليه :

١ ـ الشيخ العلّامة محمد يوسف البنوريّ رحمه‌الله تعالى في أول «مقالات الكوثري».

٢ ـ الشيخ الإمام محمد أبو زهرة رحمه‌الله في أول «المقالات» كذلك وترجمته له أثبتناها في أول هذا الكتاب.

٣ ـ الشيخ إسماعيل عبد رب النبيّ واعظ القاهرة في أول المقالات.

٤ ـ شيخ الإسلام مصطفى صبري رحمه‌الله في كتابه العظيم «موقف العقل والعلم والعالم من ربّ العالمين».

٥ ـ الشيخ العارف بالله سلامة العزامي الشافعي رحمه‌الله في «البراهين الساطعة» و «فرقان القرآن ، بين صفات الخالق وصفات الأكوان».

٦ ـ والعلّامة الفقيه الشيخ أبو الوفاء الأفغاني في بعض كتبه. رحمه‌الله.

٧ ـ والشيخ عبد الرحمن المعلّمي في مقدمة الجرح والتعديل لابن أبي حاتم.

٨ ـ الشيخ عبد الغني عبد الخالق في مقدمة «مناقب الشافعي وآدابه» لأبي حاتم الرازي.

٩ ـ والعلّامة محمد يوسف موسى رحمه‌الله في بعض كتبه.

١٠ ـ وتلميذه الشيخ العلّامة عبد الفتاح أبو غدّة حفظه الله في كثير من كتبه.

١١ ـ والشيخ توفيق يحيى إسلام في مقدمة كتاب «قانون التأويل» للإمام الغزالي.

١٢ ـ الشيخ العلّامة مولانا نجم الدين الكردي النقشبندي ، في مقدمته لكتاب شيخه «فرقان القرآن» من الطبعة الثانية.

١٣ ـ والعلّامة الشيخ محمد عبد الرشيد النعماني في مقدمة كتاب «التعليم» لمسعود بن أبي شيبة رحمه‌الله.

١٣

١٤ ـ والشيخ رضوان محمد رضوان في فهارس البخاري.

١٥ ـ الأستاذ حسام الدين القدسي في مقدمة الطبعة الثانية لكتاب «تبيين كذب المفتري».

١٦ ـ محمد منير الدمشقي رحمه‌الله في كتابه «نموذج من الأعمال الخيرية».

١٧ ـ الدكتور محمود الطناحي في كتابه «تاريخ نشر التراث».

١٨ ـ الدكتور العلّامة طه الدسوقي الحبيشي في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن جهيل الذي ردّ به على أغلاط ابن تيمية في الفتوى الحمويّة.

وقد كتبت بحوث في سيرته وعلمه منها :

١ ـ رسالة دكتوراه تقدم بها الطالب «حامد إبراهيم محمد» من الأزهر الشريف نوقشت في شهر ذي الحجة من عام ١٤٠٨ ه‍ ونال بها الطالب درجة الدكتوراه وكانت بعنوان «محمد زاهد الكوثري وجهوده الكلاميّة».

٢ ـ بحث قدّمه الطالب في الدراسات العليا محمد بن سعيد حوّى إلى جامعة الأردن بعنوان «الكوثري محدّثا».

٣ ـ رسالة ماجستير مقدمة إلى كلية الإلهيّات في أنقرة بعنوان «الكوثري محدّثا».

إلى غير ذلك من مآثر هذا الإمام العظيم التي لا ينكرها إلا من أصابته غشاوة أو عدمت بصيرته.

١٤

١٥
١٦

فتوى الشيخ محمود شلتوت في وفاة سيدنا

عيسى عليه الصلاة والسلام ، ورفعه ونزوله

منقولة عن كتابه «الفتاوى» ص ٥٢ ـ ٧٥

رفع عيسى عليه‌السلام

ورد إلى مشيخة الأزهر الجليلة من حضرة عبد الكريم خان بالقيادة العامة لجيوش الشرق الأوسط سؤال جاء فيه :

هل (عيسى) حي أو ميت في نظر القرآن الكريم والسنّة المطهرة؟ وما حكم المسلم الذي ينكر أنه حي؟ وما حكم من لا يؤمن به إذا فرض أنه عاد إلى الدنيا مرة أخرى؟

وقد حوّل هذا السؤال إلينا فأجبنا بالفتوى التالية التي نشرتها مجلة الرسالة في سنتها العاشرة بالعدد ٤٦٢.

القرآن الكريم ونهاية عيسى :

أما بعد ، فإن القرآن الكريم قد عرض لعيسى عليه‌السلام فيما يتصل بنهاية شأنه مع قومه في ثلاث سور :

١ ـ في سورة آل عمران قوله تعالى : (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥)) [آل عمران : ٥٢ ـ ٥٥].

١٧

٢ ـ وفي سورة النساء قوله تعالى : (وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨)) [النّساء : ١٥٧ ، ١٥٨].

٣ ـ وفي سورة المائدة قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧)) [المائدة : ١١٦ ، ١١٧].

هذه هي الآيات التي عرض القرآن فيها لنهاية شأن عيسى مع قومه.

والآية الأخيرة (آية المائدة) تذكر لنا شأنا أخرويا يتعلق بعبادة قومه له ولأمه في الدنيا وقد سأله الله عنها. وهي تقرر على لسان عيسى عليه‌السلام أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به : (اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) [المائدة : ٧٢] وأنه كان شهيدا عليهم مدة إقامته بينهم ، وأنه لا يعلم ما حدث منهم بعد أن توفاه الله.

معنى التوفّي :

وكلمة (توفّي) قد وردت في القرآن كثيرا بمعنى الموت حتى صار هذا المعنى هو الغالب عليها المتبادر منها ، ولم تستعمل في غير هذا المعنى إلا وبجانبها ما يصرفها عن هذا المعنى المتبادر : (قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ) [السّجدة : ١١] ، (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ) [النّساء : ٩٧] ، (وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) [الأنفال : ٥٠] توفته رسلنا. ومنكم من يتوفى. حتى يتوفاهن الموت. (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١].

ومن حق كلمة (تَوَفَّيْتَنِي) [المائدة : ١١٧] في الآية أن تجمل هذا المعنى المتبادر وهو الإماتة العادية التي يعرفها الناس ، ويدركها من اللفظ والسياق الناطقون بالضاد.

وإذن فالآية لو لم يتصل بها غيرها في تقرير نهاية عيسى مع قومه ، لما كان هناك مبرر للقول بأن عيسى حي لم يمت.

١٨

ولا سبيل إلى القول بأن الوفاة هنا مراد بها وفاة عيسى بعد نزوله من السماء بناء على زعم من يرى أنه حي في السماء ، وأنه سينزل منها آخر الزمان ، لأن الآية ظاهرة في تحديد علاقته بقومه هو لا بالقوم الذين يكونون آخر الزمان وهم قوم محمد باتفاق لا قوم عيسى.

معنى (رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النساء : ١٥٨] وهل هو إلى السماء؟

أما آية النساء فإنها تقول : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] وقد فسرها بعض المفسرين بل جمهورهم بالرفع إلى السماء ، ويقولون : إن الله ألقى على غيره شبهه ، ورفعه بجسده إلى السماء ، فهو حي فيها وسينزل منها آخر الزمان ، فيقتل الخنزير ويكسر الصليب ، ويعتمدون في ذلك :

أولا : على روايات تفيد نزول عيسى بعد الدجال ، وهي روايات مضطربة مختلفة في ألفاظها ومعانيها اختلافا لا مجال معه للجمع بينهما ، وقد نصّ على ذلك علماء الحديث ، وهي فوق ذلك من رواية وهب بن منبه وكعب الأحبار وهما من أهل الكتاب الذين اعتنقوا الإسلام وقد عرفت درجتهما في الحديث عند علماء الجرح والتعديل.

ثانيا : على حديث مروي عن أبي هريرة اقتصر فيه على الإخبار بنزول عيسى وإذا صحّ هذا الحديث فهو حديث آحاد. وقد أجمع العلماء على أن أحاديث الآحاد لا تفيد عقيدة ولا يصح الاعتماد عليها في شأن المغيبات.

ثالثا : على ما جاء في حديث المعراج من أن محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم حينما صعد إلى السماء وأخذ يستفتحها واحدة بعد واحدة فتفتح له ويدخل ، رأى عيسى عليه‌السلام هو وابن خالته يحيى في السماء الثانية. ويكفينا في توهين هذا المستند ما قرره كثير من شرّاح الحديث في شأن المعراج وفي شأن اجتماع محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالأنبياء ، وأنه كان اجتماعا روحيا لا جسمانيا. «انظر فتح الباري وزاد المعاد وغيرهما».

ومن الطريف أنهم يستدلون على أن معنى الرفع في الآية هو رفع عيسى بجسده إلى السماء بحديث المعراج بينما ترى فريقا منهم يستدل على أن اجتماع محمد بعيسى في المعراج كان اجتماعا جسديا بقوله تعالى : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] وهكذا يتخذون الآية دليلا على ما يفهمونه من الحديث حين يكونون في تفسير الحديث ، ويتخذون الحديث دليلا على ما يفهمونه من الآية حين يكونون في تفسير الآية.

١٩

الرفع في آية آل عمران :

ونحن إذا رجعنا إلى قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] في آيات آل عمران مع قوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] في آيات النساء وجدنا الثانية إخبارا عن تحقيق الوعد الذي تضمنته الأولى ، وقد كان هذا الوعد بالتوفية الرفع والتطهير من الذين كفروا ، فإذا كانت الآية الثانية قد جاءت خالية من التوفية والتطهير ، واقتصرت على ذكر الرفع إلى الله ، فإنه يجب أن يلاحظ فيها ما ذكر في الأولى جمعا بين الآيتين.

والمعنى أن الله توفى عيسى ورفعه إليه وطهّره من الذين كفروا.

وقد فسر الألوسي قوله تعالى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) [آل عمران : ٥٥] بوجوه منها ـ وهو أظهرها ـ إني مستوفي أجلك ومميتك حتف أنفك لا أسلط عليك من يقتلك ، وهو كناية عن عصمته من الأعداء وما هم بصدده من الفتك به عليه‌السلام ، لأنه يلزم من استيفاء الله أجله وموته حتف أنفه ذلك.

وظاهر أن الرفع الذي يكون بعد التوفية هو رفع المكانة لا رفع الجسد خصوصا وقد جاء بجانبه قوله : (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) [آل عمران : ٥٥] مما يدل على أن الأمر أمر تشريف وتكريم.

وقد جاء الرفع في القرآن كثيرا بهذا المعنى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) [النّور :

٣٦] ، (نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ) [الأنعام : ٨٣] ، (وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤)) [الشّرح : ٤] ، (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (٥٧)) [مريم : ٥٧] ، (يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا) [المجادلة : ١١] الخ ...

وإذن فالتعبير بقوله : (وَرافِعُكَ إِلَيَ) [آل عمران : ٥٥] وقوله : (بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) [النّساء : ١٥٨] كالتعبير في قولهم لحق فلان بالرفيق الأعلى وفي (إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التّوبة : ٤٠] وفي (عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ) [القمر : ٥٥] ، وكلها لا يفهم منها سوى معنى الرعاية والحفظ والدخول في الكنف المقدس. فمن أين تؤخذ كلمة السماء من كلمة (إِلَيْهِ) [البقرة : ١٧٨]؟

اللهم إن هذا لظلم للتعبير القرآني الواضح خضوعا لقصص وروايات لم يقم على الظن بها ـ فضلا عن اليقين ـ برهان ولا شبه برهان!

الفهم المتبادر من الآيات :

وبعد فما عيسى إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ، ناصبه قومه العداء ، وظهرت على وجوههم بوادر الشر بالنسبة إليه ، فالتجأ إلى الله شأن الأنبياء والمرسلين

٢٠