تاريخ الفقه الجعفري

هاشم معروف الحسني

تاريخ الفقه الجعفري

المؤلف:

هاشم معروف الحسني


الموضوع : التاريخ والجغرافيا
الناشر: دار الكتاب الإسلامي
المطبعة: مطبعة أمير
الطبعة: ١
الصفحات: ٣١٩

السيد هاشم معروف الحسني

سيرة نقيّة ، وفكر نقيّ.

نقاء سيرته ، ونقاء فكره حقيقتان تواكبان اسمه : حيا وميتا ، حاضرا وغائبا.

ولد السيد هاشم معروف الحسني عام ١٩١٩ في قرية جناتا (قضاء صور ـ لبنان الجنوبي) وفي بيت من بيوت الصلاح والتقوى في جبل عامل ، وفي رعاية والده السيد معروف ، ذلك الرجل الوقور وقار المؤمن ، الوديع وداعة الناس البسطاء ، الطيب كطيبة الأرض التي كانت تعطيه من خيرها الوفير بقدر ما يعطيها من جهده الجاهد ، وصبره المحتسب ، وبركة يديه الخيّرتين. في ظل هذه المزايا الكريمة لوالده السيد معروف ، نشأ السيد هاشم نشأة كريمة اكسبته منذ الفتوّة وقار الرجال ، ووداعة المؤمنين ، وطيبة الناس الطيّبين كأرضهم جبل عامل. في ظل هذه المزايا بالذات تمرّس السيد هاشم بأخلاق التواضع والصدق وعفّة اليد واللسان والضمير وببساطة العيش رغم انه عاش فتوّته وشبابه في بيت ميسور الحال موفور النعمة.

ويشهد الذين عايشوه أو عاصروه في النجف الأشرف وهو يطلب علم الدين والشريعة هناك ، ان هذه الأخلاق نفسها ، وهذه العفة نفسها ، وهذه البساطة الطيبة نفسها ، ظلت من مميزاته المرموقة التي كانت تكسبه احترام أساتذته وزملائه وأصدقائه وتلامذته ، بل كانت تمنحه حبهم جميعا.

١

ونستطيع القول جازمين بأن هذه المميزات التي كانت تزداد ترسّخا في شخصية السيد هاشم ، طول أعوام الدراسة في النجف الأشرف ، هي أساس ما عرف به أيام طلب العلم هناك من مثابرة مدهشة على الدرس والمدارسة ، ومن انكباب نادر المثال على الكتاب لا تلهيه عنه مغريات المجالس العامرة ، يعقدها أيام العطل الاسبوعية ، زملاؤه واصدقاؤه ترفيها لنفوسهم من عناء الدرس والتدريس. هذا لا يعني ان السيد هاشم كان زميتا ، أو انطوائيا ، أو متحرّجا من مجالس الانس البريئة ، أو كان كزّ المزاج لا تطيب له مؤانسة الأصدقاء والزّملاء. بل كان أمره على عكس ذلك : كان ألوفا سريع الألفة طيب المؤالفة ، تطرب نفسه للقاء الأصدقاء ، يهتزّ جسده كله سرورا ومرحا للفكاهة اللاذعة الناقدة ويضحك لها ملء صدره ، بل كثيرا ما كان هو يبادر بها ويرسلها عفوية ضاحكة محببة. غير انه لم يدع لنفسه ان تسترسل في الاستمتاع بهذا كله ، كيلا يطغى على استمتاعه الروحي بتحصيل المعرفة والعلم. لذا كان حريصا على ان يقيم التوازن بين هذا وذاك في حياته اليومية ، وكان ناجحا جدّا في إقامة هذا التوازن بالفعل.

السيد هاشم ، طالب العلم ، كان نموذجا محترما للطالب المنظّم التفكير والعمل. كان تنظيم عمله اليومي يتناسب مع نسق تفكيره الدقيق التنظيم. فإنه بالرغم من تعدّد عمله اليومي ، كميا ونوعيا ، كان يبدو صافي الذهن ، هادئ الأعصاب ، متهلّل الوجه ، فكأنه يعمل عملا واحدا سهلا. مرجع هذه الظاهرة فيه هو قدرته الفائقة على تنظيم فكره وعمله. هذه القدرة كانت له عونا على إنجاز اعماله اليومية كاملة ومتقنة دون أن ترهقه ذهنيا ولا جسديا. بهذا القدر من حسن تصريفه الأمور كانت له الطاقة المدهشة في أن يحضر في اليوم الواحد أكثر من حلقة دراسية ، وأكثر من حلقة مذاكرة ، وأن يمارس التدريس لأكثر من حلقة وكتاب. غير أن الأهم من كل ذلك انه كان يتعامل مع زملائه وتلامذته كأنه هو المستفيد دائما منهم في حين كان هو يفيد أكثر مما يستفيد. من هنا كان السيد هاشم نموذجا في التواضع بقدر ما كان نموذجا في تنظيم عمله وتفكيره.

٢

كل أخلاقه ومزاياه هذه سواء ما اكتسبه في نشأته برعاية والده السيد معروف ، أم ما ترسّخ فيه منها خلال طلبه العلم بالنّجف الأشرف ، هي جميعا أخذت تبرز وتتوهّج ، أكثر فأكثر ، منذ انتهت مرحلة طلب العلم ، وعاد الى جبل عامل ليمارس مهمّته كرجل دين. في مرحلته الجديدة تغيرت كل الظروف السابقة ، وجاءت ظروف مختلفة جدا. وتبدلت شروط الحياة وشروط العمل ، بل تبدّلت حتى شروط التفكير. بمعنى ان شخصيته الإنسانية أصبحت عرضة لأن تتكوّن من جديد بصيغة جديدة. وصار من الممكن والمحتمل أن تهتزّ شخصية طالب العلم حين ينتقل فورا إلى مرحلة عليه أن يواجه فيها الحياة والناس والأشياء والقضايا بوجه جديد ، بشخصية جديدة ، بمواقف جديدة ، بعادات جديدة ، بمزاج جديد إلخ ، إلخ.

وهنا الامتحان الكبير ، العسير ، الشاق. هنا التحوّل من شخصية طالب العلم إلى شخصية رجل الدين بكل ما تحتمل شخصية رجل الدين من صفات وصيغ عيش وتفكير ، ومن اشكال تعامل ، مع الناس ، مع الواقع الجديد. إنه التحول الصعب. فكيف إذن واجه السيد هاشم ظروفه الجديدة ، واقعه الجديد. هل اهتزت شخصيته الطالبية النموذجية امام شخصية رجل الدين التي كان عليه ان يتقمّصها بسرعة دون اختلال؟

أسئله كثيرة من هذا النوع تحتشد في الذهن. مع أن سيرة السيد هاشم النقية ، وفكره النقي ، يقدمان لنا الجواب عن كل هذه الأسئلة بارتياح دون مشقة. فقد بقيا على نقائهما دون انكسار. وبقي السيد هاشم الطالب النموذجي ، هو نفسه السيد هاشم العالم رجل الدين المرتجى. بل أصبح أكثر نموذجية ، أي أكثر توهجا ، أي أكثر حضورا في ظروفه الجديدة منه في ظروفه السابقة كطالب علم.

كل المزايا التي عرفناها في السيد هاشم طالب العلم في النجف الأشرف ، أثبتت حضورها الابهى في العلامة السيد هاشم رجل الدين في جبل عامل :

أخلاق التواضع والصدق وعفة اليد واللسان والضمير وبساطة العيش

٣

رغم وفرة أسباب العيش لديه. كل هذه الأخلاق والصفات فيه ، برزت عنده بصيغتها الجديدة منذ بدأ حياته الجديدة كرجل دين.

لكن هذه الأخلاق والصفات ذاتها اتخذت صيغتها الجديدة مسيّجة بسياج حصين منيع من الورع بأعمق معانيه وأكثرها شمولية ، إنه الورع الذي يصون صاحبه لا من مقاربة المحرّمات الدينية التعبّدية وحدها ، بل يصونه ـ أولا وآخرا ـ من مقاربة المحرّمات التعامليّة بخاصة : دينية ، واجتماعية ، وإنسانية ووطنية. إن هذا النوع التعاملي من الورع ، هو ما يضع الفارق الحاسم بين الورع العادي والاستثنائي ، أو بين الورع السطحي والعمقي ، أو بين الورع الزائف والحقيقي.

ورع العلّامة السيد هاشم معروف كان ورعا ذا طبيعة شمولية ، أولا ، وكان ـ الى ذلك ـ ورعا استثنائيا وعمقيا وحقيقيا. نقول هذا لا اعتباطا ولا امتداحا. وإنما نقوله اعتقادا واستنادا الى الواقع والشاهد والملموس من سيرته النقية. فنحن نعرف من سيرته هذه أنه :

أولا : كان له من صدق إيمانه الديني حصانة قوية وراسخة تمنع عنه الوقوع في شرك المغريات الآثمة مهما تكن عليه من قوة الإغراء وسحره. وهذا هو الورع الديني.

ثانيا : كان له من إدراكه السليم وحدسه الصائب ما يعصمه من كلا الشّرّين : شر العزلة المطلقة عن الناس دون تمييز بعضهم من بعض ، وشر الاندماج المطلق بالناس دون الحيطة والحذر من بعضهم دون بعض. بفضل هذه العصمة أمكنه اجتناب أهل الشر منهم ، مع الإفادة من صلته بالخيّرين فيهم. وهذا الورع الاجتماعي.

ثالثا : كان من سماحة القلب ونبل العاطفة ما يضعه قريبا من الناس الضعفاء والبؤساء والمعذّبين. بفضل هذا القرب الحميم استطاع أن يبلسم بعض الجراح قدر ما لديه من الممكنات. وهذا هو الورع الإنساني.

رابعا : كان له من شرف العقل ونزاهة الضمير ما يبعده عن أهل

٤

الشبهات الذين لا يتورّعون عن بيع الوطن والمواطنين لقاء مكاسب شخصية بفضل هذا الشرف والنزاهة فيه كان قادرا ان يمتنع عن الانزلاق الى المنحدرات الموبوءة. وهذا هو الورع الوطني.

دخل العلّامة السيد هاشم معروف الحسني عالم الوظيفة كقاض في المحاكم الشرعية الجعفرية في لبنان. لما ذا فعل ذلك؟

نقول واثقين إنه لم يدخل عالم الوظيفة هذه إلا عن ضرورة دفعته الى ذلك. هذه الضرورة لا يستطيع ان يدركها ويدرك قدرها إلا من عرف ظروف العيش التي يعانيها رجال الدين في جبل عامل ، خصوصا منهم أهل العفّة والتواضع وصدق القول والعمل. هؤلاء يعزّ عليهم أن تضطرهم ظروف العيش أحيانا إلى الخروج ـ ولو مقدار شعرة ـ عن اخلاقية العفة والتواضع والصدق. من هذا الوجه المشروع اضطر السيد هاشم ان يتجنّب حالة الخروج عن أخلاقيته الاصيلة فدخل عالم الوظيفة كارها لا مختارا. لكنه فعل حسنا. لقد أثبت ان الوظيفة ليست شرّا بذاتها ، وإنما هي تتشرّف بمن يصاحبها بشرفه ، ويلطّخها بالدنس من يلصق بها دنس يده وضميره. لقد شرّفها السيد هاشم بالفعل : شرّفها بنزاهة يده وشرّف ضميره ، وشرّفها بورعه الصارم. وبسيرته النقية.

ولقد اثبت السيد هاشم ايضا خطأ الزعم أن الغرق في حياة الناس أو حياة الوظيفة يلغي فرص النشاط الفكري. أي يلغي ممكنات العمل في مجالات الفكر والعلم.

إن سيرة السيد هاشم وفكره يقولان : لا. بل إن الاتصال بالناس ، مهما يكن واسعا وعميقا يكن باعثا لنشاط العقل ، ومصدرا لاغتناء الفكر ، وملهما للعمل والإبداع. فقد برهن السيد هاشم ، عمليا ، أن فرص الإنتاج العقلي أكثر ما تكون توفّرا حين يكون العالم والمفكّر بين الناس يتعامل معهم ويتعرف احتياجات عقولهم ، ويتفهّم قضاياهم ومشكلات حياتهم. برهن على ذلك بنشاطه الخصب منذ أخذت تتعدّد وتتشابك علاقاته بالناس ، ثم منذ أخذت

٥

مهمات القضاء الشرعي تزدحم وتتكاثر عليه في المحكمة وفي البيت على حد سواء.

وبعد ، فليس أقوى دلالة على السيد هاشم معروف الحسني من مؤلفاته العلمية والفكرية. مؤلفاته وحدها تقول لكم آية سيرة نقيّة ، وأي فكر نقيّ ، ترك لنا فقيدنا الكبير السيد هاشم معروف الحسني.

صديق المؤلف

٦

تقديم

بقلم العلامة الشيخ محمد جواد مغنية

أن مدلول لفظ الفقه في مصطلح أهله وعلمائه هو العلم بالأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية ، كالوجوب والحظر والاستحباب والكراهة والإباحة ، وكون هذه المعاملة صحيحة أو فاسدة ، وهذه العبادة تامة أو ناقصة ، وهذا القريب يرث دون ذاك ، وهذا الزواج شرعي أو غير شرعي ، وما الى ذاك ، اما مدلول لفظ الشريعة فإنه يشمل كل ما شرعه الله لعباده من أفعال وأقوال واعتقادات ، أي أن الشريعة الإسلامية تعم الأصول والفروع ، ويختص الفقه بالفروع لا غير ، وهذا معلوم عند طلاب علم الفقه ، ولكن ما ذا يعني تاريخ الفقه؟ وما هو مدلول هذا اللفظ المركب؟

والجواب ان الفرق بين الفقه وتاريخه كالفرق بين الإنسان وتاريخ الإنسان ، فإذا بحثت عن طبيعة الإنسان وغرائزه وامكاناته كان بحثك عن الإنسان بالذات ، وإذا بحثت عن نشأته والأدوار التي مر بها ، والآثار التي تركها على تعاقب الأزمان كان البحث عن تاريخ الإنسان وهكذا إذا تكلمت عن الأحكام الشرعية ، وإرجاعها إلى مصادرها كان الحديث عن الفقه بالذات ، وإذا تكلمت عن آراء الأقدمين : كيف

٧

نشأت؟ ومتى دونت وعن الأثر الذي تركه التدوين يكون الكلام عن تاريخ الفقه.

وليس من شك أن تاريخ الفقه نافع ومفيد ، لأن الاطلاع على جهود العلماء ، وعلى تدرج عقولهم النيرة في طريق النمو والرقي يمهد السبيل للوصول إلى الحقيقة ، كما أنه من الواضح أن لكل عصر من عصور التاريخ طابعه وظواهره الخاصة ، ومحال على آية فئة من الفئات ، أو أي فرد من الأفراد أن يفعل شيئا أو يرى رأيا يرجع الى ذاته مجردة عن ظروفها الطبيعية والاجتماعية ، بل لا بد أن تنعكس هذه الظواهر في أقواله وأفعاله ، أراد ذلك أو لم يرد.

والنتيجة الطبيعية لهذه الحقيقة أن دراسة تاريخ الفقه تهيئ لنا الوسيلة والأدوات التي نحلل بها آراء الفقهاء وأقوال الرواة تحليلا يردها إلى أسبابها الواقعية ، ويميز صحيحها من سقيمها ، والدخيل من الأصيل.

ثم إن العهد بتاريخ الفقه الإسلامي حديث جدا ، فلقد أهمله السلف الى أوائل هذا القرن ، حيث وضع الشيخ محمد الخضري فيه كتابا مختصرا ، وقد استوحى فكرة تأليفه من الغربيين ، فإنهم أول من تنبه الى تاريخ الأديان والعلوم والفنون (١) ثم حذا حذو الخضري الشيخ السبكي بالاشتراك مع بعض شيوخ الأزهر ، ثم الدكتور محمد يوسف موسى ، ولا رابع ـ فيما أعلم.

ولكن هؤلاء المؤلفين لم يكتبوا للتاريخ الذي هو للجميع ، وانما كتبوا

__________________

(١) الف السابقون في طبقات الفقهاء والنحاة والأدباء وغيرهم ، ولكن الطبقات والمراتب شيء ، وتاريخ الفن شيء آخر.

٨

لهم ولطائفتهم ، كتبوا في فقه السنة لا في الفقه الإسلامي ، ولم يتعرضوا لفقه الشيعة ، حتى كأن الشيعة لا وجود لهم أو لا فقه لهم ، أو أنهم ليسوا بمسلمين ، هذا مع العلم بأن مذهبهم من أقدم المذاهب في الفقه بشهادة التاريخ ، وقد سبقوا الجميع الى تدوينه.

وإذا كان لكل شيء سبب فإن السبب الأول الذي دعا فضيلة الأخ العلامة السيد هاشم معروف إلى تأليف هذا السفر النفيس هو ظلم من سبقه إلى التأليف في هذا الموضوع ، ظلم مسخ تاريخ الفقه الإسلامي بتضييقه وقصره على فئات معينة ، حتى كأنهم يكتبون لأهل القبور لا لذوي العقول ، وقد يكونون مرغمين على ذلك بحكم نشأتهم وبيئتهم ، وإذا ظلمنا الغير فهل يجوز ان نظلم أنفسنا ، ونحن نملك العدة والقوة (١) فلقد كنا وما زلنا في طليعة الطوائف في شتى العلوم الإسلامية ، وبخاصة التشريع وأصوله ، فلقد شهد علماء الغرب على أن الشيعة باجتهاداتهم أمدوا الفقه بالحياة والنمو ، وصانوه من التحجر والجمود ، فمن هؤلاء الغربيين المستشرق المجري «جولد تسهير» ، قال في كتاب العقيدة والشريعة : «كان للشيعة فضل ملحوظ في إغناء المضمون الروحي للإسلام ، فإن بمثل حركاتهم الجامحة تأمن الأديان

__________________

(١) لاحظت هذا الإجحاف بحق الشيعة ، فأسفت وتألمت ، وددت أن أوفق لسد هذا النقص ، ولكني كلما حاولت أحسست بصارف من الداخل ، والميل الى موضوع غيره ، حتى كأن الله سبحانه قد ادخره الى سواي ، فرغبت الى أخي «المعروف» أن يقوم بهذه المهمة ، فتردد بادئ الأمر ، وبعد الإلحاح والترغيب في شتى الأساليب أقدم وباشر في العمل نجزه على أكمل الوجوه ـ فعلمت أن الله جل وعز قد خصه بهذه المنقبة والفضيلة دوني ، أقول هذا ، وأنا ، مثلج الصدر مغتبط بسبقه وتوفيقه ، وبعناية الله بأخ لي ، أقل ما عرفت من صفاته طوال ثلاثين عاما أو أكثر أنه رجل الوفاء والإخلاص والهمم.

٩

التحجر في قوالب جامدة».

وهذا ما أثبته السيد المؤلف بأرقام لا تقبل الريب والتشكيك ، بالإضافة إلى بيان المراحل والأدوار التي مر بها الفقه ، فقد ذكر رواة أحاديث الأحكام عند الشيعة من عهد الامام علي (ع) الى عهد حفيده الصادق (ع) حسب تعاقب أزمانهم ومراتب عصورهم ، وبحث كيفية استخراج الأحكام الشرعية من مصادرها بحثا مستفيضا وافيا ، يعتمد على الوثائق الصحيحة ، والحجج الدامغة.

ولا بدع إذا أوفى المؤلف على الغاية فإنه الضليع المحيط بالمصادر والأقوال ، والأمين في النقل والحديث ، والقوي في الفقه وأصوله ، يحاكم ويفصل بنظره الرشيد السديد ، وإذا لاقى من الصعوبات ما أجهده وأعياه فلأن كتابه هذا أول كتاب في تاريخ الفقه الجعفري ، فلقد استخرج تاريخ الفقه من نفس الفقه ، ولم يستعن بكتاب في هذا الموضوع لأن قومه لم يؤلفوا فيه ، وحسبه هذا عذرا وجوابا لمن أراد أن يلاحظ وينتقد ان وجد ملاحظ ومنتقد.

ومهما يكن ، فاني على علم اليقين من رواج هذا السفر اليتيم ، وأنه سيترك أثرا ذا بال بين العلماء والقراء لأنه ـ كما قدمت ـ الكتاب الأول في فنه ، والسابق الى تاريخ هذا «الفقه» مع التحقيق والتدقيق. فجزى الله المؤلف عن الإسلام والأئمة الكرام جزاء العلماء العاملين

١٠

مقدمة الكتاب

بسم الله الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسلام على محمد أشرف الخلق وأطهرهم نسبا وعنصرا ذاتا ، وعلى آله الذين قال فيهم وفي كتاب الله : «اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي أبدا».

والسلام على أصحابه الطيبين الذين عملوا بسنته ، ونهجوا على سيرته ، وعلى من جاء بعدهم من العاملين في سبيل الله والمجاهدين بأموالهم وأنفسهم لتدعيم هذا الدين ونشر تعاليمه ورحمة الله وبركاته.

لقد فكرت قبل مدة من الزمن في الكتابة حول تاريخ التشريع الجعفري وقد أوحى الي بهذه الفكرة سماحة العلامة الكبير الشيخ محمد جواد مغنية المجاهد في سبيل هذا الدين لدفع الأراجيف والافتراءات التي يلصقها به المرجفون والمضللون بدافع الكيد للشيعة وأئمتهم.

ولم يكتب في هذا الموضوع أحد على كثرة من كتب في مختلف المواضيع الإسلامية دينية كانت أم غيرها ، ولم تبرز هذه الناحية في كتبهم مع أن الشيعة منذ عهدهم الأول الذي يتصل بوفاة الرسول الأعظم ما زالوا في الطليعة في كل ما يخص الإسلام ويدعم من كيانه

١١

وبرزوا على غيرهم في تفكيرهم وانتاجهم في جميع الأدوار التي مروا بها وقال عنهم الدكتور عبد الرحمن البدوي في مقدمة كتابه ـ دراسات إسلامية ـ للشيعة أكبر الفضل في إغناء المضمون الروحي للإسلام ، وإشاعة الحياة الخصبة القوية العنيفة التي وهبت هذا الدين البقاء قويا عنيدا قادرا على إشباع النوازع الروحية للنفوس حتى أشدها تمردا وقلقا ، ولولاها لتحجر في قوالب جامدة (١).

على أنه لم يحدث التاريخ عن أمة لاقت من العسف والجور والتنكيل كما حدث عن الشيعة ، ولكنهم كانوا مع كل ذلك حتى في أدق المراحل من تاريخهم أبرز الفرق الإسلامية وأغناها آثارا وتفكيرا ، وأكثرها جهادا في سبيل الله وخير الإنسانية.

وفي التاريخ وكتب الرجال ما لا يحصى عددا ممن نبغوا في الفقه والحديث والفلسفة والأدب وسائر الفنون إسلامية كانت أم غيرها ، على ان التاريخ كان يحابي الحكام في جميع العصور ويسير في اتجاه معاكس لهم ، لقد أنتج الفكر الشيعي ما أغنى المكتبة الإسلامية في جميع الفنون التي لا تزال من أخصب الموارد وأغناها بالكنوز ، بالرغم من أن حراب الأمويين والعباسيين في القرون الأولى والأيوبيين والأتراك في القرون المتأخرة كانت موجهة الى صدورهم ونحورهم.

لقد بقيت أكثر من سنتين مترددا في الكتابة حول هذا الموضوع تهيبا منه ، لأنه موضوع واسع متشابك الأطراف يحتاج الكاتب فيه الى وقت طويل ومكتبة غنية بالمصادر ، ولا بد له من استعراض ظروف الشيعة والملابسات التي أحاطت بهم وعرض عدد من مشاهير فقهائهم من عهد

__________________

(١) مع الشيعة الإمامية ص ٢٧١.

١٢

الصحابة حتى العصور المتأخرة ونظرياتهم في الفقه وما دونوه في العصر الذي فيه بدأ الرواة والفقهاء بالتدوين ، وكيف تطور وانتقل من دور يغلب فيه التقليد والتبعية إلى دور المحاكمة ، الى غير ذلك من المواضيع التي تتصل بهذا الموضوع مباشرة.

لذلك كنت اتهيب هذا الموضوع مخافة أن لا أوفيه حقه ، وفيما أنا أتقدم إليه تارة واتأخر عنه أخرى قرأت كتبا في تاريخ الفقه الإسلامي لجماعة من أعلام أهل السنة تناولوا فيها التشريع الإسلامي من بدايته الى مراحل نموه وتطوره والأصول التي كان يرتكز عليها في جميع أدواره ، وعدد من الفقهاء والرواة الذين تصدروا للإفتاء ونقل الحديث في عصري الصحابة والتابعين ، ولم يرد فيما كتبوه ما يستوحي منه القارئ عن الشيعة شيئا بالنسبة لغيرهم.

لقد ذهب الخضري في تاريخ التشريع الإسلامي (ص ١٦٩) الى أن غلوهم في تأييد علي وأهل بيته جرهم إلى رواية كثير من الأحاديث لا يشك الجمهور انها مكذوبة على رسول الله ، ومن أجل ذلك توقفوا في أن يقبلوا رواية لكل متشيع أو داع الى التشيع ، وفي صفحة ٢٦٣ وما بعدها امتدح الزيدية وعاب على الشيعة بعض آرائهم الفقهية.

وقد ذكرهم الدكتور محمد يوسف في كتابه الفقه الإسلامي بصورة خاطفة وانتهى الى النتيجة التالية : (ان المؤلفين الثقات من أهل السنة الذين عنوا بالتراجم وأحوال الرجال أغفلوا الكثير من رجال الشيعة ، وكثير من هؤلاء الذين يذكرونهم يصفونهم بالكذب والوضع ونحو ذلك مما يوحى بعدم الثقة بهم).

لذلك وبعد ترجيح سماحة الشيخ أيده الله عزمت على الكتابة في هذا الموضوع متكلا على الله سبحانه ، راجيا منه أن يلهمني الصواب

١٣

والسداد فيما أكتب مستمدا منه العون والهداية ، وقد عزمت على إخراجه في حلقات متتالية تنتهي الحلقة الأولى حيث تبتدئ الثانية وها أنا أقدم منه الى القراء الكرام الحلقة الأولى وقد ابتدأتها بآيات الكتاب الكريم التي تناولت تشريع الأحكام وانتهيت منها في بداية عهد الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام ومنه سبحانه استمد العون لإخراج بقية الحلقات (وهو ولينا نعم المولى ونعم النصير)

١٤

الفصل الأول

الحاجة الى التشريع

مهما كان مصدر التشريع وأيا كان المشرع ، فالتشريع هو مجموعة من القوانين والقواعد العامة يضعها المشرع لتنظيم الروابط بين الناس ، وبيان ما لهم من الحقوق وما عليهم من واجبات. ولولاه لعمت الفوضى فأخذ القوي بقوته ما يريد وفقد الضعيف كل أسباب الحياة ومقوماتها ، وإذا كان التشريع لهذه الغاية فلا بد في المشرع ان يتجرد عن أهوائه ومصالحه وأن يكون مخلصا فيما يضعه من القوانين والمبادئ العامة التي يقصد منها حماية المجتمع من طغيان القوي الجامح والأثرة وحب الذات ، ومن الصعب أن تتحقق هذه في التشريع الذي يضعه الإنسان لأنه يستمد قوته وفعاليته من سلطة الدولة التي تشرف على وضعه في الغالب لتفرضه على الأمة وكثيرا ما تتحكم فيه الأهواء وتراعى فيه حالات خاصة وظروف معينة قد يتأثر فيها رجال التشريع اما بإيحاء ممن يملكون التوجيه أو بدوافع نفسية خاصة ، لذا فهو في معرض التغيير والتعديل في الغالب حسبما توحيه مصلحة الدولة وأهواء الحكام.

أما التشريع السماوي الذي يصدر من حكيم خبير محيط بجميع الأشياء لا يضل ولا ينسى فهو منزه عن الغرض والهوى ، وبعيد عن جميع المؤثرات والانفعالات لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ،

١٥

وفي الوقت نفسه يربي في النفس طهارة القلب ويقظة الضمير وقوة الإحساس بالواجب وكظم الغيظ ويعنى بتوثيق العلاقة بين الإنسان وأخيه ، وبينه وبين ربه ويشجع على الطاعة ويبشر العاملين به أجرا عظيما وثوابا جزيلا.

قال الله سبحانه (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) ، فالعامل بما يفرضه التشريع السماوي لا يتخلص من مسؤولية العقاب فحسب بل يأخذ على عمله الأجر ، كما يلقى غير العامل بالشريعة السماوية جزاءه في الآخرة بالإضافة الى ما يلقاه في الدنيا من أنواع العقوبات التي فرضتها الشرائع السماوية أحيانا على الجرائم والجنايات ، ومن أجل ذلك كانت القوانين السماوية أقوى أثرا في نفس المؤمن بالله لا يجد مفرا من العمل بها ولا مجالا للتهرب من مسؤوليتها في الآخرة إذا استطاع أن يتهرب من العقاب المفروض على مخالفتها في الدنيا ، فليس باستطاعة الإنسان بالغا ما بلغ إذا لم يعمل بما أمر الله ان يتخلص من مسؤولية العصيان والتمرد عليه ، وإذا كان لا بد للبشر من تشريع يحدد لهم علاقتهم بالله سبحانه وبالمجتمع ويبين لهم حقوقهم وواجباتهم ويحد من كبريائهم وأنانيتهم وينظم لهم صلاتهم بالله وبالناس وجميع شؤونهم ، كان الإسلام أولى الشرائع بالاتباع لأنه جاء وافيا بحاجة الإنسان عادلا في قوانينه ومبادئه صالحا لكل زمان ومكان جمع في مبادئه بين الروح والمادة وربط بين الدنيا والدين فلكل إنسان أن يأخذ نصيبه من الدنيا ويساهم في بناء مجتمع صالح لا بغي فيه ولا عدوان على أحد من عباد الله وعليه أن يقوم بما عليه لله سبحانه ، ولغيره من الناس.

قال سبحانه (وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ

١٦

الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) ، وقال (ص) يوما لأصحابه «لأن يحتطب أحدكم على ظهره خير له من أن يسأل أحدا فيعطيه أو يمنعه» ويجد الباحث ولو قليلا في الإسلام وتشريعه الخالد ثروة تملأ يده بالكنوز ، وتهبه كثيرا من صنوف العطاء ترتكز على الإقناع بقوة ذلك التشريع وإحاطته بنواحي الحياة مهما امتد الزمن وتطورت أساليبها واتسعت أسبابها.

ومهما سما الفكر وتقدم في ميادين العلم فهو يقدر ويكبر تلك المخلفات الإسلامية الخالدة ذات الامدادات المتواصلة التي لا تنقطع ولا ينضب معينها ، ويراها من أوفر المناجم الضخمة عطاء وثروة وأغزرها قوة وأوسعها فكرة وخيالا وأقواها أساسا لبناء مجتمع صالح تسوده العدالة وتغمره المحبة لأنها ليست من صنع الإنسان الذي يخطئ ويصيب مهما تجرد عن النوازع وتمرد على العواطف والأهواء وأخلص في جميع أعماله.

لقد جاء التشريع الإسلامي فكان آخر تشريع جاء به آخر الأنبياء وأكرمهم على الله سبحانه فكان ولا بد أن يكون نظاما يكفل للإنسان جميع نواحي حياته ويفي بجميع ما يحتاج إليه ويضمن له كرامته وحريته ويرشده إلى أسباب الحياة الهنيئة الوادعة.

ان الإسلام يأمر بالعلم الذي يصقل العقول ويحررها من الأهواء والأوهام ويطهرها من الخرافات ويأمر بالعدل والإحسان والإخاء والمحبة ويرفض التفاضل بغير العمل الصالح وخدمة الإنسانية وينهى عن الدس والكذب والظلم وكل ما يدنس الحياة ويعيقها عن التقدم ، ويحارب الاستغلال والجشع والوثنية التي لا تؤمن إلا بالمادة إلى كثير من مبادئه التي تجاري الحياة وتسير معها جنبا الى جنب نعم ان الإسلام بمبادئه

١٧

العادلة التي توفر للإنسان العزة والكرامة والسعادة في الدنيا والآخرة يتنافى مع تلك الألوان البراقة المغرية التي طغت على الأخلاق والقيم الروحية وجرفت الكثير من فتياننا وفتياتنا الى التغني بتلك المدينة المزيفة ونبذ تلك المبادئ الإنسانية العادلة ، والنظم الصالحة لبناء أمة قادرة على أن تسهم في بعث العالم ونهضته ووحدته ، انها ليست من صنع الإنسان الذي يخطئ ويصيب ويندفع مع أهوائه ونزغاته مهما حاول ان يتحرر من الناحية العاطفية التي تسيطر على الإنسان في كثير من حالاته ، وإنما هي من صنع خالق الإنسان.

لذلك كانت من أفضل ما أنتجته العقول والمواهب ومن اغزرها مادة وأقواها فكرة وأوسعها خيالا انها مبادئ إنسانية عالمية ترتكز على أساس العقيدة بالله سبحانه بشتى الأساليب والبراهين التي لا تدع مجالا في نفس الباحث إذا كان مجردا لطلب الحق ، ان الإسلام كغيره من الشرائع السماوية يحرص أول ما يحرص على محاربة الإلحاد والوثنية ، ويعطي المئات من الأدلة والبراهين التي تسد على الملحدين والجاحدين طرق الضلال والتشكيك ، ويقيم العشرات من البراهين التي لا تقبل الجدل ، على أن الإنسان مدين في كل نواحيه لقوة تسير هذا الكون تمده بالقوة والتفكير وينتج ويكافح ويجاهد ويسرت له كل ما يمكن أن تصل إليه أفكاره وينتجه عقله ، فهي السبب في كل شيء وإليها تنتهي جميع الأسباب ، وهي الطاقة الخيرة التي أمدت المخلوقات بما فيها من طاقات وامكانيات على اكتشاف الحقائق وأسرار الطبيعة ، وكلما تقدم الفكر واتسع العلم أدرك الإنسان جهله وعجزه عن الإحاطة بنظام هذا الكون وأحس أنه لا يزال في بداية الطريق وسيبقى في البداية لأنه كلما تقدم واتسعت آفاقه يلمس ان ما وصل إليه لا يعد شيئا بالنسبة لما بقي

١٨

مستورا عنه ويبقى في بداية الطريق مهما تقدم وأبدع في الإنتاج وأفاد البشرية من خيرات الأرض وأسرار الفضاء.

قال الله سبحانه وتعالى : (وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً) وقال كريسى موريسون رئيس المجمع العلمي في النيويورك : ان البشر لا يزالون في فجر عصر العلم وكلما ازداد ضياء العلم سطوعا جلا لنا شيئا فشيئا صنعه خالق مبدع.

ان الإسلام حريص على ان يرشد الإنسان إلى تلك القوة المدبرة لهذا النظام ويفرض عليه الايمان ، بأنها هي المدبرة لكل شيء وسبب الأسباب ، ويجعل الايمان بالله والوحدانية الركيزة التي تقوم عليها دعائم الإسلام ، وأكثر ما جاء في آيات الكتاب الكريم بهذا الخصوص ورد في الآيات التي نزلت على الرسول (ص) في الأيام الأولى من بعثته ، بل ان معظم ما نزل عليه في مكة المكرمة قبل هجرته إلى المدينة يرجع الى توحيد الله سبحانه بأساليب مختلفة ، فمرة بالأدلة والبراهين ، واخرى بالأمثال والنظائر ، وثالثة بالتحذير والتخويف مما وراء هذه الدار من عذاب وأهوال أعدهما الله سبحانه للجاحدين والكافرين.

وقلما تخلو سورة من سوره من آية وآيات تدعو إلى الإيمان بالله ووحدانيته بأساليب مختلفة حسب اختلاف الإنسان في تفكيره وفهمه ومبلغ إدراكه.

وبعد ان تناول القرآن هذه الناحية وأولاها المزيد من العناية ، انتقل إلى المرحلة الثانية ، مرحلة التشريع ، التي هي النظام الذي يجب على الأمة أن تسير على هداه ، فتناول القرآن الكريم قسما منه والقسم الآخر كان الرسول (ص) يتلقاه من الوحي حسب الحاجة وهو بدوره يبلغه المسلمين حسب حاجتهم.

١٩

وقد بلغت آيات الكتاب الكريم الواردة في مقام تشريع الأحكام سواء في ذلك ما كان منها في العبادات أو الأحوال المدنية أو الأحوال الشخصية والجنائية والقضائية ، بلغت هذه الآيات نحوا من خمسمائة آية.

والمسلمون طيلة حياتهم مع الرسول (ص) كانوا في الداخل يأخذون الأحكام عنه مباشرة وقد يرجعون الى الكتاب فيما كان نصا في حكم أو ظاهرا فيه ظهورا يحصل منه الاطمئنان بالمراد ، وأما من كان من المسلمين خارج العاصمة فكان الرسول يبلغهم الأحكام بواسطة البعثات التي كان يبعث بها الى خارج المدينة تارة ، وبواسطة القضاة والولاة الذين كان يرسلهم لإدارة شؤون تلك المناطق السياسية والدينية تارة أخرى.

ولما انتقل الى ربه الكريم وانتهت قيادة المسلمين الى الخلفاء من بعده كان الخليفة وأعوانه يشرفون على تنظيم الدولة وتطبيق الرسالة الإسلامية ، وفي المدينة الكثير من صحابة الرسول رافقوا الرسول منذ اليوم الأول من دعوته المباركة ، والبعض الآخر آمن بالإسلام ومبادئه على مراحل مرت من جهاد الرسول في سبيل تلك الدعوة ، ومما لا شك فيه ان بين هؤلاء وأولئك عددا ليس بالقليل قد أحاط بالأحكام وأدرك أسرار الكتاب نصه وظاهره ومجمله ومبينة وأخذ عن الرسول أحكاما كثيرة لم تتناولها النصوص القرآنية وآيات التشريع ، وهؤلاء هم المعنيون من بين صحابة الرسول بفقهاء الصحابة والذين قاموا بنشر رسالة الإسلام وتعاليمه المقدسة وكانوا المرجع في التشريع حتى عهد التابعين وتابعيهم ، وفي الفصول الآتية من هذا الكتاب سنشير الى الجهود التي بذلها المخلصون من الصحابة وغيرهم لنشر الشريعة وتعلم الأحكام.

٢٠