التفسير الواضح

دكتور محمّد محمود حجازي

التفسير الواضح

المؤلف:

دكتور محمّد محمود حجازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الجيل
الطبعة: ١٠
الصفحات: ٩٣٨

كيف ندعو أهل الكتاب إلى الإسلام

وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩)

المفردات :

(وَلا تُجادِلُوا) المجادلة : المناقشة (يَجْحَدُ) الجحد : إنكار الشيء بعد معرفته (لَارْتابَ) : لشك (الْمُبْطِلُونَ) : غير المحقين فيما ذهبوا إليه.

وهذا شروع في إرشاد أهل الكتاب ومعالجتهم ودعوتهم إلى الدين الحق دين الفطرة السليمة ، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهم‌السلام ، وهم قوم يقولون بوجود الله واليوم الآخر والتصديق ببعض الكتب والأنبياء ، هذه عقائدهم الأساسية ، وإن حاولوا طمسها في بعض الأحيان والأحوال.

١

وهذه الآية تدعونا إلى البحث في واجب المسلمين نحو دعوتهم ونشر دينهم ، وماذا يكون موقفهم أمام معارضيهم وأعدائهم ، في هذا الموضوع كتبت أنا وزميل لي بحثا تاما كاملا في مشروعية القتال سيطبع قريبا إن شاء الله.

والخلاصة أن علينا نشر الدعوة لأنها دعوة عامة شاملة صالحة لكل زمان ومكان (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ ..) [سورة الأنعام آية ١٩] (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً) [سورة الأعراف آية ١٥٨].

والذي ندعوه إن قبل الإسلام فقد كفى الله المؤمنين القتال ، وإن حاربنا ووقف في طريقنا وكمّم أفواه دعاتنا لا سيما إن كان من مشركي العرب الذين بالغوا في عداوة الإسلام حاربناه ، ودعوتنا إلى الإسلام أولا تكون بالحكمة والموعظة الحسنة.

لهذا لا نعجب إن رأينا آيات في القرآن تحثنا على الدعوة إلى الإسلام بالحسنى وآيات تأمرنا بالقتال وتحث عليه (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ..) [التوبة ٥].

المعنى :

ادع إلى سبيل ربك ، وانشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة ، فإن رأيت ممن تخاطبه إعراضا وشكا فيما دعوته إليه أو جحدا وإنكارا فجادلهم بالتي هي أحسن واعلم بأن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله فيجازيه على عمله ، ولا شيء عليك أيها الداعي ، فإن تحرجت المسألة وانتهت إلى جدال بالعنف والشدة والقتال على أنهم هم البادئون لا أنتم أيها المسلمون ، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم على الأذى في أول الأمر لهو خير للصابرين.

ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن من أختها عملا بقوله تعالى (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) [فصلت ٣٤].

وأهل الكتاب منهم المعتدلون في آرائهم ومعتقداتهم البعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث ، وهؤلاء يؤمنون بالله وبكتابهم ونبيهم وباليوم الآخر فليس بيننا وبينهم إلا الإيمان بمحمد مع عيسى أو موسى ، وأظن أن هؤلاء بعد توفيق الله لهم وشرح صدورهم للإسلام لا يحتاجون إلا إلى نقاش بسيط وجدال بالتي هي أحسن.

٢

ومن أهل الكتاب قوم خلطوا بين التوحيد والتثليث ، وحرفوا في الكتب وغيروا ، ونسبوا لله ولدا أو شريكا وهؤلاء قد ضلوا السبيل ، وعموا عن الطريق ، ومع هذا فيأمرنا الدين بدعوتهم بالتي هي أحسن ، لأن الإسلام يحترم حرية الرأى والعقيدة ويطلب من الناس أن يعاملوه بها ، وهو بدوره يعامل الناس بها.

نعم إذا سلك أهل الكتاب طريقا معوجا بأن نقضوا العهود. وألّبوا الناس ضد الإسلام ، ووقفوا في سبيل نشر دعوته بالقوة ، ومنعوا دعاته بالعنف والشدة فلم يسلكوا في رد الإسلام الحجة والبرهان بل سلكوا سبيل القوة والبطش ، أليس هؤلاء قد ظلموا وتجاوزوا الحد المعقول؟ أمن العدل والكرامة أن يقف الإسلام منهم موقف الخزي والذل ، ويطأطئ رأسه احتراما لظلمهم وعنفهم؟ كلا وألف كلا! فلن يقف الإسلام موقف المتفرج ممن يهدم بيته ويقض مضجعه ـ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ورجاله يبغون إحدى الحسنين ـ بل يقابل الشدة بمثلها ويمنع الظلم بالقتال.

وانظر إلى تأديب القرآن وإرشاده لنا بأن نقول عند الجدال بالحسنى : نحن يا أهل الكتاب آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم ، وآمنا بأنبيائكم ورسلكم فنحن قوم لم نفرق بين نبي ونبي ، ولم نؤمن ببعض الكتب دون بعض ، على أن الكل يؤمن بالله الأحد الفرد الصمد ، ونحن له مسلمون ومنقادون فما المانع أن تكونوا كذلك؟ وتؤمنوا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم على أنه خاتم الأنبياء ، ورسالته ناسخة لكل الرسالات ، فالدستور الجديد ينسخ العمل بالقديم. وقد بشر بالقرآن وبمحمد في كتبكم ، ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه على موسى وعيسى أنزلنا إليك يا محمد الكتاب. أى : القرآن ، فليس من العدل أن نؤمن ببعض الكتب ونكفر ببعض ، فالذين آتيناهم الكتاب كموسى وعيسى وداود يؤمنون بالنبي محمد وبكتابه بل وبشروا به وأمروكم بتصديقه إذا ظهر بعلاماته المعروفة عندهم.

ومن هؤلاء ، أى : أهل الكتاب المعاصرين من يؤمن به ويصدق لأنه آثر الباقية على الفانية ، ولم تغره الدنيا بزخارفها كأمثال عبد الله بن سلام ، وتميم الأنصارى وغيرهم كثير.

وما يجحد بآياتنا الظاهرة التي تدل على صدق رسولنا محمد إلا الكافرون ، وأنتم

٣

يجب أن تكونوا بعيدين عن الكفر إذ أنتم من الموحدين الذين كنتم تستفتحون بهذا النبي العربي على الذين كفروا.

وها كم دليلا آخر على صدق محمد في رسالته ، ولعله أوضح مما مضى : يا أهل الكتاب ويا أتباع الأنبياء وأصحاب الكتاب. هذا النبي العربي وصفه عندكم أنه أمى ، ما كان يتلو كتابا ، ولا يخط بيمينه حرفا ، ولم يجلس إلى معلم ، ولم يستمع إلى مدرس ومع هذا فقد أتى بالقرآن المعجز في أسلوبه وعلومه ، وقصصه وأحكامه وتشريعه ، أليس في هذا دليل على صدقه؟!

على أنه إذا كان قارئا عالما ثم أتى بهذا القرآن المحكم ، ذلك الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ما كان يصح أن يرتاب في صدقه إلا المبطلون ، فإن جميع علماء الأرض لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومعينا ، فكيف يرتاب إنسان في أن هذا القرآن نزل من عند الله على محمد ، وهو المعجزة الشاهدة على صدقه إلى الأبد ، ولا يشك في هذا إلا رجل غير محق في رأيه ، بل هو آيات بينات واضحات في صدور الذين أوتوا العلم والمعرفة ، ولذا ورد .. «هذه الامّة أناجيلهم في صدورهم» وبعد هذا ما يجحد بآيات ربك إلا الظالمون الذين يعرفون الحق ثم ينأون عنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا.

وأنتم يا أهل الكتاب إذا جحدتم هذه الآية ، وكفرتم بتلك الرسالة المحمدية لزمكم إنكار الرسل والكفر بالكتب كلها. وكنتم ملحقين بالمشركين الظالمين ، وما يجحد بآياتنا بعد ذلك إلا الظالمون.

ذكر بعض الشبه والرد عليها

وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ

٤

يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥)

المفردات :

(شَهِيداً) : يشهد بصدق. (أَجَلٌ مُسَمًّى) : معلوم محدد (بَغْتَةً) : فجأة (يَغْشاهُمُ) : يصيبهم.

المعنى :

وقالوا : لو لا أنزل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم آيات من ربه ، تكون دليلا على صدقه ، ومعجزة بينة له تثبت أنه رسول من عند الله ، وكأنهم لم يكتفوا بالقرآن على أنه معجزة مع أنه أكبر شاهد على صدق الرسول كما مضى من قبل.

ومن الذي قال ذلك؟ أهم مشركو مكة أم أهل الكتاب؟ قال بعض العلماء : إنهم المشركون! وقال بعضهم : هم أهل الكتاب لأن الكلام معهم والرد عليهم.

وقد رد الله على من يطلب آية فأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يقول لهم : إنما الآيات التي تطلبونها عند الله وليس عندي شيء منها ، إنما وظيفتي الإنذار فقط ، ومن شاء فليؤمن

٥

ومن شاء فليكفر ، طلبوا من النبي آيات كفلق البحر ، وانقلاب العصا حية إلى آخر ما مضى من الآيات التسع التي أنزلت على موسى ، وكالآيات التي أنزلت على عيسى من إحياء الموتى وإبراء المرضى إلى آخر ما عرفت ، فرد الله عليهم أيضا لافتا نظرهم إلى القرآن الذي هو المعجزة الباقية فقال :

أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ، وقد تحداهم ربك أن يأتوا بمثله أو بسورة منه وأن يتعاونوا في ذلك مجتمعين مع شهدائهم وأوليائهم فعجزوا عن هذا مع التحدي الشديد اللهجة ، وهم قوم عرب يؤلمهم جدا أن يهزموا ، أفلا يكفيهم هذا معجزة؟ ولو أتاهم ربك بآيات كآيات موسى وعيسى لقالوا : سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون!! على أنهم قوم عرب نبغوا في صناعة البلاغة والبيان فيكونون أقدر الناس على فهم حقيقة الإعجاز فيه ، كسحرة فرعون بالنسبة إلى عصا موسى. لا يا قوم! إن في ذلك الكتاب لرحمة ، وأى رحمة أكثر من هذا؟ (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً) وإنه لذكرى وأى ذكرى؟ فهو الباقي ، وكل آية مادية تفنى ، وهل يكون غيره دليلا على صدق رسالة باقية إلى الأبد؟ فهو الآية المستمرة الباقية على مر الدهور والسنين بخلاف ناقة صالح ، وعصا موسى ، وإبراء الأكمه من عيسى ـ عليهم جميعا الصلاة والسلام ـ نعم هو الكتاب الذي يتلى ، وهو الآية التي لا تنقضي عجائبها ، ولا تخلق جدتها ، بل كلما تقدم الزمن وتقدم العلم ظهرت أسرار الشريعة ، وحقائق القرآن واضحة جلية (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ..) [سورة فصلت آية ٥٣].

هو رحمة وذكرى وعظة وعبرة ولكن لقوم يؤمنون.

قل لهم يا محمد : كفى الله شهيدا ، وكفاه بيني وبينكم حكما مقسطا يشهد بصدقى وهو العليم الخبير بخلقه ، ويعلم ما في السموات والأرض ، وأنا أدّعى أنى رسوله فلو كنت كاذبا لقطع منّى الوتين ، ولخسف بي وبداري الأرض ، وكنت من المهلكين ، وكيف يكون ذلك. وهو يرعاني ويكلؤنى بعين لا تنام ، ويحرسنى بيد لا ترام!! والذين آمنوا بالباطل ، وصدقوا بالتّرهات والأراجيف ، والذين كفروا بالله ، أولئك جميعا هم الخاسرون ، أما الأولون فهم أهل الكتاب الذين لم يتبعوا الحق ، وأما الآخرون فهم المشركون الضالون.

٦

ويستعجلونك بالعذاب الذي وعظتهم به ، وخوفتهم من عاقبته ، وسقت لهم القصص ليعتبروا بمن سبقهم ، ولو لا أجل معلوم ، ووقت محدود ، وأن لكل أجل كتابا ، وكل شيء عند ربك بمقدار. لو لا هذا كله لجاءهم العذاب عاجلا ، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ، وقد أتاهم ببدر وفي مشارف المدينة من قوم أخرجوا من ديارهم ، وأخذت أموالهم وحصروا في الشعب ثلاث سنين ذاقوا فيها الأمرّين.

يا عجبا لهم يستعجلونك بالعذاب ، وإن جهنم لمحيطة بهم ، يوم يغشاهم العذاب من كل جانب ، ويصب عليهم من فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، وما عهدوا نارا تأتى من فوق ومن أسفل ، ولكنها نار وقودها الناس والحجارة. ثم يقال لهم ـ تأنيبا وتوبيخا ـ ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.

توجيهات إلهية للمسلمين

يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ

٧

مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٦٣) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤)

المفردات :

(لَنُبَوِّئَنَّهُمْ) لننزلنهم (غُرَفاً) الغرف : جمع غرفة ، وهي الحجرة (وَكَأَيِّنْ) أى : كم بمعنى كثير من الدواب (سَخَّرَ) : ذلل (دَابَّةٍ) : كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان يقال له دابة (يُؤْفَكُونَ) يصرفون (يَقْدِرُ لَهُ) يضيق عليه ، أى : يقتر عليه رزقه (لَهْوٌ) اللهو : الاشتغال بما لا يعنى وما لا ينفع عن النافع المفيد ، وفي المصباح : اللهو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة ، واللعب : هو العبث (الْحَيَوانُ) : الحياة الدائمة الخالدة الجديرة باسم الحياة.

المعنى :

بعد ما وفي الحق ـ تبارك وتعالى ـ الكلام على المشركين وأهل الكتاب أخذ يوجه نصائح للمسلمين ، وهم في أشد الحاجة إليها ، وخاصة حينما جاهروا بالدعوة واشتد إيذاء الكفار لهم في مكة ، وهذه التوجيهات تهدف إلى خلق المؤمن الكامل الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة الله.

يا عبادي الذين آمنوا بالله ورسوله إن أرضى واسعة فهاجروا فيها وفروا بدينكم من عنت المشركين أعداء الله وأعدائكم ، يا عبادي إن ضاق بكم موضع فإياى فتوجهوا لأن أرضى واسعة. وهذا تحبيب للمسلمين في الهجرة مع رسول الله ، وكانت واجبة قبل فتح مكة ثم بعدها لا هجرة ، وإنما المهاجر من هجر ما نهى الله عنه.

٨

وفي هذه الأيام لا هجرة من بلد إلى بلد كما يهاجر سكان شمال أفريقيا إلى بلاد الحجاز خوفا من عنت الفرنسيين ، لا يا قوم ، اثبتوا في مكانكم وتجمعوا مع إخوانكم وشقوا لأنفسكم الطريق ، وتمسكوا بدينكم تفوزوا على أعدائكم. وإلا فسيكون مآل بلاد الإسلام إلى تسليمها للأعداء ، فالآية نزلت في الهجرة قبل الفتح لا في الهجرة مطلقا في كل وقت ومن أى بلد.

وها هي ذي المرغبات في الجهاد والهجرة في سبيل الله يسوقها الله فيقول :

كل نفس مهما كانت لا بد أن تذوق الموت ، وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تجعل الخوف من الموت سببا في الخضوع والذلة ، والمكث في دار الكفر حبا في الدنيا مع أنك مفارقها حتما وميت حتما ، وإلى الله وحده ترجع الأمور كلها ، فمن العقل أن تعمل لذلك اللقاء ، وتدخر ليوم الحساب ما تقدم من صالح الأعمال.

وها هم أولاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة أماكن عالية ولننزلنهم فيها غرفا تجرى من تحتها الأنهار ، وخالدين فيها وذلك جزاء المحسنين ، ونعم أجر العاملين أجرهم. وهم الذين صبروا على الأذى ما دام المصير خيرا للدين والدعوة ، وعلى ربهم يتوكلون إن سافروا وهاجروا في سبيل الله أو قاموا بعمل نافع.

وإذا كان الأمر كله بيد الله ، وهو الرزاق ذو القوة المتين ، فاعلم أنه يرزق من ليس له حيلة حتى يعجب صاحب الحيلة ، ويرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا نعم كم من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها من حيث لا تعلم ، ويرزقكم يا أيها المهاجرون وإن لم يكن معكم زاد ولا نفقة ، وهو السميع لكل قول ، العليم بكل فعل ، وهذا غرس لمبدأ التوكل على الله ، وقد كان ذلك كذلك فقد هاجر المسلمون إلى المدينة ثم فتح الله لهم الدنيا.

ومن الغريب لئن سألتهم من خلق السموات والأرض ، وما فيهما من عوالم لا يعلمها إلا خالقها؟ ومن سخر الشمس والقمر تسخيرا يحير العقول في إدراك سره ونظامه؟ ، فتسخير الشمس والقمر بهذا الوضع الذي ينشأ منه الليل والنهار ، والفصول السنوية من صيف وشتاء وربيع وخريف أدل على كمال القدرة وتمام العلم وحسن النظام من نفس خلق الشمس والقمر ، ولعل هذا هو السر في تعبير القرآن بسخر ، ولئن سألتهم عن هذا ليقولن الله فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟! كيف تقرون بأن الله خالق

٩

هذا الكون ، ومدبر هذا الوجود ومنظمه ، ثم تشركون معه في الربوبية آلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟!!

والله سبحانه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويوسعه ، ويضيق الرزق على من يشاء ويقتر عليه سواء كان في بلده ووسط أهله وعشيرته أو هاجر إلى بلد ناء بعيد ، إن الله بكل شيء عليم.

ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به موات الأرض ، وعطاش الحيوان؟ ليقولن الله! عجبا لهم فكيف يشركون معه غيره؟!

قل لهم : الحمد لله قد لزمتكم الحجة ، وقد أقررتم بذلك. والحمد لله على ما أنزل من مطر أحيا به الأرض بعد موتها ، الحمد لله على كل حال.

بل أكثرهم لا يعقلون إدراك هذه الأسرار.

وما هذه الحياة الدنيا التي يتكالب عليها الناس إلا لهو ولعب ، فهي في حقارتها وسرعة زوالها وانقضائها ، وأنه لا خير فيها ولا دوام لها كاللهو واللعب ، وإن الدار الآخرة لهى الحياة الدائمة ، الحياة الكاملة التي لا زوال فيها ولا انقضاء ، لو كانوا يعلمون ما يبقى على ما يفنى ، وفي هذا أيضا تنفير من الدنيا وتحبيب في العمل الصالح. وتربية سليمة لخلق المؤمن الكامل صاحب المثل العليا الذي يستحق من الله وصفه بالعبودية له.

بيان حال الكفار في الشدة والرخاء

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ

١٠

النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)

المفردات :

(الْفُلْكِ) : السفينة في البحر (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) : صادقين في نياتهم (حَرَماً آمِناً) : حرما ذا أمن وطمأنينة (مَثْوىً) : مأوى ومستقر (يُتَخَطَّفُ) الخطف : الأخذ بسرعة ، والمراد : يقتل بعضهم بعضا بسرعة ويسبى بعضهم بعضا (أَظْلَمُ) الظلم : وضع الشيء في غير موضعه.

المعنى :

هذه الحياة الدنيا التي هي لهو ولعب هي السبب في كفر هؤلاء وشركهم وذلك أنه إذا انقطع رجاؤهم من الدنيا بسبب من الأسباب كأن ركبوا في الفلك واضطرب البحر وعصفت الريح ، وتيقنوا الغرق ، إذا حصل هذا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد ، ودعوا الله مخلصين له النية ، صادقين بحسب الظاهر في الدعاء ، وفي الحقيقة قلوبهم مشحونة بالشرك بدليل أنه إذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا (فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ).

وكانت العاقبة أنهم كفروا بالله ، وبما آتاهم من نعمه ، وبما حباهم من فضل ، لتكون عاقبتهم أيضا أنهم يتمتعون في الدنيا متاعا هم مهددون فيه بالفقر والمرض والموت ، وفي الآخرة سوف يعلمون عاقبة ذلك كله لأنهم سيجازون الجزاء الأوفى على أعمالهم.

عجبا لهؤلاء! يدعون الله مخلصين له الدين إذا كانوا في حال شديدة من الخوف والاضطراب ، وعندئذ يضلون عن الأصنام والأوثان ، فإذا أمنوا على أنفسهم وزال

١١

الخطر عنهم يكفرون بالله ويدعون الأوثان .. إن هذا لعجيب فإن حالهم متناقضة إذ دعاؤهم الله في الضراء دليل على أنهم يثقون أن النعمة ودفع الأذى منه وحده ، فما بالهم وقد عادوا إلى السراء ، وحلوا بالأوطان يكفرون بالرحمن .. ويعبدون الأوثان؟! أعموا ولم يعلموا أن الله ـ سبحانه وتعالى ـ هو الذي جعل حرمهم مكان أمن وطمأنينة يأمن فيه الخائف ، ويسكن فيه المضطرب ، ويتخطف الناس من حوله بالسرقة والقتل ، والسلب والنهب.

أعموا ولم يعلموا أن صاحب الفضل في الشدائد الذي أنجاهم من المخاوف هو الله الذي حباهم بالنعمة ، وأسكنهم الحرم الأمين؟ عجبا لهم! أبالباطل وما لا خير فيه بل ما فيه الضرر يؤمنون ، وبنعمة الله وفضله يكفرون؟!

ولما بين الله ـ سبحانه ـ الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة ، والطريق المعوج الموصل إلى النار ، وحذر الناس من اتباعه ، وحثهم على سلوك طريق الحق والنور ، لما بين الله هذا وذاك أمر نبيه أن يقول للناس : لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب. وها أنذا أدعى أنى رسول الله وأن ما أنزل على هو كتاب الله ، وبعضكم كذبني ، ولا يخلو الحال من أمرين لا ثالث لهما : إما أننى كاذب في دعواي وقد افتريت على الله الكذب ، وإما أنكم قد كذبتم بالحق لما جاءكم من عنده ، لكنني معترف بالحساب والجزاء لمن كذب على الله فلا يعقل أن أقدم على ذلك إذا في القرآن الذي نزل على (أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) والمتنبي الكاذب كافر بلا شك.

وأما أنتم فقد كذبتموني وكفرتم بالله وباليوم الآخر ، وفي جهنم مثوى القوم الكافرين أمثالكم.

وأما أنتم أيها المؤمنون فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ، فإن الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وبأنفسهم أو بما قدروا عليه فالله هاديهم وموفقهم ، وحافظهم وراعيهم ، وهو معهم ، وناهيك بالمعية القدسية ، والقرب من الحضرة العلية ، وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده ، وربك ذو فضل عظيم.

١٢

سورة الروم

مكية ، وعدد آياتها ستون آية : وهي تدور حول إثبات أن الأمر لله من قبل ومن بعد ، مع ذكر بعض صفات الله الواجبة له ، وتهديد المشركين ، وبيان أن الإسلام دين الفطرة ، وبيان طبيعة الإنسان ، ويلاحظ فيها ذكر الآيات الكونية الدالة على العلم والقدرة والوحدانية كثيرا.

من أخبار الغيب

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤) بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥) وَعْدَ اللهِ لا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)

المفردات :

(الم) فيها ما مر في أخواتها من حيث القراءة والمراد (الرُّومُ) : هي مملكة الرومان وعاصمتها القسطنطينية (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) المراد أقرب الأرض إلى العرب من جهة الشام مما يلي فارس (فِي بِضْعِ سِنِينَ) البضع : ما بين الثلاثة إلى التسع من السنين.

١٣

نزلت هذه الآيات عند ما غزا الفرس الرومان ، وغلبوهم في مشارف الشام مما يلي بلاد العرب ، ففرح بذلك مشركو العرب إذ قالوا : إن الفرس لا كتاب لهم مثلنا ، والرومان لهم كتاب مثلكم لأنهم من النصارى ، ولننتصرن عليكم كما انتصر الفرس فحلف أبو بكر بعد نزول الآية أن الرومان سيغلبون الفرس بعد هزيمتهم هذه ، فقالوا له : اجعل لنا موعدا ونراهنك على ذلك ، فضرب موعدا بسيطا ، ثم استشار النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال له : زد في الرهان ومد الأجل فإن البضع من ثلاث إلى تسع. ففعل وانتصر الرومان في السنة التاسعة ، وأخذ أبو بكر الجعل ، وتصدق به.

المعنى :

الم. غلبت الفرس الروم ، ولكن الروم من بعد غلبهم وهزيمتهم سيغلبون الفرس ، وذلك في بضع سنين ، وتلك الأيام نداولها بين الناس ، وكانت هاتان الدولتان هما المسيطرتان على العالم في ذلك الوقت ، إحداهما في الشرق وهي فارس والأخرى في الغرب وهي الروم ، وقد كانتا تتنازعان على السيادة على بلاد لستام وغيرها.

ولله الأمر كله من قبل هذا ومن بعده ، إذ الكل منه وإليه ، فلو كان الانتصار عن قوة ذاتية لما تخلف ، ولو كانت الهزيمة عن ضعف ذاتى لما تخلفت ، ولكنها إرادة الله وقدرته ، فاعتبروا يا أولى الأبصار! فلا تغرنكم قوتكم يا قريش ولا تستهينوا بقوة المسلمين على ضعفهم ، فلله الأمر من قبل ومن بعد ، وأما أنتم أيها المسلمون فثقوا بالله واعتمدوا عليه ، وتوكلوا فهو نعم المولى ونعم النصير.

ويومئذ ينتصر الروم وهم أهل الكتاب على فارس الوثنية يفرح المؤمنون لتحقق وعد الله ، إنه ينصر من يشاء ، وهو العزيز يعز أولياءه بقوته وقدرته. الرحيم بخلقه لا يدع القوى يتحكم في الضعيف.

وعدهم الله وعدا ، ووعده لا يتخلف ، وكيف يتخلف؟ وهو وعد من هو عالم بالأمور بواطنها وظواهرها ، قادر على كل شيء ، وله الأمر من قبل ومن بعد ، فثقوا أيها الناس بوعد الله فإنه متحقق لا محالة ، وما يحصل لكم أيها المسلمون فهو ابتلاء واختبار ، وتربية وتهذيب (وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ) [آل عمران ١٤١]

١٤

ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك ، وهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا ، أى : يعلمون جانبا ظاهريا فقط في الدنيا ، وهو التمتع فيها مع الغرور بها وهم لا يعلمون بواطنها وأسرارها وحقيقتها ، على أنها طريق الآخرة ومزرعتها ، وأنها فانية غير باقية وبعضهم يفسر الآية على أن أكثر الناس لا يعلمون العلم النافع المفيد ، العلم المنجى من يوم القيامة وعذابه ، ولكنهم يعلمون علوم الدنيا الظاهرة ، العلوم المادية التي بها يستخدمون الدنيا وما فيها من عناصر.

وهم عن الآخرة وما فيها من أهوال الحساب والجزاء ، وما أعد فيها للصالحين والفاسقين من نعيم مقيم ، وعذاب مهين. هم عن هذا كله غافلون لم يعملوا لذلك أبدا.

لفت أنظار المشركين وتهديد لهم

أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠) اللهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ

١٥

شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)

المفردات :

(وَأَثارُوا الْأَرْضَ) : حرثوها وزرعوها (السُّواى) : مؤنث الأسوأ ، والمراد بها النار (يُبْلِسُ) أبلس الرجل : إذا سكت وانقطعت حجته ، ولا يؤمل أن تكون له حجة ، والمبلس : الساكت المنقطع في حجته ، اليائس من أن يهتدى إليها (رَوْضَةٍ) الروضة : الجنة ، وأصلها النبات حول الغدير من البقول (يُحْبَرُونَ) : ينعمون ويسرون ، من الحبور وهو السرور.

ما سبق يفيد أنهم ينكرون ما يجب لله بإنكار تحقيق وعد الله. وأنهم ينكرون اليوم الآخر لأنهم عن الآخرة غافلون ، وفي هذا بيان أن ذلك الجهل والتقصير وعدم وضع الأمور في نصابها راجع لهم ، وإلا فأسباب العلم الصحيح والفكر السليم الموصل إلى الحقائق الواجبة لله موجودة معهم ، بل هي في نفوسهم وما حولهم.

المعنى :

أعموا ولم يتفكروا في أنفسهم من الذي خلقها فسواها؟ ومن الذي قدرها فهداها؟ أو لم يتفكروا في أنفسهم ، وما انطوت عليه من دقائق ودلائل شاهدة على أن هذا الخلق خلق الله ، وأن هذا التركيب العجيب تركيب الخبير البصير القوى الحكيم ، إنك إن نظرت في نفسك إلى جهاز الإحساس لرأيت عجبا ، أو إلى جهاز الدورة الدموية ، وكيف تخرج من القلب ثم تتفرع إلى فروع فشعيرات تصل إلى جميع أجزاء الجسم ثم تتجمع ثانية في شعيرات ثم في فروع إلى القلب والرئة لتصهر وتخرج نقية نظيفة صالحة

١٦

للحياة ، وهكذا وهكذا من ذلك كثير كما يعرفه علماء الطب والتشريح ، ولقد صدق الله حيث يقول : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [سورة الذاريات آية ٢١].

أو لم يتفكروا في أنفسهم ، وهي أقرب الأشياء إليهم فيعلموا أن خلق السموات والأرض وما فيها لا يمكن أن يكون إلا وفق حكمة الحكيم وتدبير الخبير البصير وأنه لا بد لهذا الكون من آخر ، وله نهاية ينتهى إليها للحساب والعقاب ، وأنه لا يعقل أبدا أن يخلق عبثا إلا لحكمة (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ) [المؤمنون ١١٥].

وقيل : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) معناه : أو لم يحدثوا التفكير في أنفسهم وفي قلوبهم الفارغة الخالية من الفكر والتفكير فيعلموا أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق ، أى : ما خلقهما باطلا وعبثا بغير غرض صحيح ، وحكمة بالغة ، وإنما خلقهما خلقا مقرونا بالحق مصحوبا بالحكمة ، والتقدير إلى أجل مسمى عنده ، ينتهى إلى قيام الساعة.

وإن كثيرا من الناس بعد هذا كله بلقاء ربهم لكافرون وجاحدون.

ثم انتقل بعد هذا إلى الدلائل المحسوسة والشواهد الناطقة بهلاك أمثالهم ومن هم أشد منهم قوة وأكثر مالا ، وإثارة للأرض حتى عمروها لعلهم يعتبرون.

أو لم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار من قبلهم من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية وقد كانوا أشد من كفار مكة قوة في المال والرجال! وكانوا أصحاب زرع وضرع ، وعمارة وبناء ، وقد عمروا الأرض أكثر مما عمرها العرب ، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات ، وأمروهم بالمعروف ، ونهوهم عن المنكر ، فلما كذبوا رسلهم أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر وما كان الله ليظلمهم ، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.

ثم كان عاقبة الذين أساءوا هي السوأى ، أى : أن ما تقدم من الهلاك كان عقابا لهم في الدنيا ، وأما في الآخرة فلهم السوأى ، أى : جهنم ، لأنهم كفروا برسلنا وكذبوا بآياتنا ، وكانوا بها يستهزئون ، فانظروا يا آل مكة إلى أنفسكم ، فأنتم أولى بالهلاك في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فهل من مدكر؟؟

ولا غرابة في ذلك فالله يبدئ الخلق ثم يعيده ، ثم إليه ترجعون ، واذكروا يوما ترجعون فيه إلى الله ، ويبلس فيه المجرمون ، من شدة الأهوال فيسكتون وتنقطع عنهم

١٧

الأخبار ، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء يشفعون لهم أو يردون عنهم عذابا أو ألما ، وكانوا بشركائهم وآلهتهم كافرين في ذلك اليوم.

ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فمنهم شقي ، ومنهم سعيد.

فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة من رياض الجنة فيها يحبرون ويسرون سرورا أبديّا بما يؤتون فيها من نعم مقيم ، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ، ولهم فيها ما يدعون (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ) [سورة السجدة آية ١٧] ورضوان الله أكبر.

وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب مقيمون ، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ، وقيل لهم : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون.

أوقات التسبيح والعبادة

فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)

المفردات :

(فَسُبْحانَ) : علم على التسبيح ، وهو التنزيه ، وقيل : هو الصلاة (تُمْسُونَ) : تدخلون في المساء وهو انتشار الظلام (وَعَشِيًّا) العشى والعشية : من صلاة المغرب إلى العتمة ، وقيل : العشاء : آخر النهار عند ميل الشمس إلى المغيب ، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر ، وذلك هو وقت العصر.

١٨

لما بين الله ـ سبحانه ـ أن المقام الأعلى لمن آمن وعمل صالحا حيث قال : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ) قال : إذا علمتم ذلك فاعلموا أن الإيمان تنزيه بالجنان ، وتوحيد باللسان وعمل صالح يشمل جميع الأركان ، وكل هذا تنزيه وتقديس ، وتحميد وتسبيح ، فسبحان الله ، أى : فسبحوا الله تسبيحا ، علمه سبحان الله وهو بهذه المعاني إيمان وتوحيد وعمل ـ فإنه الموصل إلى الحبور ، والجالب للسرور في جنان الخلد والنعيم.

سبحوه حين تمسون ، وحين تصبحون ، وفي العشى وحين تظهرون ، عن ابن عباس ـ رضى الله عنه ـ : «الصلوات الخمس في القرآن» قيل له : أين؟ فقال : «قال الله : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ) صلاة المغرب والعشاء (وَحِينَ تُصْبِحُونَ) صلاة الفجر (وَعَشِيًّا) صلاة العصر (وَحِينَ تُظْهِرُونَ) صلاة الظهر» ولعل تخصيص هذه الأوقات للعبادة إشارة إلى ما يجب عمله في تحصيل المعاش وجلب الرزق فالإسلام دين الجد والعمل لا دين الرهبانية والكسل.

ولله الحمد ـ سبحانه وتعالى ـ في السموات والأرض ، نعم له الحمد من كل مخلوق ، وهذه الجملة معترضة بين الأوقات للإشارة إلى أن هذا التسبيح لله في الصلاة إنما هو لأصحابه وألا يعود منه شيء على الله ، فعليهم أن يحمدوه حمدا يوازى نعماءه وهدايته.

والله ـ سبحانه وتعالى ـ يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ، ويحيى الأرض بالنبات بعد موتها وجدبها ، ومثل ذلك الإخراج والانتقال من حال إلى حال مخالفة تخرجون وتبعثون من موت وفناء إلى حياة خاصة للثواب والعقاب.

وعلى هذا فالمراد بالتسبيح في الآية ما يعم الصلاة والتنزيه لله عن صفات النقص ووصفه بصفات الكمال والجلال ، ولا شك أن الصلاة عماد ذلك الدين وعموده.

ولعل المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها أن الإنسان في الصباح يخرج من الموت الأصغر وهو النوم إلى الحياة ، فكذلك تبعثون من الموت إلى الحياة الآخرة.

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل : (فَسُبْحانَ اللهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) (الآية).

١٩

بعض آيات الله الناطقة بقدرته ووحدانيته

وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)

٢٠