التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

محمّد غازي عرابي

التفسير الصوفي الفلسفي للقرآن الكريم - ج ١

المؤلف:

محمّد غازي عرابي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار البشائر الإسلاميّة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٢٦
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣

٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدمة

القوم يطلقون اسم (موسى) على (العقل) لمناسبة بينهما ، وهي تنظيم الملك وسياسته وتدبيره ، وتنظيم العلاقات مطلقا ، وهذه الأشياء هي فحوى الرسالات السماوية ، ومهمة الرسل أجمعين ، وهي عامة ، وهذه الأمور هي نفس مهمة العقل ولكن خاصة ، ولهذا فإنا نرمز إلى ظاهر الشرع بموسى ، ثم نستعير هذه الاسم للعقل للمناسبة التي ذكرناها .. وكذلك نرمز بالخضر إلى الروح ، لأنه كلما حل في مكان اخضر مكانه الذي حل فيه ، وليس يخفى أن الأرواح إذا قامت علاقتها بالأبدان اخضرت الأبدان بالحياة وخواصها ، وكذلك نرمز إلى النفس الأمارة بالسوء بفرعون لعتوها وتمردها.

ومتى أطلق القوم ، عليهم رضوان الله تعالى ، هذه الألفاظ ، فإنما يطلقونها على سبيل الاستعارة لا غير ، وليس كما فهم الكثير أن موسى اسم للعقل أو لعلم الظاهر ، وأن الخضر اسم للروح أو لعلم الباطن ، وأن فرعون اسم للنفس.

هذا خطأ في الفهم ، وخطأ في الاعتقاد ، ولأن موسى شخص بعينه ، وكذلك الخضر وفرعون ، والقرآن يقص علينا ذلك والتأويل على هذا النحو باطل ومصادرة للحق والحقيقة معا.

كتاب دراسات صوفية

٥

لكل آية من آيات القرآن ظهر وبطن ولبطنه

بطن إلى سبعة أبطن

حديث شريف

٦

سورة الفاتحة

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

١ ـ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (١))

[الفاتحة : ١]

أي به أي بظهوره في مظهر خلقي كان الاستواء على عرش الرحمانية ، حيث أعطى كل ذي حق حقه من الوجود.

٢ ـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢))

[الفاتحة : ٢]

المراد عالم الملك وعالم الملكوت ، أو كما يقال بلغة الفلسفة عالم الوجوب وعالم الإمكان.

٣ ـ (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣))

[الفاتحة : ٣]

الرحيم تخصيص عباد بالرحمة الرحيمية الضرورية للمعرفة.

٤ ـ (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (٤))

[الفاتحة : ٤]

الدين القيامة ، يقال دان له أي سلس وانقاد ، فله سبحانه ينقاد كل سيار إلى موقع التسيار.

٥ ـ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (٥))

[الفاتحة : ٥]

إياك تعني (أنت) ، فمنه سبحانه وبه وإليه أصل كل شيء واعتماده ومرجعه.

٦ ـ (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (٦))

[الفاتحة : ٦]

صراط الحق ، وهو البساط ، أي النفس ، المطوي ، يقال طوى طيا أي جمعه بعد أن كان متفرقا ، فالتفرق كان بقصد التعليم ، ثم صار الأمر إلى طي ، أي إلى استقامة الهدى ..

٧ ـ (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (٧))

[الفاتحة : ٧]

٧

المخصوصون بنعمة الهداية أزلا بسابقة حسنى ، والمختارون لمعرفته وهم بعد ذر في ظهور آبائهم ، أما المغضوب عليهم فهم الذين قال فيهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (ستنشق أمتي عن اثنين وسبعين فرقة كلها في النار إلا ما عليه أنا وأصحابي) ، والمعنى أنه ما كل من سلك الصراط قد نجا ، والأصل أن يختار الله من خلقه من يريد ليعرفوه ، وأصل العبادة المعرفة ، والباقون محجوبون ، والحجاب نار ، لأن النار بعد ، والنور قرب ، والأمر قد فتق أصلا بين بعد هو الغضب وبين قرب هو النعمة ، لا تبديل لهذا الأمر الأزلي منذ نشأة الدين.

٨

سورة البقرة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

١ ـ (الم (١))

[البقرة : ١]

الألف القوة الفاعلة في الوجود الذري ، واللام انبساط الوجود بعد دحيه ، والميم خروج الاسم العليم من الوجود وقد علم الأسماء كلها ، ومن أجل هذا الاسم دحى الله الوجود الظاهري.

٢ ـ (ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (٢))

[البقرة : ٢]

الكتاب الوجود المبسوط بالحق لقراءة ما جاء فيه من معان ، وهو وجود لا ريب فيه لأنه مشاهد منظور ، ولا يختلف فيه اسمان يتضادان مثل الكافر والمؤمن ، والوجود هدى للمتقين الذين اتقوا الله في كل شيء ، فوكلوا أمر الوجود إلى صاحب الوجود بما في ذلك وجود أنفسهم ..

٣ ـ (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣))

[البقرة : ٣]

الإيمان بالغيب إيمان فطري بدهي زرع زرعا في الروح ، ولهذا كان أصحاب الروح مقيمي الصلاة لأنهم موصولون أصلا ، ومن صلاتهم الموصولة ينفقون ما لديهم من علوم التوحيد.

٤ ـ (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٤))

[البقرة : ٤]

هؤلاء المؤمنون كلمات إلهية خصت بنعمة الإيمان أزلا ، فأصحابها موحدون بالفطرة أينما ظهروا ، يؤمنون بالقبل والبعد.

٥ ـ (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥))

[البقرة : ٥]

أولئك المهديون الفالحون فلحوا أرض الأبدان واستخرجوا ما فيها من كنوز الإيمان والعرفان.

٦ ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦))

[البقرة : ٦]

الكافرون محجوبون ، والمحجوبون لا يسمعون ولا يجيبون.

٧ ـ (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

[البقرة : ٧]

٩

الختم الطبع ، فهؤلاء مطبوعون على الكفر ، لا رجاء لهم ، والطبع في العين ، ومن العين إلى القلب والسمع والبصر ، إذ لطيفة الإنسان عين ، والعين جامعة للضدين ، وعذاب المطبوع بالكفر هو من نوع طبعه ، فهو في تجانس مع طبعه كتجانس أهل النار مع النار.

٨ ، ٩ ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩))

[البقرة : ٨ ، ٩]

الفريق الثالث من الناس هم المنافقون ، وهؤلاء أصحاب قلوب متقلبة لا ثبات لها على حال ، وتقلبهم في القبضة ، إذ سبحانه له الأمر من قبل ومن بعد ، وفي قبضته التقلب ، ولو شاء لقلب المنافقين مؤمنين ، سبحانه أعطى كل ذي حق حقه من اليقين.

١٠ ، ٢٠ ـ (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦) مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

[البقرة : ١٠ ، ٢٠]

الحديث عن أصحاب الضلالة الذين يتقلبون بين النور والظلمة فلا يميزون بينهما لغلبة الرين على قلوبهم ، والقلب في مجال التقلب لا حقيقة له إلا ما تسول له نفسه ، ودليل هؤلاء الفكر ووهمه وخياله ، والطرق التي يشقها ويعبدها ويدعو القلب للسير عليها ، وليس للفكر من دليل يستند إليه ويقوم به إلا الظن ، والظن لا يغني عن الحقيقة شيئا ، وترى أصحاب الفكر يسخرون من أصحاب العقيدة ويستهزئون ، لأن هؤلاء في زعمهم هم الذين يتبعون الظن لا التفكير الصحيح القائم على التحليل والتركيب والربط بين المقدمات والنتائج ، وأكبر دليل على هذا موقف العقلانيين من الصوفيين أصحاب الكشف والذوق ، فكم تهجم هؤلاء على أرباب الحقيقة المكاشفين ، ولكم باؤوا بالفشل والخذلان ، إذ حكم بعضهم على بعض ، وخطأ بعضهم بعضا ، حتى آل الجميع إلى نار الفرقة والخلاف.

١٠

٢١ ـ (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١))

[البقرة : ٢١]

الدعوة لعبادة الرب الخالق الذي هو أسّ الفكر وقواه ، وقوله : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) دعوة أيضا لاتقاء أساليب الفكر المتضاربة والمتقلبة.

٢٢ ـ (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

[البقرة : ٢٢]

الأرض بمثابة النفس ، ولذلك وصفها سبحانه بالفراش أي ما فرش ، والنفس فرشت ليقوم بناء السماء أي الروح ، والتسوية قلب ابن آدم ، أنزل الله من سماء الروح ماء العلم اللدني ، فأخرج ثمرات تلك العلوم الوهبية رزقا للقلب اليتيم ، وحذر سبحانه من أن يجعل الإنسان له ، أي لله ، ندا ، والند في هذا الظهور هو المظهر ، أي الإنسان نفسه شريك الربوبية في الملك باعتباره الاسم الظاهر.

٢٣ ـ (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣))

[البقرة : ٢٣]

التحدي بإتيان سورة من مثل سور الكتاب الذي هو بحد ذاته معجزة لأنه تنزيل من لدن الحكيم العليم ، هذا التحدي وضع حدا لما هو بشري إنساني ولما هو إلهي خلاق ، ولقد كانت العرب أرباب الفصاحة والبلاغة ، ومع هذا فلم يستطع أحد منهم قبول هذا التحدي ، كما مرت القرون تباعا ، جاء فيها أعلام الأدب من النثر والشعر ، فما بلغ أحد منهم مستوى القرآن ولا أفقه ومنزلته الأدبية والبلاغة.

٢٤ ـ (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

[البقرة : ٢٤]

النار بمثابة نار الطبائع ، ووقودها ما طبع به أهلها كما النقش في الحجارة ، وكل مطبوع كافر لأن طبعه حجاب عن ربه.

٢٥ ـ (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

[البقرة : ٢٥]

الكلام موجه لأصحاب القلوب المؤهلة لتلقي العلوم الوهبية التي هي ثمار إلهية لا نظير لها في عالم الطبائع ، وقولهم هذا الذي رزقنا من قبل يعني أن أصحاب هذه القلوب يوهبون

١١

العلم المركوز فيهم والمضمر ، فهم يستشعرونه بالفطرة ويحدسون.

٢٦ ـ (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦))

[البقرة : ٢٦]

المثل المثال وهو نتاج اسمه الحي الذي هو الحد الفاصل بين واجب الوجود والممكن الوجود ، فكل ما عدا الله قائم باسمه الحي ، ولا سبيل إلى تجاوز هذا الحد الذي هو الحياة .. ولهذا ضرب الله مثلا خلق البعوضة التي هي على صغر حجمها وحقارتها مثل حي لعظمة الخالق إذ رغم تقدم الإنسان في مضمار الحضارة العلمية فهو عاجز عن خلق بعوضة أو أكبر منها أو أصغر.

وقوله : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً) فيفيد عدم اعتبار الكفار بالموعظة ، إذ هم يردون ما يرون من آيات الطبيعة إلى الطبيعة نفسها باعتبارها الصانعة الخالصة.

٢٧ ـ (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

[البقرة : ٢٧]

نقض الميثاق إشارة إلى عالم الذر حيث كانت الأسماء مطوية ، وهو ما يقال بلغة الفلسفة : كائن بالقوة ، فلما انتشرت الأسماء خرج الأصيل فآمن ، وخرج النقيض فكفر.

٢٨ ـ (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨))

[البقرة : ٢٨]

الموت كون الوجود في حال العدم قبل الإحياء ، وكل ما في الحياة من حي قائم باسمه الحي ، إذ أن حياته ليست منه ، والموت الثاني موت الاسم ، وفيه يرى المكاشف نفسه مسلوبا من ادعائه ، وإن كل لما جميع لدى الله محضرون ، وإليه راجعون ، وهذا الرجوع هو ما تسميه الصوفية البقاء بعد الفناء وهو بقاء بالله.

٢٩ ـ (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

[البقرة : ٢٩]

الأرض المهد ، وهي إشارة إلى الهيولى أو المادة الأولى ، والسماء الذر أي النور ، والسموات السبع محل الصفات الإلهية السبع قائمة باسمه العليم.

٣٠ ـ (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها

١٢

وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠))

[البقرة : ٣٠]

الملائكة صاحبة المعقولات في حال الطي ، والأصل صفته الخير كما قال أفلوطين ، وبنشر المعقولات خرج الأذلان التابعان لاسمه المزدوج الرافع الخافض ، ومن جانب الخفض انتشر الشر وسفكت الدماء ، والظاهر ، كما قالت الملائكة ، شر ، والباطن فتق الطي ، ولهذا كان جواب الحق سبحانه (إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

٣١ ، ٣٣ ـ (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

[البقرة : ٣١ ، ٣٣]

آدم الجمعية الأسمائية في حالي الطي والنشر ، فلهذا جمع لهذا المخلوق النوعي ، والمخلوق على صورة الرحمن ، ما لم يجمع لأي مخلوق نوعي آخر في حال الطي ، إذ أن خروج المعقولات من القوة إلى الفعل يعني تفتق قوى الأسماء ، فالأسماء ذاتية ، مرتقة ، لا حول لها ولا قوة ، وآدم مفتقها ومخرجها من الطي إلى النشر ، والمعقول ما لم يفتق لا دور له ولا حكم بل ولا وجود فهو والعدم سيان ، فقولك أنا كريم ، دون أن يتعدى قولك إلى فعلك لا معنى له ، ولهذا تجد الناس إذا سمعوا المدعي يدعى ترجحوا بين الشك واليقين ، أما إذا رأوا فعله زال الشك وبقي اليقين.

٣٤ ـ (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤))

[البقرة : ٣٤]

إبليس شق من الاسم المزدوج ، فله الخفض ، فهو الحجاب المسدل بين الحق والخلق.

٣٥ ، ٣٦ ـ (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦))

[البقرة : ٣٥ ، ٣٦]

في حديث للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن الشجرة الحنطة ، والحنطة رمز الحياة ، والحياة العالم الحي ، أي العيان ، فالآية تضع آدم وزوجه بين العدم والوجود ، ولما كان سبحانه الحي القيوم ، كان آدم وزوجه في أحضان الألوهية ، أي في الجنة ، ومفارقة الألوهية هي الحجاب الذي أسدله إبليس بين آدم وزوجه من جهة وبين الله من جهة أخرى ، فالنفي إبعاد ، والإبعاد لحكمة ، لأنه من غير الإبعاد لا تقريب ، وبالتالي لا علم ، والقصد من خلق ابن آدم التعلم ومعرفة الله.

١٣

٣٧ ـ (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧))

[البقرة : ٣٧]

الكلمات نور الهدى الذي يتم به إنارة القلب بعد هبوطه إلى عالم الحس ، والتوبة ، كما قال الإمام الغزالي : واقعة تحت الوجوب ، فما من تائب إلا وتوبته فضل من الله تعالى لا بعمله هو ..

٣٨ ، ٣٩ ـ (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

[البقرة : ٣٨ ، ٣٩]

الخطاب موجه إلى الجمع والكثرة لا إلى فرد النوع ، وفي الخطاب نكتة ذلك أن الآية تفيد المستقبل باعتبار ما سيأتي من آدم وحواء من نسل ، والحديث عن حضرة أسمائية سابقة على الخروج العياني ، والأسماء أصلها اسم واحد هو اسم الله الأعظم وهو الاسم الذي فسره أبو يزيد البسطامي بأنه لا إله إلا الله ، ثم أضاف مخاطبا السائل عن اسم الله الأعظم : ثم لا تكون أنت هناك ، وقول البسطامي يكشف عن علم عظيم مفاده أن الأسماء في تمظهرها تكشف كثرة ، لكنها في بطنانها حضرة واحدة هي مجلى الأحد ، وهذا المجلى هو العقل الإلهي المتجلي في النور المحمدي.

فالتأويل لا يختص بحدث زماني ومكاني ، وإلا لما كان كلام الله سبحانه أزليا أبديا معبر عن قيومية الحق ، فالحضرة من وجه هي عقل سميت آدم ، وهي من وجه آخر نفس منفعلة سميت حواء ، وكلا الوجهين أصل للكثرة ، وهذا هو معنى قوله سبحانه : (اهْبِطُوا ،) ففعل الهبوط دائم إذ في كل خروج نفسي من الروح الإلهي ثمة هبوط والهبوط خروج.

٤٠ ، ٥٠ ـ (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨) وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٠))

[البقرة : ٤٠ ، ٥٠]

١٤

الخطاب موجه إلى أهل الظاهر ، أي إلى الكثرة ، ورمز إليهم ببني إسرائيل الذين عبدوا المظاهر عند ما اتخذوا العجل الذهبي إلها والعجل ولد البقرة ولما كان عجلا ففعله مازال بالقوة .. والإشارة إلى ما للعقل من قوى وإمكانات مركوزة فيه ، وما إن يراهق العقل البلوغ حتى تمارس هذه القوى عملها ، والسؤال هو : من أين أتت هذه القوى ومن الذي ضمنها العقل؟ إننا نرى ظاهرة الفكر الإنساني الذي تميز به عن بقية المخلوقات ، وبه ساد الإنسان العالم ، ولكن عند ما يرد الإنسان عقله إليه فقط ، غير معترف بالله له خالقا ، فإنه يكون من أهل الحجاب ، ويكون مثل خراف بني إسرائيل الضالة.

٥١ ، ٥٣ ـ (وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (٥١) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٢) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (٥٣))

[البقرة : ٥١ ، ٥٣]

الأربعون ليلة مدة الخلوة التي يدخلها المعتكف فيخرج منها عارفا بالله ، وفيها تلقى موسى ألواح المعرفة الإلهية والحكمة.

٥٤ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٥٤))

[البقرة : ٥٤]

حذر موسى عليه‌السلام قومه من اتخاذ العجل إلها يعبد ، وذكرهم بالبارئ الذي يبرئ الإنسان مما يضله ، وقال سبحانه في موضع آخر : (إِنَّ اللهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ) [التوبة :١١١] ، فهذه اللطيفة هي الوديعة التي استودعها الله الإنسان ، وهي العارية التي أعاره إياها ، فنفسك ليست لك ، وإن بدت أنها لك ، وأنت لست لها ، وإنما أنت مخلوق لتعبد الله وتعرفه من خلال نفسك.

٥٥ ، ٥٦ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (٥٥) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٥٦))

[البقرة : ٥٥ ، ٥٦]

قضية رؤية الله جهرة ، أي عيانا ، من أكبر القضايا التي فصلت بين المؤمنين والكافرين ، فلو لا هذه القضية ما كان هناك مشكلة أصلا ، فلو كان الله يرى عيانا لبت الأمر وقضي فلا خلاف ، والأصل في أن يكون ثمت خلاف.

والصاعقة التي أخذت القوم من الصعق ، أي الإبادة ، والإشارة إلى باطن الأمر الذي لو كشف لعرف معنى قوله تعالى في موضع آخر : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) [الزمر : ٦٨] ، فالصعق باطن الأمر ، وهو دائم ، ولكنه مستور لحكمة.

٥٧ ـ (وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما

١٥

ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٥٧))

[البقرة : ٥٧]

الغمام إشارة إلى العالم الظاهري المادي الذي هو عالم الذر ، أو الذرة ، والتظليل للإظهار ، فلو لا الظل لبرز حكم الصعق السابق ، أما المن والسلوى فهما غذاء إلهي يمد به القلب من قبل الروح الأمين من العلوم والمعارف.

وذكر في قصص الأنبياء أن المؤرخ قال : السلوى العسل بلغة كنانة ، قال شاعرهم :

وقاسمها بالله جهدا لأنتم ألذ من السلوى إذا ما نشورها ، ومعلوم أن العسل رمز الحكمة في تأويل الأحاديث وتعبير الأحلام.

٥٨ ـ (وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (٥٨))

[البقرة : ٥٨]

القرية البدن ، والدخول للقوى ، فالقوى بحاجة إلى محل تمارس فيه عملها ، وإلا لظلت معطلة عاطلة عن العمل ، والباب القلب الذي هو مستودع الحق وعرش فعله ، والسجود معرفة أن القلب عبد من عباد الرحمن ، أمره في قبضة السلطان القاهر فوقه.

٥٩ ـ (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٥٩))

[البقرة : ٥٩]

تبديل القول حمل الأمر على غير محمله الحقيقي الذي أشارت الأنبياء إليه ، فجميع الرسالات دعت إلى الوحيد ، لكن أهل الظاهر أخذوا القشور وتركوا اللباب ، فإذا الأديان مجموعة من الطقوس ، إن نظر إليها من حد هذا المنظار عدت وثنية.

٦٠ ـ (وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٦٠))

[البقرة : ٦٠]

العصا القدرة ، وهي من الصفات الإلهية السبع ، والحجر الحجاب .. والعيون الاثنتا عشرة الحواس الظاهرة والباطنة إضافة إلى الروح والقلب ، فهذه كلها من عطاءات الله الذي شاء أن يخرج ما لديه من علوم للمتعلمين العابدين.

٦١ ـ (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٦١))

[البقرة : ٦١]

١٦

الطعام الواحد الطعام الإلهي ، وهو مثل المائدة التي أنزلها الله سبحانه على الحواريين ، والطعام الإلهي قانون ودستور وحكم لكن القوم طالبوا بطعام آخر ، وهو طعام أرضي ، والطعام الأرضي هو ما تطعمه الحواس ، فهو إذن محسوسات ، وهنا يلتقي بنو إسرائيل عبدة العجل بالفلاسفة والمفكرين الحسيين الذين لا يؤمنون بغير ما يرد من باب المحسوسات ، وهم كثير ، وترى منذ بدء الخليقة انقسام الناس بين مؤمنين بالطعام الإلهي وبين ملحدين ومشركين.

وقوله : (اهْبِطُوا مِصْراً) يعني مدينة البدن ، أي مجمع الحواس ، لأنه أضاف قائلا :

(فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ،) ففي مجمع البدن كل ما يطلبه القلب من طعام الأرض ، ورمز إليه بالبقل والقثاء والثوم والعدس والبصل.

وقوله : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ ،) يعني حاصل محصلة الاعتماد على عالم العيان دون عالم الغيب ، إذ أن هذا العالم محدود ، وإمكاناته ليست منه ، وترى علماء المادة والطبيعة حتى يومنا هذا قد علموا قليلا من الحقائق ، وظلوا جاهلين أكثرها ، وهم يصرحون إذا ما رأوا ظاهرة محيرة هذا سر من أسرار الطبيعة لم نكتشفه بعد ، فالنتيجة إذا انقطاع المدد الإلهي عن الناس ، فظلوا في حيرتهم يعمهون.

٦٢ ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

[البقرة : ٦٢]

استثنى سبحانه من أهل الظاهر المؤمنين واليهود والنصارى والصابئين الذين آمنوا بالعالمين الظاهر والباطن ، بالعيان والعين ، بالمادة والروح ، فهؤلاء يأكلون كل طعام.

٦٣ ، ٦٤ ـ (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))

[البقرة : ٦٣ ، ٦٤]

الطور إشارة إلى التجلي الإلهي بالقهر ، إذ لما تجلى سبحانه للجبل خر موسى صعقا ، فالجبل إشارة إلى الفكر ، إذ الفكر يشع عن الدماغ في الرأس ، والجبل ما علا من الأرض ، والأخذ بالقوة الأخذ عن الفكر ، على ألا يغفل القلب عن أن الفكر هو من خلق الرحمن ، سبحانه ميز الإنسان بالفكر ، فشرفه وفضله على بقية المخلوقات.

٦٥ ، ٦٦ ـ (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

[البقرة : ٦٥ ، ٦٦]

السبت بمثابة الجمعة عند المسلمين ، فهو إشارة إلى الجمع ، والوصول إلى الجمع يقينا

١٧

بالكشف يعني كشف الفاعل الحقيقي في الوجود ، ولهذا لا يعمل اليهود عملا يوم السبت ، ولهذا رمز ، ورمزه الإيمان والتسليم بصاحب الأمر والفعل ، أما إذا ظل الإنسان مؤمنا بأنه هو الفاعل ، لا الروح فيه ، فهو بمثابة القرد لا يعي حقيقة أمره.

فالإنسان يتصرف في ملك ليس هو صاحبه ، وإن بدا الأمر ظاهرا كذلك.

٦٧ ـ (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧))

[البقرة : ٦٧]

البقرة كناية عن النفس ، والآية تتمة لما سبقتها من حديث عن رفع الطور ، فالنفس دابة منقادة لله ، وهي القلب الذي هو في قبضة الرحمن ، وذبحها ، أي نحرها ، أي التضحية بها ، أي الخلاص من قولك أنا ، ضرورة لكشف الحقيقة.

٦٨ ، ٦٩ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩))

[البقرة : ٦٨ ، ٦٩]

النفس خالدة لأنها إلهية ، فلا يشملها زمان ، فهي من قبل الزمان ، والزمان من صنعها ، ولهذا وصفت بأنها ليست مسنة ولا صغيرة ، بل هي بين بين ، وهذا البين هو تأرجح النفس بعد التعيين بين قوسي الزمن.

والنفس صفراء ، والصفرة من ألوان الطيف ، فالإشارة إلى شفافية النفس ولطفها.

٧٠ ، ٧١ ـ (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١))

[البقرة : ٧٠ ، ٧١]

النفس لم تخلق لتكون مطية للمادة ، بل المادة مطية لها ، ولهذا وصفها سبحانه بأنها غير ذلول ... والخروج على الذل هذا هو من تعظيم الحق لهذا الخلق الإلهي الذي لا يدرج في فعل كن الوجودي ، لأن النفس صورته سبحانه ووجهه الظاهر.

٧٢ ، ٧٣ ـ (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣))

[البقرة : ٧٢ ، ٧٣]

الحديث عن قتل النفس الحديث عن مصير النفس الجزئية بعد موت البدن ، وهي مسألة عالجتها الفلاسفة كثيرا ، واختلفت فيها الآراء ، والحقيقة أن النفس باعتبارها المرآة فلا وجود لها بذاتها بل بأصلها وهو الحق ، لذلك فإن الحديث عن الجزء والجزئي أمر غير وارد في

١٨

حضرة هي من جهة وحدها ، وهي من جهة أخرى أجزاء أو أنها تبدو أجزاء.

٧٤ ـ (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

[البقرة : ٧٤]

قسوة القلب تغلفه بالمحسوسات والشهوات وحجاب الأنا ، والنفس من جهة التعيين إن حبست في حدود التعيين انقطع موردها من الروح فأصيبت بالقسوة ... أما إذا ظل ضياء الروح يمدها فإن أنهار العلوم تتفجر منها ، وما خلق الله هذا الوجه المتعين إلا ليعرض على شاشته علومه.

٧٥ ـ (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥))

[البقرة : ٧٥]

تحريف كلام الله تحريف دين التوحيد الذي كان إبراهيم عليه‌السلام أباه ورائده ، واليهود يقولون إن إبراهيم نبيهم ، ولكن ما أتى به إبراهيم ليس الكلام الوارد في توراتهم الذي بين أيديهم ، فهذا الكتاب محرف ، والتحريف حدث من ناحية التوحيد ، وما كانت ديانة التوحيد لتختلف في جوهرها عن ديانة سماوية إلى أخرى ... لكن الناس من بعد نزول الرسالات هم الذين حرفوا ما أنزل.

٧٦ ، ٨١ ـ (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١))

[البقرة : ٧٦ ، ٨١]

الحديث عن جوهر التوحيد يفضي إلى السلم وإطفاء نار الحرب التي كان يوقدها بنو إسرائيل. ومع هذا فالمرء واجد في توراة اليوم أصواتا تدعو إلى الحرب والشنآن واتخاذ الناس مطايا ، فالخلاف بين الأصل وغير الأصل هو ما حمل علماء بني إسرائيل على إخفاء الحق تحقيقا لغايات وأطماع.

٨٢ ، ٨٥ ـ (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢) وَإِذْ

١٩

أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (٨٣) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٨٤) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٨٥))

[البقرة : ٨٢ ، ٨٥]

كسب الخطيئة الغلاف الذي يغلف النفس فيحجبها عن النور الداخلي ، وهذا الكسب حاصل من حيث الاستعداد ، والاستعداد حاصل من حيث طبيعة الاسم ، وطبيعة الاسم تفضي إما إلى الجنة أو إلى النار.

٨٦ ـ (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٨٦))

[البقرة : ٨٦]

شراء الحياة الدنيا بالآخرة شراء عالم الحس والعيان بعالم الآخرة والروح ، وشتان ما بين العالمين ، فعالم الحس يحكمه التناقض والتبدل ولا ثبات له على حال ، وعالم الآخرة والروح يسوده السّلام والطمأنينة ، وهو الآن كما كان.

٨٧ ـ (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (٨٧))

[البقرة : ٨٧]

روح القدس روح الحياة ، وهو اسمه تعالى الحي ، وتأييده عيسى هو الذي مكنه من إتيان المعجزات كشفاء المرضى وإحياء الموتى.

٨٨ ـ (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (٨٨))

[البقرة : ٨٨]

القلوب الغلف المحجوبة عن الله ، والحقيقة أن الإنسان منذ ينفخ فيه الروح يغلف قلبه ، إذ يكون الروح من وراء الغلاف ، ولهذا قال عليه‌السلام : (إن لله سبعين ألف حجاب من نور وظلمة لو كشفها لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه البصر من خلقه).

٨٩ ـ (وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكافِرِينَ (٨٩))

[البقرة : ٨٩]

إتيان الأدلة على ما لدى الإنسان من علم بالأحداث المستقبلية هو من آياته تعالى ، وكان

٢٠