تفسير غريب القرآن

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تفسير غريب القرآن

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: الشيخ إبراهيم محمّد رمضان
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٧٩

١
٢

ابن قتيبة

أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدّينوري ، وقيل المروزي ، النحوي اللغوي صاحب كتاب «المعارف» و «أدب الكاتب» ، كان فاضلا ثقة ، سكن بغداد وحدث بها عن إسحاق بن راهوية وأبي إسحاق إبراهيم بن سفيان بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد بن أبيه الزيادي وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة ، وروى عنه ابنه أحمد وابن درستويه الفارسي ، وتصانيفه كلها مفيدة ، منها ما تقدم ذكره ، ومنها «غريب القرآن الكريم» و «غريب الحديث» و «عيون الأخبار» و «مشكل القرآن» و «مشكل الحديث» و «طبقات الشعراء» و «الأشربة» و «إصلاح الغلط» و «كتاب التقفية» و «كتاب الخيل» و «كتاب إعراب القراءات» و «كتاب الأنواء» و «كتاب المسائل والجوابات» و «كتاب الميسر والقداح» وغير ذلك. وأقرأ كتبه ببغداد إلى حين وفاته ، وقيل إن أباه مروزي ، وأما هو فمولده ببغداد ، وقيل بالكوفة ، وأقام بالدّينور مدة قاضيا فنسب إليها.

وكانت ولادته سنة ثلاث عشرة ومائتين ، وتوفي في ذي القعدة سنة سبعين ، وقيل سنة إحدى وسبعين ، وقيل أول ليلة في رجب ، وقيل منتصف رجب سنة ست وسبعين ومائتين ، والأخير أصح الأقوال ، وكانت وفاته فجأة ،

٣

صاح صيحة سمعت من بعد ثم أغمي عليه ومات ، وقيل أكل هريسة فأصابه حرارة ثم صاح صيحة شديدة ثم أغمي عليه إلى وقت الظهر ثم اضطرب ساعة ثم هدأ فما زال يتشهد إلى وقت السحر ، ثم مات رحمه‌الله تعالى.

وقتيبة : بضم القاف وفتح التاء المثناة من فوقها وسكون الياء المثناة من تحتها وبعدها باء موحدة ثم هاء ساكنة ، وهي تصغير قتبة بكسر القاف ، وهي واحدة الأقتاب ، والأقتاب : الأمعاء ، وبها سمي الرجل ، والنسبة إليه قتبيّ.

والدّينوري : بكسر الدال المهملة ، وقال السمعاني بفتحها وليس بصحيح ، وبسكون الياء المثناة من تحتها وفتح النون والواو وبعدها راء ، هذه النسبة إلى دينور ، وهي بلدة من بلاد الجبل عند قرميسين خرج منها خلق كثير.

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

الحمد لله الواحد الأحد الحي الصمد ، نحمده سبحانه وتعالى الحمد كله ونستغفره ونستعينه فهو أهل الحمد وأهل المغفرة.

ونشهد أن محمدا عبده ونبيه الأمي الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين.

وبعد ، هذا كتاب تفسير غريب القرآن للإمام ابن قتيبة وهو تتمة وإكمال لكتابه تأويل مشكل القرآن.

اللفظ الغريب هو في حقيقة الأمر من غامض المشكل الذي عمل ابن قتيبة رحمه‌الله وأدخله فسيح جناته ، على توضيحه وإزالة إبهامه ليكون قريبا من الأفهام.

وقد أفرد الغريب في كتاب مستقل رغبة عن الإطالة في شرح المشكل ولأن بعض القراء من المتخصصين والباحثين قد يكون على علم وفهم بالمشكل إنما يستعصي عليه فهم بعض الغريب ولهذا فقد جعل المشكل في كتاب مستقل والغريب في كتاب آخر فيجد الباحث والقارئ حاجته دون طويل بحث في كتاب واسع يجمع الموضوعين معا بين دفتيه.

٥

وقد أوضح الإمام هدفه في هذا الكتاب في المقدمة التي بدأ بها بحثه فقال : «وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا أن نختصر ونكمل وأن نوضح ونجمل ، وأن لا نستشهد على اللفظ المبتذل» ثم تابع بعد هذا قوله : «وأن لا نحشو كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد».

من هنا نرى أن الإمام لم يلجأ كبعض المتقدمين إلى نقل حديث السلف في التفسير بألفاظه عينها ثم محاولة تفسير هذا التفسير لأن هذا باب يقود إلى التطويل والاستفاضة والاستغراق في كثير من الأحيان في أبحاث لغوية أو مناقشات للأسانيد لا يحتاج إليها القارئ الطالب للمعرفة والفهم لغريب القرآن هذا من جهة ومن جهة ثانية فإن من يريد الإطلاع على هذه المواضيع بعينها وكما هي فما عليه إلّا العودة إلى كتب السلف ليجدها جاهزة حاضرة كاملة غير مجتزأة كما هي في الكتب التي أخذت عنها فصولا ومقاطع وجملا ثم أضافت إليها من مصادر أخرى ما يقابلها أو يخالفها أو يؤيدها من الأقوال.

هذا بالإضافة إلى أن كتاب تفسير غريب القرآن للإمام ابن قتيبة حافظ على منهجية الساق في البحث ولم يخرج عن حدود معانيهم فهو مستنبط من كتب التفسير وكتب أصحاب اللغة العالمين بها ، لا تكلف فيه ولا استغراق.

لقد سبق الإمام ابن قتيبة في تأويل غريب القرآن وتفسيره أئمة كثر منهم :

١ ـ آبان بن تغلب.

٢ ـ نورج بن عمر السدوسي.

٣ ـ النضر بن شميل.

٤ ـ محمد بن المستنير الشهير بقطرب.

٥ ـ يحيى بن زياد الشهير بالفراء.

٦ ـ أبو عبيدة معمر بن المثنى.

٧ ـ القاسم بن سلام.

٨ ـ الأخفش.

٩ ـ الكسائي.

وسواهم.

٦

وقد اعتمد الإمام ابن قتيبة على كتب السابقين وبالأخص كتاب «معاني القرآن» للفراء وكذلك كتاب معمر بن المثنى (أبو عبيدة) «مجاز القرآن» بل إنه نقل في بعض المواضع شرحهما بلفظه دون تعديل أو تغيير.

ولقد عمل الشيخ إبراهيم رمضان على المقارنة بين النسخ العديدة المطبوعة منه لضبط الاختلاف في بعض الكلمات كما تمّ ضبط آي القرآن الكريم على رواية حفص بن عاصم رضي الله عنه.

وشرح بعض المعاني والكلمات التي صارت بالنسبة للأجيال المعاصرة غريبة قليلة الاستعمال.

كما خرّج الأحاديث التي استشهد بها الإمام ابن قتيبة على كتب الصحاح وترجم لرواتها وناقليها عند اللزوم.

وإن اختلفت الرواية المذكورة في المتن مع رواية الصحاح للحديث ، ذكر الحديث في الهامش كما أوردته كتب الصحاح.

وفيما حال اعتمد ابن قتيبة على رواية للآية غير رواية حفص أشار إليها ومن أي القراءات هي ليكون القارئ على بينة فلا يظن أن هذا الاختلاف ناتج عن خطأ طباعي.

وأخيرا ، نرجو عزيزي القارئ أن يكون في تقديم هذا الكتاب إليك فائدة نأمل دائما أن تحصل عليها وذلك لما فيه خير دنيانا ودنياك وآخرتنا وآخرتك ، فوفقنا وإياك وهدانا وهداك سواء السبيل إنه نعم المولى ونعم النصير.

سعيد اللحام

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم

قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (١) :

نفتتح كتابنا هذا بذكر أسمائه الحسنى ، وصفاته العلا ، فنخبر بتأويلهما واشتقاقهما ، ونتبع ذلك ألفاظا كثر تردادها في الكتاب لم نر بعض السّور أولى بها من بعض ، ثم نبتدىء في تفسير غريب القرآن ، دون تأويل مشكله : إذ كنا قد أفردنا للمشكل كتابا جامعا كافيا ، بحمد الله.

* * *

__________________

(١) هو الإمام أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري وقيل المروزي الإمام النحوي اللغوي صاحب كتاب المعارف وأدب الكاتب وغريب القرآن ومشكل الحديث وطبقات الشعراء واعراب القرآن وكتاب الميسر والقداح وغيرها ، وكان فاضلا ثقة ، سكن بغداد وحدث بها عن ابن راهويه وطبقته ، روى عنه ابن أحمد وابن درستويه وكان موته فجأة. قال ابن خلكان : كان فاضلا ثقة سكن بغداد وحدث بها عن إسحق بن راهوية وأبي إسحق إبراهيم بن سعيد بن سليمان بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن زياد وأبي حاتم السجستاني وتلك الطبقة ، وتصانيفه كلها مفيدة منها غريب القرآن وغريب الحديث وعيون الأخبار ، ومشكل القرآن ومشكل الحديث وطبقات الشعراء والأشربة وإصلاح الغلط وغير ذلك وأقرأ كتبه ببغداد إلى حين وفاته ، وقيل أن أباه مرزوي ، أما هو فمولده ببغداد وقيل بالكوفة وأقام بالدينور قاضيا مدة فنسب إليها ، وكانت ولادته سنة ثلاث عشرة ومائتين. توفي سنة ست وسبعين ومائتين. (انظر شذرات الذهب ص ١٦٩ ج ٢).

٩

وغرضنا الذي امتثلناه في كتابنا هذا : أن نختصر ونكمل ، وأن نوضّح ونجمل ، وأن لا نستشهد على اللفظ المبتذل (١) ، ولا نكثر الدّلالة على الحرف المستعمل ، وأن لا نحشو كتابنا بالنحو وبالحديث والأسانيد. فإنّا لو فعلنا ذلك في نقل الحديث : لاحتجنا إلى أن نأتي بتفسير السلف ـ رحمة الله عليهم ـ بعينه ، ولو أتينا بتلك الألفاظ كان كتابنا كسائر الكتب التي ألفها نقلة الحديث ، ولو تكلّفنا بعد اقتصاص (٢) اختلافهم ، وتبيين معانيهم ، وفتق جملهم بألفاظنا ، وموضع الاختيار من ذلك الاختلاف ، وإقامة الدلائل عليه ، والإخبار عن العلة فيه ـ : لأسهبنا (٣) في القول ، وأطلنا الكتاب ، وقطعنا منه طمع المتحفّظ وباعدناه من بغية المتأدّب ، وتكلّفنا من نقل الحديث ، ما قد وقيناه وكفيناه.

وكتابنا هذا مستنبط من كتب المفسرين ، وكتب أصحاب اللغة العالمين. لم نخرج فيه عن مذاهبهم ، ولا تكلّفنا في شيء منه بآرائنا غير معانيهم ، بعد اختيارنا في الحرف أولى الأقاويل في اللغة ، وأشبهها بقصة الآية.

ونبذنا منكر التأويل ، ومنحول التفسير. فقد نحل قوم ابن عباس ، أنه قال في قول الله جل وعز (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) [سورة التكوير آية : ١] : إنها غوّرت ، من قول الناس بالفارسية : كوربكرد.

__________________

(١) البذلة والمبذلة : ما يمتهن من الثياب ، وابتذال الثوب وغيره امتهانه والتبذّل : ترك التصاون. (أنظر الصحاح ص ١٦٣٢).

(٢) قص أثره : تبعه من باب رد وقصصا أيضا ، ومنه قوله تعالى : (فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً) والقصّة الأمر والحديث ، وقد اقتص الحديث : رواه على وجهه (انظر مختار الصحاح ص (٥٣٨).

(٣) أسهب : أكثر الكلام فهو مسهب بفتح الهاء ولا يقال بكسر الهاء وهو نادر (انظر مختار الصحاح ص ٣١٨).

١٠

وقال آخر (١) في قوله : (عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً) [سورة الإنسان آية : ١٨] : أراد سلني سبيلا إليها يا محمد.

وقال الآخر في قوله : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) [سورة المطففين آية : ١] : إن الويل : واد في جهنم.

وقال الآخر في قوله : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) [سورة الغاشية آية : ١٧] : إن الإبل : السحاب.

وقال الآخر في قوله : (ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) [سورة التكاثر آية : ٨] : إن النعيم : الماء الحار في الشتاء.

وقال الآخر في قوله : (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [سورة الأعراف آية : ٣١] : إن الزينة : المشط.

وقال آخر في قوله : (وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ) [سورة الجن آية : ١٨] : إنها الآراب التي يسجد عليها المرء ، وهي جبهته ويداه ، وركبتاه وقدماه.

وقال الآخر في قوله : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما ، فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى) [سورة البقرة آية : ٢٨٢] : أن تجعل كلّ واحدة منهما ذكرا ، يريد : أنهما يقومان مقام رجل ، فإحداهما تذكّر الأخرى.

مع أشباه لهذا كثيرة ، لا ندري : أمن جهة المفسرين لها وقع الغلط؟ أو من جهة النقلة؟

وبالله نستعين ، وإيّاه نسأل التوفيق للصواب.

__________________

(١) القائل هو ابن عطاء.

١١

اشتقاق اسماء الله وصفاته ، وإظهار معانيها

١ ـ «الرحمن الرحيم» : صفتان مبنيتان من «الرحمة». قال أبو عبيدة : وتقديرهما : ندمان ، ونديم.

* * *

٢ ـ ومن صفاته : «السّلام». قال : (السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ) [سورة الحشر آية : ٢٣] ، ومنه سمي الرجل : عبد السلام ، كما يقال : عبد الله.

ويرى أهل النظر ـ من أصحاب اللغة ـ : أن «السلام» بمعنى السلامة ، كما يقال : الرّضاع والرّضاعة ، واللّذاذ واللّذاذة ، قال الشاعر :

تحيّي بالسلامة أمّ بكر

فهل لك ـ بعد قومك ـ من سلام؟

فسمى نفسه ـ جل ثناؤه ـ «سلاما» : لسلامته ممّا يلحق الخلق : من العيب والنقص ، والفناء والموت.

قال الله جل وعز : (وَاللهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ) [سورة يونس آية : ٢٥] ، فالسلام : الله ، وداره. : الجنة. يجوز أن يكون سماها «سلاما» : لأن الصائر إليها يسلم فيها من كل ما يكون في الدنيا : من مرض ووصب ،

١٢

وموت وهرم ، وأشباه ذلك. فهي دار السلام. ومثله : (لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ) [سورة الأنعام آية : ١٢٧].

ومنه يقال : السلام عليكم. يراد : اسم السلام عليكم. كما يقال : اسم الله عليكم.

وقد بيّن ذلك لبيد (١) ، فقال :

إلى الحول ، ثم اسم السلام عليكما

ومن يبك حولا كاملا ، فقد اعتذر

ويجوز أن يكون [معنى] «السلام عليكم» : السلامة لكم. وإلى هذا المعنى ، يذهب من قال : «سلام الله عليكم ، وأقرئ فلانا سلام الله».

وقال : (وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ ، فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ) [سورة الواقعة الآية : ٩٠ ـ ٩١] ، يريد : فسلامة لك منهم ، أي : يخبرك عنهم بسلامة. وهو معنى قول المفسرين.

ويسمّى الصواب من القول «سلاما» : لأنه سلم من العيب والإثم. قال : (وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ ، قالُوا سَلاماً) [سورة الفرقان آية : ٦٣ ، أي : سدادا من القول.

* * *

٣ ـ ومن صفاته : «القيّوم» و «القيّام». وقرىء بهما جميعا.

وهما «فيعول» و «فيعال». من «قمت بالشيء» : إذا وليته. كأنه القيّم بكل شيء. ومثله في التقدير قولهم : ما فيها ديّور ودار.

٤ ـ ومن صفاته : «سبّوح».

__________________

(١) هو لبيد بن ربيعة الشاعر العامر الذي صدقه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحسن إسلامه وقيل تفوي سنة إحدى وأربعين وقيل مات في خلافة عثمان بالكوفة عن مائة وخمسين سنة. (انظر شذرات الذهب ص ٥٢ ج ١).

١٣

وهو حرف مبنى على «فعول» ، من «سبّح الله» : إذا نزّهه وبرّأه من كل عيب.

ومنه قيل : سبحان الله ، أي : تنزيها لله ، وتبرئة له من ذلك.

ومنه قوله : (يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ ، وَما فِي الْأَرْضِ) [سورة الجمعة الآية : ١ ، سورة التغابن الآية : ١].

وقال الأعشى :

أقول لمّا جاءنا فخره

سبحان من علقمة الفاخر

أراد : التبرؤ من علقمة. وقد يكون تعجب [بالتسبيح من فخره ، كما يقول القائل إذا تعجب] من شيء : سبحان الله.

فكأنه قال : عجبا من علقمة الفاخر.

* * *

٥ ـ ومن صفاته : «قدّوس».

وهو حرف مبنى على «فعول» ، من «القدس» وهو : الطهارة.

ومنه قيل : «الأرض المقدّسة» (١) ، يراد : المطهّرة بالتبريك. ومنه قوله حكاية عن الملائكة : (وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، وَنُقَدِّسُ لَكَ) [سورة البقرة آية : ٣٠] ، أي : ننسبك إلى الطهارة. و «نقدّسك ونقدّس لك» و «نسبح لك ونسبحك» بمعنى واحد.

وحظيرة القدس ـ فيما قاله أهل النظر ـ هي : الجنة. لأنها موضع

__________________

(١) في سورة المائدة الآية ٢١ قوله تعالى : (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ ...).

١٤

الطهارة من الأدناس التي تكون في الدنيا : من الغائط والبول والحيض ، وأشباه ذلك.

* * *

٦ ـ ومن صفاته : «الرّب».

والرب : المالك. يقال : هذا ربّ الدار ، وربّ الضّيعة ، وربّ الغلام. أي : مالكه ، قال الله سبحانه : (ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ) [سورة يوسف آية : ٥٠] ، أي : إلى سيدك.

ولا يقال لمخلوق : هذا الرب ، معرّفا بالألف واللام ، كما يقال لله. إنما يقال : هذا ربّ كذا. فيعرّف بالإضافة. لأن الله مالك كل شيء. فإذا قيل : الربّ ، دلّت الألف واللام على معنى العموم. وإذا قيل لمخلوق : ربّ كذا وربّ كذا ، نسب إلى شيء خاص : لأنه لا يملك [شيئا] غيره.

ألا ترى أنه قيل : «الله» ، فألزم الألف واللام : ليدلّ بها على أنه إله كل شيء. وكان الأصل : «الالاه». فتركت الهمزة : لكثرة ما يجري ذكره ـ عزوجل ـ على الألسنة ، وأدغمت لام المعرفة في اللام التي لقيتها ، وفخّمت وأشبعت حتى طبّق اللسان بها الحنك : لفخامة ذكره تبارك وتعالى : وليفرق أيضا ـ عند الابتداء بذكره ـ بينه وبين اللّات [والعزّى].

* * *

٧ ـ ومن صفاته : «المؤمن».

وأصل الإيمان : التصديق. قال : (وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ) [سورة يوسف آية : ١٧] ، أي : وما أنت بمصدّق ولو كنا صادقين. ويقال [في الكلام] : ما أومن بشيء مما تقول ، أي : ما أصدق بذلك.

١٥

فإيمان العبد بالله : تصديقه قولا وعملا وعقدا. وقد سمى الله الصلاة ـ في كتابه ـ إيمانا ، فقال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) [سورة البقرة آية : ١٤٣] ، أي : صلاتكم إلى بيت المقدس.

فالعبد مؤمن ، أي : مصدّق محقّق. والله مؤمن ، أي : مصدّق ما وعده ومحقّقه ، أو قابل إيمانه.

وقد يكون «المؤمن» من «الأمان» ، لاي لا يأمن إلا من أمنه [الله].

وقد ذكرت الإيمان ووجوهه ، في كتاب «تأويل المشكل».

وهذه الصفة ـ من صفات الله جل وعزّ ـ لا تتصرّف تصرّف غيرها ، لا يقال : أمن الله ، كما يقال : تقدّس الله. ولا يقال : يؤمن الله ، كما يقال : يتقدّس الله.

وكذلك يقال : «تعالى الله». وهو تفاعل من «العلو». و «تبارك الله» هو تفاعل من «البركة» و «الله متعال». ولا يقال : متبارك. لم نسمعه.

وإنما ننتهي في صفاته إلى حيث انتهى ، فإن كان قد جاء من هذا شيء ـ عن الرسول صلّى الله عليه وعلى آله ، أو عن الأئمة ـ : جاز أن يطلق ، كما أطلق غيره.

* * *

٨ ـ ومن صفاته : «المهيمن».

وهو : الشهيد. قال الله : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) [سورة المائدة آية : ٤٨] ، أي : شاهدا عليه. هكذا قال ابن عباس في رواية أبي صالح عنه.

١٦

وروى عنه ـ من غير هذه الجهة ـ أنه قال : «أمينا عليه».

وهذا أعجب إليّ ، وإن كان التفسيران متقاربين. لأن أهل النظر ـ من أصحاب اللغة ـ يرون : أن «مهيمنا» اسم مبنى من «آمن» ، كما بني «بطير» ومبيطر و «بيطار» من «بطر» قال الطّرمّاح :

كبزغ البطير الثقف رهص الكوادن

وقال النابغة :

شكّ المبيطر إذ يشفي من العضد

وكان الأصل ، «مؤيمن» ، ثم قلبت الهمزة هاء : لقرب مخرجهما ، كما تقلب في «أرقت الماء» ، فيقال : «هرقت الماء. وقالوا : ماء مهراق ، والأصل : ماء مراق. وقالوا : «إبرية وهبرية ، وأيهات وهيهات ، وإيّاك وهياك». فأبدلوا من الهمز هاء. وأنشد اخفش :

فهياك والأمر الذي إن توسعت

موارده ، ضاقت عليك مصادره

و «آمين» اسم من أسماء الله. وقال قوم من المفسرين ـ في قول المصلي بعد فراغه من قراءة أمّ الكتاب : «آمين» ـ : [أمين] قصر من ذلك ، كأنه قال : يا الله ، وأضمر «استجب لي» ـ : لأنه لا يجوز أن يظهر هذا في هذا الموضع من الصلاة ، إذ كان كلاما .. ثم تحذف ياء النداء.

وهكذا يختار أصحاب اللغة في «أمين» : أن يقصروا الألف ، ولا يطوّلوا. وأنشدوا فيه :

تباعد مني فطحل إذ سألته

أمين ، فزاد الله ما بيننا بعدا

١٧

ويفتحونها : لانفرادها ، وانقطاعها يضمر فيها : من معنى النداء. حتى صارت عندهم معنى «كذلك فعل الله».

وقد أجازوا أيضا «آمين» مطوّلة الألف. وحكوها عن قوم فصحاء. وأصلها : «يا أمين» بمعنى : يا الله. ثم تحذف همزة «أمين» استخفافا لكثرة ما تجري هذه الكلمة على ألسنة الناس. ومخرجها مخرج «آزيد». يريد : يا زيد. و «آ راكب» يريد : يا راكب. وقد سمعنا من فصحاء العرب : «آ خبيث» ، يريدون : يا خبيث.

وفي ذلك قول آخر ، يقال : إنما مدت الألف فيها ، ليطول بها الصوت. كما قالوا : أوه» مقصورة الألف ، ثم قالوا : «آوه» [ممدودة]. يريدون تطويل الصوت بالشكاية. وقالوا : «سقط على حاق رأسه» ، أي : على حقّ رأسه. وكذلك «آمين» : أرادوا تطويل الصوت بالدعاء.

وهذا أعجب إليّ.

* * *

وأما قول العباس بن عبد المطّلب (١) ، في مدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم :

حتى احتوى بيتك المهيمن من

خندف ، علياء تحتها النّطق

فإنه أراد : حتى احتويت ـ يا مهيمن ـ من خنف علياء ، فأقام البيت مقامه : لأن بيته إذا حلّ بهذا المكان ، فقد حل هو به. وهو كما يقال : بيته أعزّ بيت. وإنما يراد : صاحبه. قال النابغة :

__________________

(١) هو العباس بن عبد المطلب عم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله سلم وأبو الخلفاء العباسيين حسن بلاؤه يوم حنين ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يكرمه ويجله وكذلك الخلفاء الراشدون من بعده ، وكان صيتا ينادي غلمانه من سلع وهم بالغابة فيسمعونه وذلك على ثمانية أميال وكان موته أول رمضان سنة إثنتين وثلاثين عن ست وثمانية سنة وصلى عليه عثمان رضي الله عنه. (انظر شذرات الذهب ص ٣٨ ج ١).

١٨

وحلت بيوتي في يفاع ممنع

تخال به راعي الحمولة طائرا

ولم يكن بيته في جبل بهذه الصفة ، إنما أراد : أني ممتنع على من أرادني ، فكأني حللت في يفاع ممنّع.

* * *

٩ ـ ومن صفاته : «الغفور».

وهو من قولك : «غفرت الشيء» إذا غطيته. كما يقال : «كفرته» : إذا غطّيته. ويقال : كذا أغفر من كذا ، أي : أستر. و «غفر الخزّ والصوف» ما علا فوق الثوب منها : كالزّئبر. سمي «غفرا» : لأنه ستر الثوب. ويقال لجنّة الرأس : «مغفر» ، لأنها تستر الرأس. فكأن «الغفور» : الساتر لعبده برحمته ، أو الساتر لذنوبه.

ونحو منه قولهم : «تغمدني برحمتك» ، أي : ألبسني إياها. ومنه قيل : «غمد السيف» ، لأنه يغمد فيه ، أي : يدخل.

* * *

١٠ ـ ومن صفاته : «الواسع».

وهو الغنيّ. والسعة : الغنى. قال الله : (لنفق ذو سعة من سعته) [سورة الطلاق آية : ٧] ، أي : يعط من سعته.

* * *

١١ ـ ومن صفاته : «البارئ».

ومعنى البارئ» : الخالق. يقال : برأ الله الخلق يبرؤهم.

و «البريّة» : الخلق. وأكثر العرب والقراء : على ترك همزها ، لكثرة ما جرت على الألسنة. وهي «فعيلة» بمعنى «مفعولة».

١٩

ومن الناس من يزعم : أنها مأخوذة من «بريت العود».

ومنهم من يزعم : أنها من «البرى» ، وهو : التراب أي : خلق من التراب. وقالوا : لذلك لم يهمز.

وقد بينت هذا في كتاب «القراءات» ، وذكرت موضع الأخبار منه.

* * *

١٢ ـ ومثل البارئ : «الذّاريّ».

وهو : الخالق. يقال : ذرأ الله الخلق. وقال : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً) [سورة الأعراف آية : ١٧٩] ، أي : خلقنا. و «الذّرية» منه ، لأنها خلق الله من الرجل.

وأكثر القراء والعرب : على ترك همزها ، لكثرة ما يتكلم بها.

ومنهم من يزعم : أنها من «ذروت» أو «ذريت».

* * *

١٣ ـ ومن صفاته ما جاء على «فعيل» بمعنى «فاعل» ، نحو : «قدير» بمعنى «قادر» ، و «بصير» بمعنى «باصر» ، وسميع» بمعنى «سامع» ، و «حفيظ» بمعنى «حافظ» و «بدىء» بمعنى «بادىء الخلق» ، و «شهيد» بمعنى «شاهد» ، و «عليم» بمعنى «عالم» ، و «رقيب» بمعنى «راقب» ـ وهو : الحافظ ـ و «كفيل» بمعنى «كافل» ، و «خبير» بمعنى «خابر» ، و «حكيم» بمعنى «حاكم» ، و «مجيد» بمعنى «ماجد» وهو : الشريف.

* * *

١٤ ـ ومن صفاته ما جاء على «فعيل» بمعنى «مفعل» ، نحو : «بصير» بمعنى «مبصر» ، و «بديع الخلق» بمعنى «مبدع الخلق». كما

٢٠