التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

السيّد علي الحسيني الميلاني

التّحقيق في نفي التّحريف عن القرآن الشّريف

المؤلف:

السيّد علي الحسيني الميلاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الحقائق الإسلاميّة
المطبعة: الظهور
الطبعة: ٣
الصفحات: ٤٠٠

١
٢

٣
٤

كلمة المؤلف

بسم الله الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيّبين الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين ، من الأوّلين والآخرين.

وبعد :

فإنّ الله عزوجل أرسل نبيّه العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)(١) وأنزل عليه القرآن «حجّة الله على خلقه ، أخذ عليه ميثاقهم ، وارتهن عليهم أنفسهم ، أتمّ نوره ، وأكمل به دينه» (٢).

وكما كتب سبحانه لدينه الخلود ، لكونه خير الأديان وأتمّها وقال : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)(٣) ، كذلك تعهّد بحفظ القرآن ـ الذي وصفه أمير المؤمنين عليه‌السلام بأنّه «أثافي الإسلام

__________________

(١) سورة التوبة ٩ : ٣٣.

(٢) نهج البلاغة ـ فهرسة صبحي الصالح : ٢٦٥ / ١٨٣.

(٣) سورة آل عمران ٣ : ٨٥.

٥

وبنيانه» (١) ـ حيث قال (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ)(٢).

وكان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعلّم الناس القرآن ، وينظّم امور المجتمع على ضوء تعاليمه ، فكان كلّما نزل عليه الوحي حفظ الآية الكريمة أو السورة المباركة ، وأمر الكتّاب بكتابتها ثمّ أبلغها الناس ، وأقرأها القرّاء واستحفظهم إيّاها ، وهم يقومون بدورهم بنشر ما حفظوه ووعوه ، وتعليمه لسائر المسلمين حتى النساء والصبيان.

وهكذا كانت الآيات تحفظ بألفاظها ومعانيها ، وكانت أحكام الإسلام وتعاليمه تنشر وتطبّق في المجتمع الإسلامي.

غير أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يلقي إلى سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام ـ ابتداء أو كلّما سأله ـ تفسير الآيات وحقائقها ، والنسب الموجودة فيما بينها ، من المحكم والمتشابه ، والناسخ والمنسوخ ، والمطلق والمقيّد ، والمجمل والمبيّن ، إلى غير ذلك ... يقول عليه‌السلام :

«وقد علمتم موضعي من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقرابة القريبة ، والمنزلة الخصيصة ، وضعني في حجره وأنا ولد ، يضمّني إلى صدره ، ويكنفني في فراشه ، ويمسّني جسده ، ويشمّني عرفه ، وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه ، وما وجد لي كذبة في قول ، ولا خطلة في فعل ، ولقد قرن الله به صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته ، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالم ، ليله ونهاره ، ولقد كنت أتبعه اتّباع الفصيل أثر أمّه ، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علما ويأمرني بالاقتداء به.

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣١٥ / ١٩٨.

(٢) سورة التوبة ٩ : ١٥.

٦

ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء ، فأراه ولا يراه غيري ، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وخديجة وأنا ثالثهما ، أرى نور الوحي والرسالة ، وأشم ريح النبوة ، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقلت : يا رسول الله ما هذه الرنّة؟ فقال : هذا الشيطان قد أيس من عبادته ، إنّك تسمع ما أسمع وترى ما أرى ، إلّا أنّك لست بنبيّ ، ولكنّك لوزير ، وإنّك لعلى خير ...» (١).

وبذلك توفّرت في شخصه ـ دون غيره ـ الأعلمية بالكتاب والسنّة ، التي هي من أولى الصفات المؤهّلة للإمامة وقيادة الأمّة بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وتوفّي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتقمّص الذين كان يلهيهم الصفق بالأسواق عن تعلّم القرآن وأحكام الدين ـ حتى أبسط مسائله اليومية ـ الخلافة ، وآل أمرها إلى ما آل إليه ... فقام سيّدنا أمير المؤمنين عليه‌السلام مقام النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حفظ الكتاب والسنّة وتعليمهما الناس ، والترغيب فيهما ، والحثّ عليهما ... فهو من جهة كان يبادر إلى جمع القرآن مضيفا إليه ما سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول آياته من التفسير والتأويل وغير ذلك ، ويدرّس جماعة من أهل بيته وأصحابه ومشاهير الصحابة ممّا وعاه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من علوم الكتاب والسنّة ، حتى كان من أعلامهم الحسن والحسين عليهما‌السلام ، وعبد الله بن العبّاس ، وعبد الله بن مسعود ، وأمثالهم ، وبواسطتهم كان انتشار علم القرآن في العالم الإسلامي.

ومن جهة اخرى يراقب ما يصدر عن الحكّام وغيرهم عن كثب ، كي ينفي

__________________

(١) نهج البلاغة : ٣٠٠ / ١٩٢.

٧

عن الدين تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين.

فكان عليه‌السلام المرجع الأعلى لعموم المسلمين في جميع أمورهم الدينية لا سيّما المعضلات ، حتى اضطرّ بعض أعلام الحفّاظ إلى الاعتراف بذلك وقال : «وسؤال كبار الصحابة له ، ورجوعهم إلى فتاواه وأقواله ، في المواطن الكثيرة ، والمسائل المعضلات ، مشهور» (١).

وهكذا ... كان سعي أمير المؤمنين عليه‌السلام في حفظ القرآن بجميع معاني الكلمة ، وهكذا كان غيره من أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام.

وكان الاهتمام بالقرآن العظيم من أهمّ أسباب تقدّم الإسلام ورقيّ المسلمين ، كما كان التلاعب بالعهدين من أهم الامور التي أدّت إلى انحطاط اليهود والنصارى ، فأصبح الهجوم على القرآن نقطة التلاقي بين اليهود والنصارى وبين المناوئين للإسلام والمسلمين ، لأنّهم إن نجحوا في ذلك فقد طعنوا الإسلام في الصميم.

لكنّ الله سبحانه قد تعهّد بحفظ القرآن وأن (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(٢) فاندحروا في جميع الميادين صاغرين ، والحمد لله ربّ العالمين.

لكنّ «شبهة تحريف القرآن» ما زالوا يردّدونها بين حين وآخر ، وعلى لسان بعض الكتّاب المتظاهرين باسم الإسلام ويا للأسف ، يستأجرونهم لتوجيه الضربة إلى القرآن والاسلام من الداخل ، ولإلقاء الفتنة فيما بين المسلمين ، ولذا تراهم ـ في الأغلب ـ اناسا حاقدين على آل البيت عليهم‌السلام ومذهبهم وأتباعهم.

__________________

(١) تهذيب الأسماء واللغات ، للحافظ النووي ١ : ٣٤٦.

(٢) سورة فصلت ٤١ : ٤٢.

٨

ونحن في هذا البحث ـ الذي لم نقصد به الدفاع عن أحد أو الردّ على أحد ـ تعرّضنا لهذه «الشبهة» وكأنّها «مسألة» جديرة بالبحث والتعقيب والتحقيق ، ... فاستعرضنا في فصوله أهمّ ما يوهم التحريف قولا وقائلا ودليلا ... لدى الشيعة وأهل السنّة ... ودرسنا كلّ ما قيل أو يمكن أن يقال في هذا الباب دراسة موضوعيّة ... وحدّدنا ما يمكن أن يتمسك به للتحريف من الأخبار والآثار ، ومن يجوز أن ينسب إليه القول به من العلماء في الطائفتين ...

فوجدنا الأدلّة على عدم التحريف من الكتاب والسنة وغيرهما كثيرة وقويمة ، وأنّ القول بصيانة القول عن التحريف هو مذهب المسلمين عامّة إلّا من شذّ ...

لكنّ هذا الشذوذ جاء اغترارا بأحاديث مخرّجة في الكتب الموصوفة بالصحّة عند أهل السنّة ... مسندة إلى جماعة من صحابة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلى رأسهم من اعترف منهم بأن «كلّ الناس أفقه منه حتى النساء في الخدور» ... وهذه هي المشكلة ... لكنّ الحقّ عدم صحّة تلك الأحاديث أيضا ، وأنّ تلك الكتب ـ كغيرها ـ تشتمل على أباطيل وأكاذيب ... والحقّ أحقّ أن يتّبع ...

وكان هذا البحث قد نشر في مجلّة «تراثنا» الموقّرة ـ التي تصدر عن (مؤسّسة آل البيت عليهم‌السلام لإحياء التراث) العلمية التحقيقية المخلصة ـ على شكل حلقات ، ثم طلبت مؤسّسة (دار القرآن الكريم) ـ من مؤسّسات سيدنا الاستاذ وزعيم الحوزة العلمية آية الله العظمى السيد الگلپايگاني طاب ثراه ـ نشره في كتاب.

ولمّا نفدت نسخه وكثر الطلب عليه من مختلف البلدان ، بادرنا إلى نشره بعد

٩

مراجعته وتنقيحه وإضافة مطالب اخرى إليه.

والله نسأل أن يجعلنا من خدّام القرآن الكريم والعترة الطاهرة ومن التابعين لهم ، وأن يجعل أعمالنا خالصة ، وأن يوفّقنا لما يحبّ ويرضى ، إنه سميع مجيب.

على الحسيني الميلاني

١ / رمضان المبارك / ١٤١٧

١٠

الباب الأوّل

الشيعة والتحريف

وفيه فصول :

كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف

أدلة الشيعة على نفي التحريف

أحاديث التحريف في كتب الشيعة

شبهات حول القرآن على ضوء أحاديث الشيعة

الرواة لأحاديث التحريف من الشيعة

١١
١٢

الفصل الأول

كلمات أعلام الشيعة في نفي التحريف

١٣
١٤

من الواضح أنّه لا يجوز إسناد عقيدة أو قول إلى طائفة من الطوائف إلّا على ضوء كلمات أكابر علماء تلك الطائفة ، وبالاعتماد على مصادرها المعتبرة.

ولقد تعرّض علماء الشيعة منذ القرن الثالث إلى يومنا الحاضر لموضوع نفي التحريف في كتبهم في عدّة من العلوم ، ففي كتب الاعتقادات يتطرّقون إليه حيثما يذكرون الاعتقاد في القرآن الكريم ، وفي كتب الحديث حيث يعالجون الأحاديث الموهمة للتحريف بالنظر في أسانيدها ومداليلها ، وفي بحوث الصلاة من كتب الفقه في أحكام القراءة ، وفي مسألة وجوب قراءة سورة كاملة من القرآن في الصلاة بعد قراءة سورة الحمد ، وغيرها من المسائل ، وفي كتب اصول الفقه حيث يبحثون عن حجّيّة ظواهر ألفاظ الكتاب.

وهم في جميع هذه المواضع ينصّون على عدم نقصان القرآن الكريم ، وفيهم من يصرح بأنّ من نسب إلى الشيعة أنّهم يقولون بأنّ القرآن أكثر من هذا الموجود بين الدفّتين فهو كاذب ، وفيهم من يقول بأنّ عليه إجماع علماء الشيعة بل المسلمين ، وفيهم من يستدلّ على النفي بوجوه من الكتاب والسنّة وغيرهما ، بل لقد أفرد بعضهم هذا الموضوع بتأليف خاص.

وعلى الجملة ، فإنّ الشيعة الإمامية تعتقد بعدم تحريف القرآن ، وأنّ الكتاب الموجود بين أيدينا هو جميع ما أنزله الله عزوجل على نبيّنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من دون أيّ زيادة أو نقصان.

هذه عقيدة الشيعة في ماضيهم وحاضرهم ، كما جاء التصريح به في كلمات

١٥

كبار علمائها ومشاهير مؤلفيها ، منذ أكثر من ألف عام حتى العصر الأخير.

* يقول الشيخ محمد بن علي بن بابويه القمي ، الملقّب بالصدوق ـ المتوفّى سنة ٣٨١ ـ : «اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو ما بين الدفّتين ، وهو ما في أيدي الناس ، ليس باكثر من ذلك ، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشر سورة ، وعندنا أن الضحى وأ لم نشرح سورة واحدة ، ولإيلاف وأ لم تر كيف سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنا نقول أنه أكثر من ذلك فهو كاذب. وما روي ـ من ثواب قراءة كلّ سورة من القرآن ، وثواب من ختم القرآن كلّه ، وجواز قراءة سورتين في ركعة والنهي عن القران بين سورتين في ركعة فريضة ـ تصديق لما قلناه في أمر القرآن ، وأن مبلغه ما في أيدي الناس. وكذلك ما روي من النهي عن قراءة القرآن كله في ليلة واحدة ، وأنه لا يجوز أن يختم القرآن في أقل من ثلاثة أيام تصديق لما قلناه أيضا.

بل نقول : إنه قد نزل من الوحي الذي ليس من القرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغه مقدار سبع عشرة ألف آية ، وذلك مثل ... كلّه وحي ليس بقرآن ، ولو كان قرآنا لكان مقرونا به وموصولا إليه غير مفصول عنه كما قال أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام لمّا جمعه ، فلما جاء به فقال لهم : هذا كتاب الله ربكم كما انزل على نبيكم لم يزد فيه حرف ولم ينقص منه حرف فقالوا : لا حاجة لنا فيه ، عندنا مثل الذي عندك ، فانصرف وهو يقول : فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا فبئس ما يشترون. وقال الصادق عليه‌السلام : القرآن واحد ، نزل من عند واحد ، على نبي واحد ، وإنما الاختلاف من جهة الرواة ...» (١).

__________________

(١) رسالة الاعتقادات ، المطبوعة مع شرح الباب الحادي عشر ص ٩٣.

١٦

* ويقول الشيخ محمد بن محمد بن النعمان ، الملقّب بالمفيد ، البغدادي ـ المتوفّى سنة ٤١٣ ـ : «وقد قال جماعة من أهل الإمامة : إنه لم ينقص من كلمة ، ولا من آية ، ولا من سورة ، ولكن حذف ما كان مثبتا في مصحف أمير المؤمنين عليه‌السلام من تأويله ، وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله ، وذلك كان ثابتا منزلا وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز.

وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادّعى نقصان كلم من نفس القرآن على الحقيقة دون التأويل ، وإليه أميل ، والله أسأل توفيقه للصواب» (١).

* ويقول الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي ، الملقّب بعلم الهدى ـ المتوفّى سنة ٤٣٦ ـ : «إنّ العلم بصحّة نقل القرآن كالعلم بالبلدان ، والحوادث الكبار ، والوقائع العظام ، والكتب المشهورة ، وأشعار العرب المسطورة ، فإنّ العناية اشتدّت والدواعي توفّرت على نقله وحراسته ، وبلغت إلى حدّ لم يبلغه في ما ذكرناه ، لأنّ القرآن معجزة النبوّة ، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينيّة ، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وحمايته الغاية ، حتى عرفوا كل شيء اختلف فيه من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته ، فكيف يجوز أن يكون مغيّرا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟!».

وقال : «إنّ العلم بتفصيل القرآن وأبعاضه في صحّة نقله كالعلم بجملته ، وجرى ذلك مجرى ما علم ضرورة من الكتب المصنّفة ككتابي سيبويه والمزني ، فإنّ أهل العناية بهذا الشأن يعلمون من تفصيلها ما يعلمونه من جملتها ، حتى لو أنّ مدخلا أدخل في كتاب سيبويه بابا في النحو ليس من الكتاب لعرف وميّز ، وعلم أنّه ملحق وليس في أصل الكتاب ، وكذلك القول في كتاب المزني ، ومعلوم

__________________

(١) أوائل المقالات في المذاهب المختارات : ٥٥ ـ ٥٦.

١٧

أنّ العناية بنقل القرآن وضبطه أصدق من العناية بضبط كتاب سيبويه ودواوين الشعراء».

وقال : «إنّ القرآن كان على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مجموعا مؤلّفا على ما هو عليه الآن ...».

«واستدلّ على ذلك بأنّ القرآن كان يدرّس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان ، حتى عيّن على جماعة من الصحابة في حفظهم له ، وأنّه كان يعرض على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتلى عليه ، وأنّ جماعة من الصحابة مثل عبد الله بن مسعود وابيّ بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة ختمات.

كل ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور ولا مبثوث».

«وذكر أنّ من خالف في ذلك من الإمامية والحشوية لا يعتدّ بخلافهم ، فإنّ الخلاف في ذلك مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث ، نقلوا أخبارا ضعيفة ظنّوا بصحّتها ، لا يرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته» (١).

ولقد عرف واشتهر هذا الرأي عن الشريف المرتضى حتى ذكر ذلك عنه كبار علماء أهل السنّة ، وأضافوا أنّه كان يكفّر من قال بتحريف القرآن ، فقد نقل ابن حجر العسقلاني عن ابن حزم قوله فيه : «كان من كبار المعتزلة الدعاة ، وكان إماميا ، لكنّه يكفّر من زعم أنّ القرآن بدّل أو زيد فيه ، أو نقص منه ، وكذا كان صاحباه أبو القاسم الرازي وأبو يعلى الطوسي» (٢).

__________________

(١) نقل هذا في مجمع البيان ١ : ١٥ ، عن المسائل الطرابلسيات للسيد المرتضى.

(٢) لسان الميزان ٤ : ٢٢٤ ، ولا يخفى ما فيه من الخلط والغلط.

١٨

* ويقول الشيخ محمد بن الحسن أبو جعفر الطوسي ، الملقّب بشيخ الطائفة ـ المتوفّى سنة ٤٦٠ ـ في مقدّمة تفسيره : «والمقصود من هذا الكتاب علم معانيه وفنون أغراضه ، وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه فممّا لا يليق به أيضا ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه فالظاهر أيضا من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا ، وهو الذي نصره المرتضى ـ رحمه‌الله تعالى ـ وهو الظاهر من الروايات.

غير أنّه رويت روايات كثيرة من جهة الخاصّة والعامّة بنقصان كثير من آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، طريقها الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، والأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها لأنّه يمكن تأويلها ، ولو صحّت لما كان ذلك طعنا على ما هو موجود بين الدفّتين ، فإنّ ذلك معلوم صحّته لا يعترضه أحد من الامّة ولا يدفعه» (١).

* ويقول الشيخ الفضل بن الحسن أبو علي الطبرسي ، الملقّب بأمين الإسلام ـ المتوفّى سنة ٥٤٨ ـ ما نصّه : «... ومن ذلك الكلام في زيادة القرآن ونقصانه ، فإنّه لا يليق بالتفسير ، فأمّا الزيادة فمجمع على بطلانها ، وأمّا النقصان منه فقد روى جماعة من أصحابنا وقوم من حشوية العامة : إنّ في القرآن تغييرا ونقصانا ...

والصحيح من مذهب أصحابنا خلافه ، وهو الذي نصره المرتضى ـ قدّس الله روحه ـ واستوفى الكلام فيه غاية الاستيفاء في جواب المسائل الطرابلسيات» (٢).

__________________

(١) التبيان في تفسير القرآن ١ : ٣.

(٢) مجمع البيان ١ : ١٥.

١٩

* وهو حاصل كلمات السيد أبي القاسم علي بن طاوس الحلّي المتوفى سنة ٦٦٤ في مواضع من كتابه القيّم (سعد السعود) منها : أنّه ذكر عن الجبائي أنه قال في تفسيره : «محنة الرافضة على ضعفاء المسلمين أعظم من محنة الزنادقة» ثم شرع يدّعي بيان ذلك بأن الرافضة تدّعي نقصان القرآن وتبديله وتغييره ، قال السيد :

«فيقال له : كلّ ما ذكرته من طعن وقدح على من يذكر أنّ القرآن وقع فيه تبديل وتغيير فهو متوجّه على سيّدك عثمان ، لأن المسلمين أطبقوا أنه جمع الناس على هذا المصحف الشريف وحرّف وأحرق ما عداه من المصاحف. فلو لا اعتراف عثمان بأنّه وقع تبديل وتغيير من الصحابة ما كان هناك مصحف محرّف وكانت تكون متساوية.

ويقال له : أنت مقرّ بهؤلاء القرّاء السبعة ... فمن ترى ادّعى اختلاف القرآن وتغييره؟ أنتم وسلفكم ، لا الرافضة. ومن المعلوم من مذهب من تسمّيهم رافضة أن قولهم واحد في القرآن ...» (١).

ونصّ السيد ابن طاوس في بحث له مع أبي القاسم البلخي حول أنّ البسملة آية من السورة أو لا ـ حيث اختار البلخي العدم ـ على أن القرآن مصون من الزيادة والنقصان كما يقتضيه العقل والشرع (٢).

واستنكر ما روى أهل العامة عن عثمان وعائشة من أن في القرآن لحنا وخطأ قائلا : «ألا تعجب من قوم يتركون مثل علي بن أبي طالب أفصح العرب بعد صاحب النبوة وأعلمهم بالقرآن والسنّة ويسألون عائشة؟ أما يفهم أهل

__________________

(١) سعد السعود : ١٤٤.

(٢) المصدر : ١٩٢.

٢٠