موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١ و ٢

باقر شريف القرشي

موسوعة الإمام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام - ج ١ و ٢

المؤلف:

باقر شريف القرشي


المحقق: مهدي باقر القرشي
الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع)
الناشر: مؤسسة الكوثر للمعارف الإسلامية
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94388-6-3
الصفحات: ٢٣٢

١
٢

ِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

( إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ )

المائدة : ٥٥

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ )

التوبة : ١١٩

( وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ )

الزّمر : ٣٣

( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ )

البيّنة : ٧

٣

الإهداء

إلى .. رائد النهضة الفكرية

إلى .. صانع الحضارة الإنسانية

إلى ... المنقذ ، والمحرّر لإرادة الإنسان وسلوكه

إلى ... سيّد الأنبياء وخاتم المرسلين النبيّ محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرفع إلى سموّ مقامه الرفيع هذه الدراسة عن وصيّه وباب مدينة علمه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام راجيا التلطّف عليّ بالرضا والقبول ليكون ذخرا لي يوم ألقى الله تعالى.

٤

كلمة النّاشر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

( إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ )

إذا أراد إنسان كامل الحجى متتامّ النّهية كالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بيان ما يتمتّع به شخص من المنزلة لديه ، والمكانة عنده ، فقد يستخدم لأداء ذلك تعابير شتّى ، فإذا أراد بلوغ الغاية في الإطراء والمديح ، فليس أقصى من أن يقرنه بنفسه ، ولا أبلغ في بيان مكانته عنده ، من أن يقول : هو نفسي ، او بمنزلتي ، وما شاكل ذلك من التعابير.

ولشدّ ما نتساءل هل كان بإمكانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بيانه لمكانة أمير المؤمنين وسيّد العابدين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام من نفسه ، أن يزيد على ما قاله ممّا اتّفقت عليه كلمة أهل الإسلام ، من أمثال قوله :

« عليّ أخي ، وصيّي ، حربك حربي ، سلمك سلمي ، أنا المنذر وعليّ الهادي ، لا يؤدّي عنّي إلاّ أنا أو عليّ ، رفيقي في الجنّة ، من أطاع عليّا فقد أطاعني ، من عصى عليّا فقد عصاني ، عليّ منّي بمنزلتي من ربّي ، بمنزلة رأسي من بدني ، خير من أترك بعدي ، خير أمّتي ، وزيري ، عيبة علمي ، باب علمي ، من أحبّه أحبّني ، من أبغضه أبغضني ، وارثي ، إنّ عليّا منّي وأنا منه ، وليّ كلّ مؤمن بعدي ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاده ، من كنت مولاه فهذا وليّه ، خير البريّة ، وغير ذلك ممّا يضيق عن ذكره المجال.

هذا بعد قوله تعالى في آية المباهلة مع نصارى نجران : ( وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ) يعني عليّا ، فلعمر الحقّ ، ما هذا بجزاف من القول ، بل فيه آيات بيّنات.

وأمّا هذا السّفر الذي بين يديك ، الجليل بجلالة موضوعه ، والكريم بكريم محتواه ، فهو ممّا حبّرته يراعة الكاتب الفذّ ، والعالم الملهم ، صاحب التآليف القيّمة ، والقلم السمح بسهولة اللفظ ، وجودة البيان ، وحسن التنسيق ، الذي أثرى مكتبة التراث بمؤلّفاته المعطاءة ، سماحة الشيخ باقر شريف القرشي حفظه الله وأطال عمره المبارك في خدمة معارف الإسلام.

وإنّه لمن دواعي السرور لدى مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلامية التي تعنى بفرائد الكتب ، أن تتصدّى لطبع ونشر هذا السّفر الشريف.

مؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة

الخامس من ذي القعدة ١٤٢٢ هـ

٥

كلمة شكر

بسم الله الرّحمن الرّحيم

عند ما يسعى المرء في إبراز فضائل سيّد الأوصياء عليه‌السلام وتتظافر اهتماماته على رصف الكلم ، وتحرير الصفحات للتعريف بمناقب الآية الكبرى والنبأ العظيم ، فإنّ ذلك من دواعي الشرف الوفير ، والافتخار والاعتزاز ، حين يوفّق المرء لهذا العمل ، لما فيه من التقرّب إلى الله تعالى ، وإلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الذي شرّف الدنيا بوجوده وبآله الطيّبين الطاهرين ، وفي طليعتهم أمير المؤمنين عليه‌السلام الذي كان هو نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنصّ القرآن ، وباب مدينة علمه.

وهذه الموسوعة تبحث عن تلك الصورة المشرقة من سيرة مولى الموحّدين والآفاق المضيئة من حياته المباركة التي تعبق منها المثل الكريمة ، والخصال الجميلة ، والأبعاد الإنسانية بما للكلمة من معنى. ونحن نحمد الله عزّ وجلّ على ما وفّقنا إليه من المتابعة والإشراف وتقويم النصوص لهذه الموسوعة لتخرج بحلّتها القشيبة ولتكون بين يدي القارئ الكريم ، الذي كان ينتظرها بشوق ليتعرّف على تلك السيرة العطرة.

ولا يسعني وأنا اشاهد هذا الأثر النافع يرى النور ، إلاّ أن أتقدّم بالشكر والتقدير للإخوة الذين ساهموا في مساعدتي في إخراج هذه الموسوعة.

وكذلك أرفع آيات الشكر والتقدير لمؤسّسة الكوثر للمعارف الإسلاميّة لتحمّلها مسئولية نشر هذا التراث الكبير.

وأخيرا نسأله تعالى أن يتقبّل منّا هذا الجهد ، إنّه سميع مجيب.

والحمد لله أوّلا وآخرا

مهدي باقر القرشي

١١ ذي الحجّة ١٤٢٢ هـ

٦

مقدمة الطبعة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

كان من نعم الله تعالى على عباده ، ومن ألطافه وفيضه عليهم أن بعث لهم رسولاً من أنفسهم يزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة ، ويهديهم للتي هي أقوم ، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ، وقد أيدّ الله تعالى رسوله بأخيه ، وباب مدينة علمه ، فكان القوّة الضاربة التي حمته من كيد قريش واعتدائهم عليه ، وضللّ ملازماله يصدّ عنه العدوان ، ويذبّ عنه بقوّة وحزم ونشاط كلّ من أراد النيل منه.

الامام نفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من بعده علما لامته ، وقائد لمسيرتها ، وبانيا لحضارتها ، ولكن المهاحرين وضعوا الحواجز والسدود أمامه وحالت بين الامة ، وبين مواهبة ، وعبقريّاته ، وقد رفعت شعارها بعد انتقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله من الى خظيرة القدس وهو : « أبت قريش أن تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد ». وهذا الشعار مهلل ليس له أي رصيد من المنطق والعلم ، ونتساءل هل إنّ قريشا هي التي منحت النبوة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى يكون لها الحق في رفع الخلافة عن أهل بيته مراكز العلم والحكمة في دنيا الاسلام.

أليست قريش هي التي كفرت برسالة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله واتهمته بالكذب تارة ، وبالجنون اخرى ، وبالسحر ثالثا؟ اليس قريش هي التي عذبت من آمن به من الضعفاء والارقاء حتى اضطروا الى الهجرة للحبشة وترك اوطانهم؟ اليست قريش هي التي اجمعت على قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله حتى اضطر الى الهجرة في غلس الليل ، وأناب أخاه في فراشه ، فكان الامام المدافع الاول عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ اليست قريش هي التي ناجزت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وشنت الحرب عليه في بدر واحد والاحزاب؟

فاي حق لقريش في خلافة المسلمين ، لو كان هناك منطق لكان موضوع الخلاقة بيد

٧

الاسرة النبوية ، وبيد الأوس والخزرج الذين نصروا الاسلام في محنته وغربته ، وعلى أي حال فقد عانت الامة من الخطوب والازمات ما لاتوصف لمرارتها وقسوتها ، فكان من نتائجها أن رفعت رؤوس أبناء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله على أطراف الرمال وعقائل الوحي سبايا يطاف بهن من بلد الى اخر ، وصارت الخلافة الاسلامية العوبة بايدي الامويين والعباسيين ، فأنفقوا أموال المسلمين على شهواتهم ولياليهم الحمراء واستعبدوا المسلمين وأرغموهم على ما يكرهون.

ومهما يكن الأمر فان الامام امير المؤمنين عليه‌السلام ثروة من العلوم والمعارف لايدانيه في فضله أحد ، وهو القائل : « سلوني عن طرق السماء فاني أعلم بها من طرق الارض ».

وقد ذكر العقاد أن الامام فتح اثنين وثلاثين علما لم يعرفها الناس من قبله والخليفة الثاني يقول : « حتى النساء افقه منك يا عمر ، واله تعالى يقول : ( هل يستوي الذين يعلمُونَ والذين لا يعلمون ).

وقد تناول العلماء من قدامى ومحدثين حياة الامام وسيرته ومنهج حكمه وعجائب قضائه بالبحث والتحليل ، وقد وفقني الله تعالى للبحث عنه في موسوعة بلغت « ١١ » جزءأ ، فان ذلك أمر بعيد المنال ، وقد لاقى الكتاب رضا في نفوس القراء ، وقد قامت بطبعه مؤسسة الكوثر وجامعة آل البيت عليهم‌السلام التي هي برعاية سيادة حجة الاسلام والمسلمين العلامة الدكتور عبدالهادي الفضلي أعزة الله ورعاه.

ومن الوفاء أن اقدم آيات الشكر إلى سماحة العالم السيد محمد باقر الناصر ، والى سماحة الفاضل حجة الاسلام الشيخ عبدالمجيد عبدالله البقشي لاهتمامهم ورعايتهم بنشر الموسوعة ، وقد نفدت الطبعة الاولى فرأت المؤسسة القيام بطبعها ثانيا ، أجزل الله تعالى لهم المزيد من الأجر ، وشكر لهم الصنيع ، إنّه تعالى ولي ذلك والقادر عليه.

باقر شريف القريش

٢٤ / جمادى الاولى / ١٤٢٧ هـ

٨

تقديم

( ١ )

من جهاد الرسول الأعظم محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكفاح أخيه ووصيّه الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام انطلقت أشعة النور التي أضاء سناها في سماء الجزيرة العربية ، وامتدّت موجاتها المشرقة إلى امم العالم وشعوب الأرض ، وهي تحمل التحرير الكامل لفكر الإنسان وإرادته وسلوكه ، وتقدّم له منهجا متطوّرا وإصلاحا شاملا لجميع مناحي حياته ، التي منها إشاعة العلم وإقصاء الجهل وتنمية العقل ورفع مستوى الإنسان من مساوئ الحياة إلى حياة تزدهر بالوعي والنور.

من فم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ارتفعت أسمى كلمة في دنيا الوجود إنّها كلمة التوحيد التي تحمل جميع ألوان التحرّر للإنسان ، وتحسم جميع ألوان العبودية لغير الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة. وتبنّى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصورة إيجابية كلمة التوحيد وأعلنها في مكّة ، وحمل لواءها وصيّه وباب مدينة علمه ، وهو يلوّح بها في فضاء مكّة التي كانت موئلا للأصنام والأوثان ، ومركزا لجهل الإنسان وخرافاته.

وهبّت في وجه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الاسر العاتية من قريش مجمعة على إخماد نور الرسالة ، ولفّ لواء القرآن ، وإعادة الجاهلية إلى مجتمعها ، فانبرى إليهم بطل الإسلام الخالد الإمام أمير المؤمنين بشجاعته النادرة محاميا عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومدافعا عنه فكان

٩

القوّة الضاربة التي وقفت إلى جانب الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحمته من شرّ اولئك الوحوش.

( ٢ )

وليس في دنيا الإسلام وغيره شخصية تضارع شخصية أبي الحسن في مواهبه وعبقرياته وسائر ملكاته التي استوعبت ـ بشرف وفخر ـ جميع لغات الأرض ، وتحدّث عنها العلماء بإكبار وإعجاب ، وكان من جملة مواهبه إحاطته الكاملة بأسرار الشريعة وأحكام الدين فكان فيها العلم البارز. ولم تقتصر مواهبه وطاقاته العلمية على فقه الشريعة وأحكام الدين وإنّما كانت شاملة لجميع شئون الكون في فضائه وكواكبه ومجرّاته ، وهو القائل : « سلوني عن طرق السماء فإنّي أعلم بها من طرق الأرض ... ».

إنّ هذا العملاق العظيم قد بهر العالم بعلومه ومواهبه التي لا تخضع للحصر ...

وقد أراد أن يقيم في هذا الشرق العربي صروحا للعلم بجميع صوره وأنواعه ، ويؤسّس مراكز للتطوّر والتقدّم التكنولوجي ، ويشيع العلم والمعرفة في العالم الإسلامي ، ولكنّ العتاة الظلمة وقفوا أمام تطلّعاته ورغباته كما وقفوا من قبل أمام أخيه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فسعوا مجمعين جاهدين إلى إفشال مخطّطاته ووضعوا أمامه الحواجز والسدود.

( ٣ )

وكان من أهمّ ما يتطلّع إليه الإمام ويصبو إليه أن يؤسّس في دنيا الإسلام حكومة قائمة على العدل الخالص والحقّ المحض ، ويوزّع خيرات الله تعالى على عباده ، فلا يختصّ بها فريق دون فريق ولا قوم دون آخرين ، وأن ينعم الإنسان في ظلّ حكومته ، ولا يبقى في البلاد أي شبح للبؤس والحرمان ، فالكفر والفقر في شريعة الإمام سواء ، فكما يجب مكافحة الكفر كذلك يجب مكافحة الفقر.

١٠

إنّ الإمام أخو الفقراء وأبو البؤساء وأمل المحرومين والمعذّبين في الأرض ، وقد جهد على إسعادهم وإشاعة الرفاهية والسعة بينهم ، ولكنّ القوى الباغية التي يمثّلها الأمويّون قد خاصموه وحاربوه وصدّوه عن سياسته وأهدافه ، ولو أنّ الامور استقامت له لرأى الناس من صنوف العدل في ميادين الحكم والإدارة ما لم يروه في جميع فترات التاريخ.

( ٤ )

إنّ هذا الإمام الملهم العظيم أوّل مظلوم في دنيا الإسلام ، فقد طافت به المحن والأزمات يتبع بعضها بعضا بعد وفاة أخيه وابن عمّه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وراحت القوى الحاقدة عليه تهتف بقوى محمومة : « لا تجتمع النبوّة والخلافة في بيت واحد ... ».

واقصي الإمام عن الخلافة وقيادة الامّة ، وقبع في أرباض بيته يسامر الهموم ويبارح الأحزان ويصعّد آهات آلامه ، فقد عامله القوم كمواطن عادي ، والغيت في حقّه جميع وصايا الرسول.

ولمّا آلت إليه الخلافة بعد مقتل عثمان عميد الاسرة الأموية قامت قيامة القرشيّين وورمت آنافهم ، فقد خافوا على مصالحهم وعلى امتيازاتهم وما نهبوه من الثراء العريض في أيام حكومة عثمان ، فجنّدوا جميع ما يملكونه من طاقات مادية وسياسية للاطاحة بحكومته. لقد أبغضوه ونقموا عليه لأنّه لم يتجاوب مع مصالحهم ، لقد أخلص للحقّ وجهد في إقامة العدل ، وتبنّى قضايا المحرومين والبائسين ، وآثر رضا الله تعالى على كلّ شيء.

إنّ القوى الحاقدة على الإمام كانت على يقين لا يخامره شكّ أنّ الإمام لا يقيم أي وزن لمصالحهم ورغباتهم التي هي أبعد ما تكون عن منهج الإسلام ومصلحة المسلمين ، فقد صحبوه طفلا وشابا وكهلا ، وعرفوا شدّة وطأته وتنمّره في ذات الله تعالى ، وشاهدوا ضرباته القاصمة في فجر الدعوة الإسلامية حينما حصد رءوس

١١

أعلامهم ، وما أشاعه في بيوتهم من الثكل والحزن والحداد. فإذا هم خصومه وأعداؤه قبل أن يكون خليفة ، وبعد أن صار حاكما وخليفة عليهم.

( ٥ )

إنّ الأحداث الجسام التي ألمّت بالإمام عليه‌السلام بعد وفاة أخيه الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجب أن تدرس بعمق وشمول وينظر في محتوياتها وأبعادها حسب الدراسات العلمية البعيدة عن الأهواء والعواطف ، فقد تركت تلك الأحداث بصماتها على مجريات الأحداث في العالم الإسلامي وأغرقته بالمحن والخطوب.

من المؤسف أنّ التاريخ الإسلامي في عصوره الاولى لم يكتب له أن يدرس دراسة واعية مستوعبة ، بعيدة عن التيارات المذهبية ، وإنّ من الحقّ أن ينظر إلى تلك الحقبة الخاصّة من الزمن التي أعقبت وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فتدرس دراسة ملمّة بشئونها وملابساتها ، فقد احيطت بالقيود والأغلال وظلّت قابعة بالتعتيم والغموض والإبهام.

إنّ كلّ شيء في عصر النهضة الفكرية خاضع للدراسة العلمية ، فقد خضع الفضاء والمجرّات للدراسة سوى التاريخ الإسلامي الذي ظلّ مكبّلا بقيود الطائفية ورواسب التقاليد الموروثة ، وابتعد عن التحقيق والتدقيق.

( ٦ )

إنّ من أهمّ الأحداث التي جرت في العصر الإسلامي الأوّل مؤتمر السقيفة والشورى ، فلم يقرّر فيهما مصير الامّة الإسلامية وقضاياها المصيرية ، فقد قدّمت فيهما المصالح الشخصية والرغبات الخاصّة واستهدفت فيها إقصاء الإمام عن الحكم وإبعاده عن كلّ ما يتعلّق بالدولة الإسلامية ، وما يرتبط بشئونها السياسية والعسكرية ... وقد تمّ ذلك بوضوح فقد عزل الإمام وابعد ، وحرمت الامّة من مواهبه وعبقرياته ، وما أراده لها من

١٢

التطوّر والتقدّم والسيادة العامّة على جميع امم العالم وشعوب الأرض.

( ٧ )

ومني العالم الإسلامي بأحداث رهيبة من جرّاء إقصاء الإمام عليه‌السلام عن قيادة الامّة ، كان من أفجعها محنة وأقساها بلاء أن آلت الخلافة الإسلامية التي هي ظلّ الله تعالى في الأرض إلى بني اميّة الذين هم من ألدّ أعداء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن أكثرهم حقدا عليه ومن أشدّ الناقمين على قيمه ومبادئه ، فأنزلوا الضربات القاصمة على آله الذين هم وديعته وخزنة علومه ، وطاردوا شيعتهم ، وأشاعوا المنكر والفساد في الأرض.

وبعد أن طويت حكومة الأمويّين واستولى العباسيّون على الحكم نشروا الجور والظلم ، وسخّروا اقتصاد الامّة صوب شهواتهم ولياليهم الحمراء ، وصبّوا جام غضبهم على السادة العلويّين دعاة الاصلاح الاجتماعي ، وعلى شيعتهم بصورة أكثر بشاعة ، وأقسى عنفا ممّا اقترفه الأمويّون تجاههم.

وعلى أي حال فإنّ جميع ما عاناه المسلمون من الكوارث والأزمات أيام الحكم الأموي والعباسي كان ناجما ـ من دون شكّ ـ من مؤتمر السقيفة والشورى ، وسندلل على ذلك في بحوث هذا الكتاب.

( ٨ )

أمّا الإمام عليه‌السلام فهو من مغارس النبوّة ، ومن مشارق أضوائها ، إنّه من الشجرة المباركة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء ، تؤتي اكلها كلّ حين بإذن ربّها.

إنّ تاريخ الإمام يرتبط ارتباطا وثيقا بسيرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو جزء لا يتجزّأ من سيرته ونضاله ، فهو المثل الأعلى له ، والقوّة الضاربة التي وقفت إلى جانبه أيام محنة الإسلام وغربته ، فقد جاهد معه كأعظم ما يكون الجهاد حتى قام الإسلام على سوقه

١٣

عبل الذراع ينشر الوعي ، ويفتح آفاق الفكر ويضيء جوانب الحياة ويدمّر الجهل ، ويحطّم الشرك.

( ٩ )

واستوعبت شخصية هذا الإمام الملهم العظيم أفكار العلماء وروّاد الفكر من مسلمين وغيرهم في جميع الأعصار والأمصار ، فقد أذهلهم ما أثر عنه من العلوم والمعارف التي لم يعرفها الشرق العربي وغيره ، وتحدّثوا ـ بإعجاب ـ عن روعة قضائه ، وسموّ بلاغته ، وإعجاز فصاحته وما خلّفه من ثروات تعدّ من مناجم الأدب وذخائر الفكر والبيان ، يقول ابن أبي الحديد : « ما أقول في رجل تعزى إليه كلّ فضيلة ، وتنتهي إليه كلّ فرقة ، وتتجاذبه كلّ طائفة ، فهو رئيس الفضائل وينبوعها ، وسابق مضمارها ، ومجلّي حلبتها ».

وقد تناول العلماء والادباء البحث عن شخصيّته ، وكتبوا عشرات الكتب عن سيرته ، ومئات المقالات عن حياته ومآثره ، ومن المؤكّد أنّهم لم يلمّوا بجميع مناحي شخصيّته وإنمّا ألقوا الأضواء عليها.

إنّ معالم شخصية الإمام وما خلّفه من الثروات الفكرية والعلمية قد حفل بها الكثير من المخطوطات العربية التي ضمّتها خزائن المخطوطات في مكتبات العالم.

وعلى أي حال فإنّي على يقين لا يخامرني شكّ أنّه لا يستطيع أي عالم مهما بذل من جهد شاق أن يلمّ بشخصية هذا العملاق العظيم ويحيط بمكوّناته النفسية والعلمية فإنّ الإحاطة بذلك أمر بعيد المنال.

( ١٠ )

لا أعتقد أنّ شخصية في التاريخ الإنساني اختلفت فيها آراء الناس كشخصية

١٤

الإمام عليه‌السلام ، فقد تباينت فيها آراء محبّيه ومبغضيه واختلفوا فيه كأشدّ ما يكون الاختلاف ، فقد غالى فيه بعض محبّيه غلوّا فاحشا ، وأسرفوا إسرافا مقيتا ، فزعموا أنّه المدبّر لهذا الكون والموجد للحياة دفعهم ـ فيما أحسب ـ إلى هذا الغلوّ الفاحش ما رأوه من سموّ ذاته وسعة علومه وشجاعته النادرة وبسالته في الحروب واندفاعه نحو الحقّ ، فاعتقدوا جازمين بإلهيّته.

وأفرط آخرون في بغضه وكراهته ، فذهبوا إلى كفره ومروقه من الدين لأنّ الإمام قد وترهم وأباد آباءهم في سبيل الإسلام ، وهؤلاء هم النواصب ... وتبعهم الخوارج في بغض الإمام وهم الذين أرغموه على قبول التحكيم حينما أحرزت جيوشه النصر الحاسم على معاوية وصار في متناول أيديهم ، فرفع أصحابه المصاحف ففتنوا بها ، ودعوه إلى تحكيمها ، فيما شجر بينه وبين معاوية من خلاف ، وعرّفهم الإمام أنّهم إنّما رفعوا المصاحف غيلة ومكرا ، وأنّهم لا يؤمنون بالقرآن ولا يدينون بأحكامه فلم يستجيبوا له ، وشهروا سيوفهم ورماحهم في وجهه ، وأرغموه على التحكيم ، ولمّا استبان لهم ضلال ما ذهبوا إليه حكموا بكفره لأنّه استجاب لهم أوّلا ، وقد امتحن الإمام عليه‌السلام بهم كأشدّ ما يكون الامتحان ، فقد جرّعوه نغب التهمام ـ على حدّ تعبيره ـ ، ومنذ ذلك الوقت أيقن بافول دولة الحقّ واستعلاء كلمة الباطل لأنّه لم تكن له قوّة يركن إليها. وبقي في أرباض الكوفة يصعّد آهاته وأحزانه حتى وافته المنيّة على يد مجرم باغ أثيم من الخوارج.

وعلى أي حال فالغلاة والنواصب والخوارج خارجون عن هدي الإسلام ومارقون من الدين ولا نصيب لهم من هدي القرآن.

( ١١ )

وليس من الوفاء ، ولا من الانصاف في شيء أن لا اشيد بإجلال وتعظيم ما أسداه عليّ من الطاف سماحة المغفور له حجّة الإسلام والمسلمين أخي الشيخ هادي شريف

١٥

القرشي نضّر الله مثواه ، فقد تتابعت عليّ أياديه منذ فجر صباي حتى بلغت سن الشيخوخة ، وواساني في السرّاء والضرّاء ، ولم يبق أي لون من ألوان البرّ والإحسان إلاّ تكرّم به عليّ ، ففي ذرى عطفه واصلت مسيرتي في الدراسة والتأليف ، وإنّي أتضرّع إلى الله تعالى أن يجازيه عنّي خير ما يجازي عباده الصالحين ، وأن يجزل له المزيد من الرحمة والغفران.

ومن الحقّ عليّ أن أذكر بكل خير سماحة استاذنا المعظّم حجّة الإسلام والمسلمين الشيخ حسين الخليفة على ألطافه المتواصلة وتشجيعه لي في خدمة أهل البيت عليهم‌السلام ، شكر الله مساعيه وأعزّ به الدين.

كما أنّ من الواجب أن اشيد بألطاف أخي في الله سماحة حجّة الإسلام والمسلمين سيّدنا المعظّم السيّد الجواد الوداعي دامت بركاته ، فقد كان له الفضل الوافر على مكتبة الإمام الحسن عليه‌السلام ، فقد أمدّها بالكثير من شئونها ، وإنّي أسأل من الله تعالى أن يجزل له المزيد من الأجر ويحفظه ذخرا لأهل العلم والتوفيق بيد الله تعالى يهبه للصالحين من عباده.

إنّه ولي التوفيق

النّجف الأشرف

باقر شريف القريشى

١٨ / محرّم الحرام / ١٤١٨ هـ

١٦

النّسب الوضّاح

١٧
١٨

ليس في دنيا الأنساب نسب وضّاح التقت به جميع عناصر الشرف والكرامة كنسب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فهو من صميم الاسرة الهاشمية التي عرفت بالنبل والشهامة وقراية الضيف ونجدة الضعيف وحماية الجار وغير ذلك من الصفات الكريمة التي جعلتها في طليعة الاسر العربية سموّا وإشراقا وشرفا ، ونشير ـ بإيجاز ـ إلى بعض مآثرها الرفيعة وإلى كوكبة من أعمدتها وساداتها الذين سجّلوا الفخر والاعتزاز لا لاسرتهم فحسب وإنّما لجميع أبناء العالم العربي.

المآثر الكريمة :

نقل المؤرّخون بعض المآثر الكريمة التي تميّزت بها الاسرة الهاشمية منذ فجر تأريخها ، وقد شاعت مآثرهم في مجتمع بعيد كلّ البعد عن الفضائل النفسية التي يسمو بها الإنسان ، فقد كانت السمت البارز لأخلاق قبائل مكّة الغلظة والتكبّر والأنانية والقسوة والحسد ووأد البنات وعبادة الأوثان والأصنام ، وغير ذلك من صنوف الانحطاط.

ومن المؤكّد أنّه لم تكن في مكّة اسرة عرفت بالنبل والشهامة سوى الاسرة الهاشمية ، ومن بين مآثرها :

١ ـ عبادة الله :

وكانت عبادة الأصنام هي السائدة في قبائل مكّة ، فقد كانت أصنامهم معلّقة

١٩

على ظهر الكعبة ، فلكلّ قبيلة صنم يعبدونه من دون الله سوى الاسرة الهاشمية فانّها وحدها تعبد الله وحده ، وتدين بدين إبراهيم شيخ الأنبياء. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :

« والله! ما عبد أبي ولا جدّي عبد المطّلب ولا عبد مناف ولا هاشم صنما ، وإنّما كانوا يعبدون الله ، ويصلّون إلى البيت على دين إبراهيم متمسّكين به ... » (١).

وتلك كرامة للاسرة الهاشمية دلّت على نضوجهم الفكري وإيمانهم العميق بالله ونبذهم التامّ لخرافات الجاهلية وأوثانها ، فقد سخروا من الأصنام والأوثان ، واعتنقوا ملّة جدّهم إبراهيم عليه‌السلام الذي حارب الأوثان وأعلن الإيمان بالله.

٢ ـ حلف الفضول :

وكان أهمّ حدث اجتماعي ظهر في مكّة هو حلف الفضول الذي كان من أبرز بنوده القيام بنجدة المظلوم والأخذ بحقّه ، سواء أكان من قريش أم من غيرهم ، وكان هذا الحلف يتّفق مع طباع الهاشميّين الذين يمثّلون المروءة والنجدة والشهامة والنبل ، وقد

شهده الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واعتزّ به ، وقال : شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما احبّ أنّ لي به حمر النعم ، ولو ادعى به في الإسلام لأجبت (٢).

وتخلّف الأمويّون عن هذا الحلف الذي يتجافى مع ميولهم التي طبعت عليها الاثرة والأنانية ، وهم على نقيض تامّ من طباع السادة الهاشميّين الذين تبنّوا هذا الحلف بصورة إيجابية. ومن الجدير بالذكر أنّه حدثت مشادّة بين الإمام الحسين عليه‌السلام وبين الوليد بن عتبة حاكم المدينة ، فغضب الإمام عليه‌السلام ونادى بحلف

__________________

(١) إكمال الدين ـ الصدوق : ١٠٤.

(٢) السيرة النبوية ـ ابن هشام ١ : ١٣٤.

٢٠