كنز الولد

ابراهيم بن الحسين الحامدي

كنز الولد

المؤلف:

ابراهيم بن الحسين الحامدي


المحقق: مصطفى غالب
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٤٢

بسم الله الرحمن الرّحيم

وبه أستعين (١)

الحمد لله نور النور ، ومدبر الأمور ، ومقدر دهر الدهور ، العالم بخفيات الصدور لا من شيء أبدعه (٢) ولا من أصل اخترعه (٣) ، ولا من شيء تقدم عليه ، ولا بشيء يضاف إليه ، ولا لشيء يستعان به ، أول الأعداد (٤) ، فرد الآحاد ، مبدأ الوجود (٥) ومنبع الجود ، ومنشئ الحدود ، الشاهد المشهود ، النافي عن ذاته الإلهيّة للمبدع المعبود ، من لا تجاسره الخواطر ، ولا تحويه المشاعر ، ولا تدركه البصائر ، المنزّه عن الأسماء والصفات ، والبريء عن الأشباه في جميع الحالات ، والمتعالي عن مشاكلة أهل الأرضين والسموات ؛ إذ لا ضدّ له ولا ند ، سبحانه ، وجل جلاله وعلا ملكه ، وعزّ سلطانه ،

__________________

(١) أستعين : نستعين ط.

(٢) أبدعه : الإبداع والابتداع : هو عند الحكماء إيجاد شيء غير مسبوق بمادة ولا زمان. بدع ـ بدعا الشيء : اخترعه وصنعه لا على مثال. الإبداع والانبعاث : استعاضة عن نظرية الفيض.

(٣) اخترع الشيء : أنشأه ، ابتدعه ، ويقال «اخترع الله الكائنات» أي ابتدعها من العدم.

(٤) أول الأعداد : الواحد في وجود الأعداد مترتبا أولا ثابتا بكونه نهاية أولة وعلة أولى بها يتعلق وجود ما سواه من الأعداد متوجها فيه نحو النهاية الثانية ، وعلة أولى بها يتعلق وجود ما سواه من الأعداد.

(٥) مبدأ الوجود : المبدأ : الأصل ، السبب الذي لولاه لما وجد سواه ، وعلة أولى بها يتعلق وجود ما سواه من الموجودات.

١

وأشهد أن لا إله إلّا هو شهادة من عرف حدوده حدا حدا (١) ، وسلب عنهم الإلهيّة وجردها عنهم (٢) ؛ له القبل والبعد.

وعرفه بجليل صنعته ، وعظيم حكمته ، فنزهه ، ولم يسه عنه بأن يتعداها ، وأقام ميزان عدله في مشيئته لإثبات التوحيد ، وتصديق الوعد والوعيد ؛ من أصل الأول في الابتداء في عالم الأمر والخلق ، ما به إلى ذلك اهتداء.

وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله الأمين ، وصفيّه المكين ، أفضل الأنبياء عنده ، الممنوح أنواره وسعده ، صاحب المعجزات الباهرات ، والآيات البينات ، محيي العظام الرفات ، المنقذ أهل (٣) الغرق في الجهالات ، المتغطمطين في الظلمات ، الآتي بكلمة الإخلاص ، المنقذ بها حين لات مناص ، الموحد المبدع ذات الذوات ، أصل الوجود والبركات ، بديع الصالحات ، ومسدي الحسنات. فصلى الله عليه من نبي أكمل الله به الديانات ، وختم به النبوات ، وقمع به أصل أهل الضلالات ، ودمغ ببرهانه ذوي الشبهات ، وأنار به السبل في جميع الجهات. وعلى وصيه وابن عمه ، المفرج كربه وهمه ، سيف الله المسلول ، وخيرته المقبول ، المعجزة الباهرة ، والقدرة القاهرة ، لسان صدق جده إبراهيم صلى‌الله‌عليه‌وسلم. نبأ الله العظيم ، والسهم العلي الكريم ، الذي تحركت المتحركات لظهوره ، وسرت العناية الإلهية لحضوره ، ودارت لسببه الأفلاك ، وسبحت الأملاك ، صالح المؤمنين ، وأمير المتقين ، وقائد الغر المحجلين ، حوض الكوثر ، والقمر الأزهر ؛ فلمّا ظهر بهر ، وقام فقهر ،

__________________

(١) يعني عرف حدود التوحيد المعروفة بالدعوة الإسماعيلية وهم : السابق والتالي والناطق والأساس وهؤلاء الأصول الأربعة.

(٢) من صميم التوحيد الإسماعيلي سلب الإلهية عن كافة الحدود.

(٣) أهل : سقطت في ج.

٢

وأعزّ الإسلام ونصر ، وأمده الله بلواء حمده والظفر ، فكمل به الدين ، وأباد به الملحدين ، وأيّد به الموحدين ، المثل المضروب للأولين والآخرين. فصلى الله عليهما وعلى ذريتهما الطيبين ، وعترتهما الطاهرين ، الأئمة المنتجبين (١) آل طه ويس ، وعلى صاحب العصر والزمان ، وولي الفضل والإحسان ، الإمام الطيب أبي القاسم أمير المؤمنين (٢) وسلم تسليما كثيرا.

أمّا بعد : فإن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى ، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلّكم تذكرون. ولا عدل إلّا عدل الله ، ولا إحسان إلّا فضله وكرمه وجوده المؤيد به حدوده ، والمجري به سعوده ، لإظهار النفوس من العدم إلى الوجود ، وإفاضة الجود على المسترشد المحدود. كما قال الحكيم (ع م) (٣) : أفضل الحسنات احياء الأموات. فحق ذوي القربى طاعتهم ، والالتزام بولايتهم ، والتمسك بحبالهم (٤) والمعرفة لمراتبهم ، وتقويم النفوس بمحبتهم ، وتتميمها بمواصلتهم ، وإكمالها بقوانين

__________________

(١) يعني الأئمة المنصوص عليهم من صلب الإمام علي بن أبي طالب.

(٢) الإمام الطيب أبو القاسم : يذكر التاريخ أن الخليفة الفاطمي الآمر قبل مقتله بقليل أنجب طفلا في اليوم الرابع من شهر ربيع الآخر سنة أربع وعشرين وخمسمائة ، وسماه الطيب ، وكناه أبا القاسم وكتب سجلات البشارة بهذا المولود والنص على إمامته ، ولما قتل جماعة من الإسماعيلية النزارية الخليفة الآمر باحكام الله في الثاني من ذي القعدة من سنة أربع وعشرين وخمسمائة استتر الإمام الطيب ، وما زال مستورا حتى الآن والإمامة بالنسبة لفرقته «المستعلية» جارية في الإمام الطيب أبي القاسم وعقبه نائب الغيبة الداعي المطلق.

(٣) الحكيم : يقصد به الإمام أحمد الوفي صاحب رسائل إخوان الصفاء.

(٤) لأنهم حسب المفهوم الإسماعيلي هم أولو الأمر الذين أمر الله تعالى بطاعتهم ، لقوله (صلعم) : إني قد تركت فيكم ما أن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا : الثقلين ، وأحدهما أكبر من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

٣

علومهم ، وتنويرها بمعاني ألغازهم ، وتجريد توحيد الله (١) تعالى بعلو رتبهم ودرجهم (٢) ومنازلهم. إذ لا نجاة ولا فوز إلّا بشفاعتهم ، ولا شفاعة إلّا بمواصلتهم ، ولا خلاص إلّا باتباعهم فيما شرعوه وشرحوه ، ووضعوه ورمزوا به وصرحوه ، ولا بلوغ إلى ذلك إلّا بشق الأنفس ، والسعي والطلب والتعلق بالمعلم الصادق لإدراك المعاني والحقائق ، ولا وجود لمعلم لا يفيد كما لا وجود لمتعلم لا يستفيد. كما أمر الله تعالى ورسم به في كتابه العزيز وحتم بقوله : (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ) (٣). وقال : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٤). وقال : على الموسع قدره ، وعلى المقتر قدره. وقال : (وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) (٥). وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما نقص مال من صدقة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : طلب العلم فريضة ونشره في مستحقّه فريضة. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : من أعطى الحكمة غير أهلها فقد ظلمها ، ومن عدل بها عن مستحقّها فقد ظلمه. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إن لكل شيء زكاة وزكاة العلم نشره. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إذا ظهرت البدع في أمتي ولم يظهر العالم علمه فعليه لعنة الله. وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : لا يجب على الإنسان أن يضع نفسه في غير موضعها.

__________________

(١) يمكننا أن نلخص توحيد الله تعالى بالنسبة للإسماعيلية في قولهم : إن الله الذي لا إله إلا هو وبطلان كونه تعالى ليسا وبطلان كونه أيسا وإنه تعالى لا ينال بصفة من الصفات وأنه لا بجسم ولا في جسم ولا يعقل ذاته عاقل ولا يحس به محس وأنه تعالى لا يعرب عنه بلفظ قول ولا بعقد ضمير ؛ توحيد : توحيدهم ج وط.

(٢) درجهم : درجاتهم ج وط.

(٣) سورة ٦٥ / ٧.

(٤) سورة ٢ / ٢٨٦.

(٥) سورة ٥ / ٤.

٤

واعلم هداك الله لأوضح المسالك ، ونجاك عن المهالك أن لكل رابع من الاتماء (١) قوّة وتأييدا ، واستطالة وتشديدا. ولكل سابع (٢) أعظم وأعلى وأقوم يقوم مقام النطق ؛ ونحن في دور سابع الأشهاد المتوجه نحوه ملاحم آبائه وأجداده ، والإشارات والرموز في أسانيدهم ، والبشارات الموصوفة بالبركات ، والنعم والخيرات ، بظهور العلوم والمعجزات ، وإشراق النور ، وينبوع الأنهار ، وازهرار الأشجار بالخضرة (٣) والنّور ، حتى تتصل أنواره بنور القائم عليهما‌السلام على أتم تمام ، وأحسن نظام.

ولمّا تبلبلت الألسن بالكفر والنفاق ، والتمويه والشقاق ، بالطعن على الحدود (٤) ، والكفر بالمعبود ، عزم العبد الضعيف المسكين الحنيف ، المستميح من تأييد مولاه ومواده وسناه ، أن يجمع مجموعا بعون الله ومشيئته ونظره ورحمته ، وهو يتوسل إليه بحجبه النورانية ، وأسمائه (٥) الروحانية ، وصفاته النفسانية ، وبولي العصر والزمان ، ولي الفضل والإحسان ، أن يثبته على طاعته ومرضاته ، ويوفّقه للسداد في أغراضه ونيّاته ، ولا يؤاخذه في جميع ما جمع ، وإظهار ما شفع ، ويغفر له ، ويرحمه ، إنّه قادر على ذلك إن شاء الله. ويلفظ فيه من غرائب الحكم المكنونة ، ومعاني العلوم

__________________

(١) الأئمة الذين يتمون الأدوار الصغيرة والمتم هو السابع.

(٢) سابع : أي الإمام السابع في الأدوار الصغيرة. والدور الصغير هو الفترة التي تقع بين كل ناطق وناطق ويقوم فيها سبعة أئمة. والسابع قوته تكون معادلة لقوة الأئمة الستة الذين سبقوه في الدور نفسه بمجموعهم.

(٣) بالخضرة : بالحضر ط.

(٤) يعني بالطعن على الحدود الدينية وهم : الإمام ، الحجة ، الباب ، داعي الدعاة ، الخ ...

(٥) يقال إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما وأعظمهم المبدع الأول ، الملك ، القدوس ، السلام ، ولهذه الأسماء مراتب واعداد.

٥

المصونة ، في غضون أوضاع الحدود ، طالبا بذلك الثواب ، والفوز يوم المآب. وإن كان العبد الضعيف أدون المؤمنين حدا ، وأقربهم في العلم درجة وعهدا ، كما قال تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (١) ولا حول لي (٢) ولا قوّة في ذلك إلّا بالله العلي العظيم ، هو وليّي وناصري ومعيني ، وبه أستعين. فما جئت فيه من صواب (٣) فمن لحظاته وبركاته وتأييده ونظراته. وما سهوت عنه أو غفلت منه ، فمن نقص صورتي ، وسمت (٤) بصيرتي ، فاستغفره فهو المتجاوز عن الزلل والخطأ والخطل ، فلست معصوما (٥) إلّا به ، ولا خلاص لي إلّا بأسبابه.

وقد قال الله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) (٦) وهو تعالى المحيط بسريرتي ، والمطّلع على مكنون عقيدتي. إنّي له عابد وشاكر وحامد ، ومجرد وموحد ومنزّه وقاصد. لا أعبد سواه ، ولا أتأله إلّا إياه ، من حيث ظهر فبهر (٧) وبان ، وما استتر ، وخفي عمن نظر ، له الحمد على ما أولاه ، ولمملوكه من جوده العفو بما يتولاه ، والمملوك أحد الأجراء في عباده ، والخدام في بلاده ، يثير من الحرث ما قدر ، ويزرع في النسل على ما أمر ، لا يتعدى طوره ، ولا يتجاوز حدّه ، يسعى (٨) في خلاص ما خلص له من روباس الطبيعة الظلمانية ، واستعادة ما استعاد له إلى الصعود إلى الأرواح الروحانية ، والمساكن القدسانية ، كما قال الله تعالى : (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ) (٩)

__________________

(١) سورة ١٢ / ٧٦.

(٢) ولا حول لي : ولا حولا ج.

(٣) صواب : أصواب ج.

(٤) وسمت : وسمة ط وم.

(٥) الإسماعيلية لا يمنحون العصمة إلا للأئمة ولمن يعصم بواسطتهم بعد أن يترقى في المراتب والحدود.

(٦) سورة ٤ / ٤٨.

(٧) ظهر بهر : فهر ط.

(٨) في خلاص ما خلص له من : من التورط في روباص لأن في ذلك خلاص له ج وط.

(٩) سورة ٢١ / ١٠٤.

٦

ووسمته بكتاب كنز الولد (١) ، وجعلته أبوابا مفننة ، وفصولا مبيّنة ، أربعة عشر بابا والله الموفق للصواب :

الباب الأول : في القول على التوحيد من غير تشبيه ولا تعطيل.

الباب الثاني : في القول على الإبداع الذي هو المبدع الأول.

الباب الثالث : في القول على المنبعثين عن المبدع الأول معا وتباينهما.

الباب الرابع : في القول على المنبعث الأول القائم بالفعل. وما ذلك الفعل؟

الباب الخامس : في القول على المنبعث الثاني القائم بالقوّة. وما سبب ذلك؟

الباب السادس : في القول على الهيولى والصورة وما هما في ذاتهما وسبب تكثفهما وامتزاجهما؟

الباب السابع : في القول على ظهور المواليد الثلاثة : المعدن والنبات والحيوان.

الباب الثامن : في القول على ظهور الشخص البشري أولا ، وفي كل ظهور بعد وفاء الكور.

الباب التاسع : في القول على ظهور الشخص الفاضل من تحت خط الاعتدال.

الباب العاشر : في القول على الارتقاء والصعود إلى دار المعاد إن شاء الله تعالى.

الباب الحادي عشر : في القول على معرفة الحدود (٢) العلوية والسفلية.

الباب الثاني عشر : في القول على الثواب والارتقاء في الدرج إلى الجنة الدانية والعالية إن شاء الله.

الباب الثالث عشر : في القول على اتصال المستفيد بالمفيد وارتقائه إليه واتصاله به.

الباب الرابع عشر : في القول على العذاب بحقيقته وكيفيته نعوذ بالله منه.

__________________

(١) كنز الولد : خزينة العلوم والفوائد ج وط.

(٢) في القول على معرفة الحدود : في القول على الثواب ج.

٧

الباب الأوّل :

في القول على التوحيد (١) مما وضعته الحدود لأنّه أول ما افترض الله سبحانه على عباده بقوله ع ج : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢). وأجل العبادات توحيده وتمجيده وتقديسه كما قال الحكيم (٣) : إذا كان الله أعظم من كل شيء ، فالمعرفة به من أجل العلوم.

وسئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن معرفة الله تعالى فقال : تدلك الصنعة على صانعها ، والفعل على فاعله. لذلك واجب على كل عالم أن يعرف الصنعة على حكم النظر لا على حكم التقليد ، ويجب على كل عارف (٤) أن يعلم بأن الوجود ينفي الشك والريبة ، والعدم يثبت البعد (٥) والحيرة. فالوجود ما دلّ عليه القلب والنظر ، فمن سلك طريق التوحيد على حكم النظر

__________________

(١) في القول على التوحيد : في القول على التوحيد من غير تشبيه ولا تعطيل ج وط.

(٢) سورة ٥١ / ٥٦.

(٣) من الملاحظ ان دعاة وعلماء الإسماعيلية يستعملون هذه العبارة (الحكيم ع. م) في أكثر كتب الحقيقة دون أن يشيروا إلى صاحب هذا الاسم ، ولا إلى الشخصية المقصودة بهذه العبارة ، وباعتقادي أن المقصود فيها هو أحد الأئمة المستورين ، ونرجح بأن المعني بهذا القول الإمام المستور الوفي أحمد (١٩٨ ـ ٢٦٥ ه‍) صاحب رسائل إخوان الصفاء.

(٤) يعني بكل عارف أولئك الذين تكشفت لهم روح الروح أو نفس النفس وجواهرها العرفانية الباطنية.

(٥) يريد البعد عن التأييد والمؤيدين وعن الارتشاف من ينابيعهم الروحانية السرمدية.

٨

فقد حدد وتاه وأبطل. ومن سلك طريق التوحيد على حكم القلب والانفراد ، فقد أعدم وعطل.

وقال عالم الأنبياء : نظرنا وعلمنا ، فأثبتنا ما نظرنا بما علمنا ، فدلنا خاتم الأنبياء وسيد الأصفياء أن الصانع يعرف بصنعته ، والحكيم يوصف بحكمته ، والعالم يميز بعلمه ، وهو صلوات الله عليه وآله أوضح الأنبياء برهانا ، وأعلاهم في التوحيد شأنا ، وذريته الأخيار الأبرار الأطهار يقومون مقامه وينوبون منابه ، في كل زمان منهم هاد (١) مرشد ، وصفي وموحد. كما قال القاضي الأعظم يروى عن مولانا الباقر (٢) قوله : إن الله تعالى جعل في كل زمان فترة من أهل العلم بقية يدعون من ضل إلى الهدى ، ويصبرون على الأذى ، ويبصرون بنور الله من العمى ، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه ، ومن تائه ضلال قد هدوه ، يبذلون نفوسهم دون هلاك العباد ، فما أحسن آثارهم في البلاد.

وقال صاحب كيفية الطلب (٣) : وكم من عباد لله يلقون كلاليبهم فيستخرجون بها من قعر جهنم أولئك الذين فضلهم الله ورفعهم في العلم درجات. وروي أن كميل بن زياد سأل مولانا أمير المؤمنين مولانا علي بن أبي طالب (صلعم) عن توحيد مجرد بلسان صدق مفرد ،

__________________

(١) هاد : يقصد الشخص الملهم المؤول الذي يكشف جواهر الصورة الإنسانية وهو مثال الصورة الإلهية اللامعلومة ، الذي يقيم التوازن بين الباطن والظاهر ، وهو الإمام بنظر الحكمة الإلهية الإسماعيلية.

(٢) يعني الإمام محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ع. م (٥٧ ـ ١١٤ ه‍). ج وط صلى الله عليه

(٣) يريد صاحب رسالة كيفية الطلب لمن أراد التخلص من حبائل الشيطان لبعض دعاة الحق. انظر المرشد إيفانوف ص ٣٨٢ والفهرسة للمجدوع طبع إيران (١٠٤ ـ ١٠٦) ج وط رضي الله عنه.

٩

فقال : ويحك يا كميل من أجاب عن التوحيد بالعبارة فهو ملحد ، ومن أشار إليه فهو ثنوي ، ومن نطق به فهو جاهل ، ومن سكت عنه فهو غافل ، ومن ظن أنّه واصل فليس له حاصل (١) ، وكلّ ما ميزتموه (٢) في أوهامكم في أصدق معانيه (٣) فمصروف عنه مردود إليكم ، مصنوع محدث. وقال (٤) :

العجز عن درك الإدراك ادراك

والبحث عن سر كنه الذات إشراك

والكشف عن مستجنات الغيوب عمى

عليه من ظلمات العجز أفلاك

وروي أيضا أن رجلا يمانيا سأله فقال : يا أمير المؤمنين هل رأيت ربك؟ فقال : نعم. أفأعبد ما لا أرى؟ قال : وكيف تراه؟ قال منه السلام : لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن (٥) تدركه القلوب بحقائق الإيمان ، قريب من الأشياء غير ملامس ، بعيد منها غير مباين (٦) متكلم بلا روية ، مريد بلا همة ، صانع بلا جارحة ، لطيف لا يوصف بالخفاء ، بصير لا يوصف بالحساسة (٧) ، رحيم لا يوصف بالرقة ، تعنو الوجوه لعظمته ، وتذهل القلوب من مخافته.

__________________

(١) حاصل : أي ما بقي وثبت وذهب ما سواه ، والمقصود ليس له إمام لأنه حاصل الكل ، ومجمع الأنفس ، وروح الروح.

(٢) ميزتموه : أي عرفتم حقيقته الباطنية القدسية وحدوده الروحانية والجسمانية الدينية.

(٣) أصدق معانيه : التي هي الصورة الإلهية لأنه بنظر الحكمة الإلهية الإسماعيلية ليس الله نفسه ، ولكنه لا ينفصل عنه.

(٤) تنسب هذه الأبيات للإمام علي بن أبي طالب (ع. م) أساس أئمة الدور السادس. قال : وقال صلوات الله شعرا ج وط.

(٥) ولكن : وكن ج.

(٦) مباين : مباين ط.

(٧) بالحاسة : بالحساسة ج.

١٠

قال سيدنا المؤيد (١) قدس الله روحه في بعض خطبه : اللهم يا من وقع اعترافنا بصدق ما قاله في حكيم ذكره ، إذ يقول وقوله الحق : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (٢) ، إنّا نسألك المسامحة لمن هو في رقة العبودية في مضيق الانحصار ، إذ تناول ذكرك بغير ما أنت أهله بحكم الاضطرار ، فإنّما هو ذنب مشفوع بالاستغفار.

فقد صحّ واتضح بهذه الألفاظ الصادرة عن تلك الألسن الصادقة التي هي بالحق والحقائق ناطقة ، ان الغيب سبحانه وتعالى جلّ جلاله لا يقال عليه باسم من الأسماء ، ولا يوصف بما به مبدعاته تدعى ، ولكن لا بد من استعارة الأسماء الحسنى كما قال تعالى : (وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها) (٣) ففعلنا ما أمرنا ، وقصدنا ما به عرفنا ، فتوحيده معرفة حدوده (٤) وسلب الإلهية عنهم له تجريده (٥) ، وسلب الأسماء والصفات عنه لهم تنزيهه ، فهو

__________________

(١) المؤيد : يريد داعي الدعاة المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي الذي عرف في تاريخ الأدب العربي بمناظرته مع أبي العلاء المعري حول تحريم أكل اللحوم. جاء من شيراز في فارس إلى مصر مقر الخلافة الفاطمية وأقام بها زهاء ثلاثين عاما ، عمل خلالها على نشر العقائد الإسماعيلية ، فكان له تأثير كبير في الحياة العقلية ، وفي القاهرة أنشد المؤيد أكثر قصائد ديوانه ، وألقى مجالسه التي بلغت الثمانمائة مجلس. قيل إنه ولد سنة ٣٩٠ ه‍ وتوفي في القاهرة سنة ٤٧٠ هجرية وصلى عليه الخليفة الفاطمي المستنصر بالله (أعلام الإسماعيلية مصطفى غالب ٥٩٦ ـ ٥٩٨ ، والمرشد إلى الأدب الإسماعيلي إيفانوف ص ٤٧).

(٢) سورة ٦ / ٩١ و ٢٢ / ٧٤ و ٣٩ / ٦٧.

(٣) سورة ٧ / ١٨٠.

(٤) مذهب الإسماعيلية في التوحيد أقيم على دعائم مستمدة من نفي الصفات وسلبها عن الله لأنه أصدق ما يعتمد عليه في التوحيد والتمجيد ، وإن الله بالعرف الإسماعيلي لا يعقل ذاته عاقل ، ولا يحس به محس ، وتوحيده معرفة حدوده العلوية والسفلية.

(٥) التجريد : باعتبار أن الله حسب الاعتقاد الإسماعيلي متعال عن المراتب كلها كمالا ونقصانا ، ووحدة وكثرة ، ولا مثل له يتعلق بتجريد المجردين فيخرج عن نعوت مبدعاته إذا لم يجرده ـ

١١

تعالى لا ينفى ، ولا يعطل ، ولا يقال عليه ما يقال على مخترعاته ، ولا يبطل.

قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : إن أول الديانة لله تعالى معرفته ، وكمال معرفته توحيده ، ونظام توحيده نفي الصفات عنه ، وإقامة حدوده «بشهادة العقول إن كل صفة وموصوف مخلوق» (١) وبشهادة الصفة والموصوف جميعا ؛ إن الحدث الممتنع من الأزل منفي عنه سبحانه. وقال : الكلام فيما لا تدركه جهل ، والمناظرة فيما لا يبلغه العقل خطأ.

وقال صاحب الرسائل صلوات الله عليه (٢) : الواجب تنزيه الباري «عما يوصف به العقل والنفس لما كانا من مخترعاته ومخلوقاته وإنه سبحانه معللهما» (٣) وسبب وجودهما لا إله إلّا هو كل له عابدون ، فبالبرهان إن العقل والنفس لا يدركان صفته ، وإنّما يقال بالتقريب ما يتقرر في العقول وتسكن إليه النفوس. لا بخفائه استتر ، ولا بظهوره كظهور مخلوقاته ظهر ، فهو مستور بنوره كظهوره بنوره وإشراقه ، لأن نوره بهر الأنوار ، وانحصرت عن رؤيته الأبصار ، وحارث عن كنه صفته الأفكار. كل ذلك لجلالته وعظمته وإشراقه واحاطته بمخلوقاته وقدرته عليها ، وإنّها كلّها في قبضته وغير خارجة من قدرته ، وكيف تجد المخلوقات السبيل إلى وصف

__________________

ـ المجردون ، بل هو تعالى وتكبر جرد المجرد أو لم يجرد لا مثل له ، إذ لو كان لكانا اثنين ، ولكانا من حيث كونهما اثنين يوجد في كل واحد منهما ما يباين به الآخر ، وبه تقع الاثنينية ، والله تعالى في ذروة لا يجوز أن يكون له ضد ولا مثل.

(١) سقطت الكلمات الموضوعة داخل قوسين من ج وط.

(٢) صاحب الرسائل : يريد صاحب رسائل إخوان الصفاء الوفي أحمد (١٩٨ ـ ٢٦٥ هجرية).

(٣) سقطت الكلمات التي بين قوسين من ج وط.

١٢

خالقها إلّا بما دلها عليه ، ودعاها بما علمها من العبادة له إليه ، لا إله إلّا هو ربّ العالمين.

قال سيدنا المؤيد أعلى الله قدسه في بعض خطبه ومجالسه قولا يدل به على حقيقة التوحيد منه قوله : وأشهد أن لا إله إلّا الذي تقدس عن أن يكون متى ، ولا بأيدي الأوهام متناولا ، فالوهم إذا سافر إليه تاه في عرض الفلاة ، وإذا قعد عنه قعد معطلا مبطلا.

وقال في موضع ثان : فسبحان من تصرف الخطرات فيه محال ، وصرفها عنه كفر وضلال. وقال أيضا : اللهم يا من يجل عن أن يقال يا من ، فيكون مشبها ، وممتنع أن لا يقال يا من ، فيكون تعطيلا وعمى ، فالفكر عنه على تصريفه مصروف ، والوهم بين الحركة والسكون موقوف ، والطريق ما بين النفي والإثبات مخوف.

وقال أيضا : الحمد لله الذي بعد فعزّ توحيده أن ينال بمراس الفكر ، فالبصيرة عن إدراكه بحقيقته كالبصر مبدع الخالق ، البارئ ، المصور «وهو المنزّه عن صفة الخالق البارئ المصور» (١).

وقال : الحمد لله الذي لا يدركه من لا تدركه الأبصار ، ولا يحصره من لا تحصره الأفكار ، الذي دون تناوله للأفكار أستار ، أو لإقدام الأوهام زلل وعثار ، فهو سبحانه لا يدخل تحت اسم ولا صفة ، ولا يوما إليه بالإشارة مكيفة ، ولا يقال عليه حيّا ، ولا قادرا ، ولا عالما ، ولا عاقلا ، ولا كاملا ، ولا تاما ، ولا فاعلا ، لأنّه مبدع الحي ، القادر ، العالم ، العاقل ، التام ، الكامل ، الفاعل ؛ ولا يقال له ذات ، لأن كل ذات حاملة للصفات ،

__________________

(١) سقطت الكلمات التي بين قوسين من ج.

١٣

كالجسم وأعراضه التسعة ، والنفس وصفاتها (١) ، ولا يقال إنّه جوهر ، لأن الجوهر ينقسم إلى الجسم ، وإلى غير الجسم ، ولا يقال عرض لأن العرض محمولا مقبولا ، ملازما وزائلا. ولا يقال إنّه علّة ، لأن في المعلول بعض آثار العلة. ولا يقال إنّه قديم ، لأن القديم شاهد على هويته بالحدث. كما قال الحكيم حميد الدين قس (٢) : الأشياء تنقسم على ثلاثة أقسام : أولها وأشرفها وأكملها ما يكون لا بزمان ويختص ذلك باسم الإبداع. وثانيها الذي هو أوسطها ما يكون مع الزمان ويختص ذلك باسم الانبعاث. وثالثها الذي هو دونها وأخسها ما يكون بزمان ويختص ذلك باسم الاحداث. وكان ما يكون بزمان هو الفعل الصادر عن علّة فاعلة معوقة عن فعلها ، إمّا من جهة ذاتها بكونها مشوبة بما يعوقها ، أو من جهة المادة التي فيها تفعل بامتناعها عن القبول دفعة ، أو كليهما ، وذلك يختص بعالم الكون والفساد ، وهي بعد المكان والزمان. فالحي ، القادر ، القديم ، العالم ، هو الموجود الأول. ولا يقال إن المتعالي سبحانه شيء لا كالأشياء ، فالشيء يقتضي شيئا شيئه ، ومن قال لا أعرفه إلّا بأنّه هو ، فذلك إشارة إلى معلوم

__________________

(١) صفات النفس في العرفان الإسماعيلي تكون نفس أزكى من نفس ، ونفس أفخر من نفس ، والنفس الإنسانية جوهر من نفس كلية. وتختلف من حيث المرتبة وحصول صور المحسوسات والمعقولات الموجبة للأعمال المفروضة والسنن الدينية المنتهية إلى استفادة معرفة العقول الإبداعية التي بها ديمومتها وسرمديتها ، ومن حيث تمييزها للخير والشر والباقي من الفاني.

(٢) يريد حجة العراقين صاحب المؤلفات الفلسفية الكثيرة أحمد حميد الدين الكرماني تلميذ الفيلسوف أبي يعقوب السجستاني. استدعاه الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله عند ما اشتد وطيس المعارك الدينية وقامت الدعوات الجديدة إلى القاهرة فألقى المجالس والمحاضرات في دار الحكمة وصنف البحوث والرسائل التي ناقش فيها المنشقين القائلين بألوهية الحاكم بأمر الله. توفي في القاهرة سنة ٤١١ هجرية. أعلام الإسماعيلية مصطفى غالب ص ٩٩ وعيون الأخبار للداعي إدريس عماد الدين ص ٤٥ ج ٦.

١٤

ما ، ومن قال إن أفعال العبادة ترضيه وتسخطه ، فقد أجرى عليه الحالات والاستحالات لاستحالته من السخط إلى الرضى عند وجوب الطاعة ، واستحالته من الرضى إلى السخط لوجوب المعصية ، وأفعال العباد راجعة عليهم. فالمبدع الحق متعالي عن ذلك لقوله تعالى : من أحسن](فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (١). فهذه سمات المحدثات ، ومبدعها متعال عنها ، لأن المبدع لا يشبه شيئا ممّا أحدث. ولو أشبه شيئا منها بوجه من الوجوه لكان محدثا لا محدثا ، غير أنّا علمنا الخلقة كونها بعد أن لم تكن فعلمنا أن لها مبدعا تعجز عقولنا عن دركه تعالى عمّا يقول الظالمون علوا كبيرا.

وقال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام في الدرة اليتيمة (٢) : دليله آياته ، ووجوده إثباته ، ومعرفته توحيده ، وتوحيده تمييزه من خلقه وظهوره بالشيء إقباله عليه ، وثباته باتصاله إليه يتجلّى (٣) ولا يتحالى (٤) ويتدانى (٥) ولا يتدلى ، علوه من غير توقل ، ومجيئه من غير تنقل ، فمنك يعلمك ، وعنك يفهمك.

قال سيدنا حميد الدين : وهو تعالى من هو من العلاء في ذروة ، لا يجوز أن يكون غيره يسبقه ويتأول عليه فيكون هو دونه. فهو من فوق

__________________

(١) سورة ٤١ / ٤٦ ولكن المؤلف اقتبس (من أحسن) من آية أخرى فوضعها بدلا من مطلع الآية (من عمل صالحا).

(٢) الدرة اليتيمة : تنسب للإمام علي بن أبي طالب ع. م.

(٣) التجلي : الظهور بالحقيقة واليقين ، أو الكشف والمكاشفة العرفانية بالرؤية العقلية والسمع الحسي الباطني.

(٤) المقصود أنه لا يحل في شيء كما يعتقد أصحاب «مذهب الحلول».

(٥) يتدانى قربا بجوهره الحقيقي عند ما يتأمل المكاشف نفسه في روح الروح تصبح الروح موضوع تأمل روح الروح وتثبت روح الروح في محلها ومكانها.

١٥

نهاية المراتب (١) في الجلال ، والعظمة ، والكبرياء ، والثناء ، والقدرة ، والبهاء ، على أمر يضيق مجال العقول في الإحاطة ، تعالى الله علوا كبيرا ، والذي يكون بهذه المثابة فلا يكون له ضد ولا مثل ، فسبحانه ولا إله إلّا هو جل أن يكون له فيما هو هو ضد أو مثل.

وقال الشيخ الحميد السجستاني (٢) في إثبات النبوات : فسبحان المتعالي عن درك الصفات ، وإحاطة تصاريف اللغات ، لا تلحقه أحكام التبديل ، ولا اختلاف التحويل ، ولا تعتوره همم الأحلام ، ولا حضور رويات الافهام ، ولا جولان خواطر الأوهام. لا ينال بحس ، ولا ينعت بجنس ، ولا يخطر في الظنون ، ولا يرى بالعيون ، ولا يوصف بالحواس ، ولا يدرك بالقياس ، ولا يشبه بالناس. المنزّه عن ضد مناف ، أو ند مكاف ، أو شبه بشيء ، لا تدركه الأبصار ، وهو يدرك الأبصار ، وهو اللطيف الخبير ، المتعالي عن شبه المحدودين ، ذوات الموجودين ، الذي تحيرت الأوهام في نعت جبروته ، وحصرت الافهام عن صفة ملكوته ، وقصرت الألباب عن استشعار معرفة ديمومته ، وكلت الأبصار عن إدراك كيفية عظمته ، الدال بتدبير التراكيب ، وتقدير التراتيب ، في السقف المرفوع ، والمهاد (٣) الموضوع ،

__________________

(١) أي المراتب العلوية والسفلية والحدود الروحية والدينية لأنها تحت اختراعه ، فهو تعالى لا بجسم ولا في جسم ولا يعقل ذاته عاقل ولا يعرب عنه بلفظ قول ولا بعقد ضمير ولا يحس به محس. نهاية : النهايات ج وط.

(٢) هو أبو يعقوب إسحاق بن أحمد السجزي أو السجستاني المولود في سجستان سنة ٢٧١ هجرية له مؤلفات عديدة في علم العرفان الإسماعيلي ومن أشهر كتبه كتاب (النصرة) الذي عارض فيه كتاب الإصلاح الذي وضعه أبو حاتم الرازي في الرد على آراء الداعي النسفي التي وردت في كتابه المحصول وبذلك انتصر للنسفي على الرازي. قتل في تركستان سنة ٣٣١ ه‍.

(٣) المهاد : المهد ج ط. ورد هذا النص في مقدمة كتاب اثبات النبوات للسجستاني.

١٦

والإنسان المصنوع على أن ذلك محدث مبدع ، مخالف لمبدعه ، الذي ليس له مثل ، ولا شبه ، لقوله تعالى : (إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ) (١). غير ذي ضد ، لأن الضد إنّما يضاده مناف ، ولا بذي ند ، لأن الند إنّما يناده مكاف ، دل على الهوية بخلقه وآثاره ، وعلى أسمائه بأنبيائه وأخياره ، فليس للعقل في نيل أسمائه مجال (٢) ، إذ تشبيه المبدع بمبدعاته محال. جل عن أن يحده تفكير ، أو يحيط به تقدير ، أو يكون له كفوا ونظيرا. ونشهد شهادة ، هي فاتحة الإحسان ، ومرضاة الرحمن ، أن لا إله إلّا الله الذي لا يبلغ مدحه قائل ، ولا ينقص خزائنه نائل.

وقال سيدنا حميد الدين (٣) : من حيث هو هو ، لا صفة له ولا نعت له ولا حد ولا شبه ، ولا قرين ، ولا وزير ، كما ينعت من كان في عالم الجسم والعقل ، وهويته ليست بهوية يمكن أن يكون لغيره من مبدعاته مشاركه فيها ، إذ لو أمكن أن يشاركه شيء فيها من بعض الجهات لوجب أن يكون ذلك الشيء مباينا له من الجهة التي لم تقع المشاركة فيها ، وإذا كان التباين موجودا لكل منهما بما يختص به ، أو لواحد منهما ، وجب أن يتقدمهما من خصصهما بما باين به كل منهما

__________________

(١) سورة ٢٣ / ٩١.

(٢) يشير إلى تنزيه الله تعالى عن التشبيه بكل ما هو صادر أو ناشئ عنه : فهو لا يعرف ، ولا يوصف ، ولا يسمى. إنه غيب الغيوب ، ومبدع المبدعات ، لا تدركه الأبصار ، ولا يمكن أن ينسب إليه لا اسم ولا صفة ، ولا وجود ولا عدم وجود. لأنه فوق الكائنات والموجودات ، وهو ليس بكائن ولا يكون ، لأنه موجد الكينونة وفعلها ذاته.

(٣) زاد في ط ج : قدس الله روحه في الرسالة الوضية في معالم الدين في الفصل الرابع من المقالة الأولى.

١٧

صاحبه ووافق به صاحبه ، فيكون هو المعبود لا غيره. وبعد فإذا قيل إنّه تعالى واحد ، وعالم ، وقادر ، وحي ، أو غير ذلك ، فليس ذلك له بعلم وحياة وقدرة يصير بها موصوفا ، بل بمعنى أنّه فاعل الواحد ، والعالم ، والقادر ، والحي في غير ذلك ، كما يقال للسلطان إنّه بنى المدينة الفلانية ، وضرب رقبة فلان هو بان وضارب ، وليس ذلك صفة لذاته بمعنى أنّه تولى ذلك بنفسه ، بل صفة لمأموره الذي أقدره على ذلك ، فبنى بنفسه ، وضرب بنفسه ، وصار ضاربا بأمره ، وبانيا ، والكل منسوب إليه ، يكون حدوثه بأمره. فعلى مثل ذلك نقول على الله تعالى.

وقال في موضع ثان (١) : الحمد لله الذي عز عن أن يكون له مثال ، وجل عن أن ينعته بوجه من الوجوه مقال ، الذي حارت العقول فيه (٢) ، فلا تنهض لطلب المسالك في إدراك ما تسمه به إلّا شملها العجز عن الوصول إليه ، وتاهت الألباب فلا توري زندا في قصد ما تجعله صفة له إلّا وملكها الجهل بما تقتضي به عليه ، أحمده حمد من يقر بما عقل به ذاته من أنّه فقط ولا أحد من مبدعاته إله ، ولا شيء من مخترعاته إلّا بالتسبيح له ، وأشهد حقا (٣) بما عليه نشأت (٤) ممّا أرجو به الخلاص ، وأنال به

__________________

(١) يريد يعجز عن الدلالة على ما لم يكن مثله ، وليس مما يبنى عن الحروف من لفظ أو كلام شيء يدل على حقيقة المبدع ، لكون ما يراد دركه من المبدع تعالى بوصف وراء ما تؤديه الحروف المؤلفة من المعاني عاجزة عن الأداء عما لم يكن من عنصرها ، وقاصرة عن الاخبار عما لم يكن من جوهرها. وقال في موضع ثان : وقال في موضع ثاني من أول الرسالة الدرية في ج وط.

(٢) لأنه تعالى في حجاب من الامتناع عن قضايا العقليات.

(٣) أي شهادة من عرف الحقيقة العرفانية السرمدية والحدود الجوهرية الباطنية والحامل والمحمولات.

(٤) يعني بذلك أنه رضع لبان دعوة الحق ونشا وترعرع في كنفها وبواسطة علومها استطاع أن يصل إلى المعرفة الحقة.

١٨

الفوز حين لات مناص ، أن (١) الإلهية ليست لشيء ممّا يدرك بعقل أو نفس ، ولا لما يحكم عليه بوهم أو حس ، إلا لما تضطر الأنفس عند الإقرار به إلّا إلى القول بأنه الله الذي لا إله إلا هو ، ولا معبود سواه.

وقال سيدنا المؤيد في الدين أعلى الله قدسه : الحمد لله الذي تشبيهه إشراك ، وتعطيله هلاك ، والعجز عن إدراكه إدراك.

وقال العالم عليه‌السلام (٢) : وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له المتعالي عن الأشباه والأشياء والاضداد ، المتكبر عن الأكفاء والأنداد ، المتجبر عن الولادة والأولاد ، المتنزه عن المقدار والاعداد ، الذي علا بجوده عن صفات كل مخلوق ، وعن سمات كل مربوب لا يقدر العقل مع جلالة مرتبته ، وسمو رفعته ، بأصناف قواه ، على أن يدرك شيئا من جلالته ، أو أن يحيط بأدنى قدرة من قدره التي بها أبدعه إلّا الإقرار بإنيته ، ثم يبقى بعد الإقرار متحيرا كليلا في نفي ما يتصور عنده من إثباته إثباتا بعد نفي ، ونفيا بعد إثبات ، ولا يبلغ مرتبته إلّا بما تحيط قوته من إثبات محض الإقرار بالعجز ، والخضوع لمن أبدعه وأعجزه وأظهره ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وقال سيدنا حميد الدين قس : ثم إن المبدع الأول الذي هو الإبداع التام الكامل ، مع تمامه وكماله ، لا يحيط علما بما عنه وجوده سبحانه أصلا ، ولا يعقل ، ولا يتهدى إلى شيء عند الانتداب لذلك ولا ينهض لأمر يعقله في ذلك ، إلّا وهو بكونه نهاية النهايات كلها في الأشياء كلها ، شرفا وكمالا

__________________

(١) أن : سقطت في ج.

(٢) بالرغم من وفرة النصوص الموجودة لدينا لم نتمكن من معرفة المقصود بهذا الاسم فلربما أراد أحد الحجج أو الدعاة.

١٩

من ذاته استعاره ، وفي ذاته وجده ، فلا يحصل إلّا على تصور ذاته ، فيرجع حاسرا عالما بأن ذلك غير مقدور عليه (١). ولما كان الإبداع فعلا ووجودا محضا ووجهه إلى أن يكون موجودا ، فهو عمّا هو خارج عن ذاته الذي عنه صدر إلى الوجود في شغل ، ولا سبيل له إلى ملاحظته والإحاطة به ، فهو متحير ، ومع كونه متحيرا ، فهو مشتاق إلى الملاحظة للإحاطة ، وأنّى له ذلك (٢) والامتناع قد حجبه ، فتحيره كتحير الطالب للقبض (٣) على الماء بيده ، والمشتاق إلى اعتلاء شعاع الشمس ببصره ، فهو في حيرة ، وليس له من العلم أكثر من علمه بذاته بأنها مبدعة مشتاقة إلى ما عنه وجدت ، متحيرة فيه ، وليس كونه عاجزا عن عقل ما عنه وجوده وإدراكه ، ومتحيرا فيه لنقصان في ذاته على حسب ما يكون في ذواتنا بجهلنا ما لا نعلمه ، بل لكون المتعالي سبحانه على أمر يعظم عن الإدراك ، ويتعالى عن إحاطة عقل به (٤) إذ

__________________

(١) لأن الخلوص إلى المعرفة لا يكون إلا بالعناية التامة وذلك في إصلاح أمر النفس وتقويمها بتحليها بالمعارف ، وتحسينها باداء الفرائض وتشويقها إلى مساكنة الملائكة ، ومجاورة الملأ الأعلى ، وذلك يكون عن طريق التوحيد ومعرفة الحدود العالية والدانية ، والاعتراف بأن كل حد منهم واحد في مرتبته ، لا يشاركه فيها سواه.

(٢) يعني العقل يحيط بجوهره العالم الطبيعي باعتباره مركزا لعالم الأجسام العالية الثابتة إلى الأجسام المستحيلة المسماة عالم الكون والفساد. لأنه العلة الأولى لوجود ما سواها من الموجودات ، والمبدأ الأول لحركات جميع المتحركات في عالمي العقل والجسم. فهو دائم الإشراق في الأدوار يقبل ما يتصل به من فيض وإبداع المبدع. والاشتياق يعني أن النفس تنهد دائما وأبدا إلى الوصول لمعدنها ، ولما كانت جزءا انبثقت من الكل فشوقها يكون من أجل بلوغ كليتها. وباعتبار أن كل محيط يكون أشرف من المحاط به وأسبق وجودا ؛ ولما كان العقل جوهرا محيطا بالأشياء كلها لأنه السابق في الوجود قبل كل محاط به والجوهر الثابت الذي تنتهي إليه الجواهر العقلية كلها ؛ وبحسب المفهوم الإسماعيلي من يمتنع عن معرفة هذه الأمور تحجب عنه الإحاطة.

(٣) للقبض : سقطت في ج ط.

(٤) إذ لا سبيل لإدراكه تعالى بعقد ضمير ولا بإحاطة تفكير.

٢٠