الطّراز الأوّل

السيّد علي بن أحمد بن محمّد معصوم الحسيني

الطّراز الأوّل

المؤلف:

السيّد علي بن أحمد بن محمّد معصوم الحسيني


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ مشهد
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-479-5
الصفحات: ٤٥٦

١
٢

٣
٤

المنهج الاستدراكي النقدي في اللغة

ودور السيّد عليّ خان في تطويره وتنميقه

« دراسة معجمية »

بقلم

السيّد عليّ الشهرستانيّ

اللغة : جسر يربط الإنسان ببني نوعه ، وهي الاداة المثلى المعبرة عن أحاسيس الفرد وأفكاره وطموحاته.

وهي الوسيلة للإفصاح والإبانة عن المكنون ، بل هي الصورة الحاكية عن شخصية الإنسان وثقافته ومعلوماته.

قال ابن فارس عن الإعراب وأهمّيّته : الإعراب فيه تمييز المعاني ، ويوقف على أغراض المتكلّمين ، وذلك أنّ قائلا لو قال ( ما أحسن زيد ) غير معرب ، أو ( ضرب عمر زيد ) غير معرب ، لم يوقف على مراده ، فإذا قال ( ما أحسن زيدا ) أو ( ما أحسن زيد ) أو ( ما أحسن زيد ) أبان بالإعراب عن المعنى الّذي أراده.

وكذا الحال بالنسبة إلى الحركات ، فهم يفرّقون المعاني بينها ، فلو قال ( مفتح ) أرادوا الآلة الّتي يفتح بها ، و ( مفتح ) لموضع الفتح ، و ( مقصّ ) لآلة القصّ ، و ( مقصّ ) للموضع الذي يكون فيه القص ...

وكأنّ هذا وغيره هو الذي جعل البعض يقول عن أصل كلمة العرب والعربي : إنّه اشتقّ من الإعراب ، وهو الإبانة ، فيقال : أعرب الرجل عن ضميره ، إذا أبان عنه.

٥

والكلمة العربية تشتمل على مادة وهيئة ، فالمادة ك‍ ( ض ر ب ) الدالّة على الضرب ، وأمّا الهيئة ـ التي تسمّى بالبناء أو الوزن أو الصيغة ـ فيلحظ فيها الحروف الأصلية والزائدة ( كسامع ، ضارب ، شارب ، مشروب ، مضروب ، مقتول ، ... ).

وبالاشتقاق تتحدّد الكلمة من حيث المادة والمعنى ، وما مهمّة بحث الأبنية أو الصرف إلاّ تحديد الشكل أو البناء الذي يكسب معنى زائدا يضاف إلى المعنى العام فيخصصه ويحدده.

إنّ اللغة العربية تمتاز عن غيرها بكثرة المفردات ، والاتساع في الاستعارة والتمثيل ، وقلب الحروف ، والتمييز بين الفاعل والمفعول ، وبين التعجب والاستفهام ، والنعت والتأكيد ، وتعويض كلمة مكان كلمة ـ كإقامة المصدر مقام فعل الأمر ، والفاعل مقام المصدر ـ أو التقديم والتأخير كما هو الحال في تقديم الخبر على المبتدأ ، والمفعول على الفاعل.

وهو ما يوضح أن اللغة العربية واسعة جدّا وتتألف من أصل ومزيد ، وهذه الزيادة على الحروف ، إمّا أن تقع في أوّل الكلمة ، أو وسطها ، أو آخرها ، وقد تكون هذه الزيادة من الحروف الصوتيّة أو الهوائية ( مد ) و ...

وقد استقصى علماء اللغة ، الحروف الزائدة في الكلام العربي فوجدوها لا تخرج عن عشرة حروف جمعوها في قولهم ( سألتمونيها ) ، وإذا أضفنا الحركات الثلاث وعددناها حروف مدّ قصيرة ، كان مجموعها ثلاثة عشر ، هي سبب تنوّع الألفاظ المشتقّة من مادة واحدة.

والكلمة المؤلفة من الحروف الأصلية ، إمّا ثنائية ، أو ثلاثية ، أو رباعية ، أو خماسية ، وإن كان البعض قد ردّ الألفاظ المؤلفة من أربعة حروف أو أكثر إلى الثلاثي بطريق الاشتقاق أو النحت!!

٦

والثلاثي هو ما يتألف من ثلاثة حروف أصلية ك‍ ( ض ، ر ، ب ) ، والثنائي هو ما يتألف من حرفين أصلين ك‍ ( ق ، د )

وقد سعى البعض في إرجاع الثلاثي إلى الثنائي ، وذلك بعد البحث عن الصلة المعنوية بينهما ، وكان الخليل ( ت ١٧٥ ه‍ ) وسيبويه ( ت ١٨٠ ه‍ ) وأبو علي الفارسي ( ت ٣٧٧ ه‍ ) وابن جني ( ت ٣٩٢ ه‍ ) من الأوائل الذين طرحوا هذه النظرية ، وكان الأخير أدقّهم وأجرأهم لتوثيق ما ذهب إليه ، إذ بسط القول في ذكر الأمثلة وما شاهده من صلات بين الالفاظ المشتركة في حرفين ، أو في حرف واحد مع التشابه في الحروف الأخرى.

وقد اعتبر هؤلاء الحرف الثالث منوّعا للمعنى العام الذي تدلّ عليه الأصول الثنائية ، ومثال ذلك : قط ، قطع ، قطف ، قطل ، قطم ...

فالأصل في هذه الكلمات على رأي القائلين بالثنائية هما الحرفان الأوّلان منها ، وهما « قط » ، وأمّا الحرف الثالث فيها ( ع ، ف ، ل ، م ) فهي منوعة لمعنى القطع ، ومخصّصة له ، وكذلك ( غمز ، غمس ، غمر ، غمق ، غم ، غما ، غمى ) فالأصل فيها ( غم ) ويفيد التغطيه والإخفاء ، والحرف الثالث مخصّص تفيد الكلمة بإضافته معنى خاصا من معاني التغطية.

ويمكن القول بمثل هذا في المواد أو المجموعات الّتي تشترك في النون والفاء ( نف ) ، والنون والباء ( نب ) ، أو القاف والصاد ( قص ) ، أو الفاء والراء ( فر ) وأمثالها.

هذا ، وإنّ غالب الذين ذهبوا إلى ثنائية الكلمة يعتقدون أنّ الكلمة وضعت في أوّل أمرها على هجاء واحد ، متحرّك فساكن ، محاكاة لأصوات الطبيعة ، ثمّ فثّمت ـ أي زيد فيها حرف أو أكثر في الصدر ، أو القلب ، أو الطرف ـ فتصرّف المتكلّمون بها تصرّفا يختلف باختلاف البلاد ، والقبائل ، والبيئات ، والأهوية.

٧

فكان لكلّ زيادة ، أو حذف ، أو قلب ، أو إبدال ، أو صيغة ، معناة ، أو غاية ، أو فكرة دون أختها ، ثمّ جاء الاستعمال فأقرّها مع الزمن على ما أوحته إليهم الطبيعة ، أو ساقهم إليها الاستقراء ، والتّتبّع الدقيق ، وفي كلّ ذلك من الأسرار والغوامض الآخذة بالألباب ، ما تجلّت بعد ذلك تجلّيا بديعا ، استقرّت على سنن وأصول وأحكام لن تتزعزع ... (١) ويسمّى هذا النوع من الاشتقاق بالاشتقاق الكبير.

وممّا تجب الإشارة إليه هنا ، هو إن الخليل الفراهيدي أوّل من فتح باب الاشتقاق الكبير ، أو قل التقاليب ك‍ ( ركب ، ربك ، كبر ، كرب ، بكر ، برك ) لكنه لم يكن يعني بعمله إرجاع الحروف الأصليّة إلى معنى مشترك واحد بينها مثلما فعله ابن جني وغيره ، بل إنّ عمله جاء طبقا لمخارج الحروف.

وعليه فالقول بأنّ ( ق ، و، ل ) وسائر تراكيبها تفيد الخفوف والحركة ، وأنّ مقاليب ( ك‍ ، ل ، م ) تفيد القوة والشدة ، و ( س ، ل ، م ) تفيد الضعف واللين ، وما شابه ذلك إنّما هو شيء جاء من قبل اجتهادات ابن جني في كتابه الخصائص وغيره.

أمّا الاشتقاق الصغير ، فهو الأساس الثلاثي للكلمة وما يشتق منه ، وهو أكثر أنواع الاشتقاق ورودا في العربية ، وهو الذي تدور عليه رحى كتب اللغة ف ( ض ، ر ، ب ) اشتق منه الضارب ، والمضروب ، واضرب ، ويضرب ، ويضربن و ...

ومثله ( ع ، ر ، ف ) فقد اشتق منه عرّف ، تعرف ، تعارف ، عرف و ...

هذا ، وقد ألّف بعض المتقدّمين كالأصمعي ، وقطرب ، وأبي الحسن ، والأخفش ، وأبي نصر الباهلي ، والمفضل بن سلمة ، والمبرد ، وابن دريد ،

__________________

(١) نشوء اللغة العربية ونموها ، لانستاس ماري الكرملي : ١.

٨

والزجاج ، وابن السراج ، والنحاس وابن خالويه كتباً في الاشتقاق.

وأمّا الاشتقاق الصغير فإنّه يعني رجوع التصاريف المختلفة إلى معنى جامع مشترك بينها كما رأيته في ( ض ، ر ، ب ) و ( ع ، ر ، ف ) وهذا من خصائص اللغة العربية ولم يلحظ مثله في اللغات الأخرى.

فإذا اخذت كلمة ( كتب ) مثلا واشتقاقاتها من ( كاتب ، مكتوب ، كتاب ، مكتبة ، مكتب ، يكتب ، اكتب و ... ) وجدت أن الحروف الأصلية موجودة في كلّ مفردة منها ، ومثله معنى الكتابة ، على عكس اللغات الأخرى ، حيث لا توجد صلة بين كلمات الأسرة الواحدة ، فمثلا ( كتب ) في اللغة الانجليزية تسمى ( Write ) والكتاب ( Book ) والمكتبة ( Library ) فلا علقة بين حروف ومفردات تلك اللغة ، الأمر الذي جعل اللغة الانجليزية تختلف من جيل إلى آخر ، ولا يلحظ الصلة اللغوية بين ماضيها وحاضرها.

ومثله الحالة المشاهدة في اللغة العبرية ، فالتوراة لا يقرأها بلغتها العبرية إلاّ أحبار اليهود ، ونفر ممّن تفرّغوا لدراستها ، وأما سائر اليهود فيقرأون التوراة كلّ بلغة سكان البلاد الّتي يعيش فيها ، ومثله حال المسيحين مع لغتهم.

وهذا بخلاف العربية ، إذ أنّ أبناءها اليوم وبعد ألف وأربعمائة سنة يفهمون أشعار الجاهليّين كما يفهمون أشعار أبي تمام ، والبحتري ، والمتنبي ، وأبي العلاء المعرّي ، والشريف الرضي ، وهذان ما لا يلحظ في اللغات الاخرى ، إذ أنّ اللغة القديمة عندهم تختلف عن الحديثة بشيء.

قال بلاشير : إنّ وحدة اللغة العربية هي وحدة أخلاقية ودينية قبل كلّ شيء ، مؤسسة على وحدة تاريخ اللغة ، وإنّنا كلّما درسنا اللغة الفرنسية لاحظنا أنّها تطوّرت عبر العصور بحيث نجد لها

٩

أطوارا ، فإذا قارنّا حالة اللغة الفرنسية في العصور الوسطى وجدنا أنّها مغايرة للّغة المستعملة في القرن السابع عشر ، وهذه أيضا مختلفة عن لغتنا اليوم.

هذه الوحدة في اللغة الفرنسية لا تتضح إلاّ بالبحث والمقارنة ، في حين أنّ وحدة اللغة العربية تتّضح للقارئ ولو كان أجنبيا لأوّل وهلة (١).

وبنظرنا أنّ فضل بقاء هذه الوحدة اللغوية المحبكة يرجع إلى الإسلام والقرآن ـ ذلك الكتاب السماوي المنزل على نبيّه محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الّذي حافظ على قوام هذه اللغة ، وهو الذي جعل منها لغة عالمية يؤذّن بها الفيلبيني ، ويصلّي بها الأمريكي ، ويتلو قرآنها الصيني والهندي والفارسي ويدعو بها الأسباني والإيطالي و ...

وعليه ، فالكلمة العربية هي لغة الدين ، وهي مركّبة من المادّة الصوتية والقيمة التعبيرية الموحية ، ولكلّ حرف منها ظلّ وشعاع ، وصدى وإشعاع ، ولو جمع الواحد منها مع الآخر كان له معنى ومفهوم يغاير الآخر ، وإن كان البعض ـ كابن جني ـ يرى سرّا في هكذا اختلاف ، لأنّ « صعد » غير « سعد » إذ أنّ ما هو بالصاد جاء للصعود من الجبل والحائط لأنّها قوية ، والسين لضعفها لما لا يظهر ولا يشاهد حسا ، إلاّ أنّه مع ذلك فيه صعود الجدّ ، لا صعود الجسم ، فجعلوا الصاد لقوتها فيما يشاهد من الافعال المعالجة المتجشمة ، وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإنّ لم تره العين (٢).

__________________

(١) الفصحى من لغة القرآن.

(٢) انظر الخصائص ٢ : ١٦١.

١٠

وقال ابن دريد في الجمهرة : الخنن في الكلام أشدّ من الغنن ، والخنّة أشدّ من الغنّة ، والأنيت (١) أشدّ من الأنين ، والرّنين أشدّ من الحنين.

وفي الإبدال لابن السكيت : يقال : القبصة أصغر من القبضة ، قال في الجمهرة : القبص : الأخذ بأطراف الأنامل ، والقبض : الأخذ بالكفّ كلّها.

وقال الكسائي : القضم للفرس ، والخضم للإنسان.

وقال غيره : القضم بأطراف الأسنان ، والخضم بأقصى الأضراس.

وقال أبو عمرو : النضح ـ بالضاد المعجمة ـ : الشرب دون الريّ ، والنصح ، بالصاد المهملة : الشرب حتّى يروى ، والنشح ، بالشين المعجمة دون النضح بالضاد المعجمة ... (٢)

والتغيير قد يقع في وسط الكلمة ك‍ ( ق ، ت ، ر ) و ( ق ، ط ، ر ) و ( ق ، د ، ر ) فالتاء خافية ؛ كقولهم : قتر الشيء ، والطاء سامية متصعّدة ( قطر ) والدال ليس لها صعود الطاء ولا نزول التاء فتكون بين هذا وذاك.

وقد يأتي في آخر الكلمة كما في النضخ والنضح ، فالنضخ يأتي للماء وغيره ، وهو أقوى مما بالحاء ؛ كقوله ( فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ ) (٣) فاستعملت العرب الحاء لرقتها للماء الضعيف ، والخاء لغلظتها لما هو أقوى منه.

كانت هذه نماذج موضحة للقيمة التعبيرية للكلمة ، وهو ما يبحث غالبا في فقه اللغة لا في أنحاء اشتقاقها ، ونحن وإن كنّا لا نهدف التفصيل في مثل هذه الأمور لكنّا رأينا أنّ طرح بعض الشيء في هذا المجال ممّا لا يستغني عنه احد.

__________________

(١) أنت يأنت أنيتا : أنّ.

(٢) المزهر ١ : ٥١.

(٣) الرحمن : ٦٦.

١١

والآن لنرجع إلى حقيقة الاشتقاق وأبنية المصادر ، لكونها أوفق وأقرب لما نحن فيه ، إذ من الثابت أنّ أسماء الأعيان ـ المشاهدة المرئيّة ـ وجدت قبل أسماء المعاني ، فلا يعقل تصور التّأبّل ـ أي اتّخاذ الإبل ـ قبل وضع لفظ « الإبل » نفسه ، والتضلع قبل « الضلع » ، والتبحر قبل « البحّر » ، والسموّ قبل « السماء ».

فأسماء الأعيان هي أصل الاشتقاق لا المصادر ، لأنّ هذه المصادر كالأفعال لا تتقيد بموازين دقيقة ، ولا تقاس اقيسة سليمة مطردة ، وقد أكثر العرب اشتقاق الأفعال والمصادر من هذه الأسماء.

ولو لاحظت معاجمنا لرأيتها تمتلك من الجواهر الّتي تفرعت عنها الاحوال والصفات والمصادر والأفعال الشيء الكثير.

فمن الرأس اشتقوا : رأسته رأسا : إذا أصبت رأسه ، ومن اليافوخ : أفخته أفخا : إذا ضربت يافوخه ، فإن ضربت دماغه قلت دمغته ، وإن حاذيت صدغه بصدغك في المشي فقد صدغته ، وإن أصبت منخره فقد نخرته و ...

ومن أسماء الأقارب اشتقّوا المصادر والأفعال ، فالتبنّي من الابن ، والتأبّي من الأب ، والتأمّم : اتخاذ الأمّ ، والبعال والمباعلة : اتّخاذ البعل.

وولّدوا كثيرا من الألفاظ ، من أسماء الأمكنة ، فقالوا : أحرم القوم : دخلوا في الحرم ، ساحلوا : أتوا السّاحل ، أعمن الرّجل : أتى عمان ، كوّف : صار إلى الكوفة ، قدّس : أتى بيت المقدس : أيمن : أتى اليمن.

ومنه : أخرفوا ، وأشتوا ، وأربعوا ، وأصافوا ، وأفجروا ، وأظهروا ، و ...

إشارة للدخول في الخريف والشتاء والربيع والصيف والفجر والظهر و .. ، هذا شيء والشيء الآخر في هذا المجال هو الكلام عن أبنية المصادر وتحديد الصيغ الاسمية والفعلية ، فقد سعى السيوطي إلى ذكر من صنّف في الصيغ الاسمية

١٢

والفعلية.

وكان سيبويه أوّل من أحصى الصيغ الاسمية ، إذ اشار إلى ٣٠٨ بناء للأسماء ، ثمّ زاد ابن السراج اثنين وعشرين بناء عليها ، فصارت ٣٣٠ ، ثمّ أضاف إليها أبو عمر الجرمي صيغا قليلة أخرى ، وأخيرا جاء ابن خالويه بأمثلة يسيرة أخرى في هذا السياق.

وقد روى صاحب المزهر عن ابن القطاع أنّه جمع ما تفرّق في تأليف الأئمّة حتّى بلغ (١٢١٠).

ونحن لسنا بصدد تأييد أو تخطئة السيوطي وابن القطاع ، أو معارضة ما قالوه في حصر واستقصاء صيغ الأسماء والأفعال ، لأن الذي يجب قوله هنا هو أنّ الصرفيّين كانوا قد حصروا أوزان الأفعال فكانت بضعة وعشرين بناء ، وهي الّتي يعرفها الطالب في دراسة الفعل ثلاثيا ورباعيا ، مجرّدين ومزيدين ، بمعانيهما الداخلة تحت كلّ قالب من قوالب هذه الأوزان.

وأمّا الأسماء ، فمن الصعب حصرها لكثرتها ، ولو اقتصرنا على ذكر أشهرها لطال بنا الحديث كذلك.

نحن لا نريد أن نردد قول ابن جني في أنّ الأسماء الّتي لا زيادة فيها تكون على ثلاثة أصول : أصل ثلاثي ، وأصل رباعي ، وأصل خماسي ، وأن الأفعال الّتي لا زيادة فيها تكون على أصلين فقط : ثلاثي ورباعي ، وأننا لا نجد على خمسة أحرف فعلا لا زيادة فيه (١).

__________________

(١) انظر المصنف لابن جني ١ : ١٨ وهو شرح لكتاب التصريف للمازني ط الباب الحلبي بالقاهرة ، تحقيق إبراهيم مصطفى وعبد الله أمين.

١٣

ولن نقول بقول الصرفيين : إن الأسماء الثلاثية تكون على عشرة أمثلة تصلح جميعا لأن تكون إسما وصفة (١).

ولن نقطع مع حملة اللغة بأنّه « ليس في الكلام اسم على فعل ـ بضم الفاء وكسر العين ـ إنما هذا بناء يختص به الفعل المبني للمفعول نحو ضرب وقتل إلاّ في اسم واحد وهو دئل (٢).

ولن نحظى بطائل إذا حصرنا هنا الأسماء الرباعيّة الّتي لا زيادة فيها في ستة أمثلة : خمسة وقع عليها إجماع أهل العربية ، وواحد تجاذبه الخلاف (٣).

أو حصرنا الأفعال الرباعية في ( فعلل ) للمعلوم ، وفعلل للمجهول.

ولن نجزم كما جزم الأوائل بأنّ الأسماء أقوى من الأفعال ، فجعلوا لها على الأفعال فضيلة لقوّتها ، واستغنائها عن الأفعال ، وحاجة الأفعال إليها.

ولن نستقري أمثلة الأسماء الخماسية سواء أكانت أربعة أم خمسة.

ولن نحصي الزوائد في الأسماء والأفعال ـ ثلاثية أو رباعية أو خماسية ـ ما دامت زيادتها تمت بضرب من الإلحاق الصرفي ك‍ ( كوثر وجدول وجيئل ).

فكل هذه الحقائق يعرفها المشتغلون بأبحاث الصرف ، وهي كثيرة ، وقد تبعدنا عن الهدف.

بل الذي نريد قوله هنا هو : هل أنّ العرب كانوا كلّهم فصحاء بلغاء ، أم أنّ بينهم من لا يعرف بعض الكلمات ويلحن فيها؟ ولماذا اتّخذت العرب لهجة قريش لغتها الرسمية ، وهل جاء هذا لكونها بعيدة عن بلاد العرب من جميع جهاتها ـ حسبما قاله

__________________

(١) وهي فَعْل ، وفَعَلَ ، وفَعِل وفَعُل ، وفِعْل ، وفِعَل ، وفُعُل ، وفُعِل ، وفُعَل ( المنصف : ١٨ )

(٢) قارن بالمنصف : ٢٠.

(٣) وهي فَعْلَل ، وفِعْلِل وفُعْلُل ، وفِعْلَل وفُعْلَل وفِعِلّ ( المصنف : ٢٥ ).

١٤

ابن خلدون ـ أم أنّها جاءت لمكانة قريش بين القبائل العربية ، أو أنّها ترجع إلى عوامل الزمن وتقادم الأخذ عن قريش وما احيط بهذه اللهجة من قداسة بعد الإسلام ، أم جاء لعوامل أخرى؟

نحن لا يسعنا ـ هنا ـ الإجابة عن هذه الأسئلة ، وقد يكون فيما نصوّره عن الجزيرة العربية قبل الإسلام ، وكيفية تأثّر العرب بالحضارات المجاورة جواب عن بعض هذه التساؤلات.

العرب وتاثّرهم بالحضارات المجاورة

قد أشرنا سابقا إلى مكانة اللغة العربية ، والآن نريد الإشارة إلى مدى تأثّر العرب بالحضارات المجاورة ، وهل أنّ اختلاف اللهجات عندهم يضرّ بمكانة اللغة أم لا؟

ولبيان ذلك نعطي صورة بسيطة عن الحضارات المجاورة لنوقف القارئ على حقيقة الأمر.

كانت السومرية والأكدية والبابلية والآشورية من الحضارات القديمة الّتي استقرّت في شمال شبه الجزيرة العربية ( العراق ) ومنذ خمسة الآف سنة قبل الميلاد ، وقد اهتم ملوك هذه الحضارات بالكتاب والمكتبة حتّى قيل بأن الملك ( شرجينيا ) أنشا مكتبة في ( وركا ) مملوءة بالكتب اللغوية والفلكية والشرعية والأدبية وغيرها ، ثمّ نسخت بعد إنشائها بخمسة عشر قرنا بأمر من أمير آشوري ، وحفظها في دار خاصة بها كما تحفظ المكاتب اليوم ، وعثر المنقبون على بقايا هذه المكتبة بين النهرين ونقلوها إلى المتحف البريطاني في لندن (١).

__________________

(١) انظر : تاريخ ، آداب اللغة العربية ، لجرجي زيدان ١ : ١٧ ـ ١٨.

١٥

وكانت حضارة بلاد الشام هي الأخرى عريقة ، وترجع إلى ثلاثة الآف سنة قبل الميلاد ، وممّا أسّسته الدول الفينيقية في القرن الخامس والعشرين ق. م مدينة جبيل ، كما بنت مدينة بيروت ( بيريت ) في القرن الثاني والعشرين ق. م.

وقد امتاز هؤلاء بأنّهم على جانب عظيم من المعرفة والتفوّق في العلوم والآداب والصناعة ، أما الآداب فقد ضربوا فيها بسهم عظيم ، ووضعوا الهجائية واختصروها إلى اثنين وعشرين حرفا بعد أن كانت عند البابليين والمصريين تعدّ بالمئات.

وكانت حضارة جنوب شبه الجزيرة تتمثّل بحضارة الدولة المعينية في اليمن والدولة السبئية والحميرية ، اللتين كان أهلها على جانب عظيم من الرقيّ الصناعيّ والزارعيّ والعمرانيّ والثقافيّ ، وقد كانت كتاباتهم على الطريقة الحلزونية ، أي أنّها تبدأ من اليمين إلى الشمال ، فإذا انتهى الكاتب من السطر الأوّل وأراد كتابة السطر الثاني كتب من الشمال إلى اليمين.

وكانت إلى جانب تلك الحضارات حضارة وادي النيل التي تعدّ هي الأخرى من أقدم وأعرق الحضارات المجاورة لشبه الجزيرة العربية ، وقد كان أهلها على جانب عظيم من الرقي والتحضّر في العلم والعمران والزراعة ، وقد بقي من مآثرهم العمرانية الأهرامات ، أبو الهول ، وغيرهما.

كان هذا استعراضا للحضارات القديمة المجاورة لشبه الجزيرة العربية ، جئنا به للتمييز بين الوضع داخل الجزيرة وخارجها ، إذ الثابت جغرافيا أنّ أرض الجزيرة أرض صحراوية قاحلة ليس فيها ماء ولا كلأ ، وهي كما قال سبحانه حكاية عن لسان

١٦

إبراهيم ( رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ) (١) ولم يكن فيها حتّى نهر واحد (٢) بل كان اعتماد الساكنين فيها على الأمطار والآبار الّتي تمتلي شتاء وتجفّ صيفا ، وهذا الجفاف واليبس خلق عند سكانها حالة التنقّل بحثا عن الكلأ والماء ، فهم يجوبون البوادي بحثا عنهما ، وهذه الظروف جعلت العربي لا يستقرّ حتّى يبدع في مجالات الزراعة والصناعات اليدوية إلاّ نادرا ، ولذا اعتمدوا على التجارة ، خصوصا قريش ـ التي هي رأس القبائل العربية في الجزيرة ـ وقد وصف سبحانه اشتغالهم التجارة بقوله ( لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ ) (٣).

وتظهر شدة الجفاف من خلال التنازع على شرف سقاية الحاج ، ممّا نستطيع لمسه بوضوح في قوله سبحانه : ( أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ).

وهذه البيئة الجغرافية والظروف الاجتماعية هي الّتي جعلت الجزيرة العربية بمأمن عن مطامع الدولتين العظميين آنذاك ( الروم والفرس ) كما جعلت هذه الأرض أرضا آمنة يلجأ إليها أعداء الروم والفرس.

فقد هاجر إليها أوّلا يهود فلسطين ، فسكنوا يثرب ، وهاجرت بعدهم قبائل الاوس والخزرج من اليمن فسكنوا فدك وتيماء ، كل ذلك مضافا إلى الأعاجم الوافدين من الفرس واليونان.

هذا ، وإنّ العرب لم يكونوا في تلك البرهة من التاريخ ذوي تراث وحضارة ، بل

__________________

(١) إبراهيم : ٣٧.

(٢) انظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام ، لجواد علي ١ : ١٥٧.

(٣) قريش : ٢.

١٧

كان غالب سكان الجزيرة أميّين لا يقرأون ولا يكتبون ، إذ لم يدعوا أبناءهم لتعلّم العلم والكتابة ، وإن كانوا يعلمون بشرفهما ، حتّى أنّهم عدّوا الرجل الكامل في الجاهلية من كان يعرف الكتابة ويحسن العوم والرّمي (١) ، وجاء وصفهم في الكتاب العزيز بقوله : ( هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ ) ، وقوله تعالى : ( وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ) وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : ( إنّا أمّة أمّيّة لا نكتب ولا نحسن الشّهر هكذا ) (٢) :

إنّ الإشارة إلى الحالة الاجتماعية والثقافية في الجزيرة العربية قبل الإسلام جاءت لتوضيح عظمة الإسلام ، وكيف أنّه جعل من هذه الأمّة ـ خلال ربع قرن ـ أمّة تقود العالم وتحطّم أكبر دولتين آنذاك ، وتحكّم لغتها على البشرية.

ومن الشّطط في القول ، القول بأنّ كلّ العرب كانوا فصحاء بلغاء يعرفون لغتهم ، بل لو تأنّيت وتدبّرت في تاريخهم لعرفت مؤثّرات تلك الحضارات على اللغة العربية.

لقد كان بين الصحابة من يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن غريب كلامه ومعنى أقواله ، وهذا يعني عدم معرفتهم بكثير من المفردات اللغوية والاشتقاق العربي ، حتّى جاء عن عمر أنّه سأل الصحابة عن معنى التخوّف في قوله تعالى ( أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ ) فسكتوا ، فقام شيخ من هذيل ، فقال : هذه لغتنا ، التخوف : التنقص.

قال عمر : فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟

قال : نعم. قال شاعرنا زهير.

__________________

(١) مصادر الشعر الجاهلي : ٥٢ ، القصد والأمم : ٢٢ كما في الدراسات للاعظمي.

(٢) صحيح البخاري ٣ : ٣٥ و ٤ : ١٠١ ، صحيح مسلم ٢ : ٧٦١ ح ١٥.

١٨

تخوّف الرّجل شاعرنا تامكا قردا

كما تخوّف عود النّبعة السّفن (١)

وسئل عمر بن الخطاب : ما الأبّ؟ فلم يعرف معناه (٢).

نعم ، إنّ اللّغة العربية تأثّرت بالحضارات والثّقافات المجاورة كالفرس والإغريق و ...

لأنّ الهاربين من كسرى وقيصر وفرعون و ... كانوا يلجأون إلى الجزيرة العربية لكونها في مأمن من الشّرور ، وقد أثّر هؤلاء على اللغة العربية حتّى أكّد القرآن بأنّ اللسان الّذي نزل به هو عربي مبين ، في قوله تعالى : ( لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ) ، فأضاف سبحانه « المبين » إلى « العربي » كي يؤكد بأنّه كلام فصيح لا كدرة فيه ولا عجمة ولا لحن.

وقد منعت العرب الأخذ من سكّان البراري المجاورين لغير العربي ( كلخم وجذام ) المجاورين لمصر وقبط ، و ( قضاعة وغسان وإياد ) المجاورين لأهل الشام ، وأكثرهم نصارى كانوا يقرأون بالعبرية ، و ( تغلب اليمن ) لمجاورتهم اليونان ، و ( بكر ) جيران النبط والفرس ، و ( عبد قيس وازد عمان ) لأنّهم كانوا بالبحرين وكانوا يختلطون بالهند والفرس ، و ( أهل اليمن ) لمخالطتهم الهند والحبشة ، ولم توخذ اللغة إلاّ من قريش ، وقيس : ، وتميم ، وأسد ، وهذيل ، وبعض كنانة ، وبعض طيء ..

علماً بأنّ الكلام العربي لم يصلنا بكامله ، قال الكسائي : قد درس من كلام العرب كثير (٣).

وحكى يونس بن حبيب البصري ، عن أبي عمرو ، أنّه قال : ما انتهى إليكم ممّا

__________________

(١) تهذيب الالفاظ : ٦.

(٢) انظر مقدمة الصحاح ١ : ١٥.

(٣) انظر مقدّمه الصحاح : ٢٣.

١٩

قالت العرب إلاّ أقلّه ، ولو جاءكم وافر لجاءكم علم وشعر كثير (١).

وقال ابن فارس في ( باب القول بأنّ لغة العرب لم تنته إلينا بكلّيّتها ، وأنّ الذي جاءنا عن العرب قليل من كثير ، وأنّ كثيرا من الكلام ذهب بذهاب أهله ) : ذهب علماؤنا أو أكثرهم إلى أنّ الذي انتهى إلينا من كلام العرب هو الأقلّ ، ولو جاءنا جميع ما قالوه لجاءنا شعر كثير وكلام كثير ... (٢)

وقد ذكر السيوطي في المزهر ـ عن حمزة الإصبهاني في كتاب الموازنة ، عدد أبنية كلام العرب في كتاب العين ، وكما ذكر ذلك الزبيدي في مختصر كتاب العين عن الخليل ـ عدد أبنية كلام العرب المستعمل والمهمل على مراتبها الأربع من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي من غير تكرار (٣) ، فكان شيئا كثيرا جدّاً.

ولو أردنا استقصاء الكلام العربيّ المستعمل في لغتنا اليوم ، فلا نراه يتجاوز من عشرة آلاف مادة ، في حين أنّ الموجود في كتاب الصحاح للجوهري أربعون الف مادة ، وفي القاموس للفيروزآبادي أكثر من ذلك ، وفي التكملة للصغاني ستون ألف مادة ، وفي لسان العرب لابن منظور حوالي ثمانين ألف مادّة ، وفي التاج للزبيدي عشرون ألفا ومائة ألف مادة (٤).

وهذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على سعة اللغة العربية ، وعدم استفادة أبنائها منها في العصور اللاحقة ، وهو الذي يدعونا للحفاظ على كتب اللغة والاهتمام

__________________

(١) نزهة الأولياء : ٣٣.

(٢) المزهر ١ : ٦٦.

(٣) المزهر ١ : ٧٤ ـ ٧٦.

(٤) انظر مقدمة القاموس للشيخ نصر الهورتي ١ : ٧ ومقدمة الصحاح ١ : ٢٣ ، والفصحى في لغة القرآن ١٠ : ٧.

٢٠