الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي

الوجيز في تفسير القرآن العزيز - ج ٢

المؤلف:

الشيخ علي بن الحسين بن أبي جامع العاملي


المحقق: الشيخ مالك المحمودي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: نگين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٨

١
٢

٣
٤

سورة التوبة

[٩]

مائة وثلاثون آية مدنية وقيل : إلا آيتين آخرها (١).

وتسمى سورة «براءة» وسورة «العذاب» و «الفاضحة» و «المقشقشة» لذكر التوبة فيها ، وافتتاحها ببراءة ، ونزولها بعذاب الكفار وفضيحتهم.

والقشقشة من النفاق أي البراءة منه ، ولها أسماء أخر (٢).

وتركت البسملة فيها لأنها أمان ، وبراءة نزلت لرفعه إذ قيل هي آخر ما نزل (٣).

[١] ـ (بَراءَةٌ) أي هذه براءة واصلة (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الناكثين أي خروج من عهودهم.

[٢] ـ (فَسِيحُوا) أيها المشركون أي سيروا آمنين (فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) أولها يوم النحر وهو يوم تبليغها ، وقيل : شوال لنزولها فيه ، (٤) أي : فإذا انقضت هذه

__________________

(١) نقل هذا القول الطبرسي في تفسير مجمع البيان ٣ : ١ ـ والبيضاوي في تفسيره ٢ : ٢٧٤.

(٢) انظر الأسماء الاخرى لهذه السورة في تفسير مجمع البيان ٣ : ١ ـ وتفسير الكشّاف ٢ : ٢٥ ـ.

(٣) في تفسير مجمع البيان ٣ : ١ ـ قال قتادة ومجاهد : هي آخر ما نزلت على النبي (ص) في المدينة ـ.

(٤) قاله ابن عباس والزهري ـ كما في تفسير مجمع البيان ٣ : ٣.

٥

المدة فلان أمان لكم.

روي انها لما نزلت ، بعث بها النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «أبا بكر» ليقرأها على أهل الموسم بمنى ، فنزل جبرئيل عليه‌السلام وأمره برده وأخذها منه وقال له : لا يؤدي عنك إلّا أنت أو رجل منك ، فأتبعه عليا عليه‌السلام فأخذها ورده ، ومضى فقرأها عليهم يوم النحر ونادى : أن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان (١).

وعزل أبي بكر يقتضي عدم صلاحيته لأداء سورة فكيف للإمامة؟

ودعوى انه ولاه الحج وأردفه بعليّ لقراءتها ـ لأن عادة العرب أن لا يتولى العهد ونقضه إلّا صاحبه أو رجل منه ـ ممنوعة ، ولو سلّم توليته الحج لم تنف عزله عن السورة الثابت بإجماع المفسرين وأهل السير.

وبعث علي عليه‌السلام إنما كان بأمر جبرئيل لا جريا على عادة العرب وليس الغرض من قراءتها مجرد العهد بل فوائد أخر (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) غير فائتيه (وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ) مذلهم بالقتل والأسر في الدنيا والنار في الآخرة.

[٣] ـ (وَأَذانٌ) عطف على «براءة» أي وإعلام (مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ) يوم النحر ، لأن الأذان كان فيه ، ولأن فيه معظم أفعال الحج.

وقيل : يوم عرفة لأن الوقوف للحج فيه (٢).

ووصف الحج بالأكبر لتسمية العمرة حجا أصغر ، ولاجتماع المسلمين والمشركين في ذلك الحج (أَنَ) أي بأن (اللهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) أي من عهودهم (وَرَسُولِهِ) عطف على المستكن في «برىء» ، ونصبه «يعقوب» عطفا على الإسم ، (٣)

__________________

(١) ينظر تفسير البيضاوي ٢ : ٢٧٥ وتفسير مجمع البيان ٣ : ٣ ـ ٤.

(٢) قاله عمر وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد ، وروي ذلك عن علي عليه‌السلام ورواه المسور بن مخرمة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ كما في تفسير مجمع البيان ٣ : ٥.

(٣) تفسير مجمع البيان ٣ : ٤.

٦

أو بواو المعية. وما سبق إخبار بثبوت البراءة ، وهذا إيجاب للإعلام به (فَإِنْ تُبْتُمْ) من الشرك (فَهُوَ) فتوبتكم (خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ) عن الإيمان (فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ) غير فائتيه في الدنيا (وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا) أخبرهم (بِعَذابٍ أَلِيمٍ) في الآخرة.

[٤] ـ (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) استثناء من المشركين ، أو استدراك ، أي ولكن من عاهدتم منهم (ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً) من شروط العهد (وَلَمْ يُظاهِرُوا) يعاونوا (عَلَيْكُمْ أَحَداً) من عدوكم (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) الى انقضاء مدتهم التي عاهدتم عليها (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) بإتمام العهد.

[٥] ـ (فَإِذَا انْسَلَخَ) انقضى (الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ) التي هي مدة الأمان للناكثين ، وقيل ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب (١) وفيه ما فيه (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) الناكثين (حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) من حل وحرم (وَخُذُوهُمْ) وأسروهم (وَاحْصُرُوهُمْ) وامنعوهم دخول مكة ، أو من الخروج إن تحصنوا (وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) طريق يسلكونه. ونصب ظرفا أو بنزع الجار (فَإِنْ تابُوا) من الشرك (وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ) أي التزموا فعلهما وقبلوه (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) دعوهم ولا تتعرضوا لهم.

ويفيد أن تاركهما لا يخلى (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر لهم ويثيبهم ان تابوا.

[٦] ـ (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) المأمور بقتلهم ، رفع بما يفسره (اسْتَجارَكَ) استأمنك (فَأَجِرْهُ) فأمنه (حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ) ويتدبره (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) موضع أمنه ، أي وطنه إن لم يؤمن (ذلِكَ) الأمن (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ) الإيمان ، فأمنهم حتى يسمعوا فيعلموا :

[٧] ـ (كَيْفَ) انكار أي لا (يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ) يفون به لهما مع إضمارهم الغدر ، أو يفيان لهم به وهم نقضوه (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣ : ٧.

٧

الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) هم المستثنون قبل ، ومحله نصب بالاستثناء ، أو جر بالبدل ، أو رفع على الاستدراك (فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ) على العهد (فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) على الوفاء به. و «ما» شرطية (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) فسر (١).

[٨] ـ (كَيْفَ) يكون لهم عهد وحذف للعلم به. كرر انكار وفائهم بالعهد ، أو بقاء حكمه مع ما يفهم العلة (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ) يظفروا بكم والواو للحال (لا يَرْقُبُوا) لا يرعوا (فِيكُمْ إِلًّا) قرابة أو حلفا (وَلا ذِمَّةً) عهدا فلا يبقون عليكم بجهدهم (يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ) يظهرون لكم الموالاة بكلامهم (وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ) إلا العداوة والغدر (وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ) متمردون ، لا وفاء لهم.

[٩] ـ (اشْتَرَوْا بِآياتِ اللهِ) القرآن أي استبدلوا باتباعه (ثَمَناً قَلِيلاً) عوضا يسيرا ، وهو اتباع الشهوات (فَصَدُّوا) الناس ، أو أعرضوا (عَنْ سَبِيلِهِ) دينه ، والفاء تؤذن بسببية اشترائهم للصدّ (إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) عملهم هذا ، وما بينه (٢) قوله :

[١٠] ـ (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً) فلا تكرار والأول عام ، وهذا يخص المشترين وهم من جمعهم أبو سفيان وأطعمهم ، أو اليهود (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ) في الطغيان.

[١١] ـ (فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ) فهم إخوانكم (فِي الدِّينِ) كسائر المؤمنين (وَنُفَصِّلُ الْآياتِ) نبيها (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) يتأملونها.

[١٢] ـ (وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) مواثيقهم (مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ) عقدهم (وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ) عابوه (فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ) وضعوا موضع المضمر

__________________

(١) في سورة آل عمران : ٣ / ٧٦.

(٢) ـ كذا في النسخ ، والصحيح أو ما بيّنة بقوله : ... إلى آخره ، أي ساء عدم مراقبتهم في مؤمن الّا ولا ذمّة ، فلا يكون تكرارا بل يكون تفسيرا لما ساء من عملهم ـ ينظر تفسير البيضاوي ٢ : ٢٧٧ ـ.

٨

لصيرورتهم بذلك رؤساءه.

وقيل : هم رؤساء الكفرة فتخصيصهم لأن قتلهم أهمّ (١). وحقق الهمزتين «عاصهم» و «ابن عامر» و «حمزة» و «الكسائي» ولحّن القلب ياء (٢) (إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ) لا يحفظون أيمانهم. وكسره «ابن عامر» وكذا عن الباقر عليه‌السلام أي : لا أمان أولا إسلام (٣) (لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ) أي قاتلوهم قاصدين انتهاءهم عن الشرك.

[١٣] ـ (أَلا) للتحيض (تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ) التي عقدوها معكم فأعانوا بني بكر على حلفائكم خزاعة (وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ) من مكة حين اجتمعوا بدار الندوة.

وقيل : هم اليهود نكثوا عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهموا بإخراجه من المدينة (٤) (وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ) بالقتال يوم بدر ، أو لحلفائكم فما يمنعكم أن تقاتلوهم (أَتَخْشَوْنَهُمْ) فتتركون قتالهم (فَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ) في ترك أمره (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) فإن المؤمن لا يخشى إلّا الله.

[١٤] ـ (قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللهُ) يقتلهم (بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ) يذلهم بالقهر والأسر (وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ) خزاعة ، أو ناس من اليمن أسلموا بمكة فإذا هم أهلها.

[١٥] ـ (وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ) حنقها لا فعل بهم وقد وفى بما وعدهم ، ففيه اعجاز (وَيَتُوبُ اللهُ عَلى مَنْ يَشاءُ) ممن يتوب مخلصا منهم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بمن يتوب

__________________

(١) ذكر هذا القول الطبرسي في جوامع الجامع ٢ : ٤١ والزمخشري في تفسير الكشاف ٢ : ٣٠

. (٢) حجة القراآت : ٣١٥.

(٣) نقل البيضاوي هذا المعنى على أساس قراءة ابن عامر ولم ينسبه ، ينظر تفسير البيضاوي ٢ : ٢٧٨.

(٤) نقله البيضاوي في تفسيره ٢ : ٢٧٨.

٩

(حَكِيمٌ) في أحكامه.

[١٦] ـ (أَمْ) بل أ(حَسِبْتُمْ) انكار ، خطاب للمؤمنين حين كره بعضهم القتال وقيل للمنافقين (١) (أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ) ولم يظهر المجاهدون منكم بإخلاص من غيرهم.

وأريد بنفي العلم نفي المعلوم مبالغة فإنه مهما كان شيء علمه الله (وَلَمْ يَتَّخِذُوا) من الصلة (مِنْ دُونِ اللهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً) بطانة يناجونهم (وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) يعلم ما قصدتم به.

[١٧] ـ (ما كانَ) ما صحّ (لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللهِ) شيئا منها ، أو المسجد الحرام وجمع لأنه قبلة المساجد فكأنه الجميع ، ويعضده أن أفرده «ابن كثير» و «أبو عمرو» (٢) (شاهِدِينَ) حال من الواو (عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) أي يدل قولهم وفعلهم على كفرهم (أُولئِكَ حَبِطَتْ) بطلت (أَعْمالُهُمْ) التي هي من جنس الطاعة لفقد شرطها (وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ).

[١٨] ـ (إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللهِ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ) أي لا يعمرها إلا من جمع هذه الكمالات العلمية والعملية.

وعمارتها : رمها وكنسها وفرشها والإسراج فيها ، وزيارتها وشغلها بالعبادة والذكر ودرس العلم وصونها من أعمال الدينا (وَلَمْ يَخْشَ) في أمر الدين (إِلَّا اللهَ) فلا يلحظ سواه (فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) الى طريق الجنة أي هم منهم ، لأنّ «عسى» من الله وجوب ، وفيها ردع للمؤمنين أن يغترّوا بحالهم.

[١٩] ـ (أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي أهل السقاية أي السقي وأهل العمارة (كَمَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللهِ) أو جعلتم

__________________

(١) تفسير البيضاوي : ٢ : ٢٧٨.

(٢) حجة القراآت : ٣١٦.

١٠

السقاية والعمارة كإيمان من آمن. والإضمار لأنهما مصدران لا يشبهان بالجثث.

الآية نزلت حين قال طلحة بن شيبة مفاخرا : أنا صاحب البيت بيدي مفتاحه ، وقال العباس : أنا صاحب السقاية.

وقال علي عليه‌السلام : لا أدري ما تقولان ، لقد صلّيت الى القبلة ستة أشهر قبل الناس وأنا صاحب الجهاد

(لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللهِ) تقرير لإنكار التشبيه (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الكافرين ، يتركهم وما اختاروا من الضلال وهو بيان لعدم استوائهم.

[٢٠] ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللهِ) أعلى رتبة وأكثر فضلا من غيرهم (وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ) الظافرون بالبغية.

[٢١] ـ (يُبَشِّرُهُمْ) وخففه «حمزة» (١) (رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ) دائم.

[٢٢] ـ (خالِدِينَ فِيها أَبَداً) زمانا لا نهاية له (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ) لا يقاس به غيره.

[٢٣] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ) يصدونكم عن الدين ، قيل : لما امر الناس بالهجرة فمنهم من تعلق به أبواه وأهله وولده فترك الهجرة لأجلهم فنزلت (٢) (إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ) اختاروه (عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) بوضع التولي في غير محله.

[٢٤] ـ (قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ)

__________________

(١) اتحاف فضلاء البشر ٢ : ٨٩.

(٢) تفسير مجمع البيان ٣ : ١٦.

١١

أقرباؤكم وقرأ «أبو بكر» وعشيراتكم (١) (وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها) اكتسبتموها (وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها) عدم نفاقها (٢) (وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ) فآثرتموه على الهجرة والجهاد (فَتَرَبَّصُوا) فانتظروا (حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ) بعقوبته أو بحكمه ، تهديد لهم (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) الى ثوابه نسأله العصمة والتوفيق.

[٢٥] ـ (لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَواطِنَ) مواقف للحرب (كَثِيرَةٍ).

عن أهل البيت عليهم‌السلام : انها ثمانون (٣) (وَيَوْمَ) عطف على محل «مواطن» أو بتقدير «واذكر يوم» (حُنَيْنٍ) واد بين مكة والطائف ، أي يوم حربكم فيه لهوازن وثقيف وكان في شوال سنة ثمان (إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ) بدل من «يوم» : حتى قال أبو بكر ـ وقيل غيره ـ : «لن نغلب اليوم من قلة» وكانوا اثنى عشر ألفا ممن حضروا فتح مكة ومن صحبهم من طلقائها وهم ألفان ولعدو أربعة آلاف (٤) (فَلَمْ تُغْنِ) تدفع (عَنْكُمْ) كثرتكم (شَيْئاً) من السوء (وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ) برحبها أي مع سعتها فلم تطمئنوا الى موضع تفرّون إليه لشدة خوفكم (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ) العدو ظهوركم (مُدْبِرِينَ) منهزمين ، تمرون بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ثابت على بغلته البيضاء في تسعة من بني هاشم ، منهم العباس آخذا بلجامه ، وعاشرهم أيمن بن أم ايمن ـ وقتل يومئذ ـ وعلي عليه‌السلام يقاتلهم بالراية بين يديه في نفر قليل.

فنادى العباس المنهزمين بأمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فردّوا.

[٢٦] ـ (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ) بعد الهزيمة (سَكِينَتَهُ) طمأنينته ورحمته (عَلى رَسُولِهِ

__________________

(١) حجة القراآت : ٣١٦.

(٢) النفاق : الرواج.

(٣) راجع الأخبار في تفسير نور الثقلين ٢ : ١٩٦.

(٤) جوامع الجامع ٢ : ٤٦ وتفسير الكشاف ٢ : ٣٣.

١٢

وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) حين رجعوا ، أو الثابتين منهم (وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها) من الملائكة والتقى الجمعان ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الآن حمي الوطيس (١).

أنا النبي لا كذب

أنا ابن عبد المطلب

ثم رماهم كفا من التراب فانهزموا

(وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالقتل والأسر (وَذلِكَ) التعذيب (جَزاءُ الْكافِرِينَ) في الدنيا.

[٢٧] ـ (ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ) ممن يتوب منهم مخلصا (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يغفر للتائب وينعم عليه.

قيل أتى ناس منهم ، النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأسلموا وسألوه سباياهم وأموالهم ، فخيرهم بينهما فاختار السبي فاسترضى المسلمين ، فرضوا فردها عليهم (٢).

[٢٨] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) قذر ، مصدر نجس ، ولذا لم يجمع ، وصفوا به مبالغة وحصر أوصافهم فيه بالإضافة الى ضده.

قيل أريد نجاستهم عينا ، (٣) وقيل : حكما (٤) كشركهم فإنه بمنزلة النجس ، أو لأنهم لا يتطهرون. واختلف فقهاؤهم في الحكم.

وأجمع أصحابنا على نجاسة الكفرة ممن عدا أهل الكتاب وقد يحتج بالآية عليه ، وفيه منع ارادة النجس الاصطلاحي لمنع ثبوت الحقائق الشرعية ، ولو سلّم فهو أخص من مدّعاهم الشامل للناصب ، لكن بعد إجماعهم لا حاجة الى الآية.

واشتهر بينهم نجاسة أهل الكتاب للآية وشركهم لقوله تعالى : (سُبْحانَهُ عَمَّا

__________________

(١) حمى الوطيس : اشتدّ الحرب.

(٢) تفسير الصافي : ٢ : ٣٣٣.

(٣) تفسير ابي الفتوح ٥ : ١٥٦.

(٤) في هامش «ب» ما يلي : جعل الفخر الرازي الحصر للنجس في المشركين وشنّع على ابي حنيفة بأنه عكس حكم الله وقال : لا ينجس الا المسلم لتنجيسه مستعمله في رفع الحدث وتطهيره مستعمل المشرك لبقاء حدثه. فهو وان اخطأ في توجيه الحصر لكنّه أصاب في التشنيع.

١٣

يُشْرِكُونَ) (١) بعد حكاية قولهم بالولد ، وفيها ما مرّ وأخبارنا مختلفه (فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) أي فامنعوهم عنه ، والنهي عن القرب للمبالغة أو للمنع من دخول الحرم (بَعْدَ عامِهِمْ هذا) عام براءة ، سنة تسع (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً) فقرا بانقطاع متاجرهم عنكم (فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) بوجه آخر ، وقد أغناهم بالغيوب والغنائم والجزية وتوفيقه أهل جدة وجرش للإسلام فماروهم (إِنْ شاءَ) قيّد به لقطع الآمال إلا إليه تعالى (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ) بالمصالح (حَكِيمٌ) في تدبيره.

[٢٩] ـ (قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ) إيمانا صحيحا فإيمانهم كلا إيمان (وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ) محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كالخمر وغيره ، أو من زعموا اتباعه ، أي : هم يخالفون دينهم المنسوخ (وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ) الثابت الناسخ لغيره (مِنَ) بيانية (الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) اليهود والنصارى ، والحق بهم المجوس ، وروي ان لهم نبيا قتلوه وكتابا أحرقوه (٢) (حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ما ضرب عليهم من المال (عَنْ يَدٍ) حال من «الجزية» أي نقدا مسلمة عن يد الى يد ، أو من الواو ، أي منقادين أو مسلمين بأيديهم لا بنائب ، أو عن قهر عليهم ، أي مقهورين. (وَهُمْ صاغِرُونَ) أذلاء ، بأن تؤخذ من الذميّ وتوجأ عنقه وقيل يصفع (٣).

[٣٠] ـ (وَقالَتِ الْيَهُودُ) ـ أي بعض أسلافهم أو من بالمدينة ـ : (عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) إذا أملى عليهم التوراة حفظا لما أحياه الله بعد مائة عام ، ولم يبق فيهم [بعد وقعة (٤)] ـ «بخت نصر» من يحفظها ، فقالوا تعجبا منه : ما هو إلا ابن الله ، ويدلّ على

__________________

(١) في الآية (٣١) من هذه السورة.

(٢) تفسير نور الثقلين ٢ : ٢٠٢.

(٣) صفع : ضرب قفاه بجمع كفّه لا شديدا ، وقيل : هو أن يبسط كفّه فيضرب.

(٤) الزيادة من تفسير البيضاوي.

١٤

انه قولهم عدم انكارهم له لما سمعوا الآية مع حرصهم على التكذيب.

ونوّنه «عاصم» و «الكسائي» (١) على انه عربي أو أعجمي صرف للخفة ، ولم ينوّنه الباقون لمنع صرفه للعلمية والعجمة ، أو لالتقاء الساكنين. و «ابن» خبره (وَقالَتِ النَّصارى) ـ أي بعضهم ـ : (الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ) إنكارا لحصول ولد بلا أب (ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ) لا حجة لهم عليه (يُضاهِؤُنَ) يشابهون. وهمزه «عاصم» (٢) أي : يضاهي قولهم ، (قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) فحذف المضاف ونابه المضاف إليه (مِنْ قَبْلُ) أي أسلافهم ، أو المشركون الذين قالوا : الملائكة بنات لله (قاتَلَهُمُ اللهُ) أهلكم أو لعنهم (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) كيف يصرفون عن الحق مع قيام الحجة.

[٣١] ـ (اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ) علماء اليهود (وَرُهْبانَهُمْ) عباد النصارى (أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) حيث اتبعوهم في تحليل ما حرّم وتحريم ما أحل (وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ) إذ جعلوه ابنه وعبدوه (وَما أُمِرُوا) في كتابيهم (إِلَّا لِيَعْبُدُوا) أي بأن يعبدوه (إِلهاً واحِداً) هو الله تعالى (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) صفة أخرى ، أو استئناف يقرر التوحيد (سُبْحانَهُ) تنزيها له (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم به.

[٣٢] ـ (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ) يبطلوا برهانه أو دينه ، أو القرآن (بِأَفْواهِهِمْ) بتكذيبهم (وَيَأْبَى اللهُ) ويمتنع (إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) بإظهار حججه وإعزاز دينه ، وصح تفريع الواجب لتضمنه النفي (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) إتمامه.

[٣٣] ـ (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ) محمدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ) يعلي دين الحق ، أو رسوله (عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) اللام للجنس أي على كل الأديان بالحجة والغلبة فينسخها ، أو على أهلها فيقهرهم.

وعن الباقر عليه‌السلام : إن ذلك يكون عند خروج المهدي من آل

__________________

(١) اتحاف فضلاء البشر ٢ : ٨٩ وحجة القراآت : ٣١٦.

(٢) اتحاف فضلاء البشر ٢ : ٩٠.

١٥

محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) (وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) ذلك.

[٣٤] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) كالرشى في الحكم.

وسمي الأخذ أكلا لأن معظمه له (وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) دينه (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ) من المسلمين وغيرهم ، إذ الكفار مخاطبون بالفروع (وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللهِ) لا يؤدون زكاتها.

قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما أدي زكاته فليس بكنز ، (٢) أي بكنز أوعد عليه ، والضمير للكنوز أو الأموال أو الفضة ، ويعلم حكم الذهب بالقرينة ، أو الدنانير والدراهم لتبادرهما منهما عرفا فيشعر باشتراط السكة في الزكاة كما يراه أصحابنا (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) مولم.

[٣٥] ـ (يَوْمَ يُحْمى) يوقد (عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ) حتى تصير نارا (فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ) لأنها أصول الجهات الأربع من مقاديم البدن ومآخره وجنبيه ، فيستوعبه الكي (٣) (هذا ما كَنَزْتُمْ) بتقدير القول (لِأَنْفُسِكُمْ) لنفعها صار ضررا لها (فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ) أي وباله.

[٣٦] ـ (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ) المعتبرة للسنة (عِنْدَ اللهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً) ثابتة (فِي كِتابِ اللهِ) اللوح أو حكمه (يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) متعلق بالثبوت المقدر (مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) محرمة : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب (ذلِكَ) أي تحريمها (الدِّينُ الْقَيِّمُ) القويم ، دين ابراهيم ومنه ورثه العرب (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ) بالمعاصي ، فإن وزرها فيهن أعظم.

قيل : نسخ تحريم القتال فيها لأن غزاة حنين والطائف في شوال

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ٣ : ٢٥.

(٢) تفسير نور الثقلين ٢ : ٢١٣ وفيه ، كل مال تؤدى زكاته فليس بكنز.

(٣) الكي : إحراق الجلد بحديدة أو نحوها.

١٦

وذي القعدة (١) وقيل الضمير لكل الشهور (٢) (وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) جميعا ، مصدر وقع حالا (كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) بالنصر والحفظ.

[٣٧] ـ (إِنَّمَا النَّسِيءُ) مصدر ، نسئه أي أخّره ، أي تأخير حرمة شهر الى آخر. كانوا إذا هلّ المحرم وهم في حرب أحلوه وحرموا مكانه صفرا وشدّ «ورش» الياء بلا همز ، (٣) وعن الصادق عليه‌السلام تخفيفها بلا همز (٤) (زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ) إذ تحليل ما حرّم الله وتحريم ما أحل الله كفر (يُضَلُ) (٥) (بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) وبناه «حفص» و «حمزة» و «الكسائي» للمفعول (٦) أي يصلهم به كبراؤهم (يُحِلُّونَهُ) أي الشهر المنسي (عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ) يتركونه على حرمته (عاماً لِيُواطِؤُا) ليوافقوا بتحليل شهر وتحريم آخر بدله. (عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللهُ) أي الأربعة الحرم (فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللهُ) إذ لم يراعوا وقت العدّة (زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ) قبيحها ، فحسبوه حسنا والمزين الشيطان (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) لا يلطف بهم ، بل يتركهم وما اختاروا من الضلال.

[٣٨] ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ) تثاقلتم ، أدغمت التاء في الثاء ، ودخلت ألف الوصل أي تباطأتم وملتم (إِلَى الْأَرْضِ) والمقام فيها.

نزلت حين أمروا بغزاة تبوك في وقت عسرة وحرّ مع بعد شقة ، فشقّ عليهم (أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا) ودعتها (٧) بدلا (مِنَ الْآخِرَةِ) ونعيمها (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا)

__________________

(١) تفسير البيضاوي ٢ : ٢٨٣.

(٢) وهو قول ابن عباس ـ كما في تفسير القرطبي ٨ : ١٣٤.

(٣) تفسير القرطبي ٨ : ١٣٦.

(٤) تفسير مجمع البيان ٣ : ٢٨.

(٥) في المصحف بقراءة حفص : «يضل» كما سيشير اليه المؤلّف.

(٦) حجة القراآت : ٣١٨.

(٧) الدعة : السكينة ، الراحة وخفض العيش ينظر مادة «ودع».

١٧

أي فوائدها (فِي الْآخِرَةِ) في جنب متاع الآخرة (إِلَّا قَلِيلٌ) حقير.

[٣٩] ـ (إِلَّا) «إن» الشرطية أدغمت في «لا» كالآتية (تَنْفِرُوا) الى ما دعيتم إليه (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) في الدنيا والآخرة (وَيَسْتَبْدِلْ) بكم (قَوْماً غَيْرَكُمْ) مطيعين كأهل اليمن أو أبناء فارس (وَلا تَضُرُّوهُ) أي الله (شَيْئاً) بترك نصرة دينه لغناه عن كل شيء ، أو لا تضروا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإن الله ناصره (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومنه نصر دينه ورسوله ببدلكم وبلا مدد.

[٤٠] ـ (إِلَّا تَنْصُرُوهُ) أي الرسول (فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي حين ألجأوه إلى الخروج من مكة لما همّوا بنفيه أو حبسه أو قتله (ثانِيَ اثْنَيْنِ) حال أي معه واحد لا غير ، والمعنى إنه نصره في مثل تلك الحال فلا يخذله في غيرها (إِذْ) بدل من «إذ أخرجه» (هُما فِي الْغارِ) ثقب في ثور وهو جبل بمكة (إِذْ) بدل ثاني (يَقُولُ لِصاحِبِهِ) ـ وهو أبو بكر ، ولا مدح له فيه إذ قد يصحب المؤمن غير المؤمن ، (قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ) (١) ـ : (لا تَحْزَنْ) فإنه خاف على نفسه وقنط واضطرب حتّى كاد أن يدلّ عليهما فنهاه عن ذلك (إِنَّ اللهَ مَعَنا) عالم بنا وبما نسرّ من يقين وشك وأمل وقنوط (ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ) الى قوله : (إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ) (٢) أي عالم بهم ، أو حافظنا ولا فضل له به ، إذ من شأنه تعالى حفظ رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه من المؤمنين وغيرهم بالتبعية كما أنجى السامري وأحزابه تبعا لموسى عليه‌السلام (٣).

قيل : لمّا دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا بأسفله والعنكبوت نسجت عليه فأتى المشركون ورأوا ذلك فجعلوا يترددون حوله وعموا عن دخوله (٤)

__________________

(١) سورة الكهف : ١٨ / ٣٤.

(٢) سورة المجادلة : ٥٨ / ٧.

(٣) ينظر تفسير القمي ٢ / ٦٢.

(٤) قاله الزهري ـ كما في تفسير مجمع البيان ٣ : ٣١ ـ ، وانظر تفسير البيضاوي ٢ : ٢٨٤.

١٨

(فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ) طمأنينته (عَلَيْهِ) على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وافراده بها هنا مع اشتراك المؤمنين معه بها حيث ذكرت (١) فيه ما لا يخفى. وجعل الهاء لصاحبه ينفيه كونها للرسول قبل وبعد (وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها) بالملائكة في الغار أو في حروبه أكان المؤيد الرسول أم صاحبه. والتعليل باستغنائه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها وحاجة ذاك إليها لخوفه فاسد ، إذ لا غنى لأحد عن لطفه تعالى ، كيف وقد أنزلها عليه وعلى المؤمنين بعد ذلك كيوم حنين وغيره ، فهل احتاجها بعد استغنائه (وَجَعَلَ) بنصره لرسوله (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى) أي الشرك أو دعوته (وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيا) أي التوحيد أو دعوة الإسلام ونصب «يعقوب» «كلمة الله» (٢) والرفع أبلغ (وَاللهُ عَزِيزٌ) في أمره (حَكِيمٌ) في صنعه.

[٤١] ـ (انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً) نشاطا وغيره نشاط ، أو ركبانا ومشاة أو أغنياء وفقراء أو صحاحا ومرضى. ونسخ بآية (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى) (٣) و (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ) (٤) (وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ) بما أمكن منهما (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الخير ، علمتم انه خير.

[٤٢] ـ (لَوْ كانَ) ما دعوا إليه (عَرَضاً قَرِيباً) غنيمة سهلة المأخذ (وَسَفَراً قاصِداً) وسطا (لَاتَّبَعُوكَ) طمعا في المال (وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) المسافة التي يشق قطعها (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ) ـ قائلين اعتذارا ـ : (لَوِ اسْتَطَعْنا) الخروج (لَخَرَجْنا مَعَكُمْ) ناب جواب القسم ، وفيه إعجاز إذ وقع كما أخبر (يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ) بالحلف الكاذب ، حال من الواو (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) في حلفهم.

__________________

(١) اي السكينة ـ كما ورد في سورة التوبة : ٩ / ٢٦ وسورة الفتح : ٤٧ / ٤ و ١٨ و ٢٦.

(٢) تفسير مجمع البيان ٣ : ٣١.

(٣) سورة النور : ٢٤ / ٦١.

(٤) سورة التوبة : ٩ / ٩١.

١٩

[٤٣] ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ) كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أذن لجماعة بالتخلف عنه.

وكان الأولى ترك الإذن فعوتب عليه ، وقدم الدعاء له بالعفو تطمينا لقلبه وتوقيرا له (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) في التخلف وهلّا تركتهم (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا) في عذرهم (وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) فيه ، قيل : لم يكن يعرف المنافقين يومئذ.

[٤٤] ـ (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) بإخلاص (أَنْ) في أن (يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ) أو في التخلف عن أن يجاهدوا (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) ما ينافي الإخلاص.

[٤٥] ـ (إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ) في التخلف (الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ) شكت (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) يتحيرون.

[٤٦] ـ (وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ) معك (لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً) أهبته من سلاح وزاد (وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ انْبِعاثَهُمْ) خروجهم لعلمه بما يكون فيه من الفساد (فَثَبَّطَهُمْ) فكسّلهم عنه لذلك (وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ) المرضى والنساء والصبيان ، أي ألقى الله في قلوبهم ذلك ، أو أمرهم الشيطان به بوسوسته ، أو حكاية قول بعضهم لبعض.

[٤٧] ـ (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ) شيئا (إِلَّا خَبالاً) فسادا وشرّا ، بيان لعلة الكراهة والتثبيط ، (وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ) أسرعوا بإبلهم في الدخول بينكم بالنميمة والتخذيل من أوضعت (١) الناقة أي أسرعت (يَبْغُونَكُمُ) حال يطلبون لكم (الْفِتْنَةَ) بتخويفكم ، وإلقاء العداوة بينكم (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ) أي قابلون لقولهم أو عيون ينقلون حديثكم إليهم (وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) وما أضمروا لكم.

[٤٨] ـ (لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ) توهين أمرك وتخذيل أصحابك (مِنْ قَبْلُ) أي يوم أحد حين انصرف «ابن أبيّ» بأصحابه عنك (وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ) احالة للرأي في كيدك ، وإبطال أمرك (حَتَّى جاءَ الْحَقُ) نصر الله (وَظَهَرَ أَمْرُ اللهِ) على دينه

__________________

(١) في النسخ : وضعت.

٢٠