الرسائل الأربع - ج ٤

عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة

الرسائل الأربع - ج ٤

المؤلف:

عدنان يونس عبد المجيد أبو تبّانة


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: الإعتماد
الطبعة: ٠
الصفحات: ١٠٠

١
٢

مقدمة شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظله ـ :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أفضل سفرائه وأشرف بريّته وخاتم أنبيائه محمّد وآله الطاهرين المعصومين. ومن اهتدى بهداهم.

أمّا بعد ... فمن فضل الله على هذا العبد ، صحابة جمّ من الأفاضل حفظهم الله تبارك وتعالى ، منهم الشيخ الفاضل النبيل ، الزكي الجليل ، الشيخ علي أكبر الكلانتري الشيرازي ـ دامت إفاضاته ـ فقد حضر بحوثي سنين متمادية كتب شيئاً كثيراً منها. وقد أخرج أخيراً ما ألقيته في الأُصول حول مسألة «التسامح في أدلّة السنن» وأضاف إليه شيئاً كثيراً ممّا وقف عليه طيلة بحثه وسعيه. وقد أعجبني جمعه وترصيفه وتحقيقه ، وبالأخص فيما جاء في آخر الكتاب من التنبيه بالمسائل والآثار المترتبة على تلك المسألة وبذلك أخرجها إلى ساحة العمل ، فيا حبذا لو قام الفضلاء بمثل هذا العمل في كل باب من أبواب الأُصول حتى يخرجوها عن كونها مسائل جافة.

وفي الختام أدعو له بحسن العاقبة وأن يجعله سبحانه من المجتهدين وأصحاب الفتيا. إنّه بذلك قدير وبالإجابة جدير.

جعفر السبحاني

٢٢ شوال المكرّم ١٤١٣ هجري

٣

مقدمة المؤلف :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أنعم وعلّم الإنسان ما لم يعلم ، والصلاة والسلام على النبيّ الأعظم ، والرسول الخاتم محمّد وآله مصابيح الظُّلَم.

أمّا بعد : فقد منّ الله تعالى عليّ بإعطائي توفيق الحضور في مجالس عدّة من الأساتذة الكرام ، والفقهاء العظام ، الذين نذروا أنفسهم لترويج شريعة خاتم المرسلين ، وكشف الأستار عن علوم أهل بيته الطاهرين ، عليهم أفضل صلوات المصلّين.

من هؤلاء الأجلّاء ، شيخنا الأُستاذ العلّامة المحقّق آية الله الشيخ جعفر السبحاني ، دامت بركاته. وهو ـ دام ظلّه ـ تعرّض في درس الأُصول ـ الدورة الثالثة ـ ل ـ «مسألة التسامح في أدلّة السُّنن» وأفاض الكلام حولها ، ولكنه دعا الحاضرين في مجلس درسه إلى بسطِ المقال في جوانب المسألة ، والتحقيق المستوفي مواردها ، فحرّرت هذه الرسالة ساعياً لاستيعاب الأنظار في المسألة وأدلّتها ، وكل ما يتعلّق بالمسألة من التنبيهات وغيرها.

علي أكبر الكلانتري الشيرازي

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

قال شيخنا الأُستاذ ـ مدّ ظلّه ـ :

اشتهر بين أصحابنا «التسامح في أدلّة السنن» بمعنى عدم اعتبار ما ذكروه من الشرائط في حُجّية الأخبار الآحاد من الإسلام والعدالة والضبط ، في الروايات الدالّة على المندوبات.

والمحكيّ عن الشهيد الثاني (قدس‌سره) في الدراية أنّه قال : جوّز الأكثر العمل بالخبر الضعيف في نحو القصص والمواعظ وفضائل الأعمال ، لا في صفات الله تعالى ، وأحكام الحلال والحرام ، وهو حسن حيث لم يبلغ الضعيف حدّ الوضع والاختلاق. (١)

والمحكيّ عن الذكرى : «إنّ أخبار الفضائل يتسامح فيها عند أهل العلم» (٢).

وقال في عدّة الداعي بعد نقل الروايات الآتية : فصار هذا المعنى مجمعاً عليه بين الفريقين (٣).

__________________

(١) الدراية : ٢٩.

(٢) مجموعة رسائل : ١١ ، من منشورات مكتبة المفيد.

(٣) عدة الداعي : ١٣.

٥

وعن شيخنا البهائي في أربعينه ، نسبته إلى فقهائنا (١).

فأصل القاعدة ممّا لا شبهة فيها من حيث كونها مشهورة ومعمولاً بها بين الأصحاب ، وإنّما المهم تنقيحها من حيث المفاد والأقوال ، وما يتصل بها من الإشكالات والتنبيهات.

ولقد وقفت في تفحصي في الكتب أنّ المسألة أيضاً مطروحة في بعض كتب أهل السنّة غير أنّهم يعبّ ـ رون عنه بالعمل في الخبر الضعيف في فضائل الأعمال (٢).

__________________

(١) اربعين الشيخ البهائي : ١٩٢.

(٢) البدعة في مفهومها الإسلامي الدقيق : للدكتور عبد الملك السعدي : ص ٨٩.

٦

هل المسألة أُصوليّة أو فقهيّة أو كلامية

وقع الكلام في أنّ مفاد «أخبار من بلغ» ، المعقود في ضوئها هذا البحث ، هل هو ناظر إلى جهة أُصولية أو فقهية؟ بمعنى أنّ تلك الأخبار هل هي ناظرة إلى أنّ الشرائط المعتبرة في حجّية الخبر من الإسلام والعدالة والضبط ، مختص اعتبارها بما إذا كان مفاد الخبر حكماً إلزاميّاً من الوجوب والتحريم وأمّا إذا كان حكماً غير إلزامي فيكفي في ثبوته مجرّد وصول الخبر به؟ وعلى ذلك تكون هذه الأخبار مخصّصة بمفادها لأدلّة اعتبار الشروط في حجّية الخبر مطلقاً ، وموجبة لاختصاصها بالأخبار الدالّة على الأحكام الإلزامية ، فتكون المسألة حينئذ أُصولية.

أو هي ناظرة إلى أنّ فعل المكلّف المشكوك تعلّق الأمر به يصير ، ببركة هذه الروايات ، ذا مصلحة غير إلزامية ، موجبة للحكم باستحبابه شرعاً وإن لم يكن مطابقاً للواقع؟ وعلى هذا يكون البحث في المقام عن استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، فيكون بحثاً فقهياً.

ذهب الشيخ الأعظم (قدس‌سره) إلى الأوّل. وبعض آخر كالمحقّق النائيني (قدس‌سره) إلى الثاني. قال الشيخ في تقريب مختاره :

«إنّ المسألة الأُصولية عبارة عن كلّ قاعدة يبنى عليها الفقه ، أعني : معرفة الأحكام الكلية الصادرة من الشارع ومهدت لذلك ، فهي بعد اتقانها وفهمها عموماً ، أو خصوصاً مرجع للفقيه في الأحكام الفرعية الكلية سواء أبحث فيها عن حجّية شيء أم لا. وكلّ قاعدة متعلقة بالعمل ليست كذلك فهي فرعية ، سواء

٧

أبحث فيها عن حجّية شيء أم لا.

ومن خواص المسألة الأُصولية ، أنّها لا تنفع في العمل ما لم تنضمّ إليها قوة الاجتهاد ، واستعمال ملكته ، فلا تفيد المقلِّد ، بخلاف المسائل الفرعية فإنَّها إذا أتقنها المجتهد على الوجه الذي استنبطها من الأدلّة جاز إلقاؤها الى المقلّد ليعمل بها.

فقاعدة التسامح مسألة أُصولية ؛ لأنّها بعد إتقانها واستنباط ما هو مراد الشارع منها ، يرجع إليها المجتهد في استحباب الأفعال ، وليست ممّا ينفع المقلّد في شيء ؛ لأنّ العمل بها يحتاج إلى إعمال ملكة الاجتهاد ، وصرف القوة القدسية في استنباط مدلول الخبر ، والفحص عن معارضة الراجح عليه ، أو المساوي له ، ونحو ذلك ممّا يحتاج إليه العمل بالخبر الصحيح.

فهو نظير مسألة حجّية الخبر الواحد ، ومسألتي الاستصحاب والبراءة ، والاحتياط في أنّهما لا يرجع إليهما إلّا المجتهد ، ولا ينفعان المقلّد.

وظهر ممّا ذكرنا أنّ إطلاق الرخصة للمقلّدين في قاعدة التسامح غير جائز ، كيف؟ ودلالة الأخبار الضعيفة غير ضرورية ؛ فقد يظهر منها ما يوجب طرحها لمنافاته لدليل معتبر ، عقليّ أو نقليّ ، وقد يعارض الاستصحاب احتمال الحرمة الذي لا يتفطّن له المقلّد ، وقد يخطأ في فهم كيفية العمل ، إلى غير ذلك من أنواع الخلل ، نعم يمكن أن يرخّص له ذلك على وجه خاص يؤمن معه الخطأ ، كترخيص أدعية كتاب زاد المعاد ، مثلاً للعامي الذي لا يقطع باستحبابها ، وهو في الحقيقة إفتاء باستحبابها ، لا إفتاء بالتسامح» (١).

وأورد عليه المحقّق الاصفهاني (قدس‌سره) في تعليقته على الكفاية بما لفظه : «أنّ

__________________

(١) مجموعة رسائل : ١٨ ـ ٢٠ ، من منشورات مكتبة المفيد.

٨

المسألة الأُصولية هي القاعدة التي تبتنى عليها معرفة الأحكام العملية الكلّية ، وهذا إنمّا يكون فيما لم تكن القاعدة نفسها متكفّلة للحكم العملي الكلّي ، بل فيما إذا كانت واسطة لاستنباط حكم عمليّ ، واستحباب ما دل الخبر الضعيف على استحبابه حكم عمليّ كلّي جامع ينطبق على موارد الأخبار الضعيفة المتكفّلة لاستحباب أعمال خاصة ؛ لا أنّ هذا الاستحباب الجامع واسطة في استنباط استحبابات خاصة ؛ ليكون ممّا تبتنى عليه تلك الاستحبابات المبحوث عنها في علم الفقه.

وليست المسألة الفقهية إلّا ما كانت نتيجتها حكماً عملياً ، سواء أكان حكماً عملياً كلياً تندرج تحته أحكام عملية خاصة أم لا .. [الى أن قال] : وأمّا ما ذكره (قدس‌سره) من الاختصاص بالمجتهد وأنّه لا حظّ منه للمقلّد ـ ولذا جعل مثل هذا الحكم حكماً أُصولياً في قبال الحكم الفرعي الفقهي ـ فمدفوع بأنّ التصديق العمليّ أو الإبقاء العمليّ ـ عمل المقلِّد بالخصوص أو عنوان عمل المجتهد والمقلِّد معاً ، لا عنوان عمل المجتهد فقط ، نظير الإنشاء والقضاء وما شابههما ممّا يختص بالمجتهد وانّما يختص بالمجتهد عنواناً من حيث نيابته عن المقلِّد العاجز عن الاستنباط أو التطبيق. فالمقلّد هو المكلّف به لبّاً وحقيقة ، والمجتهد هو المخاطب به عنواناً ؛ لتنزيله منزلة المقلّد بأدلّة جواز الإفتاء والاستفتاء. فنظر المجتهد واستنباطه وتطبيقه ويقينه وشكّه كلّها بمنزلة نظر المقلّد واستنباطه وتطبيقه ويقينه وشكّه» (١).

وقال المحقّق النائيني (قدس‌سره) ما حاصله :

«لا ريب في أنّ ظاهر الروايات [يعني أخبار من بلغ] في حدّ ذاتها وبمدلولها المطابقي وإن كان ثبوت الثواب فقط من دون تعرض فيها لإثبات الحجية أو الاستحباب إلّا أنّها بمدلولها السياقي ، بما انّها بصدد بيان جعل الداعي إلى

__________________

(١) نهاية الدراية : ٢ / ٢٢٠ ، انتشارات مهدوي.

٩

العمل ، نظير ما ورد من الثواب على أعمال أُخر ، مثل قولهم (عليهم‌السلام) : من زار الحسين (عليه‌السلام) فله كذا وكذا ، ينعقد لها ظهور ثانوي في إحدى الجهتين ، ويتقدّم الظّهور الثانوي على الظهور الأوّلي المطابقي لما بيّناه غير مرة من أن الظهور في القرينة يتقدّم على الظهور في ذي القرينة ، وعليه يدور الأمر بين إحدى الجهتين السابقتين ، والمستفاد من ظاهر عنوان المشهور لهذه المسألة بمسألة التسامح في أدلّة السنن ، وإن كان يعطي كون البحث عن جهة أُصولية وإن الخبر الوارد في باب المستحبات لا يشترط فيه ما يشترط فيما دل على الحكم الإلزامي.

إلّا أنّ التحقيق ان استفادة الجهة الأُصولية منها في غاية الإشكال ، بل لا يمكن أصلاً وذلك فانّ ظاهر الروايات هو ترتّب الثواب مع احتمال عدم المصادفة للواقع كما هو صريح قوله (عليه‌السلام) : وان كان رسول الله لم يقله ، من أنّ الحجية لا بد وأن تكون متكفّلة لإلغاء احتمال الخلاف وإثبات الواقع بعد قيام الحجة عليه ، فكيف يجتمع مع فرض بقاء احتمال عدم المصادفة على حاله.

وبالجملة دليل حجية الأمارات لا بد وأن يكون ناظراً إلى الواقع ومثبتاً له بإلغاء احتمال خلافه ، والرواية صريحة في إثبات ترتّب الثواب مع عدم التعرض فيها لإلغاء هذا الاحتمال بل مقرّرة لبقائه وحينئذ فتكون الروايات أجنبية عن المسألة الأُصولية أيضاً وتكون متمحضة في الحكم بالاستحباب لأجل طرو عنوان ثانوي كما قيل بنظيره في مطلق الأمارات وانّها توجب حدوث عنوان في مؤدّياتها ، يوجب جعل الأحكام على طبقها. (١)

أقول : المستفاد من كلمات هؤلاء الأجلّة كلّهم ، أنّ البحث في هذه المسألة مركّز على مفاد أخبار من بلغ ، مع أنّك ستقف على تعدّد مدارك القائلين بالتسامح في أدلّة السنن ، من الأخبار والإجماع والعقل ، فينبغي أن نوسع البحث في المقام من هذه الناحية ، فنقول :

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ / ٢٠٨.

١٠

إنّا تارة نبحث عن جريان الاحتياط وإمكانه في المقام ، فبما انّ البحث يكون حينئذ من إحدى صغريات مسألة الاحتياط وهي أُصولية بلا كلام ، فالمسألة المبحوث عنها في المقام أيضاً أُصولية ، وأُخرى نبحث عن حكم العمل ، هل هو محكوم بالاستحباب أم لا ، فهي من هذه الجهة فقهية كما لا يخفى ، هذا بالنظر إلى أصل المسألة.

وأمّا بالنسبة إلى أخبار من بلغ ، فيبتنى كون المسألة أُصولية أو فقهية ، على مختارنا في مفادها ، فان ذهبنا إلى أنّ تلك الأخبار ناظرة إلى أنّ الشرائط المعتبرة في حجية الخبر من الإسلام والعدالة والضبط ، مختص اعتبارها بما إذا كان مفاد الخبر حكماً إلزامياً ، وأمّا إذا كان حكماً غير إلزامي ، فيكفي في ثبوته مجرد وصول الخبر به وبلوغ الثواب عليه فالمسألة حينئذ أُصولية ، وإنّ قلنا : إنّ فعل المكلّف المشكوك تعلّق الأمر به ، يصير ببركة هذه الروايات ذا مصلحة غير إلزامية ، موجبة للحكم باستحبابه شرعاً ، وان لم يكن مطابقاً للواقع وعلى هذا يكون البحث في المقام عن استحباب العمل البالغ عليه الثواب ، فيكون بحثاً فقهياً ، إلّا أنّك ستعرف انّ المختار في مفاد تلك الأخبار ، لا هذا ولا ذاك ، بل هي عندنا ناظرة إلى جهة كلامية محضة.

وأمّا ما أفاده المحقّق النائيني (قدس‌سره) في ذيل كلامه ، من إنّ الروايات تكون متمحّضة في الحكم بالاستحباب لأجل طرو عنوان ثانوي ، كما قيل بنظيره في مطلق الأمارات الخ ، فهو في غاية البعد جداً ، إذ لا دلالة في الأخبار المذكورة على أنّ عنوان البلوغ [بلوغ الثواب أو الخير] ، ممّا يوجب حدوث مصلحة غير إلزامية في العمل ، بها يصير مستحباً ، بل أقصى ما يدل عليه ظاهرها ، هو الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد وترتّب الثواب على الإتيان بالعمل الذي بلغ عليه الثواب وإن لم يكن الواقع كما بلغه ، وسيأتي إن شاء الله بيان مفادها تفصيلا.

١١
١٢

أدلّة القول بالتّسامح

يوجد في كلماتهم وجوه من الاستدلال نذكرها واحداً بعد واحد ونحلّلها :

الدليل الأوّل : الإجماعات المنقولة المعتضدة بالشهرة العظيمة :

بل عن الشيخ الأعظم (قدس‌سره) دعوى الاتفاق المحقّق ، فانّه قال : «إنّ الظاهر من صاحب المدارك ـ قده ـ في باب الصلاة الرجوع عمّا ذكره في أوّل الطهارة وهو المحكي أيضاً عن ظاهر العلّامة ـ قده ـ». (١)

وأنت خبير بعدم استحكام هذا الدليل ، أوّلاً لعدم حجية المنقول من الإجماع ، وثانياً لاحتمال كونه مستنداً إلى الأدلّة الآتية ، احتمالاً قوياً ، خصوصاً أخبار من بلغ ، بل الظاهر تمسّك الجميع بتلك الأخبار ، فهي المستند لا الإجماع.

أضف إلى ذلك اختلاف الأنظار في مفاد تلك الأخبار وستأتي أقوالهم المتشتتة في ذلك ، وما اشتهر بينهم من التسامح في أدلّة السنن ، لا يدل على أنّ مفاد الأخبار عند الجميع ، هو إلغاء شرائط الحجية في المندوبات ، فانّ التسامح كما يمكن أن يكون من هذا الوجه ، يمكن لوجه آخر ويأتي توضيحه.

__________________

(١) مجموعة رسائل : ١٢ ، من منشورات مكتبة المفيد.

١٣

الدّليل الثّاني : حكم العقل :

بتقريب انّه لا ريب في أنّ الآتي بالعمل المشكوك كونه مستحباً ، قاطع بعدم الضرر في هذا الإتيان ، لدورانه بين كونه مباحاً أو مستحباً بخلاف تركه لانّا نحتمل حينئذ ترك ما هو مطلوب في نفس الأمر ولا شبهة في أنّ العقل يرجح حينئذ إتيان الفعل.

ولذا نرى انّ العبيد اذا احتملوا كون شيء مطلوباً للمولى وعلموا عدم ترتب ضرر ونقص على الإتيان به يقدمون عليه لهذا الاحتمال ويستحقون المدح من العقلاء وان لم يكن ذلك الشيء مطلوباً في نفس الأمر.

فإذا ثبت الرجحان عند العقل فهو كاف في الحكم بالندب ، غاية ما في الباب انّ ذلك ليس إثباتاً لاستحباب المشكوك من حيث الخصوصية بل إثبات لرجحان فعله من جهة أنّه محتمل المطلوبية. (١)

أقول : ضعف هذا الوجه واضح جداً لأنّ المكلّف إمّا أن يأتي بالعمل المشكوك استحبابه بما انّه حكم من الأحكام الشرعية ويعامل معه معاملة المستحبات الواقعية ، وإمّا أن يأتي به لاحتمال كون فعله مطلوباً للشارع ومحبوباً عنده ولرجاء إدراك الواقع.

أمّا الأوّل : فلا شك في أنّه إمّا تشريع ـ إن كان التشريع بمعنى إدخال ما لم يعلم أنّه من الدين فيه ، لا خصوص إدخال ما علم أنّه ليس منه فيه ـ وإمّا قول بغير علم واسناد شيء إلى الشارع كذلك ، ولا كلام في حرمة كليهما ويأتي مزيد توضيح لذلك.

وأمّا على الثاني ، فالعمل معنون بعنوان الاحتياط والانقياد ، وهو وان كان أمراً مطلوباً ، يشهد به العقل والنقل ، إلّا أنّه غير الحكم بالاستحباب (٢) كما لا يخفى ويأتي في تنبيهات المسألة بيان الفرق بين قاعدة التسامح وقاعدة الاحتياط.

__________________

(١) عناوين الأُصول : ١٣٤ ، بتصرف منّا في العبارة.

(٢) لو أراد إثبات الاستحباب ، وإلّا فالاستدلال متين.

١٤

الدليل الثالث : أخبار من بلغ :

وهذه الاخبار وان كان بعضها مرسلا وكان بينها اختلاف في الجملة ، إلّا أنّ بعضها كرواية هشام بن سالم صحيح بلا إشكال ، وعن البحار انّه من المشهورات رواه العامة والخاصة باسانيد (١) ، بل لا يبعد دعوى تواتر هذه الأخبار معنى ، ولا أقل من كونها مستفيضة ، وكيف كان فالتكلّم في اعتبار هذه الروايات من حيث السند غير لازم ضرورة انّها متلقاة بالقبول عند الأصحاب ، انّما المهم هو البحث عن مفادها وقبل ذلك نذكر الأخبار [وقد جمعها الشيخ المحدث الكبير في المجلد الأوّل من الوسائل ، أبواب مقدمة العبادات ، بعنوان استحباب الإتيان بكل عمل مشروع روى له ثواب منهم عليهم‌السلام] :

١ ـ ما رواه صفوان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب على شيء من الخير فعمل به ، كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله.

٢ ـ ما رواه هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله.

٣ ـ ما نقله محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : من بلغه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان له ذلك الثواب وان كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يقله.

٤ ـ ما عن حمدان بن سليمان ، قال سألت : أبا الحسن علي بن موسى الرضا (عليهما‌السلام) عن قول الله عزوجل : (فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٢) قال : من يرد الله أن يهديه بإيمانه في الدنيا إلى جنته ودار كرامته في

__________________

(١) بحار الأنوار : ٢ / ٢٥٦.

(٢) الأنعام : ١٢٥.

١٥

الآخرة يشرح صدره للتسليم لله والثقة به والسكون إلى ما وعده من ثوابه حتى يطمئن إليه.

٥ ـ ما رواه محمد بن يعقوب باسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) قال : من سمع شيئاً من الثواب على شيء فصنعه كان له وإن لم يكن على ما بلغه.

٦ ـ ما عن محمد بن مروان أيضاً ، قال : سمعت أبا جعفر (عليه‌السلام) يقول : من بلغه ثواب من الله على عمل فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أُوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه.

٧ ـ أحمد بن فهد ـ في عدة الداعي ـ قال : روى الصدوق عن محمد بن يعقوب بطرقه إلى الائمة (عليهم‌السلام) : إنّ من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له من الثواب ما بلغه وإن لم يكن الأمر كما نقل إليه.

٨ ـ علي بن موسى بن جعفر بن طاوس في كتاب الإقبال عن الصادق (عليه‌السلام) قال : من بلغه شيء من الخير فعمل به كان له ذلك وإن لم يكن الأمر كما بلغه.

٩ ـ ما رواه عبد الله بن القاسم الجعفري عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) عن آبائه (عليهم‌السلام) ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من وعده على عمل ثوابا فهو منجّزة له ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار. (١)

١٠ ـ ومن طريق العامّة ما رواه عبد الرحمن الحلواني مرفوعاً إلى جابر بن عبد الله الأنصاري ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بلغه من الله فضيلة فأخذ بها إيماناً بالله ورجاء ثوابه ، أعطاه الله ذلك وإن لم يكن كذلك. (٢)

__________________

(١) الوسائل ، ج ١ ، أبواب مقدمة العبادات ، الباب ١٨.

(٢) عدة الداعي : ١٣.

١٦

الأقوال في مفاد الأخبار :

إذا أحطت على أخبار الباب ، فاعلم أنّ الأقوال في مفادها ستة :

١ ـ ما يتراءى من المشهور لعنوانهم المسألة بالتسامح في أدلّة السنن وهو أنّ مفادها أنّه لا يشترط في الخبر الوارد في المستحبات ، ما يشترط في ما دل على الحكم الإلزامي ، وعلى ذلك فتقع المعارضة بينها وبين ما دل على اشتراط العدالة والوثوق مثلاً في حجية الخبر.

قال بعض المحقّقين :

أغلب المندوبات والمكروهات ليس له دليل قوى ، مع أنّ الفقهاء يفتون به وظاهر لفظ التسامح هنا يدل على أنّ الأصحاب في دليل الوجوب والتحريم يأخذون بالمداقة بمعنى أنّهم لا يعتمدون فيها إلّا على ما هو دليل شرعاً أي ما قام الدليل على حجيته بخلاف غيرهما فإنّهم يعتمدون فيه على ما لم يقم دليل على حجيته كالخبر الضعيف وفتوى الفقيه الواحد والشهرة المجرّدة عند من لا يرى حجيتها. وبعبارة أُخرى يدل على اعتمادهم في المندوب ونحوه على ما لا يعتمد عليه في الواجب والحرام. (١)

٢ ـ ان يكون مفادها استحباب العمل البالغ فيه الثواب بعنوانه الأوّلي بأن يكون موضوع الحكم هو العمل بعنوانه المأخوذ في الأخبار الضعاف من صلاة أو صيام أو غير ذلك ، ومآل هذا القول إلى القول الأوّل كما لا يخفى.

٣ ـ أن يكون المستفاد منها استحباب العمل بالعنوان الثانوي أعني به عنوان بلوغ الثواب عليه.

٤ ـ أن يكون مضمونها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد وترتّب

__________________

(١) عناوين الأُصول : ١٣٣.

١٧

الثواب على الإتيان بالعمل الذي بلغ عليه الثواب وإن لم يكن الأمر كما بلغه من دون دلالتها على حكم مولوي لا وضعي ولا تكليفي.

وعلى هذا فالأخبار لا تفيد استحباب الشيء الذي قام عليه الخبر الضعيف وإنّما يثاب العامل ثواب الانقياد وانّها في صدد بيان أنّ الانقياد لله تعالى حسن كما يحكم بذلك العقل.

٥ ـ أن يكون وزانها وزان الجعالة بمعنى وضع الحكم على العنوان العام ليتعقّبه كل من أراد فكما انّ تلك ، جعل معلّق على ردّ الضالة ، فهذا أيضاً جعل معلّق على إتيان العمل بعد البلوغ برجاء الثواب.

٦ ـ وقد يقال : إنّ موردها يختص ب ـ صورة تحقّق الاستحباب بدليل معتبر وكون البالغ هو الثواب الخاص كما إذا بلغ مثلاً انّ المستحب الفلاني ثوابه ثواب عبادة أربعين سنة ، فثبوت الثواب الخاص هو المتسامح فيه دون أصل شرعية الفعل.

هذه هي الأقوال في المسألة وقد احتمل بعض الأعاظم (قدس‌سره) احتمالاً آخر فيها ، وهو أن يكون مفادها مجرد الأخبار عن فضل الله سبحانه من غير نظر إلى حال العمل وانّه على أي وجه يقع. وبعبارة أُخرى : يمكن أن تكون هذه الروايات ناظرة إلى العمل بعد وقوعه وانّ الله تعالى حسب فضله ورحمته يعطي الثواب الذي بلغ العامل وإن تخلّف قول المبلغ ولم يكن الأمر كما أخبر به.

وحينئذ لا تكون الروايات بصدد بيان حال العمل قبل وقوعه من العامل وانّه مستحب ولا بصدد بيان إلغاء شرائط حجية الخبر الواحد في المستحبات ، وانّه لا يعتبر فيها ما يعتبر في الخبر القائم على وجوب شيء من الوثاقة أو العدالة. ثمّ قال (قدس‌سره) في تكميل هذا الاحتمال ما لفظه :

ولا يمكن التمسك بإطلاق الموضوع وهو البلوغ ويقال : إنّ الموضوع في القضية مطلق لم يعتبر فيه شرائط الحجية ، فانّ الإطلاق في القضية انّما سيق

١٨

لبيان حكم آخر وهو إعطاء الثواب على العمل الذي بلغ عليه الثواب وإذا كان الإطلاق قد سيق لبيان حكم آخر لا لحكم نفسه ، فلا يجوز التمسك به نظير قوله تعالى : (فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) (١). فأنّ إطلاق الأمر بالأكل قد ورد لبيان حلية ما يصطاده كلب الصيد وانّه ليس من الميتة فلا يجوز التمسك بإطلاق الأمر بالأكل لطهارة موضع إمساك الكلب ، وفي المقام إطلاق قوله (عليه‌السلام) : «إذا بلغه شيء من الثواب فعمله كان له ذلك ، لم يرد لبيان استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب حتى يؤخذ بإطلاقه ، ليستفاد منه عدم اعتبار ما اعتبر في الخبر الواحد من الشرائط ، بل انّما ورد لبيان فضل الله تعالى على العباد وانّ الثواب لا يدور مدار إصابة قول المبلغ للواقع وهذا لا ينافي ان يعتبر في قول المبلغ ما يعتبر في الخبر الواحد ، أي كان ترتب الثواب مشروطاً بكون قول المبلغ واجداً لشرائط الحجية. (٢)

نقدُ الأقوال :

أمّا القول الأوّل ، فالانصاف أنّه لا يستفاد من الأخبار بوجه ، اذ لا دلالة فيها ولو إشارة على إلغاء شرائط الحجية في باب المستحبات ، فانّ لسان أكثرها بلوغ الثواب ولسان بعضها كمرسلتي الصدوق وعلي بن طاوس ، بلوغ الخير ومن الواضح انّ الثواب والخير لا يختصان بالعمل المستحب بل يعمّاه والعمل الواجب ، إذ المراد من الثواب فيها ، شيء يثاب على فعله بذكر المسبب وإرادة السبب ، وهذا المعنى يطلق على الواجب أيضاً لأنّه شيء يثاب على فعله ويعاقب على تركه.

ومن هنا استشكل بعضهم في مفاد هذه الأخبار بانّها لو نهضت للدلالة على استحباب الشيء بمجرد ورود الخبر الضعيف ، لنهضت للدلالة على وجوب الشيء بذلك.

__________________

(١) المائدة : ٤.

(٢) فوائد الأُصول : ٣ / ٤٠٩ ، طبعة جماعة المدرسين.

١٩

وأمّا لفظ الخير فهو وان يطلق كثيراً ما على المستحبات ، إلّا أنّ استعماله في الواجبات أيضاً ليس بقليل كقوله تعالى : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) (١) وقوله عز شأنه : (فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) (٢) ، كما انّه قد يستعمل في الأعم منهما كقوله سبحانه : (وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللهِ) (٣).

والشاهد على ما ذكرناه ما رواه عبد الله بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه‌السلام) عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من وعده الله على عمل ثواباً فهو منجّزة له ومن أوعده على عمل عقاباً فهو فيه بالخيار. (٤)

إذ لا ينبغي الريب في أنّ الثواب في هذه الرواية لا يختص بالعمل المندوب بقرينة ذيلها ، فكأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قسّم الأعمال كلّها على قسمين : قسم يثاب على إتيانه وامتثاله وهو الواجب والمندوب وقسم يعاقب على فعله وهو الحرام ، والظاهر ان ترك المكروه من القسم الأوّل إذ لا عقاب في فعله ، ومن هنا سيأتي في تنبيهات المسألة إلحاق الكراهة بالاستحباب في التسامح في دليلها. وبالجملة فهذه الأخبار لا تختص بالمستحبات فضلاً عن دلالتها على إلغاء شرائط الخبر فيها.

وممّا ذكرناه يظهر النظر في كلام المحقّق النائيني (قدس‌سره) فانّه قال بعد فرض دلالة الأخبار على ذلك : «وحينئذ فتقع المعارضة بينها وبين ما دل على اشتراط العدالة والوثوق مثلاً في حجية الخبر ولكنّه مع ذلك لا بد من تقديم هذه الأخبار ورفع اليد عن دليل الاشتراط في مواردها ، أمّا ما كان من أدلّة الاشتراط من قبيل قوله تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) أو غيره المفيد لاشتراط العدالة مطلقاً ، فوجه تقديمها عليه واضح ، فانّ هذه الأخبار أخص من تلك الأدلة فيقدّم عليها

__________________

(١) البقرة : ١٨٤.

(٢) التوبة : ٣.

(٣) البقرة : ١١٠.

(٤) الوسائل : ج ١ ، أبواب مقدمة العبادات ، الباب ١٨ ، ح ٥.

٢٠