تأويل مشكل القرآن

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري

تأويل مشكل القرآن

المؤلف:

أبي محمّد عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري


المحقق: إبراهيم شمس الدين
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
ISBN: 2-7451-3553-8
الصفحات: ٣٦٦

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تقديم

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا ونبينا محمد ، وعلى آله الطيبين الطاهرين ، وعلى صحبه الكرام المنتجبين.

وبعد ،

يقول الله تعالى في كتابه العزيز : (إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)) [الإسراء : ٩] ، ويقول تعالى : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً (٨٢)) [الإسراء : ٨٢] ، ويقول تعالى : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)) [الإسراء : ٨٨] ، ويقول تعالى : (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (١٧)) [القمر : ١٧ ، ٢٢ ، ٣٢ ، ٤٠].

للقرآن الكريم أكبر شأن في أمر الإسلام والمسلمين ، فهو هديهم في شريعتهم ، وهو المنار الذي يستضاء به في أساليب البلاغة العربية ، بل هو المنبع الصافي الذي ينهلون منه فلسفتهم الروحية والخلقية ، وهو بالجملة الموجّه لهم في الحياة والمعاملات وشتى مظاهر الحياة.

فلا عجب أن يكون القرآن الكريم موضع عناية المسلمين منذ القدم ، فقد تتابعت أنواع التآليف في أحكامه وفي تفسيره وفي بلاغته وفي لغته وفي إعرابه ، حتى لقد ازدهرت في الثقافة الإسلامية ضروب من العلوم والفنون حول القرآن الكريم وتحت رايته.

هذا كتاب «تأويل مشكل القرآن» للإمام أبي محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري ، المتوفى سنة ٢٧٦ ه‍. وهو كتاب فريد في بابه ويعتبر من أوائل الكتب

٣

التي بحثت في مشكل القرآن الكريم ، والشكوك التي تثار حوله ، والمطاعن التي تسدد نحوه.

يقول ابن قتيبة : «قد اعترض كتاب الله بالطعن ملحدون ، ولغوا فيه وهجروا ، واتبعوا (ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) بأفهام كليلة ، وأبصار عليلة ، ونظر مدخول ، فحرّفوا الكلام عن مواضعه ، وعدلوه عن سبله ، ثم قضوا عليه بالتناقض ، والاستحالة في اللحن ، وفساد النظم ، والاختلاف ، وأدلوا في ذلك بعلل ربما أمالت الضعيف الغمر ، والحدث الغر ، واعترضت بالشبه في القلوب ، وقدحت بالشكوك في الصدور ... فأحببت أن أنضح عن كتاب الله ، وأرمي من ورائه بالحجج النيرة ، والبراهين البينة ، وأكشف للناس ما يلبسون ، فألّفت هذا الكتاب جامعا لتأويل مشكل القرآن ، مستنبطا ذلك من التفسير بزيادة في الشرح والإيضاح ، وحاملا ما أعلم فيه مقالا لإمام مطلع على لغات العرب ، لأري المعاند موضع المجاز ، وطريق الإمكان ، من غير أن أحكم فيه برأي ، أو أقضي عليه بتأويل ، ولم يجز لي أن أنص بالإسناد إلى من له أصل التفسير ، إذ كنت لم أقتصر على وحي القوم حتى كشفته. وعلى إيمائهم حتى أوضحته ، وزدت في الألفاظ ونقصت ، وقدّمت وأخّرت ، وضربت لذلك الأمثال والأشكال ، حتى يستوي في فهمه السامعون».

أما عملنا في هذا الكتاب فهو :

أولا : وضع ترجمة وافية للمؤلف.

ثانيا : حرصنا بقدر الطاقة على تنقية النص من الأخطاء المطبعية.

ثالثا : شرحنا في حواشي الكتاب ما في متنه من غريب اللغة أو صعب المتناول منها ، وذلك استنادا إلى المعاجم اللغوية المشهورة.

رابعا : وضعنا في حواشي الكتاب تعريفا وافيا ـ مع ذكر المراجع ـ لجميع الأعلام ، وما أهملناه من ذلك إما معروف مشهور ، ولم نجد ضرورة لنافل القول فيه ، وإما لم نهتد إليه فيما بين أيدينا من المصادر والمراجع. وقد أشرنا إلى ذلك أيضا.

خامسا : خرّجنا جميع الأحاديث النبوية والآثار تخريجا وافيا ، وضبطنا نص الحديث استنادا إلى كتب الحديث المعتبرة.

سادسا : خرّجنا جميع الشواهد الشعرية في مظانها.

٤

سابعا : خرّجنا جميع الأمثال في مظانها.

ثامنا : خرّجنا جميع الآيات القرآنية الكريمة على المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم.

وأخيرا ، نرجو أن يكون عملنا هذا خالصا لوجهه تعالى ، ولله الكمال وحده ، وهو ولي التوفيق.

إبراهيم شمس الدين

٥

ترجمة ابن قتيبة الدينوري (١)

هو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة بن مسلم ، المروزي الدينوري ، أصله من أسرة فارسية كانت تقطن مدينة «مرو» ، ولد سنة ٢١٣ ه‍. في أواخر خلافة المأمون ، ونشأ في بغداد ، وتتلمذ على يد عدد كبير من العلماء وأعلام عصره ، منهم :

١ ـ أحمد بن سعيد اللحياني.

٢ ـ أبو عبد الله ، محمد بن سلّام الجمحي البصري ، المتوفى سنة ٢٣١ ه‍.

٣ ـ أبو يعقوب ، إسحاق بن إبراهيم ، المعروف بابن راهويه المتوفى سنة ٢٣٨ ه‍.

٤ ـ حرملة بن يحيى التجيبي ، المتوفى سنة ٢٤٣ ه‍.

٥ ـ القاضي يحيى بن أكتم المتوفى سنة ٢٤٢ ه‍.

٦ ـ أبو عبد الله ، الحسين بن الحسين بن حرب السلمي المروزي المتوفى سنة ٢٤٦ ه‍.

٧ ـ دعبل بن علي الخزاعي ، المتوفى سنة ٢٤٦ ه‍.

٨ ـ أبو عبد الله ، محمد بن محمد بن مرزوق بن بكير بن البهلول الباهلي البصري ، المتوفى سنة ٢٤٨ ه‍.

٩ ـ أبو إسحاق إبراهيم بن سفيان الزيادي ، المتوفى سنة ٢٤٩ ه‍.

١٠ ـ أبو حاتم ، سهل بن محمد السجستاني ، المتوفى سنة ٢٤٨ ه‍.

__________________

(١) انظر ترجمته في : كشف الظنون ٥ / ٤٤١ ، البداية والنهاية ١١ / ٥٢ ـ ٥٣ ، الأعلام للزركلي ٤ / ١٣٧ ، الأنساب للسمعاني ، التهذيب للأزهري ص ١٣ ، مراتب النحويين لأبي الطيب الحلبي ص ١٣٧ ، ميزان الاعتدال للذهبي ٢ / ٧٧ ، لسان الميزان ٣ / ٣٥٨ ، النجوم الزاهرة ٣ / ٧٥ ، الفهرست لابن النديم ، تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ٣٩٢ ـ ٤٦٣ ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم لابن الجوزي ٥ / ١٠٢ ، وفيات الأعيان لابن خلكان ٢ / ٢٤٦.

٦

١١ ـ محمد بن زياد بن عبيد الله الزيادي البصري ، المقلب ببؤبؤ ، المتوفى سنة ٢٥٢ ه‍.

١٢ ـ أبو يعقوب ، إسحاق بن إبراهيم بن محمد الصواف الباهلي البصري ، المتوفى سنة ٢٥٣ ه‍.

١٣ ـ أبو عثمان الجاحظ ، عمرو بن بحر بن محبوب ، المتوفى سنة ٢٥٤ ه‍.

١٤ ـ أبو طالب ، زيد بن أخزم الطائي البصري ، المتوفى سنة ٢٥٧ ه‍.

١٥ ـ أبو الفضل ، العباس بن الفرج الرياشي ، المتوفى سنة ٢٥٧ ه‍.

١٦ ـ أبو سهل الصفار ، عبدة بن عبد الله الخزاعي ، المتوفى سنة ٢٥٨ ه‍.

وقد تتلمذ على يدي ابن قتيبة عدد كبير من العلماء ، منهم :

١ ـ ابنه أحمد ، أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم الدينوري ، المتوفى سنة ٣٢٢ ه‍.

٢ ـ أحمد بن مروان المالكي ، المتوفى سنة ٢٩٨ ه‍.

٣ ـ أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان ، المتوفى سنة ٣٠٩ ه‍.

٤ ـ أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن أيوب بن بشير الصائغ ، المتوفى سنة ٣١٣ ه‍.

٥ ـ أبو محمد ، عبيد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عيسى السكري ، المتوفى سنة ٣٢٣ ه‍.

٦ ـ أبو القاسم ، عبيد الله بن أحمد بن عبد الله بن بكير التميمي ، المتوفى سنة ٣٣٤ ه‍.

٧ ـ الهيثم بن كليب الشامي ، المتوفى سنة ٣٣٥ ه‍.

٨ ـ قاسم بن أصبغ الأندلسي ، المتوفى سنة ٣٤٠ ه‍.

٩ ـ عبد الله بن جعفر بن درستويه الفسوي ، المتوفى سنة ٣٥٥ ه‍.

١٠ ـ أبو القاسم ، عبيد الله بن محمد بن جعفر بن محمد الأزدي ، المتوفى سنة ٣٤٨ ه‍.

١١ ـ أبو بكر ، أحمد بن الحسين بن إبراهيم الدينوري.

٧

١٢ ـ أبو العباس محمد بن علي بن أحمد الكرجي ، المتوفى سنة ٣٤٣ ه‍.

١٣ ـ أبو رجاء ، محمد بن حامد بن الحارث البغدادي ، المتوفى سنة ٣٤٣ ه‍.

مؤلفات ابن قتيبة

ذكر أصحاب كتب التراجم لابن قتيبة الكثير من المصنفات ، وهي :

١ ـ آداب العشرة.

٢ ـ آداب القراءة.

٣ ـ أدب الكاتب.

٤ ـ اختلاف الحديث.

٥ ـ استماع الغناء بالألحان.

٦ ـ إصلاح غلط أبي عبيدة.

٧ ـ إعراب القرآن.

٨ ـ تأويل الرؤيا.

٩ ـ تأويل مختلف الحديث.

١٠ ـ تأويل مشكل القرآن (وهو الكتاب الذي بين أيدينا).

١١ ـ تقويم اللسان.

١٢ ـ تفسير القرآن.

١٣ ـ جامع الفقه.

١٤ ـ جامع النحو الكبير.

١٥ ـ جامع النحو الصغير.

١٦ ـ الجوابات الحاضرة.

١٧ ـ حكم الأمثال.

١٨ ـ خلق الإنسان.

١٩ ـ دلائل النبوّة.

٨

٢٠ ـ ديوان الكتاب.

٢١ ـ طبقات الشعراء.

٢٢ ـ عيون الأخبار ، في الأدب والمحاضرات.

٢٣ ـ عيون الشعر ، يحتوي على عشرة كتب.

٢٤ ـ غريب الحديث.

٢٥ ـ غريب القرآن.

٢٦ ـ فرائد الدرر.

٢٧ ـ كتاب آلة الكتابة.

٢٨ ـ كتاب الاختلاف في اللفظ.

٢٩ ـ كتاب الأشربة.

٣٠ ـ كتاب الأنواء.

٣١ ـ كتاب الحكاية والمحكي.

٣٢ ـ كتاب التسوية بين العرب والعجم.

٣٣ ـ كتاب التفقيه.

٣٤ ـ كتاب الجراثيم.

٣٥ ـ كتاب الخيل.

٣٦ ـ كتاب الرد على المشبهة.

٣٧ ـ كتاب الرد على القائل بخلق القرآن.

٣٨ ـ كتاب صناعة الكتابة.

٣٩ ـ كتاب الشعر والشعراء.

٤٠ ـ كتاب الصيام.

٤١ ـ كتاب العلم.

٤٢ ـ كتاب فضل العرب والتنبيه على علومها.

٤٣ ـ كتاب القراءات.

٩

٤٤ ـ كتاب المراتب والمناقب من عيون الشعر.

٤٥ ـ كتاب المسائل والأجوبة.

٤٦ ـ كتاب المعارف ، في التاريخ.

٤٧ ـ كتاب الميسر والقداح.

٤٨ ـ كتاب الوحش.

٤٩ ـ كتاب الوزراء.

٥٠ ـ مختلف الحديث.

٥١ ـ مشكلات القرآن.

٥٢ ـ معاني الشعر ، يحتوي اثني عشر كتابا ، ٥٣ ـ معجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

توفي ابن قتيبة ، فيما يقول تلميذه أبو القاسم إبراهيم الصائغ : أنه أكل هريسة ، فأصاب حرارة ، ثم صاح صيحة شديدة ، ثم أغمي عليه إلى وقت صلاة الظهر ، ثم اضطرب ساعة ، ثم هدأ ، فما زال يتشّهد إلى وقت السحر ، ثم مات ، وذلك أول ليلة من رجب سنة ٢٧٦ ه‍.

١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قال عبد الله بن مسلم بن قتيبة :

الحمد لله الذي نهج لنا سبل الرّشاد ، وهدانا بنور الكتاب ، (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً) [الكهف : ١] بل نزّله قيّما مفصّلا بيّنا (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢)) [فصلت : ٤٢] وشرّفه ، وكرّمه ، ورفعه وعظّمه ، وسماه روحا ورحمة ، وشفاء وهدى ، ونورا.

وقطع منه بمعجز التّأليف أطماع الكائدين ، وأبانه بعجيب النّظم عن حيل المتكلّفين ، وجعله متلوّا لا يملّ على طول التّلاوة ، ومسموعا لا تمجّه الآذان ، وغضّا لا يخلق على كثرة الرد ، وعجيبا.

لا تنقضي عجائبه ، ومفيدا لا تنقطع فوائده ، ونسخ به سالف الكتب.

وجمع الكثير من معانيه في القليل من لفظه ، وذلك معنى قول رسول الله ، صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوتيت جوامع الكلم» (١).

فإن شئت أن تعرف ذلك فتدبر قوله سبحانه : (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)) [الأعراف : ١٩٩] كيف جمع له بهذا الكلام كل خلق عظيم ، لأن في (أخذ

__________________

(١) أخرجه بهذا اللفظ مسلم في المساجد حديث ٧ ، ٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٥٠ ، ٣١٤ ، ٤٤٢ ، ٥٠١ ، وابن كثير في تفسيره ٤ / ٧٢ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٣ ، وأبو نعيم في دلائل النبوة ١ / ١٤ ، وسعيد بن منصور في سننه ٢٨٦٢ ، وابن أبي شيبة في مصنفه ١١ / ٤٨٠ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٢٠٦٨ ، والعجلوني في كشف الخفا ١ / ١٤ ، ٣٠٨. وأخرجه بلفظ : «بعثت بجوامع الكلم ونصرت بالرعب». البخاري ٤ / ٦٥ ، ٩ / ٤٧ ، ١١٣ ، ومسلم في المساجد حديث ٦ ، والنسائي في المجتبى ٦ / ٣ ، ٤ ، وأحمد في المسند ٢ / ٢٦٤ ، ٤٥٥ ، والشهاب في مسنده ٥٧٠ ، ٥٧١ ، والسيوطي في الدر المنثور ٤ / ٤٥٦ ، وابن عساكر في تهذيب تاريخ دمشق ٤ / ٤٥٦ ، وابن كثير في البداية والنهاية ٤ / ١٠٢ ، ٦ / ٤٨ ، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين ٧ / ١١٣ ، وابن حجر في فتح الباري ١٢ / ٣٩١ ، ٤٠١ ، ١٣ / ٢٤٧ ، والعراقي في المغني عن حمل الأسفار ٢ / ٣٦٥ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٧٤٩ ، وأبو عوانة في المسند ١ / ٣٩٥ ، وابن عبد البر في التمهيد ٥ / ٢١٩ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣١٨٩٩ ، والقرطبي في تفسيره ١٠ / ٤٩.

١١

العفو) : صلة القاطعين ، والصفح عن الظالمين ، وإعطاء المانعين.

وفي (الأمر بالعرف) : تقوى الله وصلة الأرحام ، وصون اللّسان عن الكذب ، وغضّ الطّرف عن الحرمات.

وإنما سمّي هذا وما أشبهه (عرفا) و (معروفا) ، لأن كل نفس تعرفه ، وكل قلب يطمئنّ إليه.

وفي (الإعراض عن الجاهلين) : الصبر ، والحلم ، وتنزيه النفس عن مماراة السّفيه ، ومنازعة اللّجوج.

وقوله تعالى : إذ ذكر الأرض فقال : (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١)) [النازعات : ٣١] كيف دلّ بشيئين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتا ومتاعا للأنام ، من العشب والشجر ، والحب والثمر والحطب ، والعصف واللّباس ، والنّار والملح ، لأن النار من العيدان ، والملح من الماء.

وينبئك أنه أراد ذلك قوله : (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٣)) [النازعات : ٣٣].

وفكّر في قوله تعالى حين ذكر جنات الأرض فقال : (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) [الرعد : ٤] كيف دلّ على نفسه ولطفه ، ووحدانيته ، وهدّى للحجّة على من ضلّ عنه ، لأنه لو كان ظهور الثمرة بالماء والتّربة ، لوجب في القياس ألا تختلف الطعوم ، ولا يقع التّفاضل في الجنس الواحد ، إذا نبت في مغرس واحد ، وسقي بماء واحد ، ولكنّه صنع اللطيف الخبير.

ونحو قوله : (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) [الروم : ٢٢] يريد اختلاف ، اللّغات ، والمناظر ، والهيئات.

وفي قوله تعالى : (وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ) [النمل : ٨٨] يريد : أنها تجمع وتسيّر ، فهي لكثرتها كأنها جامدة واقفة في رأي العين ، وهي تسير سير السحاب.

وكل جيش غصّ الفضاء به ، لكثرته ، وبعد ما بين أطرافه ، فقصر عنه البصر ـ فكأنه في حسبان الناظر واقف وهو يسير.

وإلى هذا المعنى ذهب الجعديّ في وصف جيش فقال (١) :

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو للنابغة الجعدي في ديوانه ص ١٨٧ ، ولسان العرب (صرد) ، وتاج العروس (صرد) والمعاني الكبير ص ٨٩١.

١٢

بأرعن مثل الطّود تحسب أنهم

وقوف لحاج والرّكاب تهملج

وفي قوله جلّ ذكره : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ) [البقرة : ١٧٩] يريد أن سافك الدّم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهمّ بالقتل ، فكان في القصاص له حياة وهو قتل.

وأخذه الشاعر فقال (١) :

أبلغ أبا مالك عنّي مغلغلة

وفي العتاب حياة بين أقوام

يريد أنهم إذا تعاتبوا أصلح ما بينهم العتاب فكفّوا عن القتل ، فكان في ذلك حياة.

وأخذه المتمثّلون فقالوا : «بعض القتل إحياء للجميع» (٢).

وقالوا : «القتل أقلّ للقتل» (٣).

وتبيّن قوله في وصف خمر أهل الجنة : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (١٩)) [الواقعة : ١٩] كيف نفى عنها بهذين اللفظين جميع عيوب الخمر ، وجمع بقوله : (ولا ينزفون) عدم العقل ، وذهاب المال ، ونفاد الشراب.

وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣)) [يونس : ٤٢ ، ٤٣] كيف دلّ على فضل السّمع على البصر ، حين جعل مع الصمم فقدان العقل ، ولم يجعل مع العمى إلا فقدان النظر.

وقوله : (إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ) [النساء : ١٤٥ ، ١٤٦] فدلّ على أن المنافقين شرّ من كفر به ، وأولاهم بمقته ، وأبعدهم من الإنابة إليه ، لأنه شرط عليهم في التوبة : الإصلاح والاعتصام ، ولم يشرط ذلك على غيرهم.

ثم شرط الإخلاص ، لأن النّفاق ذنب القلب ، والإخلاص توبة القلب.

__________________

(١) البيت من البسيط ، وهو لهمام الرقاشي في مقاييس اللغة ٤ / ٣٧٧ ، والبيان والتبيين ٢ / ٣١٦ ، ٣ / ٢٠٢ ، ٤ / ٨٥ ، والخزانة ٣ / ٣٤٥ ، ولعصام بن عبيد الزماني في تاج العروس (غلل) ، ولأبي القمقام الأسدي في عيون الأخبار ١ / ٩١ ، ولهشام الرقاشي في العقد الفريد ١ / ٨٠ ، وبلا نسبة في لسان العرب (غلل).

(٢) انظر البيان والتبيين ٢ / ٣١٦ ، وفيه بلفظ : وقال بعض الحكماء : قتل البعض إحياء للجميع.

(٣) انظر كتاب الصناعتين ، وفيه بلفظ : القتل أنفى للقتل.

١٣

ثم قال : (فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [النساء : ١٤٦] ولم يقل : فأولئك هم المؤمنون.

ثم قال : (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) [النساء : ١٤٦] ولم يقل وسوف يؤتيهم الله ، بغضا لهم ، وإعراضا عنهم ، وحيدا بالكلام عن ذكرهم.

وقوله في المنافقين : (يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ) [المنافقون : ٤] فدلّ على جبنهم ، واستشرافهم لكل ناعر ، ومرهج على الإسلام وأهله.

وأخذه الشاعر ـ وأنّى له هذا الاختصار ـ فقال (١) :

ولو أنّها عصفورة لحسبتها

مسوّمة تدعو عبيدا وأزنما

يقول : لو طارت عصفورة لحسبتها من جبنك خيلا تدعو هاتين القبيلتين.

وقال الآخر (٢) :

ما زلت تحسب كل شيء بعدهم

خيلا تكرّ عليكم ورجالا

وهذا في القرآن أكثر من أن نستقصيه.

وقد قال قوم بقصور العلم وسوء النظر في قوله تعالى : (وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ) [الكهف : ١٧] : وما في هذا الكلام من الفائدة؟.

وما في الشمس إذا مالت بالغداة والعشيّ عن الكهف من الخبر؟.

ونحن نقول : وأيّ شيء أولى بأن يكون فائدة من هذا الخبر؟ وأيّ معنى ألطف مما أودع الله هذا الكلام؟.

وإنما أراد عزوجل : أن يعرّفنا لطفه للفتية ، وحفظه إياهم في المهجع ، واختياره لهم أصلح المواضع للرّقود ، فأعلمنا أنه بوّأهم كهفا في مقنأة الجبل (٣) ، مستقبلا بنات

__________________

(١) البيت من الطويل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٣٢٣ ، وشرح شواهد المغني ٢ / ٦٦٢ ، وله أو للبعيث في حماسة البحتري ص ٢٦١ ، وللعوام بن شوذب الشيباني في العقد الفريد ٥ / ١٩٥ ، ولسان العرب (زنم) ، والمعاني الكبير ص ٩٢٧ ، ومعجم الشعراء ص ٣٠٠ ، والمقاصد النحوية ٤ / ٤٦٧ ، وبلا نسبة في تذكرة النحاة ص ٧٣ ، وجمهرة اللغة ص ٨٢٨ ، والجنى الداني ص ٢٨١ ، وشرح الأشموني ٣ / ٦٠٣ ، ومغني اللبيب ١ / ٢٧٠.

(٢) البيت من الكامل ، وهو لجرير في ديوانه ص ٥٣ ، وشرح شواهد الشافعية ص ١٢٥ ، والعقد الفريد ٣ / ١٣٢ ، وكتاب الحيوان ٥ / ٢٤٠.

(٣) مقنأة الجبل : الموضع الذي لا تصيبه الشمس.

١٤

نعش ، فالشمس تزورّ عنه وتستدبره : طالعة ، وجارية ، وغاربة. ولا تدخل عليهم فتؤذيهم بحرّها وتلفحهم بسمومها ، وتغيّر ألوانهم ، وتبلي ثيابهم. وأنهم كانوا في فجوة من الكهف ـ أي متّسع منه ـ ينالهم فيه نسيم الريح وبردها ، وينفي عنهم غمّة الغار وكربه.

وليس جهلهم بما في هذه الآية من لطيف المعنى ، بأعجب من هذا جهلهم بمعنى قوله : (وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ) [الحج : ٤٥] حتى أبدأوا في التعجّب منه وأعادوا ، حتى ضربه بعض المجّان لبارد شعره مثلا.

وهل شيء أبلغ في العبرة والعظة من هذه الآية؟ لأنه أراد : أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ، أو آذان يسمعون بها ، فينظروا إلى آثار قوم أهلكهم الله بالعتوّ ، وأبادهم بالمعصية ، فيروا من تلك الآثار بيوتا خاوية قد سقطت على عروشها ، وبئرا كانت لشرب أهلها قد عطّل رشاؤها ، وغار معينها ، وقصرا بناه ملكه بالشّيد (١) قد خلا من السّكن ، وتداعى بالخراب ، فيتعظوا بذلك ، ويخافوا من عقوبة الله وبأسه ، مثل الذي نزل بهم.

ونحوه قوله : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) [الأحقاف : ٢٥] :

ولم يزل الصالحون يعتبرون بمثل هذا ، ويذكرونه في خطبهم ومقاماتهم : فكان سليمان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إذا مرّ بخراب قال : يا خرب الخربين أين أهلك الأوّلون؟.

وقال : أبو بكر رضي الله عنه ، في بعض خطبه : أين بانو المدائن ومحصّنوها بالحوائط؟ أين مشيّدو القصور ، وعامروها؟ أين جاعلو العجب فيها لمن بعدهم؟ تلك منازلهم خالية ، وهذه منازلهم في القبور خاوية ، هل تحسّ منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟.

وهذا الأسود بن يعفر يقول (٢) :

__________________

(١) الشّيد ، بالكسر : كل ما طلي به الحائط من جص وبلاط.

(٢) الأبيات من الكامل ، وهي للأسود بن يعفر في ديوانه ص ٢٦ ـ ٢٧ ، والبيت الأول في لسان العرب (برق) ، (حرق) ، وتاج العروس (سند) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٨ ، ومعجم البلدان (انقرة) ، والبيت الثاني في لسان العرب (كعب) ، (برق) ، وكتاب العين ١ / ٢٠٧ ، وتهذيب اللغة ١ / ٣٢٥ ، وتاج العروس (كعب) ، (سند) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٦٩ ، والشعر والشعراء ص ٢٦١ ، والبيت الثالث في لسان العرب (نقر) ، وتاج العروس (نقر) ، وشرح اختيارات المفضل ص ٩٧٠ ، والحماسة البصرية ٢ / ٤١٢ ، والبيت الرابع في لسان العرب (موم) ، وتاج العروس (موم).

١٥

ماذا أؤمّل بعد آل محرّق

تركوا منازلهم وبعد إياد

أهل الخورنق والسّدير وبارق

والقصر ذي الشّرفات من سنداد

نزلوا بأنقرة يسيل عليهم

ماء الفرات يجيء من أطواد

أرض تخيّرها لطيب مقيظها

كعب بن مامة وابن أم دؤاد

جرت الرياح على محلّ ديارهم

فكأنهم كانوا على ميعاد

فأرى النعيم وكلّ ما يلهى به

يوما يصير إلى بلىّ ونفاد

وهذه الشّعراء تبكي الديار ، وتصف الآثار ، وإنما تسمعهم يذكرون دمنا وأوتادا ، وأثافيّ ورمادا ، فكيف لم يعجبوا من تذكّرهم أهل الديار بمثل هذه الآثار ، وعجبوا من ذكر الله ، سبحانه أحسن ما يذكر منها وأولاه بالصّفة ، وأبلغه في الموعظة؟.

١٦

باب ذكر العرب وما خصّهم الله به

من العارضة والبيان واتّساع المجاز

وإنما يعرف فضل القرآن من كثر نظره ، واتسع علمه ، وفهم مذاهب العرب وافتنانها في الأساليب ، وما خصّ الله به لغتها دون جميع اللغات ، فإنه ليس في جميع الأمم أمّة أوتيت من العارضة ، والبيان ، واتساع المجال ، ما أوتيته العرب خصّيصى من الله ، لما أرهصه في الرسول ، وأراده من إقامة الدليل على نبوّته بالكتاب ، فجعله علمه ، كما جعل علم كل نبي من المرسلين من أشبه الأمور بما في زمانه المبعوث فيه :

فكان لموسى فلق البحر ، واليد ، والعصا ، وتفجّر الحجر في التّيه بالماء الرّواء ، إلى سائر أعلامه زمن السّحر.

وكان لعيسى إحياء الموتى ، وخلق الطير من الطين ، وإبراء الأكمه والأبرص ، إلى سائر أعلامه زمن الطب.

وكان لمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الكتاب الذي لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله ، لم يأتوا به ، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، إلى سائر أعلامه زمن البيان.

فالخطيب من العرب ، إذا ارتجل كلاما في نكاح ، أو حمالة ، أو تحضيض ، أو صلح ، أو ما أشبه ذلك ـ لم يأت به من واد واحد ، بل يفتنّ : فيختصر تارة إرادة التخفيف ، ويطيل تارة إرادة الإفهام ، ويكرّر تارة إرادة التوكيد ، ويخفي بعض معانيه حتى يغمض على أكثر السامعين ، ويكشف بعضها حتى يفهمه بعض الأعجميين ، ويشير إلى الشيء ويكني عن الشيء.

وتكون عنايته بالكلام على حسب الحال ، وقدر الحفل ، وكثرة الحشد ، وجلالة المقام.

ثمّ لا يأتي بالكلام كلّه ، مهذّبا كلّ التّهذيب ، ومصفّى كلّ التّصفية ، بل تجده يمزج ويشوب ، ليدل بالنّاقص على الوافر ، وبالغثّ على السمين. ولو جعله كلّه

١٧

نجرا (١) واحدا ، لبخسه بهاءه ، وسلبه ماءه.

ومثل ذلك الشّهاب من القبس نبرزه للشّعاع ، والكوكبان يقترنان ، فينقص النّوران ، والسّخاب (٢) ينظم بالياقوت والمرجان والعقيق والعقيان ، ولا يجعل كلّه جنسا واحدا من الرفيع الثّمين ، ولا النّفيس المصون.

وألفاظ العرب مبنية على ثمانية وعشرين حرفا ، وهي أقصى طوق اللّسان.

وألفاظ جميع الأمم قاصرة عن ثمانية وعشرين ولست واجدا في شيء من كلامهم حرفا ليس في حرفنا إلا معدولا عن مخرجه شيئا ، مثل الحرف المتوسط مخرجي القاف والكاف ، والحرف المتوسط مخرجي الفاء والباء.

فهذه حال العرب في مباني ألفاظها.

ولها الإعراب الذي جعله الله وشيا لكلامها ، وحلية لنظامها ، وفارقا في بعض الأحوال بين الكلامين المتكافئين ، والمعنيين المختلفين كالفاعل والمفعول ، لا يفرّق بينهما ، إذا تساوت حالاهما في إمكان الفعل أن يكون لكلّ واحد منهما ـ إلا بالإعراب.

ولو أن قائلا قال : هذا قاتل أخي بالتنوين ، وقال آخر : هذا قاتل أخي بالإضافة ـ لدّل التنوين على أنه لم يقتله ، ودلّ حذف التنوين على أنه قد قتله.

ولو أن قارئا قرأ : (فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٦)) [يس : ٧٦] وترك طريق الابتداء بإنّا ، وأعمل القول فيها بالنصب على مذهب من ينصب (أنّ) بالقول كما ينصبها بالظن ـ لقلب المعنى عن جهته ، وأزاله عن طريقته ، وجعل النبيّ ، عليه‌السلام ، محزونا لقولهم : إنّ الله يعلم ما يسرّون وما يعلنون. وهذا كفر ممن تعمّده ، وضرب من اللحن لا تجوز الصلاة به ، ولا يجوز للمأموين أن يتجوّزوا فيه.

وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يقتل قرشي صبرا بعد اليوم» (٣).

فيمن رواه «حزما» أوجب ظاهر الكلام للقرشي ألا تقتل إن ارتد ، ولا يقتصّ منه إن قتل.

__________________

(١) النجر : اللون.

(٢) السخاب ، بالخاء المعجمة : كل قلادة كانت ذات جواهر ، أو لم تكن.

(٣) أخرجه مسلم في الجهاد حديث ٨٨ ، وأحمد في المسند ٣ / ٤١٢ ، ٤ / ٢١٣ ، والدارمي ٢ / ١٩٨ ، والبيهقي في دلائل النبوة ٥ / ٧٩ ، والحميدي في مسنده ٥٦٨ ، وابن أبي عاصم في السنة ٢ / ٦٣٨ ، وابن أبي شيبة في مصنفه ١٢ / ١٧٣ ، ١٤ / ٤٩٠ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ٥٩٩٣ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ٣٣٨٠٤ ، ٣٣٨٨٥ ، ٣٧٩٨٥.

١٨

ومن رواه «رفعا» انصرف التأويل إلى الخبر عن قريش : أنه لا يرتدّ منها أحد عن الإسلام فيستحقّ القتل.

أفما ترى الإعراب كيف فرق بين هذين المعنيين.

وقد يفرقون بحركة البناء في الحرف الواحد بين المعنيين.

فيقولون : رجل لعنة ، إذا كان يلعنه الناس. فإن كان هو الذي يلعن الناس ، قالوا : رجل لعنة فحركوا العين بالفتح.

ورجل سبّة إذا كان يسبه الناس ، فإن كان هو يسبّ الناس قالوا : رجل سببة.

وكذلك : هزأة ، وهزأة وسخرة ، وسخرة وضحكة ، وضحكة وخدعة ، وخدعة.

وقد يفرقون بين المعنيين المتقاربين بتغيير حرف في الكلمة حتى يكون تقارب ما بين اللفظين ، كتقارب ما بين المعنيين.

كقولهم للماء الملح الذي لا يشرب إلا عند الضرورة : شروب ، ولما كان دونه مما قد يتجوّز به : شريب.

وكقولهم لما ارفضّ على الثوب من البول إذ كان مثل رؤوس الإبر : نضح ، ورشّ الماء عليه يجزىء من الغسل ، فإن زاد على ذلك قليلا قيل له : نضخ ولم يجزىء فيه إلا الغسل.

وكقولهم للقبض بأطراف الأصابع : قبض وبالكف : قبض وللأكل بأطراف الأسنان : قضم وبالفم : خضم.

ولما ارتفع من الأرض : حزن فإن زاد قليلا قيل : حزم.

وللذي يجد البرد : خصر فإن كان مع ذلك جوع قيل : خرص.

وللنار إذا طفئت : هامدة فإن سكن اللهب وبقي من جمرها شيء قيل : خامدة.

وللقائم من الخبل : صائم فإن كان ذلك من حفىّ أو وجى ، قيل : صائن.

وللعطاء : شكد فإن كان مكافأة قيل : شكم.

وللخطأ من غير التعمد : غلط فإن كان في الحساب قيل : غلت.

وللضيق في العين : خوص فإن كان ذلك في مؤخّرها قيل : حوص.

١٩

وقد يكتنف الشيء معان فيشتقّ لكل معنى منها اسم من اسم ذلك الشيء ، كاشتقاقهم من البطن للخميص : مبطّن وللعظيم البطن إذا كان خلقة : بطين فإذا كان من كثرة الأكل قيل مبطان وللمنهوم : بطن وللعليل البطن : مبطون.

ويقولون : وجدت الضّالة ووجدت في الغضب ، ووجدت في الحزن ، ووجدت في الاستغناء. ثم يجعلون الاسم الضّالة : وجودا ووجدانا وفي الحزن وجدا وفي الغضب موجدة وفي الاستغناء وجدا.

في أشياء كثيرة ، ليس لاستقصاء ذكرها في كتابنا هذا ، وجه.

وللعرب الشّعر الذي أقامه الله تعالى لها مقام الكتاب لغيرها ، وجعله لعلومها مستودعا ، ولآدابها حافظا ، ولأنسابها مقيّدا ، ولأخبارها ديوانا لا يرثّ على الدّهر ، ولا يبيد على مرّ الزّمان.

وحرسه بالوزن ، والقوافي ، وحسن النّظم ، وجودة التخيير ـ من التدليس والتّغيير ، فمن أراد أن يحدث فيه شيئا عسر ذلك عليه ، ولم يخف له كما يخفى في الكلام المنثور.

وقد تجد الشاعر منهم ربما زال عن سننهم شيئا ، فيقولون له : ساندت ، وأقويت ، وأكفأت ، وأوطأت.

وإنما خالف في السّناد بين ردفين ، أو حرفين قبل ردفين ، كقول عمرو بن كلثوم (١) :

ألا هبّي بصحنك فاصبحينا

ولا تبقي خمور الأندرينا

وقال في بيت آخر (٢) :

كأن متونهنّ متون غدر

تصفّقها الرياح إذا جرينا

فالحاء من فأصبحينا (ردف) وهي مكسورة ، والراء من جرينا (ردف) وهي مفتوحة.

__________________

(١) البيت من الوافر ، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص ٦٤ ، وخزانة الأدب ٣ / ١٧٨ ، وشرح شواهد الشافية ص ٢٥١ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١١٩ ، ولسان العرب (مدر) ، (ندر) ، (صحن).

(٢) البيت من الوافر ، وهو في ديوان عمرو بن كلثوم ص ٨٥ ، وجمهرة أشعار العرب ١ / ٤٠٩ ، وشرح ديوان امرئ القيس ص ٣٣١ ، وشرح القصائد السبع ص ٤١٦ ، وشرح القصائد العشر ص ٣٥٧ ، وشرح المعلقات السبع ص ١٨٤ ، وشرح المعلقات العشر ص ٩٥ ، ولسان العرب (غرا) ، وفيه : «غرينا» بدل «جرينا». والبيت بلا نسبة في تاج العروس (سند) ، (غرا) ، وكتاب العين ٧ / ٢٢٩.

٢٠