الموسوعة القرآنيّة - ج ٩

ابراهيم الأبياري

الموسوعة القرآنيّة - ج ٩

المؤلف:

ابراهيم الأبياري


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة سجل العرب
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٧٤

١
٢

الباب الثالث عشر

التفسير والمفسرون

(ا)

التفسير

٣
٤

التفسير والتأويل

التفسير ، تفعيل من الفسر ، وهو البيان والكشف.

ويقال : هو مقلوب السفر ، تقول : أسفر الصبح ، إذا أضاء.

وقيل : مأخوذ من التفسرة ، وهى اسم لما يعرف به الطبيب المرض.

والتأويل : أصله من الأول ، وهو الرجوع. فكأنه صرف الآية إلى ما تحتمله من المعاني.

وقيل : من الإيالة ، وهى السياسة ، كأن المؤوّل للكلام ساس الكلام ووضع المعنى فيه موضعه.

واختلف فى التفسير والتأويل.

فقال أبو عبيد وطائفة : هما بمعنى.

وقيل : التفسير أعم من التأويل ، وأكثر استعماله فى الألفاظ ومفرداتها ، وأكثر استعمال التأويل فى المعاني والجمل ، وأكثر ما يستعمل فى الكتب الإلهية ، والتفسير يستعمل فيها وفى غيرها.

وقيل : التفسير بيان لفظ لا يحتمل إلا وجها واحدا ، والتأويل : توجيه لفظ متوجه إلى معان مختلفة إلى واحد منها بما ظهر من الأدلة.

وقيل : التفسير القطع على أن المراد من اللفظ هذا ، والشهادة على الله أنه عنى باللفظ هذا ، فإن قام دليل مقطوع به فصحيح ، وإلا فتفسير بالرأى ، وهو المنهي عنه.

والتأويل : ترجيح أحد المحتملات بدون القطع والشهادة على الله.

وقيل : التفسير بيان وضع اللفظ ، إما حقيقة أو مجازا ، كتفسير الصراط بالطريق ، والصيب بالمطر.

والتأويل : تفسير باطن اللفظ ، مأخوذ من الأول ، وهو الرجوع لعاقبة الأمر.

٥

فتأويل : إخبار عن حقيقة المراد ، والتفسير إخبار عن دليل المراد ، لأن اللفظ يكشف عن المراد والكاشف دليل ، مثاله قوله تعالى : (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ).

تفسيره : أنه من الرصد ، يقال : رصدته : رقبته ، والمرصاد ، مفعال منه.

وتأويله : التحذير من التهاون بأمر الله ، والغفلة عن الأهبة والاستعداد للعرض عليه.

وقواطع الأدلة تقتضى بيان المراد منه على خلاف وضع اللفظ فى اللغة.

وقيل : إن التفسير فى عرف العلماء كشف معانى القرآن ، وبيان المراد أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل وغيره ، وبحسب المعنى الظاهر وغيره ، والتأويل أكثره فى الجمل. والتفسير إما أن يستعمل فى غريب الألفاظ ، نحو البحيرة والسائبة والوصيلة ، أو فى وجيز تبيين لشرح. نحو : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ) ، وإما فى كلام متضمن لقصة لا يمكن تصويره إلا بمعرفتها ، كقوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) وقوله : (وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها).

وأما التأويل فإنه يستعمل مرة عاما ومرة خاصا ، نحو الكفر المستعمل تارة فى الجحود المطلق ، وتارة فى الجحود بالباري عزوجل خاصة ، والإيمان المستعمل فى التصديق المطلق تارة ، وفى تصديق الحق أخرى.

وإما فى لفظ مشترك بين معان مختلفة ، نحو لفظ ، وجد : المستعمل فى الجدة والوجد والوجود.

وقيل : التفسير يتعلق بالرواية ، والتأويل يتعلق بالدراية.

وقيل : التفسير ، مقصود على الاتباع والسماع والاستنباط مما يتعلق بالتأويل.

وقال قوم : ما وقع مبينا فى كتاب الله ومعينا فى صحيح السنة سمى تفسيرا ، لأن معناه قد ظهر ووضح ، وليس لأحد أن يتعرض إليه باجتهاد ولا غيره ، بل يحمله على المعنى الذي ورد لا يتعداه.

٦

والتأويل : ما استنبطه العلماء العاملون لمعانى الخطاب الماهرون فى آلات العلوم. وقال قوم منهم البغوي والكواشي : التأويل : صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وما بعدها تحتمله الآية ، غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط.

وقال بعضهم : التفسير فى الاصطلاح : علم نزول الآيات وشئونها وأقاصيصها والأسباب النازلة فيها ، ثم ترتيب مكيها ومدنيها ، ومحكمها ومتشابهها ، وناسخها ومنسوخها ، وخاصها وعامها ، ومطلقها ومقيدها ، ومجملها ومفسرها ، وحلالها وحرامها ، ووعدها ووعيدها ، وأمرها ونهيها ، وعبرها وأمثالها.

وقال أبو حيان : التفسير : علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها وأحكامها الإفرادية والتركيبية ، ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب وتتمات لذلك.

ثم قال : فقولنا : علم ، جنس.

وقولنا : يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن. هو علم القراءة.

وقولنا : ومدلولاتها : أي مدلولات تلك الألفاظ ، وهذا متن علم اللغة الذي يحتاج إليه فى هذا العلم.

وقولنا : أحكامها الإفرادية والتركيبية ، هذا يشمل على التصريف والبيان والبديع :

وقولنا : ومعانيها التي تحمل عليها حالة التركيب ، يشمل ما دلالته بالحقيقة وما دلالته بالمجاز. فإن التركيب ، قد يقتضى بظاهره شيئا. ويصدّ عن الحمل عليه صاد ، فيحمل على غيره ، وهو المجاز.

وقولنا : وتتمات لذلك ، هو مثل معرفة النسخ وسبب النزول وقصة توضح بعض ما أبهم فى القرآن ، ونحو ذلك.

وقال الزركشي : التفسير : علم يفهم به كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبيان معانيه ، واستخراج أحكامه وحكمه ، واستمداد ذلك من علم اللغة ، والنحو ، والتصريف ، وعلم البيان ، وأصول الفقه والقراءات ، ويحتاج لمعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ.

٧

ثم اعلم أن من المعلوم أن الله إنما خاطب خلقه بما يفهمونه ، ولذلك أرسل كل رسول بلسان قومه ، أنزل كتابه على لغتهم.

ولكى تعلم لم احتيج إلى التفسير ، فاعلم أن كل من وضع من البشر كتابا فإنما وضعه ليفهم بذاته من غير شرح ، وإنما احتيج إلى الشروح لأمور ثلاثة :

أحدها : كمال فضيلة المصنف ، فإن لقوّته العلمية يجمع المعاني الدقيقة فى اللفظ الوجيز ، فربما عسر فهم مراده فقصد بالشرح ظهور تلك المعاني الخفية ، ومن هنا كان شرح بعض الأئمة تصنيفه أدل على المراد من شرح غيره له.

وثانيها : إغفاله بعض تتمات المسألة أو شروط لها اعتمادا على وضوحها ، أو لأنها من علم آخر فيحتاج الشارح لبيان المحذوف ومراتبه.

وثالثها : احتمال اللفظ لمعان. كما فى المجاز والاشتراك ودلالة الالتزام ، فيحتاج الشارح إلى بيان غرض المصنف وترجيحه. وقد يقع فى التصانيف ما لا يخلو عنه بشر من السهو والغلط ، أو تكرار الشيء أو حذف المبهم وغير ذلك ، فيحتاج الشارح للتنبيه على ذلك.

لهذا إن القرآن إنما نزل بلسان عربى فى زمن أفصح العرب ، وكانوا يعلمون ظواهره وأحكامه ، أما دقائق باطنه فإنما كان يظهر لهم بعد البحث والنظر مع سؤالهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فى الأكثر ، كسؤالهم لما نزل قوله : (وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) فقالوا : وأينا لم يظلم نفسه ، ففسره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالشرك ، واستدل عليه بقوله : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وكسؤال عائشة عن الحساب اليسير فقال : ذلك العرض.

وكقصة عدىّ بن حاتم فى الخيط الأبيض والأسود ، غير ذلك مما سألوا عن آحاد منه.

ونحن محتاجون إلى ما كانوا يحتاجون إليه وزيادة على ذلك مما لم يحتاجوا إليه من أحكام الظواهر لقصورنا عن مدارك أحكام اللغة بغير تعلم ، فنحن أشد الناس احتياجا إلى التفسير. ومعلوم أن تفسير بعضه يكون من قبل الألفاظ الوجيزة وكشف معانيها ، وبعضه من قبل ترجيح بعض الاحتمالات على بعض.

٨

وعلم التفسير عسر يسير.

أما عسره فظاهر من وجوه : أظهرها أنه كلام متكلم لم تصل الناس إلى مراده بالسماع منه ولا إمكان الوصول إليه ، بخلاف الأمثال والأشعار ونحوها ، فإن الإنسان يمكن علمه منه إذا تكلم بأن يسمع منه أو ممن سمع منه.

وأما القرآن فتفسيره على وجه القطع لا يعلم إلا بأن يسمع من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذلك متعذر إلا فى آيات قلائل.

فالعلم بالمراد يستنبط بأمارات ودلائل ، والحكمة فيه أن الله تعالى أراد أن يتفكر عباده فى كتابه فلم يأمر نبيه بالتنصيص على المراد فى جميع آياته.

وأما شرفه فلا يخفى ، قال تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) فعن ابن عباس فى قوله تعالى : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال : المعرفة بالقرآن ، ناسخه ومنسوخه ، ومحكمه ، ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وحلاله وحرامه ، وأمثاله. وعنه : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال : يعنى تفسيره ، فإنه قد قرأه البرّ والفاجر.

وعن أبى الدرداء : (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ) قال : قراءة القرآن والفكرة فيه.

وعن عمرو بن مرة قال : ما مررت بآية فى كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتني ، لأنى سمعت الله يقول : (وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ).

وعن الحسن قال : ما أنزل الله آية إلا وهو يحبّ أن تعلم فيما أنزلت وما أراد بها.

وعن ابن عباس قال : الذي يقرأ القرآن ولا يحسن تفسيره كالأعرابى يهذ الشعر هذا وعن أبى هريرة : «أعربوا القرآن والتمسوا غرائبه» وعن أبى بكر الصديق قال : لأن أعرب آية من القرآن أحبّ إلىّ من أن أحفظ آية.

وعن رجل من أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : لو أنى أعلم إذا سافرت أربعين ليلة أعربت آية من كتاب الله لفعلت.

وقال عمر : من قرأ القرآن فأعربه كان له عند الله أجر شهيد. ومعنى هذه إرادة البيان والتفسير ، لأن إطلاق الإعراب على الحكم النحوي اصطلاح حادث ، ولأنه كان فى سليقتهم لا يحتاجون إلى تعلمه.

٩

وقد أجمع العلماء أن التفسير من فروض الكفايات وأجلّ العلوم الثلاثة الشرعية.

وقيل أشرف صناعة يتعاطاها الإنسان تفسير القرآن. فإن شرف الصناعة :

إما بشرف موضوعها مثل الصياغة فإنها أشرف من الدباغة ، لأن موضوع الصياغة الذهب والفضة ، وهما أشرف من موضوع الدباغة الذي هو جلد الميتة.

وإما بشرف غرضها ، مثل صناعة الطب ، فإنها أشرف من صناعة الكناسة ، لأن غرض الطب إفادة الصحة وغرض الكناسة تنظيف المستراح.

وإما بشدة الحاجة إليها كالفقه ، فإن الحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الطب ، إذ ما من واقعة فى الكون فى أحد من الخلق إلا وهى مفتقرة إلى الفقه ، لأن به انتظام صلاح أحوال الدنيا والدين ، بخلاف الطب فإنه يحتاج إليه بعض الناس فى بعض الأوقات.

وإذا عرف ذلك فصناعة التفسير قد حازت الشرف من الجهات الثلاث :

أما من جهة الموضوع فلأن موضوعه كلام الله تعالى الذي هو ينبوع كل حكمة ومعدن كل فضيلة ، فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، لا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضى عجائبه.

وأما من جهة الغرض ، فلأن الغرض منه هو الاعتصام بالعروة الوثقى والوصول إلى السعادة الحقيقية التي لا تفنى.

وأما من جهة شدة الحاجة. فلأن كل كمال دينى أو دنيوى عاجلى أو آجلى مفتقر إلى العلوم الشرعية والمعارف الدينية ، وهى متوقفة على العلم بكتاب الله تعالى.

وقد اشترطوا فى المفسر شروطا وألزموه بآداب.

قال العلماء : من أراد تفسير الكتاب العزيز طلبه أولا من القرآن ، فما أجمل منه فى مكان فقد فسر فى موضع آخر ، وما اختصر فى مكان فقد بسط فى موضع آخر منه. فإن أعياه ذلك طلبه من السنة فإنها شارحة للقرآن وموضحة له.

١٠

وقد قال الشافعي رضى الله عنه : كل ما حكم به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو مما فهمه من القرآن ، قال تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) فى آيات أخر.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألا إنى أتيت القرآن ومثله معه ، يعنى السنة.

فإن لم يجده من السنة رجع إلى أقوال الصحابة ، فإنهم أدرى بذلك لما شاهدوه من القرائن والأحوال عند نزوله ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح.

ومما ألزموا المفسر به من آداب : صحة الاعتقاد أولا ولزوم سنة الدين ، فإن من كان مغموصا عليه فى دينه لا يؤتمن على الدنيا فكيف على الدين؟ ثم لا يؤتمن فى الدين على الأخبار عن عالم فكيف يؤتمن فى الأخبار عن أسرار الله تعالى؟ ولأنه لا يؤمن إن كان متهما بالإلحاد أن يبغى الفتنة ويغرّ الناس بليه وخداعه كدأب الباطنية وغلاة الرافضة.

وإن كان متهما بهوى لم يؤمن أن يحمله هواه كلما يوافق بدعته كدأب القدرية ، فإن أحدهم يصنف الكتاب فى التفسير ومقصوده منه الإيضاح الساكن ليصدّهم عن اتباع السلف ولزوم طريق الهدى.

ويجب أن يكون اعتماده على النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن أصحابه ومن عاصرهم ويتجنب المحدثات ، وإذا تعارضت أقوالهم وأمكن الجمع بينها فعل ، نحو أن يتكلم على الصراط المستقيم.

وأقوالهم فيه ترجع إلى شىء واحد فيدخل منها ما يدخل فى الجمع ، فلا تنافى بين القرآن وطريق الأنبياء ، فطريق السنة وطريق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطريق أبى بكر وعمر ، فأىّ هذه الأقوال أفرده كان محسنا. وإن تعارضت ردّ الأمر إلى ما ثبت فيه السمع ، فإن لم يجد سمعا وكان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدهما رجح ما قوى الاستدلال فيه ، كاختلافهم فى معنى حروف الهجاء ، يرجح قول من قال : إنها قسم.

وإن تعارضت الأدلة فى المراد علم أنه قد اشتبه عليه فيؤمن بمراد الله تعالى ، ولا يتهجم على تعيينه ، وينزله منزلة المجمل قبل تفصيله ، والمتشابه قبل تبيينه.

١١

ومن شروط صحة المقصد فيما يقول ليلقى التسديد ، فقد قال تعالى : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) وإنما يخلص له القصد إذا زهد فى الدنيا لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به إلى غرض يصده عن صواب قصده ويفسد عليه صحة علمه.

وتمام هذه الشرائط أن يكون ممتلئا من عدّة الإعراب لا يلتبس عليه اختلاف وجوه الكلام ، فإنه إذا خرج بالبيان عن وضع اللسان إما حقيقة أو مجازا فتأويله تعطيله ، ويجب أن يعلم أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين لأصحابه معانى القرآن كما بين لهم ألفاظه ، فقوله تعالى : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) يتناول هذا وهذا. وقد قال أبو عبد الرحمن السلمى : حدثنا الذين كانوا يقرءون القرآن. كعثمان بن عفان. وعبد الله بن مسعود ، وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا : فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. ولهذا كانوا يبقون مدة فى حفظ السورة.

وقال أنس : كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جدّ فى أعيننا.

ولقد أقام ابن عمر على حفظ البقرة ثمان سنين. وذلك أن الله تعالى قال : (كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ) وقال : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ) وتدبر الكلام بدون فهم معانيه لا يمكن.

وأيضا فالعادة تمنع أن يقرأ قوم كتابا فى فن من العلم كالطب والحساب ولا يستشرحونه ، فكيف بكلام الله الذي هو عصمتهم وبه نجاتهم وسعادتهم وقيام دينهم ودنياهم؟

ولهذا كان النزاع بين الصحابة فى تفسير القرآن قليلا جدا ، وهو إن كان بين التابعين أكثر منه بين الصحابة فهو قليل بالنسبة إلى من بعدهم ، ومن التابعين من تلقى جميع التفسير عن الصحابة. وربما تكلموا فى بعض ذلك بالاستنباط والاستدلال.

والخلاف بين السلف فى التفسير قليل ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوّع لا اختلاف تضادّ ، وذلك صنفان :

أحدهما : أن يعبر واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه تدل على معنى ، فى المسمى ، غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمى ، كتفسيرهم الصراط

١٢

المستقيم : بعض بالقرآن ، أي اتباعه ، وبعض بالإسلام ، فالقولان متفقان لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ، كما أن لفظ صراط يشعر بوصف ثالث.

وكذلك قول من قال : هو السنة والجماعة ، وقول من قال : هو طريق العبودية ، وقول من قال : هو طاعة الله ورسوله ، وأمثال ذلك.

فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها.

الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه على سبيل التمثيل ، وتنبيه المستمع على النوع لا على سبيل الحد المطابق للمحدود فى عمومه وخصوصه ، مثاله ما نقل فى قوله تعالى : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا) الآية ، فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات والمنتهك للحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات وتارك المحرمات ، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرّب بالحسنات مع الواجبات. فالمقتصدون أصحاب اليمين ، (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ* أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ).

ثم إن كلا منهم يذكر هذا فى نوع من أنواع الطاعات كقول القائل : السابق الذي يصلى فى أول الوقت ، والمقتصد الذي يصلى فى أثنائه ، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار.

أو يقول : السابق المحسن بالصدقة مع الزكاة ، والمقتصد الذي يؤدى الزكاة المفروضة فقط ، والظالم مانع الزكاة.

وهذان الصنفان اللذان ذكرنا هما فى تنوع التفسير تارة لتنوّع الأسماء والصفات ، وتارة لذكر بعض أنواع المسمى ، وهو الغالب فى تفسير سلف الأمة الذي يظن أنه مختلف.

ومن التنازع الموجود منهم ما يكون اللفظ فيه محتملا للأمرين :

إما لكون مشتركا فى اللغة كلفظ القصورة ، الذي يراد به الرامي ويراد به الأسد ، ولفظ عسعس الذي يراد به إقبال الليل وإدباره.

وإما لكونه متواطئا فى الأصل لكن المراد به أحد النوعين أو أحد

١٣

الشخصين ، كالضمائر فى قوله : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) الآية ، وكلفظ الفجر ، والشفع ، والوتر ، وليال عشر ، وأشباه ذلك.

فمثل ذلك قد يجوز أن يراد به كل المعاني التي قالها السلف ، وقد لا يجوز ذلك.

فالأول إما لكون الآية نزلت مرتين فأريد بها هذا تارة وهذا تارة.

وإما لكون اللفظ المشترك يجوز أن يراد به معنياه.

وإما لكون اللفظ متواطئا فيكون عاما إذا لم يكن لمخصصه موجب.

فهذا النوع إذا صح فيه القولان كان من الصنف الثاني.

ومن الأقوال الموجودة عنهم ويجعلها بعض الناس اختلافا ، أن يعبروا عن المعاني بألفاظ متقاربة ، كما إذا فسر بعضهم تبسل بتحبس ، وبعضهم بترتهن ، لأن كلا منهما قريب من الآخر.

والاختلاف فى التفسير على نوعين :

منه ما مستنده النقل فقط.

ومنه ما يعلم بغير ذلك.

والمنقول إما عن المعصوم أو غيره.

ومنه ما يمكن معرفة الصحيح منه من غيره.

ومنه ما لا يمكن ذلك.

وهذا القسم الذي لا يمكن معرفة صحيحه من ضعيفه عامته مما لا فائدة فيه ولا حاجة بنا إلى معرفته ، وذلك كاختلافهم فى لون كلب أصحاب الكهف واسمه ، وفى البعض الذي ضرب به القتيل من البقرة ، وفى قدر سفينة نوح وخشبها ، وفى اسم الغلام الذي قتله الخضر ، ونحو ذلك.

فهذه الأمور طريق العلم بها النقل ، فما كان منه منقولا نقلا صحيحا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل ، وما لا ، بأن نقل عن أهل الكتاب ، ككعب ووهب ، وقف عن تصديقه وتكذيبه لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم».

١٤

وكذا ما نقل عن بعض التابعين.

وإن لم يذكر أنه أخذه عن أهل الكتاب ، فمتى اختلف التابعون لم يكن بعض أقوالهم حجة على بعض ، وما نقل فى ذلك عن الصحابة نقلا صحيحا فالنفس إليه أسكن مما ينقل عن التابعين ، ولأن احتمال أن يكون سمعه من النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو من بعض من سمعه منه أقوى ، ولأن نقل الصحابة عن أهل الكتاب أقل من نقل التابعين ، ومع جزم الصحابي بما يقوله كيف يقال إنه أخذه عن أهل الكتاب ، وقد نهوا عن تصديقهم.

وأما القسم الذي يمكن معرفة الصحيح منه ، فهذا موجود كثير.

وأما ما يعلم بالاستدلال لا بالنقل فهذا أكثر ما فيه الخطأ من جهتين :

أحدها : قوم اعتقدوا معانى ثم أرادوا حمل ألفاظ القرآن عليها.

والثاني : قوم فسروا القرآن بمجرد ما يسوغ أن يريده من كان من الناطقين بلغة العرب من غير نظر إلى المتكلم بالقرآن والمنزل عليه والمخاطب به.

فالأولون راعوا المعنى الذي رأوه من غير نظر إلى ما يستحقه ألفاظ القرآن من الدلالة والبيان.

والآخرون راعوا مجرد اللفظ وما يجوز أن يراد به العربي من غير نظر إلى ما يصلح للمتكلم وسياق الكلام.

ثم هؤلاء كثيرا ما يغلطون فى احتمال اللفظ لذلك المعنى فى اللغة كما يغلط فى ذلك الذين قبلهم.

كما أن الأولين كثيرا ما يغلطون فى صحة المعنى الذي فسروا به القرآن كما يغلط فى ذلك الآخرون.

وإن كان نظر الأولين إلى المعنى أسبق ونظر الآخرين إلى اللفظ أسبق.

والأولون صنفان :

تارة يسلبون لفظ القرآن ما دل عليه وأريد به.

وتارة يحملونه على ما لم يدل عليه ولم يرد به.

وفى كلا الأمرين قد يكون ما قصدوا نفيه أو إثباته من المعنى باطلا فيكون خطؤهم فى الدليل والمدلول.

١٥

وقد يكون حقا فيكون خطؤهم فى الدليل لا فى المدلول.

فالذين أخطئوا فيهما مثل طوائف من أهل البدع اعتقدوا مذاهب باطلة وعمدوا إلى القرآن فتأولوه على رأيهم ، وليس لهم سلف من الصحابة والتابعين لا فى رأيهم ولا فى تفسيرهم ، فإن من عدل عن مذاهب الصحابة والتابعين وتفسيرهم إلى ما يخالف ذلك كان مخطئا فى ذلك بل مبتدعا ، لأنهم كانوا أعلم بتفسيره ومعانيه ، كما أنهم أعلم بالحق الذي بعث الله به رسوله.

وأما الذين أخطئوا فى الدليل لا فى المدلول كمثل كثير من الصوفية والوعاظ والفقهاء يفسرون القرآن بمعان صحيحة فى نفسها لكن القرآن لا يدل عليها ، فإن كان فيما ذكروه معان باطلة دخل فى القسم الأول.

وللناظر فى القرآن لطلب التفسير مآخذ كثيرة ، أمهاتها أربعة :

الأول : النقل عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا هو الطراز المعلم ، لكن يجب الحذر من الضعيف منه والموضوع فإنه كثير ، ولهذا قال أحمد : ثلاث كتب لا أصل لها : المغازي ، والملاحم ، والتفسير : يعنى أن الغالب أنه ليس لها أسانيد صحاح متصلة ، وإلا فقد صح من ذلك كثير كتفسير الظلم بالشرك فى آية الأنعام ، والحساب اليسير بالعرض ، والقوة بالرمي فى قوله : (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ).

الثاني : الأخذ بقول الصحابي ، فإن تفسيره عندهم بمنزلة المرفوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفى الرجوع إلى قول التابعي روايتان ، واختار ابن عقيل المنع ، لكن عمل المفسرين على خلافه ، فقد حكوا فى كتبهم أقوالهم لأن غالبها تلقوها من الصحابة ، وربما يحكى عنهم عبارات مختلفة الألفاظ فيظن من لا فهم عنده أن ذلك اختلاف محقق فيحكيه أقوالا وليس كذلك ، بل يكون كل واحد منهم ذكر معنى من الآية لكونه أظهر عنده أو أليق بحال السائل.

١٦

وقد يكون بعضهم يخبر عن الشيء يلازمه ونظيره والآخر بمقصوده وثمرته ، والكل يؤول إلى معنى واحد غالبا.

فإن لم يمكن الجمع فالمتأخر من القولين عن الشخص الواحد مقدم إن استويا فى الصحة عنه ، وإلا فالصحيح المقدم.

الثالث : الأخذ بمطلق اللغة ، فإن القرآن نزل بلسان عربىّ ، وهذا قد ذكره جماعة ونص عليه أحمد فى مواضع.

لكن نقل الفضل بن زياد عنه أنه سئل عن القرآن يمثل له الرجل ببيت من الشعر فقال : ما يعجبنى ، فقيل : ظاهره المنع. ولهذا قال بعضهم فى جواز تفسير القرآن بمقتضى اللغة روايتان عن أحمد.

وقيل : الكراهة تحمل على من صرف الآية عن ظاهرها إلى معان خارجة محتملة يدل عليها القليل من كلام العرب ، ولا يوجد غالبا إلا فى الشعر ونحوه ويكون المتبادر خلافها.

وعن مالك قال : لا أوتى برجل غير عالم بلغة العرب يفسر كتاب الله إلا جعلته نكالا.

الرابع : التفسير بالمقتضى من معنى الكلام والمقتضب من قوّة الشرع ، وهذا هو الذي دعا به النّبى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لابن عباس حيث قال : اللهم فقهه فى الدين وعلمه التأويل ، والذي عناه علىّ بقوله : إلا فهما يؤتاه الرجل فى القرآن.

ومن هنا اختلف الصحابة فى معنى الآية ، فأخذ كل برأيه على منتهى نظره. ولا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأى والاجتهاد من غير أصل ، قال تعالى : (وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) وقال : (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ) وقال : (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أضاف البيان إليه.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من تكلم فى القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

وقال : «من قال فى القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار». وتأويله أن من تكلم فى القرآن بمجرد رأيه ولم يعرج على سوى لفظه وأصاب الحق فقد أخطأ الطريق وإصابته اتفاق ، إذ الغرض أنه مجرد رأى لا شاهد له ، وفى الحديث : «القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه» ، فقوله : ذلول : يحتمل معنيين :

١٧

أحدهما أنه مطيع لحامليه تنطق به ألسنتهم.

والثاني : أنه موضح لمعانيه حتى لا يقصر عنه أفهام المجتهدين.

وقوله : ذو وجوه : يحتمل معنيين :

أحدهما : أن من ألفاظه ما يحتمل وجوها من التأويل.

والثاني : قد جمع وجوها من الأوامر والنواهي والترغيب والترهيب والتحريم.

وقوله : فاحملوه على أحسن وجوهه ، يحتمل معنيين :

أحدهما : الحمل على أحسن معانيه.

والثاني : أحسن ما فيه من العزائم دون الرخص والعفو دون الانتقام.

وفيه دلالة ظاهرة على جواز الاستنباط والاجتهاد فى كتاب الله تعالى. والنهى إنما انصرف إلى المتشابه منه لا إلى جميعه كما قال تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ) لأن القرآن إنما نزل حجة على الخلق فلو لم يجب التفسير لم تكن الحجة بالغة.

فإذا كان كذلك لجاز لمن عرف لغات العرب وأسباب النزول أن يفسره. وأما من لم يعرف وجوه اللغة فلا يجوز أن يفسره إلا بمقدار ما سمع ، فيكون ذلك على وجه الحكاية لا على وجه التفسير ، ولو أنه يعلم التفسير وأراد أن يستخرج من الآية حكما أو دليل الحكم فلا بأس. ولو قال المراد كذا من غير أن يسمع فيه شيئا فلا يحل ، وهو الذي نهى عنه.

وقيل فى الحديث الأول : حمله بعض أهل العلم على أن الرأى معنى به الهوى. فمن قال فى القرآن قولا يوافق هواه فلم يأخذه عن أئمة السلف وأصاب فقد أخطأ ، لحكمه على القرآن بما لا يعرف أصله ولا يقف على مذاهب أهل الأثر والنقل فيه.

وقيل فى الحديث الثاني : له معنيان :

أحدهما : من قال فى مشكل القرآن بما لا يعرف من مذاهب الأوائل من الصحابة والتابعين فهو متعرّض لسخط الله تعالى.

١٨

والآخر وهو الأصح : من قال فى القرآن قولا يعلم أن الحق غيره فليتبوأ مقعده من النار.

وقال البغوي : التأويل : صرف الآية إلى معنى موافق لما قبلها وبعدها ، تحتمله الآية غير مخالف للكتاب والسنة من طريق الاستنباط. غير محظور على العلماء بالتفسير كقوله تعالى : (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) قيل : شبابا وشيوخا ، وقيل : أغنياء وفقراء ، وقيل : عزابا ومتأهلين ، وقيل : نشاطا وغير نشاط ، وقيل : أصحاء ومرضى ، وكل ذلك سائغ والآية تحتمله.

وأما التأويل المخالف للآية والشرع فمحظور لأنه تأويل الجاهلين مثل تأويل الروافض ، قوله تعالى : (مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ) إنهما علىّ وفاطمة. (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) يعنى الحسن والحسين.

وقد اختلف فى تفسير القرآن : هل يجوز لكل أحد الخوض فيه؟.

فقال قوم : لا يجوز لأحد أن يتعاطى تفسير شىء من القرآن وإن كان عالما أديبا متسعا فى معرفة الأدلة والفقه والنحو والأخبار والآثار ، وليس له إلا أن ينتهى إلى ما روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فى ذلك.

ومنهم من قال : يجوز تفسيره لمن كان جامعا للعلوم التي يحتاج المفسر إليها ، وهى خمسة عشر علما :

أحدها : اللغة ، لأن بها يعرف شرح مفردات الألفاظ ومدلولاتها بحسب الوضع ، قال مجاهد : لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتكلم فى كتاب الله إذا لم يكن عالما بلغات العرب. ولا يكفى فى حقه معرفة اليسير منها فقد يكون اللفظ مشتركا وهو يعلم أحد المعنيين والمراد الآخر.

الثاني : النحو ، لأن المعنى يتغير ويختلف باختلاف الإعراب فلا بد من اعتباره. وعن الحسن أنه سئل عن الرجل يتعلم العربية يلتمس بها حسن النطق ويقيم بها قراءته ، فقال : حسن فتعلمها ، فإن الرجل يقرأ الآية فيعيا بوجهها فيهلك فيها.

الثالث : التصريف ، لأن به تعرف الأبنية والصيغ. ومن فاته علمه فاته المعظم ، لأن وجد مثلا كلمة مبهمة فإذا صرفناها اتضحت بمصادرها.

وقال الزمخشري : من بدع التفاسير قول من قال : إن الإمام فى قوله

١٩

تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ) جمع أم ، وإن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم.

قال : وهذا غلط أوجبه جهله بالتصريف ، فإنا أما لا تجمع على إمام.

الرابع : الاشتقاق ، لأن الاسم إذا كان اشتقاقه من مادتين مختلفتين اختلف باختلافهما ، كالمسيح هل هو من السياحة أو المسح.

الخامس ، والسادس ، والسابع : المعاني ، والبيان ، والبديع ، لأنه يعرف بالأول خواص تراكيب الكلام من جهة إفادتها المعنى ، وبالثاني خواصها من حيث اختلافها بحسب وضوح الدلالة وخفائها ، وبالثالث وجوه تحسين الكلام.

وهذه العلوم الثلاثة هى علوم البلاغة ، وهى من أعظم أركان المفسر لأنه لا بد له من مراعاة ما يقتضيه الإعجاز ، وإنما يدرك بهذه العلوم.

وقال السكاكي : اعلم أن شأن الإعجاز عجيب ، يدرك ولا يمكن وصفه ، كاستقامة الوزن تدرك ولا يمكن وصفها وكالملاحة ، ولا طريق إلى تحصيله لغير ذوى الفطرة السليمة إلا التمرّن على علمى المعاني والبيان.

وقال ابن الحديد : اعلم أن معرفة الفصيح والأفصح والرشيق والأرشق من الكلام أمر لا يدرك إلا بالذوق ، ولا يمكن إقامة الدلالة عليه ، وهو بمنزلة جاريتين إحداهما بيضاء مشربة بحمرة دقيقة الشفتين نقية الثغر كحلاء العين أسيلة الخد دقيقة الأنف معتدلة القامة ، والأخرى دونها فى هذه الصفات والمحاسن لكنها أحلى فى العيون والقلوب منها ، ولا يدرى سبب ذلك ولكنه يعرف بالذوق والمشاهدة ولا يمكن تعليله ، وهكذا الكلام ، نعم يبقى الفرق بين الوصفين أن حسن الوجوه وملاحتها وتفضيل بعضها على بعض يدركه كل من له عين صحيحة. وأما الكلام فلا يدرك إلا بالذوق ، وليس كل من اشتغل بالنحو واللغة والفقه يكون من أهل الذوق وممن يصلح لانتقاد الكلام ، وإنما أهل الذوق هم الذين اشتغلوا بعلم البيان وراضوا أنفسهم بالرسائل والخطب والكتابة والشعر وصارت لهم بذلك دراية وملكة تامة ، فإلى أولئك ينبغى أن يرجع فى معرفة الكلام وفضل بعضه على بعض.

وقال الزمخشري : من حق مفسر كتاب الله الباهر وكلامه المعجز أن يتعاهد بلقاء النظم على حسنه والبلاغة على كمالها وما وقع به التحدي سليما من القادح.

٢٠