شبهات حول القرآن وتفنيدها

الدكتور غازي عناية

شبهات حول القرآن وتفنيدها

المؤلف:

الدكتور غازي عناية


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار ومكتبة الهلال للطباعة والنشر
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٨

١
٢

٣
٤

قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)

سورة الحجرآیة ٩.

٥
٦

إهداء

«إلى المجاهدين المسلمين في فلسطين بلد الإسراء والمعراج»

٧
٨

مقدمة الكتاب

الحمد لله لا إله إلا هو المتوحد في الجلال بكمال الجمال تعظيما وتكبيرا ، المتفرد بتصريف الأحوال على التفصيل ، والإجمال تقديرا ، وتدبيرا المتعالي بعظمته ، ومجده. وصدق رسوله «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» تسليما كثيرا. بلّغ الرسالة ، وأدّى الأمانة ونصح الأمة ، وكشف الغمّة ، وجاهد في الله حقّ جهاده حتى أتاه اليقين. وسلام على صحابته الميامين ، والتابعين بإحسان إلى يوم الدين.

قرآن ربّنا هو موضوع دراستنا أعظم كتاب وجد على ظهر هذه البسيطة ، سمت ، وتعالت به معجزاته ، فجعلته بترتيب سوره ، وآياته في الدنيا هي نفس ترتيبها ، وبتمامه في اللوح المحفوظ ، بدءا بكلمة الحمد لله ، وانتهاء بكلمة الناس. تجلت معالم عظمته بأن جعلت أول لفظ فيه ـ وهو الحمد لله ـ يتلفظ بها النّاس آخر كلمة في القرآن ؛ تأصيلا لإيمانهم ، وتكريسا لشواهد توحيدهم في الألوهية ، والربوبية ، وأسماء الله وصفاته. كلمة الحمد لله أول كلمة في قرآننا الكريم تتكون من ثمانية

٩

حروف ، والجنة لها ثمانية أبواب ، من قال الحمد لله إيمانا ، واحتسابا ، دخل الجنة بإذن الله من أبوابها الثمانية.

هذا هو قرآن ربنا ، معجزة رسولنا ، وإعجاز آدميتنا ، وهداية بشريتنا ، ونور عالمنا ، نؤمن بتنزيله ، ونصدق بألوهيته ، ونتعبد بتلاوته ، ونخشع لأحقية نزوله ، وربنا يقول فيه : (وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ) سورة الإسراء آية ١٠٥. وربنا يحق الحق ، ويثبت أحقية إنزاله على أفضل أنبيائه خير سيد ولد آدم ، ولا فخر ، وبالتأكيد اللفظى المتكرر ، وبالنص المعجز في بيانه ، وبلاغته. وهو يقول فيه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً) سورة الإنسان آية ٢٣.

وهذا هو قرآن ربنا الذي فيه يمترون ، نحمده تعالى على كمال إنزاله ، وتمام نعمائه ، وربنا يقول فيه : (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) سورة المائدة آية ٣.

قرآن ربنا موضوع كتابنا هذا تعالت شواهد سموه ، ورفعته عن دنايا الآدمية ، وأحقاد البشرية من حثالات الكفر ، والشرك ؛ تعالت معالم هداياته وكراماته عن أن تنال منه بالتحريف ، والتغيير خبائث الشرك من الصليبيين ، والشيوعيين ، وضلالات الكفر من الوثنيين ، والوجوديين ، وجهالات الشيطنة من يهود ، وصهاينة. ولنا ، وللبشرية العقلانية أن نستجدي الله دوما على تمام نعمائه ، وأن نركع له دوما على إنزاله لهداية قرآنه ، وأن نسجد له دوما ؛ عرفانا ، وثناء ، وحمدا لله تعالى على عنايته ، وتكفل حفظه لنوره ، وشفائه ، وبرهانه ، وذكر قرآنه العظيم مصداق قوله فيه : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) سورة الحجر آية ٩.

هذا هو قرآننا ، دستور عالم إيماننا ، ونظام حياتنا ، ومعيار سلوكنا ، وطريق هدايتنا ، وسبيل آخرتنا. تنكرت لمعالمه ، وأنظمته ، وهداياته ، وأنواره ألسنة الباطل فتلقته بالطعن ، والدّس ، وأفواه الشطأنة ؛ فتقوّلت عليه بأخس الكلام ، وأقذع السباب. إذ يتلقونه بألسنتهم ، ويقولون بأفواههم ما ليس لهم به علم ، إلا حقد الضغينة على الإسلام ، ومكر

١٠

القلوب على المسلمين ، لا يجدون مدخلا يدخلونه للطعن في القرآن والهدم في جدار الإيمان إلّا دخلوه. جعلوا من الكفر منطلقا لهم ، ومن التقوّل على القرآن سلاحا لهم ؛ ومن الشرك هدفا لهم ، ومن التثليث مخلصا لهم ، ومن الإلحاد هداية لهم ، وهم بذلك نصبوا من أنفسهم حماة لجاهليتهم ، وحراسا لرفاهيتهم ؛ وهم بذلك أطلقوا عنان شهواتهم ، ورذائل أخلاقياتهم ؛ وهم بذلك داسوا على كل فضيلة ، وأشبعوا كلّ غريزة ، وأحلوا كل حرام ، وحرموا كل حلال. وهم بذلك أشهروا أسلحة حقدهم ، وصوبوا وسائل قتلهم ، ونفثوا سموم عداوتهم اتجاه كل من حال دونهم ، ودون رذائلهم ، وحتى لو كان إلهيا ، حتى ولو كان سماويا ما دام ذلك جاء هاديا لهم. فتطاولوا على رمز الإسلام ، دستور السماء في الإيمان ، ولم يرقبوا فيه إلّا ولا ذمة ، ولم يرعوا له حقائق سمات إعجازه ، ولم يقدروا فضائله ، ولم يعقلوا علومه ، ومفرداته ، ولم يتدبروا سوره ، وآياته ، ولم يعوا موضوعاته ، وعامه وخاصه ، ومحكمه ومتشابهه ومطلقه ومقيده ، ومجمله ومبينه ، ومنطوقه ومفهومه ، ووجوه مخاطباته ، وتقديمه وتأخيره وأمثاله ، وأقسامه ، وجدله ، ومجازه ، واستعاراته ، وتمثيله ، وكناياته ، ومبهماته ، وأسمائه ، وكناته ، وألقابه ، وناسخه ومنسوخه ، وآياته ، وبياناته ، وبلاغته ، وفصاحته.

هكذا تعامت عيون الكفر عن سماته في إعجازه ، فلم تر في القرآن العظيم إلا قيدا على شهواتهم ، وحدا لرفاهياتهم ، ومنعا لتجاوزاتهم ، فكالوا له الشتائم ، والسباب ، وأحاطوه بالشبهات ، وهم لم ، ولن يستطيعوا كسر حصون مناعته ، أو هدم أسوار حقائقه في هدايته حتى لمن عادوه من البشر ، وقد نقلهم من الظلمات إلى النور ، ومن الضلال إلى الهداية ، ومن الشرك إلى التوحيد ، ومن الكفر إلى الإيمان ، ومن اليهودية إلى الإسلام ، ومن الصليبية في التثليث إلى الوحدانية في الألوهية ، ومن الوثنية في البرهمية إلى الوحدانية في الربوبية ، ومن البوذية في عبادة الأصنام إلى التوحيد في عبادة الله. هذا القرآن العظيم دستور المحبة في الائتلاف ، والمودّة في التعاون ، والرحمة في التكافل غيّبه دعاة الكفر من

١١

الشيوعيين ، والصليبيين ، واليهود ، ودعاة الكفر من المسلمين الذين لا ينتسبون إلى الإسلام إلا اسما ، أو بشهادة الازدياد ، وقد تناسوا أن في قرآنهم المخرج من متاهاتهم ، وضلالاتهم ، وفتنهم.

وكما قال رسولنا المصطفى «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : «تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسكتم بهما : كتاب الله ، وسنّة نبيّه» رواه الإمام مالك ، وأبو داود.

وقد تناسى دعاة الشطأنة قرآن ربنا مخرجهم من فتنهم ، وفتنتهم ، وهديهم إلى الصراط المستقيم. وكما قال حبيبنا المصطفى «صلوات الله عليه وسلم» ، وفيما رواه الترمذي ، والدارمي ، وغيرهما من طريق الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ستكون فتن ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله ؛ فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل. من تركه من جبار ، قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله ؛ وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلتبس به الألسنة ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه. من قال به ، صدق ، ومن عمل به ، أجر ، ومن حكم به ، عدل ، ومن دعا إليه ، هدي إلى صراط مستقيم». لقد تعدّى بابوات ، وأهل ، وقساوسة التثليث من الصليبيين ، وأحبار الحقد ، والسباب من يهود ، وفلاسفة المتع ، والرذائل من الوجوديين ، وأساتذة المادة من الملحدين على حكم القرآن ، وتنكروا لمعارفه وعلومه. وهم يعلمون ، ولا يعلمون أنهم يتعدّون على شرف أقدس الكتب السماوية ، وقد جمع علومها ، وأنّهم يتطاولون على شرف كتاب المعرفة ، والحكمة ، وقد خصها الله تعالى لدارسي قرآنه ، والعاملين بأحكامه ، والعارفين لعلومه. قال تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) سورة البقرة آية ٢٦٩.

أخرج ابن أبي حاتم ، وغيره من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال : المعرفة بالقرآن : ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله.

١٢

وهكذا تكاتفت أيدي الشر من أهل الكفر ، والشرك قديما ، وحديثا ، للطعن في القرآن ومن نزل عليه القرآن ، يجمعهم هدف اللغو في القرآن. مصداق قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) سورة فصلت آية ٢٦. ويوحدهم في ضغائنهم جحود الكفر بآيات الله مصداق قوله تعالى : (قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) الأنعام آية ٣٣.

قال ابن عباس : «كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يسمى الأمين ، فعرفوا أنّه لا يكذب في شيء ، ولكنهم كانوا يجحدون ، فكان أبو جهل يقول : ما نكذبك يا محمد ، وإنك عندنا لمصدق ، وإنما نكذب ما جئتنا به».

وهكذا رفضوا إلّا أن يعيشوا في متاهات ضلالاتهم ، وسراديب ظلماتهم ، فعميت بصائرهم قبل أبصارهم عن حقائق كتاب الله النورانية ، قتل الإنسان ما أكفره. وقتل أبو لهب ، وهو يقول للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : لا أقول لك إنّك كاذب ، وإنما ما جئت به باطل. وهكذا تمادوا في افتراءاتهم ، وشبهاتهم ، وأحاطوا بها سمات الإعجاز القرآني ، والنبوي ظلما وعلوّا ، وهكذا رفعوا معاول الهدم الشيطانية ، وتمادوا في حملات النيل من القرآن ، وحملات التشهير بمن نزل عليه القرآن ، وبشكل ممتد ، وعلى امتداد عصور التاريخ منذ فجر الإسلام. فقالوا عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : إنّه ساحر مصداق قوله تعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) سورة يونس آية ٢. وقالوا عن القرآن : إن هو إلا سحر يؤثر ، وإن هو إلا قول بشر. مصداق قوله تعالى : (فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) سورة المدثر الآيتان ٢٤ ـ ٢٥. ولكن الله فنّد زعمهم ، وأنذرهم بالعذاب الأليم ، والشراب الحميم إن لم ينتهوا ، ويرعووا ، وأنّى للكافرين أن ينتهوا ، وأنّى للمشركين أن يرعووا. قال تعالى : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ) سورة يونس آية ٤. وقالوا عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : إنه شاعر ، وما القرآن إلّا من خيالات شعره ، وسبحات أفكاره. مصداق قوله تعالى : (بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ

١٣

كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) سورة الأنبياء آية ٥. ولكن الله أنكر عليهم زعمهم ، وأبطل شبهتهم ، فنفى عنه ، وعن قرآنه صفة الشعر ، فقال تعالى : (وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ) سورة الحاقة آية ٤١. وقالوا عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» إنه لمجنون ، وما القرآن إلا شطحات جنونه. مصداق قوله تعالى : (ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) سورة الدخان آية ١٤. ولكن الله أنكر عليهم افتراءهم ، ونفى عنه صفة الجنون ، ومن اصدق من الله قولا ، ومن أصدق من حديث الله نفيا. قال تعالى : (وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) سورة التكوير آية ٢٢. وقالوا عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : إنه كاهن ، وما القرآن إلّا من ترانيم كهنوته ، وطقوس أفكاره. ولكن الله أبطل شبهتهم ، وأثبت أحقية تنزيله لقرآنه. وأنّه من رب العالمين. قال تعالى : (وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٤٢) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) سورة الحاقة الآيتان ٤٢ ـ ٤٣. وقالوا عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : إنّه كذّاب ، وما القرآن إلا من سحرات كذبه. مصداق قوله تعالى : (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) سورة «ص» آية ٤. ولكن الله تعالى لم يغفل كذبهم ، وأثبت شكهم ، وظنهم ، فأذاقهم العذاب. قال تعالى : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) سورة «ص» آية ٨. وقالوا عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : إنّه شاعر مجنون. وما القرآن إلّا من شعر جنونه ، وخيالات شعره. مصداق قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ) سورة الصافات آية ٣٦. ولكن الله أبطل قولهم ، وأكد صدق رسوله ، وأحقية قرآنه. قال تعالى : (بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ) سورة الصافات آية ٣٧. وقالوا عن الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» : إنّه متقول ، وناقل للقرآن من غيره ، وما القرآن إلّا أساطير الأولين. مصداق قوله تعالى : (وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) سورة الفرقان آية ٥. ولكن الله أبطل شبهتهم ، وثبت إنزاله من عنده. قال تعالى : (قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) سورة الفرقان آية ٦. وهكذا جاء الرد الإلهي ، وفي كل مرة مفندا لمزاعمهم ، ومبطلا لشبهاتهم ، مفحما لهم متحديهم أن يأتوا بمثله إن كانوا صادقين. فقد صدق تعالى ، وهو يقول : (الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ

١٤

إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً) سورة الطور آية ٣٤. ولكن هل فعلوا قديما ، وقد أعجزهم؟ وهل فعلوا حديثا ، وقد أفحمهم؟ ولكن أما آن للكفر أن ينتهي عن تقولاته! وأما آن للشرك أن يقلع عن تفوهاته! وأما آن للصليبية ، واليهودية أن تعلما أن هذا القرآن المعجز في بيانه ، وعلومه ، وآياته ، وحقائقه ما كان ليفترى من دون الله ، وقد أخبرهم الله بهذه الحقيقة إذ يقول : (وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) سورة يونس آية ٣٧.

وهكذا ، وإن لم يقلع أهل الكفر ، والشرك عن تقولاتهم على القرآن ، وعلى الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» والله تعالى أكد عصمة قرآنه من أن ينالوا منه ، وهم في إصرارهم في أباطيلهم ، وشبهاتهم ، فليحذروا من عذاب ربهم ، وليعلموا أن الله أعدّ لهم نارا وقودها الناس ، والحجارة. مصداق قوله تعالى : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) سورة البقرة آية ٢٤. ولكن ـ والكفر عناد ـ ويكأن أهل الكفر أبوا بعداوتهم لخالقهم ، ورسوله ، وقرآنه إلا أن يجعلوا من أنفسهم وقودا لنار جهنم. ويا عجبا لأهل الشرك ، وهم يصرون على كفرهم ، ويا عجبا لهم ، وقد جعلوا أصابعهم في آذانهم ، واستغشوا ثيابهم ، وأصروا على كفرهم ، وشركهم ، واستكبروا استكبارا. وهكذا يتابع مسلسل الكفر والشرك حلقاته تتقاسم أدوار البطولة فيها عناصر الكفر الغربية ، واليهودية ، وأتباع إلحاد الشيوعية ، والوجودية ، وعبّاد أصنام الوثنية تجمعهم شواهد وحدة الهدف في مهاجمتهم للإسلام ، والطعن في المسلمين ، واللّغو في القرآن ، والشتم للرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». لا يردعهم عن غيهم رادع ، ولا يؤنبهم على طعنهم ضمير. وقد جمعهم شمل الكفر ، فكانوا في عدائهم لله وكتابه ، ورسوله أولياء بعض. فصدق قول ربنا فيهم : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) سورة الأنفال آية ٧٣ وبعد أن منّ الله عليهم بنعمه ، وسخّر لهم الكون بعطائه ، ويسّر لهم العلم بتوفيقه ، ورأوا بأدواته ، ووسائله آيات ربهم ، ازدادوا بعدا عن إلههم ، وطعنا في آياته ، وتطاولا على معجزاته. فإننا نراهم اليوم قد أحكموا حلقات مسلسل طعنهم ،

١٥

ومهاجمتهم للقرآن الكريم ، آية ربهم الخالدة. وهم وبعد أن أبطل الله شبهاتهم حول سحر وكهنوت القرآن ، وشعر ، وجنون من نزل عليه القرآن نراهم قد ازدادوا شراسة في عدائهم ، وطعنهم ، وقذفهم في رموز الإسلام الخالدة. وأدخلوا أنفسهم في متاهات القحة ، والضلالة ، وميادين البذاءة ، والدنايا ، وكالوا الشتم ، والسب ، والقدح من غير أي تورع. وبرعوا في إنتاج أفكار الطعن والقذف ، وتفننوا في اختراع أساليب الهدم ، وأبدعوا في استعمال أخبث وسائل الإعلام من صحف ، وكتب ، وإذاعات ، وتلفزيونات في النيل من القرآن. والعجب في الأمر أنّهم في كلّ ذلك أجبن من أن يقابلوا الفكر بالفكر ، أو الحجة بالحجة. وأنّهم عند ما أعيتهم حقائق الحقّ ، وألوهية التنزيل أصروا على عنادهم في الكفر ، واحتكموا إلى شياطينهم ، وتحصنوا من وراء جدر الجبن ، والخبث ، والدناءة ، وفحش القول ؛ وأسندوا أداء أدوار البطولة في مسلسلات الحقد ، والشتم ، والطعن إلى نفر من أمّة العرب ، أمة الإسلام لا ينتسبون إليه إلّا اسما ، أو بشهادة الميلاد ، شهادة الازدياد. وجعلوا منهم أبواقا يرددون أقاويلهم ، وشبهاتهم حول القرآن معجزة رسولنا الخالدة ، ومقابل قليل من فتات المال ، والشهرة الزائفة يلتقطونها بإذلال من على موائد لئامهم الكفّار. وهذه شيمة الكفار في مهاجمتهم للإسلام ، وهذه أساليبهم في الطعن في القرآن طيلة عهود الزمان. فهم دوما ينطلقون من فراغ الحقيقة ، ونبذ الهداية ، وفقر الدلالة ؛ وأدلتهم أن لا أدلة لهم إلا كفر العناد ، وقفل الأذهان ، وحقد قلوب الشرك على نورانية التوحيد ، وضغينة عقول الكفر على هدايات الإيمان ؛ أو يهاجمون رموز الإسلام من وراء جدار.

وإننا نراهم اليوم يدفعون بأحد شياطينهم إلى ميدان القحة ، والبذاءة. وهو سلمان رشدي ، والذي أخلص لهم في ترديد شبههم عن القرآن ، ونبي القرآن ؛ شبه الشتم ، والقذف ، والسب. فهو يؤلف كتاب آيات شيطانية ، ويهاجم فيه رموز الإسلام ، ويوسعها الطعن ، والسباب. فهو يصف القرآن بأنّه آيات شيطانية أملاها الشيطان على لسان الرسول «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ، وهو يتهمه

١٦

بالهلوسة ، وبأنّه نبي الجاهلية ، ويصف بيوت أزواجه بأمكنة الدعارة ، والصحابة بأنهم سكارى ، وأن سلمان الفارسي كان غشاشا ، وأنّ الكعبة بيت الجاهلية. وهو يبرر كل ذلك بأنّها محاولة جديدة لفهم الدين. وأسياده الصليبيون ، واليهود يعذرون قباحته ، وبذاءته ، بأن ذلك من معالم الحرية الفكرية التي يجب أن يتمتع بها الجميع. وهم بأساليبهم الوقحة في كيل الشتائم ، والسباب ، يلقون بأسلحتهم في ميدان مقارعة الفكر بالفكر ، وتنكشف خططهم أمام قوة نور إعجاز القرآن. وإزاء فشل محاولاتهم لإلغاء القرآن تراهم يستعينون ببعض حثالات البشر من المفكرين الذين هانت عليهم أنفسهم ، وتنكروا لدينهم ، وأمتهم وهم الذين يعرفون بالعلمانيين ، ويمدونهم بقمامات الفكر يشوهون بها أصالة القرآن الكريم.

فمرة ينادي هؤلاء العلمانيون بإلغاء لغة القرآن لغة الفصاحة ، والبلاغة والبيان ، واستبدالها باللغة العامية المحكيّة. ومرة ينادون بإلغاء ديانة الإسلام ، ومرة ينادون بفصل القرآن عن الحياة ، ومرة ينادون بفصل القرآن عن الدولة ، ومرة ينادون بفصل القرآن عن السياسة ، ومرة ينادون بفصل القرآن عن أركان الإسلام كالزكاة .. وهكذا.

فهذا عميد العلمانيين يوسف الخال ـ تشومبي الثقافة العربية ـ يجاهر بإلغاء لغة القرآن ، وإلغاء ديانة الإسلام. فهو يكتب في كتابه : «دفاتر الأيّام» وفي الصفحة ١٠٦ أن اللغة العربية ميتة ، ويدعو إلى : الإقلاع عن استعمال اللغة الميتة. ويقول بالحرف الواحد : «وإنّنا شعوب لا لغة حيّة مكتوب لها ، إذن لا أدب لنا ولها ، وإذن لا قراء فيها ، ولو لا اعتمادنا على معرفة اللغات الأجنبية ، لكنا أيضا بدون ثقافة». وتراه يهاجم أهل اللغة العربية في الصفحة ١٣٩ ويقول بالحرف الواحد : «هؤلاء الموروبون الناعقون كالبوم ، الجاثمون على صدورنا كالغربان ، العاملون أنفسهم أتلجسيس (١) القومية العربية».

__________________

(١) حسب ورودها في كتاب يوسف الخال.

١٧

وفي الصفحة الحادية والثلاثين يدعو العرب إلى تغيير دينهم ، فهو يقول : «إذا كانت النظرة إلى الكون ، والحياة ، والفن هي ما نسميه الدين ، وإذا كان لنا بعد هذا السقوط الذي حل بنا منذ ألف سنة أن ننهض من جديد ، فعلينا أن ننقد نظرتنا الحاضرة ، ونتبنى تعديلا لها ، أو بدلا منها». ويذكر في كتابه وفي أكثر من موقع ـ أنّه لا يعرف الله إلا بشخص السيد المسيح ـ. وهذا فارس الشرك «سلامة موسى» يجاهر بمعاداة الإسلام. فهو يذكر في كتابه «اليوم والغد» وبالحرف الواحد : «إنّ الرابطة الدينية وقاحة ، وإننا أبناء القرن العشرين أكبر من أن نعتمد على الدين جامعة تربطنا ، ونحن في حاجة إلى ثقافة حرة أبعد ما تكون عن الأديان ، وحكومة برلمانية كما هى في أوروبا ، ويحب معاقبة كل من يحاول أن يجعلها مثل حكومة هارون الرشيد ، أو المأمون. وهذا مذهبي طول حياتي سرا ، وجهرا ، فأنا كافر بالشرق ، ومؤمن بالغرب».

وهذا هو أحدهم وهو شاعر العربية يطعن في رموز الإسلام بثوابته ، ومتغيراته. وهذا هو ، وغيره كثير ممّن يتزعم مدرسة استبدال لغة القرآن بلغة العوالم الدراجة. هذا نزار قباني شاعر الجنس يعري المرأة المسلمة في شعره من تاج حيائها.

وهذا كاتب ياسين عميل الإلحاد في المغرب المسلم يصف المؤذنين المسلمين بأنّهم كلاب الدوار. ويصف صومعة المسجد بالصاروخ الذي لا ينطلق (العدد ٧٧ من مجلة جزائر الأحداث يوم ٩ إبريل ١٩٦٧ م). هذا بوق العلمانية الطبيب النفسي «فؤاد زكريا» يهاجم الشريعة الإسلامية في كتابه : «الحقيقة والوهم» ويقول بالحرف الواحد : «أما التجارب التاريخية للإسلام فلم تكن إلا سلسلة طويلة من الفشل ؛ والاستبداد كان القاعدة ، والظلم هو أساس الحكم ، وإن شخصية عمر بن الخطاب فذة فريدة لن تتكرر. وإنّ الانتشار الواسع للاتجاهات الإسلامية بشكلها الراهن إنّما هو مظهر صارخ من مظاهر نقص الوعي لدى الجماهير». وهذا متحذلق العلمانية «محمد أحمد خلف الله» يطعن في

١٨

الإسلام واللغة العربية بطريقته ، فهو يصف الله بأنه عربي. ويقول في مقالة له في مجلة العربي عدد يونيو سنة ١٩٨٤ ص ٤٣ وبالحرف الواحد : «إن القرآن الكريم لم يجعل النبي «صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» ملكا ، أو رئيس دولة. وإنما ظل دائما النبي الرسول» قاصدا بذلك ، وعن سوء نيّة عدم ضرورة قيام الدولة الإسلامية ، وعدم صلاحية القرآن ، والشريعة الإسلامية للحكم. وتقدم الصليبية بوقا آخر هو المطران «أغناطوس مبارك» ، والذي أبان عن حقده على المسلمين ، وتحالفه مع الصهيونيين حيث يكتب في جريدة «بالستاين بوست» في السادس والعشرين من مارس سنة ١٩٤٦ م بالحرف الواحد : «إننا ندرك أن الصهيونية تأتي بالتمدن لفلسطين ، والشرق الأوسط كله ، وإني متحمس جدا للصهيونية ، لأني أحب الخير لفلسطين. وإذا أحببتم أن تماشوا رغبات العرب المسلمين ، فهؤلاء يرغبون في السيطرة على البلاد ، وطرد المسيحيين منها ، وإنّي أقول لكم بصراحة : إنّكم إذا قاومتم الصهيونية في فلسطين ، فإن ذلك يعني إرجاع الشعب إلى حكم الهمجية ، وإرجاع البلاد إلى حكم الفوضى ، والبرطيل كما كانت أيام حكم سلاطين بني عثمان».

وهكذا تكاتفت شياطين كفر الصليبية مع كفر اليهودية في عدائهم للإسلام ، وطيلة عهود التاريخ ، ولذلك حذّرنا الله منهم إذ يقول فيهم : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) سورة المائدة آية ٥١.

ولا عجب إذن ـ وهذه شيمهم دوما ـ أن يكيلوا التهم للإسلام ، ويطعنوا في القرآن ، ويشتموا نبي القرآن ، وأن يتفننوا في اختراع الشبهات حول رموز الإسلام ، وأن يستخدموا أحط ، وأقذر وسائل الهجوم حتى ولو كانت سخف قول ، أو بذاءة لسان ، أو لغط كلام كما نشاهد اليوم من سب ، وشتم ، وقدح لا مبرر لهم في كل ذلك إلّا الادعاء بحريّة الفكر والتعبير ، ولا هدف لهم إلا القضاء على القرآن سر عظمة الإسلام والمسلمين. ولا حجة لهم إلا أنه دعاهم إلى الإيمان ، والإسلام ، وأراد نقلهم من ظلمات التثليث ، والكفر إلى نور الهداية ، والتوحيد. وإزاء

١٩

هجماتهم الشرسة هذه قمت بإعداد هذه الدراسة المتواضعة عن عدد من شبهاتهم الباطلة حول القرآن الكريم ، وقمت بتفنيدها بالأدلة القاطعة ، والبراهين الساطعة لا أقصد بذلك الدفاع عن القرآن ؛ فأصالته الألوهية ، وأحقيّته الربوبية تغنيه عن أي دفاع ، وما هذه الدراسة إلا كشف لطيف لهذه الأصالة ، وتفنيد لشبهات حوله بلغت أربعا وسبعين شبهة.

وقد جعلت عنوان هذه الدراسة في هذا الكتاب : «شبهات حول القرآن ، وتفنيدها» وقد ضمنتها اثني عشر بابا. وإنّي لأرجو أن تكون بيانا شافيا لشبهات الباطل ، وقدرا موفقا في تفنيدها ، والرد عليها. وأن تكون عونا لأهل العلم ، والإيمان في دفاعهم عن قرآنهم.

وإنّي لأدعو الله أن يغفر لي تقصيري ، وأخطائي. وإني لأرجو الله أن أكون قد وفّقت ، وأن يوفقني دائما في نصرة دينه ، والدفاع عن قرآنه ، وتفنيد الشّبه من حوله.

اللهم نسألك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ، ونور صدورنا ، وجلاء أحزاننا ، وذهاب همومنا ، وغمومنا. اللهم اجعله حجة لنا لا حجة علينا ، وحجة على أعدائك لا حجة لهم.

اللهم اجعلنا ممن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويقيم حدوده ، ويعمل بأحكامه. اللهم اجعلنا من أهل القرآن المدافعين عن القرآن ، المفنّدين لشبه الكفار حول القرآن. يا أرحم الراحمين.

قال عزّ من قائل : (وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ) سورة سبأ آية ٣٨.

المؤلف

الأستاذ الدكتور غازي عناية

١٤١٦ ه‍ ـ ١٩٩٦ م.

جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية.

قسنطينة ـ الجزائر.

٢٠