ما هو نهج البلاغة

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني

ما هو نهج البلاغة

المؤلف:

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: العتبة العلوية المقدسة
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٢٠

١
٢

الإهداء

أهدي هذا العمل المتواضع إلى

سماحة سيدنا العلامة الكبير

أستاذ المحققين آية الله

السيد محمد رضا الحسيني الجلالي (دام عزه)

راجياً أنْ يَقَعَ منهُ مَوْقِعَ الرضا والقبول ...

عبد الستّار

٣
٤

قيل في نهج البلاغة

ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما أختاره السيد الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. جمع متفرقه وسماه بهذا الاسم (نهج البلاغة) ولا أعلم اسماً أليق بالدلالة على معناه منهُ. وليس في وسعي أن أصف هذا الكتاب بأزيد مما دل عليه أسمه ، ولا أن آتي بشيء في بيان مزيته فوق ما أتى به صاحب الاختيار. (محمد عبده / شرح نهج البلاغة ص ٤).

ففي كتاب نهج البلاغة ، فيض من آيات التوحيد والحكمة الإلهية تتسع به دراسة كل مشتغل بالعقائد وأصول التأليه وحكمة التوحيد. (عباس محمود العقاد / عبقرية الإمام علي : ص ١٢).

لا مفر من الاعتراف بان (نهج البلاغة) له أصل ، وإلا فهو شاهد على أن الشيعة كانوا أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ. وإني لأعتقد أن النظر في كتاب نهج البلاغة يُورث الرجولة والشهامة وعظمة النفس ، لأنه فيض من روح قهَّار واجَه المصاعب بعزائم الأسود. (الدكتور زكي مبارك / عبقرية الشريف الرضي : ج ١ ص ٢٢٣)

٥

٦

مقدمة

قسم الشؤون الفكرية والثقافية

الحمد لله الذي أظهر من آثار سلطانه وجلال كبريائه ما حيَّر لُبّ العقول من عجائب قدرته وورع خطرات همام النفوس عن عرفان كنه صفته ، وصلى الله على رسوله الصادع بالحق والناصح للخلق والهادي إلى الرشد والأمر بالقصد ، وعلى أهل بيته أزمِّة الحق وألسنة الصدق.

لا يختلف اثنان بان الإمام أمير المؤمنين ومولى الموحدين عليه‌السلام هو مشرع الفصاحة وموردها ـ بعد النبي الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومنشأ البلاغة ومولدها ، ومنه عليه السلام ظهر مكنونها ، وعنه أخذت قوانينها فكلامه عليه‌السلام فيه مسحة من العلم الإلهي وفيه عبقة من الكلام النبوي ، لذا صار كلامه وحديثه موضع اهتمام الباحثين ورجال الفكر من كل عصر وجيل وسيبقى كذلك ما دامت العقول تكتشف منطلقات جديدة لبناء هذا الإنسان حتى يعود إلى الصورة التي أراد لها الله تعالى أن تكون.

وقد جمع الشريف المرتضى مختارات من كلام خير من أعتلى منبراً بعد الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصنفها إلى ثلاثة أقسام هي :

الخطب واختار ٢٤٢ خطبة.

الكتب واختار ٧٨ كتاباً منها الطويل ومنها القصير.

الحكم أو قصار الكلم واختار ٤٩٨ عبارة أو الكلمات القصار.

وقد جزم الكثير من الكتاب ومنهم الكاتب والمؤرخ الشهير عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي بأن المجموع في نهج البلاغة من الدفة إلى

٧

الدفة معلوم الثبوت قطعي الصدور من الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام من فمه أو من قلمه.

وهناك بعض أرباب الهوى يقولون أن كثيراً من نهج البلاغة كلام مُحدث صنعهُ قوم من فصحاء الشيعة وربما عزوا بعضه إلى الرضي أبي الحسن وغيره.

فانبرت الأقلام الطاهرة والنفوس الكريمة لتبين الحقائق لكل من يحاول أن يغمض عينيه في واضحة النهار ، فهذا الكتاب لمؤلف غني عن التعريف يجلي الحق لذي عينين لمعرفة كلام الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام.

ومن أجل الحفاظ وإحياء الكتب التي أثرت المكتبة الإسلامية بكل ما يتعلق بالإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، قام قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة العلوية المقدسة بالطلب من السيد العلامة المحقق عبد الستار الحسني بتحقيق كتاب (ما هو نهج البلاغة) لمؤلفه السيد هبة الدين الشهرستاني وقد استجاب كريماً ، ونتقدم بالشكر الجزيل إلى مركز إحياء تراث السيد هبة الدين الشهرستاني في الكاظمية المقدسة لما بذلوه من تعاون كبير من خلال تزويدنا بالنسخة الخطية لهذا الكتاب وإبداء التعاون مستقبلاً.

وبعد الانتهاء من أعمال المراجعة والمطابقة بجهود منتسبي قسم الشؤون الفكرية والثقافية قام القسم بطباعة هذا الكتاب ونشره خدمة للدين والمذهب وطلاب الحقيقة.

٨

تقديم

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

يعدُّ كتاب (نهج البلاغة) من أهم الكتب التي حفظت للمكتبة الإسلامية مكانتها العالية في مجال العلم والأدب والتراث ، فقد حوى هذا السِفْرُ الخالد كلامَ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام الذي تغذى من مدرسة خاتم النبيين والمرسلين ص فكانت كلماته توحي إلى ذلك الأصل العظيم الذي مصدره الوحي الإلهي المبين ...

ومَنْ تتبع تلك الخُطَب والكلمات ، والوصايا والمواعظ لنهج البلاغة لتجسَّدَتْ هذه الكلمات الصادقة بحقائق معهودة لا يدانيها أدنى ريب ... ولذا رأينا اهتمام المفكرين والأدباء ـ من المسلمين وغيرهم ـ من المُطَّلعين على بلاغة لغة العرب وأسرارها بهذا الكتاب منذ قرونٍ عدة لما يحويه من الوحي الاصدق والإيمان البليغ ...

ومن تلك الكلمات التي وردت فيه ما قاله المستر (كربنكو) أستاذ الآداب العربية في كلية (عليكَره) الهندية عندما سُئل عن إعجاز القرآن الكريم ، فقال : (إنَّ للقرآن أخاً صغيراً يسمى نهج البلاغة ، فهل في إمكان أحدٍ أن يأتي بمثل هذا الأخ الصغير ، حتى يسوغ لنا البحث عن الأخ

٩

الكبير ...) وقال الشيخ (ناصيف اليازجي) يوصي ولده : (إذا شئتَ أن تفوق أقرانك في العلم والأدب ، وصناعة الإنشاء ، فعليك بحفظ القرآن ونهج البلاغة) ، ويقول الأستاذ الكبير (جورج جرداق) : (مَنْ تتبع سِيَر العظماء الحقيقين في التاريخ لا فرق بين شرقيٍّ منهم أو غربيٍّ ، ولا قديم ولا مُحْدَث ، أدركَ ظاهرة لا تخفى ، وهي أنهم على اختلاف ميادينهم الفكرية وعلى تباين مذاهبهم في موضوعات النشاط الذهني أدباء موهوبون على تفاوتٍ في القوة والضعف ... هذه الحقيقة تتركز جلية واضحة في شخصية علي بن أبي طالب ، فإذا هو الإمام في الأدب ، كما هو الإمام في ما أثبت من حقوقٍ ، وفي ما عَلَّمَ وهدى ، رآيته في ذلك (نهج البلاغة) الذي يقوم في أُسُسِ البلاغة العربية في ما يلي القرآن من أُسس ...) فهذه الكلمات القيمة وغيرها نراها تقرن نهج البلاغة بالقرآن الكريم ، وهذه حقيقة ناصعة لا تخفى على كل مُنصِفٍ ... ولكن العجب كل العجب من أولئك الذين يحاولون التشكيك في هذا الكتاب لا شيء سوى أنه تصدى لإظهار الحقيقة كما هي ...

لذا تصدى سماحة السيد (هبة الدين الحسيني الشهرستاني) في إحدى صولاته في الدفاع عن الإسلام وتراثه في مؤلَّفه (ما هو نهج البلاغة) ليرد تلك الشبه والافتراءات ... فكان عملاً كبيراً في بابه ...

ومركز إحياء تراث السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني يَسُرُّها أنْ ترى هذا المجهود الذي قامت به الثلة الطيبة في قسم الشؤون الفكرية في العتبة العلوية المقدسة وبالتعاون مع العلامة الجليل السيد (عبد الستار الحسني) لإخراج هذا الكتاب بحُلِّتِهِ الجديدة الملحقة ببعض

١٠

التعليقات المهمة ...

وفي الختام نبارك لهم ذلك ونتقدم بالشكر والعرفان لعملهم في خدمة تراث أهل البيت وكذا شكرنا المتواصل إلى الأمانة العامة للعتبة العلوية المقدسة لدعمها طباعة تراثنا الإسلامي ...

والحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

مركز إحياء تراث

السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني

الثلاثاء

٤ من شهر رمضان المبارك

لعام ١٤٣٠ هـ الموافق ٢٥ / ٨ / ٢٠٠٩ م

١١
١٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدُ للهِ الّذي هَدى الصَّفْوَةَ مِنْ عِبادِهِ المُخلَصين لاسْتِكْناهِ (بَلاغَةِ النهج) واستْجلاء (نَهْجِ البلاغَةِ) الذي لم تَكْتَحِلْ بشَرْواهُ مُقَلُ النّاظِرِيْنَ ، مِمّا أُوْدِعَ في زُبُرِ الأوَّلِين ، والصَّلاةُ والسّلامُ عَلى أَفْصَح مَنْ نَطَقَ بالضّادِ من الأَوَّلين والآخرين ، مُحَمَّد بْنِ عَبْدِ اللهِ الَّذِي أُوْتِيَ (جَوامِعَ الْكَلِمِ) فَمَلَكَ ناصيَةَ الْبيانِ وَالتَّبْيْين ، وَعلى آلِهِ الحائزِينَ قَصَبَ السَّبْقِ في مضَامير مَهَرَةِ الْمُفَوَّهْينَ وَالأَبْيناءِ الْمُوْعِيْن ، لاسيّما سيِّدهم إمام البُلغاء المُخْرِسِ شَقاشِقَ الْخُطَباءِ وَالمُتكلّمين ، عَلِيٍّ أميرالمؤمنين ويعسوب المُوَحِّدِين.

وَبَعْدَ : فَبَيْنَ يَدَيْكَ أيُّها القارئُ الكريمُ هذا السِّفْرُ النفيس ، والأَثَرُ النادِرُ الْمَرْقُوْمُ بِمِزْبَرِ جِهْبِذٍ ناقِدٍ بَصِيْرٍ نِقْرِيس ؛ مِنْ رَشَحاتِ يَراعِ عَلَمِ الأَعلام المجتهدِ الكبير آية الله الإمام المُصْلحِ المُجاهِدِ السّيِّد هِبَة الدين الشهرستانيّ قُدّسَ سرُّهُ ، وَهُوَ كَسائِرِ آثارهِ الْمُمْتِعةِ الثَّمينةِ من حيث الرصانةُ وحُسْنُ الترصيف والتّنْسِيْقِ ، ذادَ فيه عَنْ حِياضِ (النهج) العَلَوي وَفَنَّدَ الشّبُهاتِ الْمُوَجَّهةَ إليه بأُسْلُوْبِهِ الرائِع وَبَيانِهِ المُعْجِزِ الْماتِع. وَقَدْ مضى على طَبعاتِهِ السابِقَةِ حِيْنٌ مِنَ الدَّهْرِ حَتَّى نَفِدَتْ نُسَخُهُ. فكان ذلِك مِنْ دَواعي إعادة نَشْرِهِ. وكانَ الْفَضْلُ الأَوَّلُ في إحياء هذا الأَثَر النّادِر وَالرقيم الْباهِرِ للسيّد الباحِثِ الشابّ المُهَذَّبِ عَلِيّ نَجْلِ الشريف الوجيه السيّد عبد الله الغُرْيفيّ النَّجفيّ سَدَّدَهُ الله وَثبَّتَهُ على الصراط المستقيم.

وَهوَ الذي أَوْلاهُ من العِنايةِ والنَّظَرِ ما يَجِدُهُ القارئُ واضحاً جَلياً ؛ إذْ

١٣

قامَ بِخِدْمتِه خِدْمَةٌ مشكورةٌ مِنْ ذِكْرِ شُرُوح لِلنَّهْج أَضافها إلى ما ذّكَرَهُ سَيِّدُنا الإمامُ الشهرستاني قُدِّسَ سِرُّهُ ، وَذِكْرِ تَرْجَماتِ (١) الأعلامِ المذكورين في مَتْنِ الْكِتابِ مَعَ الإشارة إلى مَظانِّ هاتِيْكَ الترجمات. أمّا أنا فليس لي فيه إلّا النّظرة الَعجْلى بَسبب ضِيْقِ الْمجالِ وَانّحرافِ الصِحَّةِ.

وَكَتَبَ على جهة الإيجاز العبد الآبقُ

عبد الستار الحسنيّ

النجف الأشرف

١٥ / شعبان المعظم / ١٤٣٠ هـ

__________________

(١) الترجمات جمع الترجمة ، أما التراجم فهي جمع الترجمان.

١٤

طَبَعاتُ الكتاب

طُبِعَ هذا الكتابُ النَّفيس ـ في حدود ما أَعْلَمُ ـ خَمْسَ طَبَعاتٍ كانَتْ أَرْبَعٌ مِنْها في حَياةِ السَّيدِ الْمُؤلّفِ وَواحِدَةٌ مِنْها بَعْدَ وَفاتِهِ وَدُوْنَكَ ذِكْرَها مُرَتَّبَةً على تاريخ صُدُوْرِها :

١. طَبْعة صَيْدا في مطبعة الْعِرْفان لصاحِبها العلَّامةِ الأديب الشيخ أحمد عارف الزَّيْن مُنْشِئ مَجَلّة (العرفان) وَمُؤسِّس مَطْبعَتِها. وتاريخ صدورها في سنة (١٣٥٢ هـ).

٢. طبعة مترجمة باللغة الفارسية باسم (نهج البلاغة جبست) ، ترجمه الشيخ ضياء الدين نجل الشيخ يوسف الشيرازي آل صاحب الحدائق (١).

٣. طبعة بَغْداد ، مطبعة الحاجّ علي محمد الاعتماد الكاظميّ.

٤. طبعة النَّجف الأشرف ، مطبعة النُّعمان وتأريخ صدورِها في سنة (١٣٨٠ هـ).

٥. طبعة النّجف الأشرف ، دار الثقافة وتأريخ صدورها في سنة (١٣٨٠ هـ).

٦. طَبْعَة طِهْران في سَنَةِ (١٤٠٠ هـ) (٢).

وتمتازُ طبعتُنا هذه مِنْ (٣) سائر الطَّبَعاتِ بمُقابلةِ النُّسخَةِ المخطوطة مع مُراعاةِ التدقيقِ والمُتابَعَةِ الُمُتَأَنِيَّةِ.

__________________

(١) الذريعة : ج ١٩ / ٣٢.

(٢) معجم ما كتب عن الرسول وأهل البيت عليهم‌السلام: ج ٦ / ٣١٣.

(٣) هذا هو الصحيح. وقولُهُم : ـ عَنْ ـ ليس من اللغَةِ العالية وإنْ شاع.

١٥
١٦

«ترجمة المؤلف»

نَسَبُهُ : (١)

هُوَ الإِمامُ الفقيهُ ، المُصْلِحُ الْمُجَدّدُ ، المُجاهِدُ ، آيةُ اللهِ الحُجّةُ السَيِّد مُحَمَّد عليّ الحُسيني الشهيرُ بـ(السَيِّد هبَةِ الدّينِ الشَّهْرِسْتَانِيّ) نَجْلُ العالِمِ المُقَدَّسِ السَيِّد حُسَيْنٍ الْعابِدِ الشهير بـ(الشّهْرِسْتَانِيّ) ابن السّيِّد مُحْسِنٍ الصّرافِ ابن العلامة السّيِّد مُرْتَضى ابن السَيِّد مُحَمَّد ابن العالم العلّامَةِ الفقيه الأمير السّيِّد عليّ الكبير الحُسَيْنيّ الحَائِرِيّ المُنتَهي نَسَبُهُ الشريفُ إلى زيدٍ الشهيد ابْنِ الإمام زَيْنِ العابدينَ عليّ بِنِ الحُسَيْنِ بنَ عليّ بن أبي طالِبٍ عليهم‌السلام ، وَكَانَ جدُّهُ الأعْلى العلّامةُ السّيِّدُ عَلِيٌّ الكَبِيْرُ المذكورُ مِنْ أعْلامِ عَصْرِهِ ، المُشارِ إليْهِمْ بالبَنانِ ، وَمِنْ أعْيانِ الشيعةِ وَوُجُوه الطائِفَةِ في أواخر القَرْنِ الثاني عشر الهجريّ وَأوائلِ القَرنِ الثالث عشر.

__________________

(١) أَخذت الترجمة من كتابي (السيِّد هِبَةُ الدِّيْنِ الحُسَيْنيّ الشهرستاني حَياتُهُ ونشاطُهُ العِلْمِيّ والاجتِماعِي).

١٧

وِلادَتُهُ :

وُلِدَ السّيّدُ هِبَةُ الدّينِ ظُهْرَ يَوْمِ الثُّلاثاءِ ، الرابع والعِشرينَ مِنْ رَجَبٍ سَنَةَ (١٣٠١ هـ / ١٨٨٤ م) في مدينة سامَرّا.

وفي مقدّمة (اسلام وهيئت ص ٥٢) التي كتبها الشيخ سراج الأنصاري ما تَرْجَمَتُه : «إنّ الميرزا السّيِّد عَلِيّاً الشّهرستاني جاءَ إلى بيتِ السيّد حُسَينٍ الْعابدِ يَوْمَ مِيلادِ السّيدِ هِبَةِ الدّينِ وَأخبَرَهُ أنّهُ سَمِعِ أمْس هاتِفاً في عالَم الرُّؤيا يقُولُ : سَتَلِدُ مَرْيَم وَلَداً سَمُّوهُ (مُحَمّد عليّ) وَلَقّبُوهُ (هِبَة الدّينِ)».

١٨

نَشْأَتُهُ في سامَرَّا :

قال السيّدُ العَلَويُّ في كتابه (هِبَة الدّينِ ص ٦ ـ ٧) : (وإذا كانَ حِجرُ الأُمّ مَدْرَسَةَ الأَخلاق (١) والتّثقيفِ الّذي عَليهِ مَدارُ عَرائزِ النّشأةِ الطّبيعيّة فالسّيّد هِبَةُ الدّين نَشأَ في حِجْرِ أُمٍّ صالِحةٍ عالِمَة وَهِيَ السيّدةُ في نَظَرِه ، الْفَضائِلَ وَالْخِلالَ الحَسَنَةَ وَالأخلاقَ العَرَبيّةَ وَالآدابَ الصّالِحةَ ، وَتُقوّمُ لَهْجَتَهُ ، وَتُثقّفُ أفْكارَه بِذِكْر التّوارِيخِ وَالقِصص الأخلاقيّةِ.

وَهكذا كان والِدُهُ الْحُسَينُ ... فإنَّهُ كانَ يَغرِسُ في مَدارِكه حُبَّ العُلُومِ والكَمالات (٢) بِذِكِرِ سَجايا الصّالِحينَ وَتَواريخِ النّوابغِ ، وَيَحُثُّهُ عَلى مُباراتِهِم ، وَيَجْتهدُ بِكُلِّ قُواهُ في تَوسِيعِ مَعارِفِهِ ، وَتَثْقِيفِ مَداركِهِ : مُمَهّداً لَهُ وسائلَ التّعليم وَالكِتابةٍ ، وَيَستَصْحِبُهُ إلى مَجالِسِ العُلَماءِ والأكابِرِ ، وَكانَ كَثِيرُونَ مِنهُم يَتَوَسَمُّونَ فِهِ آثارَ النُّبُوغِ وَيتَوَقّعُوْنَ مِنْهُ تَقدُّماً عَظيماً).

وَمَا إنْ شَبَّ عَنِ الطَّوْقِ ، وَبَلَغَ سِنَّ الآخْذِ وَالتّلقّي حَتّى بادَرَ والِدُهُ العلّامَةُ أعلى الله مَقامَه إلى تَعلِيمِهِ القِراءَةَ وَالكِتابَةَ على الطّريقَةِ الْمألُوفَةِ يَومَئِذٍ.

وَكَانَ ـ وَهُو في تِلْكَ السِنّ المُبَكّرَةِ ـ يَتّقِدُ ذَكاءً وَفِطْنَة، وَيَتَمَتَّعُ

__________________

(١) أَلَمَ في هذا المعنى بقولِ شاعر النّيلِ ، حافِظ إبراهيم (ت : ١٣٥١ هـ) :

وَالأُمُّ مَدرَسَةٌ إذا أعْدَدْتَها

أعْدَدْتَ شَعْباً طَيّبَ الأعْراقِ

 (٢) وَعلى هذا كان طيّب الله تعالى ثراه مِصداقَ قولِ الشّاعر القديم :

وَيَنشأ ناشِئُ الفِتْيانِ مِنّا

أعْدَدْتَ شَعْباً طَيّبَ الأعْراقِ

١٩

بِحافِظَةٍ قَلَّ أنْ يَتَمتّعَ بِها مَن كان في مِثلِ سِنِّهِ مِمّا جَعَلَهُ يَطوي مرحلة تَعلُّمِ القِراءَةِ والكِتابةِ في وَقْتٍ قصيرٍ جدّاً مِمّا لَمْ يُعهَدْ نَظِيْرُهُ مِنْ أقْرائِهِ.

وَكَانَ في تِلْكَ المَرحَلةِ وَهُوَ لَمّا يَطأ عَتَبةَ السّنِةِ العاشرة مِنْ عُمُرهِ المُباركِ يَحْفَظُ منْ شَواهِدِ الشّعْرِ وَروائع الأمْثالِ ما لا يَنقضي مِنهُ العَجَبُ مع حُضُورِ البَدِيهَةِ وَمُراعاِ مُطابَقَةِ الكَلامِ لِمُقتَضى الحالِ ؛ وَمِنْ آياتِ نُبُوغِهِ المُبَكّرِ في هذا الدّورِ ما حَدّثني به عَليْهِ الرّحمَةُ والرِضْوانُ أنّه كانَ المُجَدّدِ الشيرازي قدس سره ذلك المجلسِ الذي كان يعجُّ بالعُلَماءِ والفُقهاءِ وَمَنْ في مَعْناهُم.

وكَانَ عُمُرُ السَيِّدِ هِبَةِ الدّينِ ـ يومئذٍ ـ نحو ستِّ سِنينَ أو تَزيدُ قليلاً ـ والتردِيدُ منّي ـ وَكانَ للسّيّدِ المُجَدّدِ خَادِمٌ اسْمُهُ (بَدْرٌ).

قال السَيِّدُ : فَصاحَ بي الخادِمُ المَذْكُورُ ذاتَ يوْمٍ عَلى مرأى وَمَسْمَعٍ مِنَ السَيِّد (الحَسَنِ المُجُدّدِ) : كَيْفَ تَحْضرُ في هذا المَجلِسِ الخاصّ بالعُلَماءِ والأكابِر وَأنْتَ صَبيٌ صَغِيرٌ؟! فَتَمَثَّلْتُ في الحالِ رافعاً صَوْتي بقولِ الشّاعرِ القَدِيم :

ثَلاثةٌ يُذْهِبنَ عَنْ قَلْبي الحَزَنْ

الماءُ والخَضْراءُ وَالوَجهُ (الْحسَنْ)

وَلَمّا نَطَقْتُ بِكَلِمةِ (الحَسَن) أشَرْتُ إلى السّيّدِ المُجَدِّدِ الّذِي تُطابقُ هذهِ الكَلِمَةُ اسْمَهُ الشّريفَ ، وفيها مِنْ لُطْفِ التّوريةِ ما لا يَخفى ، فَصاحَ السّيّدُ المُجَدِّدُ بَه بَهْ بَهْ ، وَهِيَ عِبارَةُ اسْتِحْسانٍ وَتَعَجُّبٍ.

(قالَ السيّدُ) : وَعِنْدَها أمَرَ لي السَيِّد المُجَدِّدُ بِكَسْوَةٍ وَعَيّنَ لي راتِباً في تِلْكَ السّنِّ.

٢٠