تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول

تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النزول

المؤلف:


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٠٧

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

المقدّمة

إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (١٠٢) [سورة آل عمران ، الآية : ١٠٢] (يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (١) [سورة النساء ، الآية : ١] (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً) (٧٠) (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً) (٧١) [سورة الأحزاب ، الآيتان : ٧٠ ـ ٧١].

أمّا بعد : «فإنّ خير الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وشرّ الأمور محدثاتها ، وكلّ محدثة بدعة ، وكلّ بدعة ضلالة. [نسأل الله تعالى أن يحيينا وجميع المسلمين على كتابه وسنّة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم].

إنّ القرآن العظيم هو كلام الله تبارك وتعالى ووحيه إلى رسوله محمّد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو دينه وهديه لعباده ، وهو حجّته على خلقه ، وهو برهانه على وحدانيّة ربوبيّته وألوهيّته ، وهو معجزته التي تحدّى بها جميع خلقه أن يأتوا بمثله ـ ولو بسورة مثله ـ فما استطاعوا ولن يستطيعوا!!!.

لقد أنزل الله تبارك وتعالى القرآن العظيم منجّما مفرّقا على مدى ثلاث وعشرين سنة ـ وهي فترة الرّسالة المحمّديّة ـ فكانت آياته الكريمة تنزّل إمّا لسبب عامّ ؛ وهو هداية النّاس إلى الحقّ والصّراط المستقيم ، في العقيدة والشّريعة والأحكام والأخلاق

٥

والآداب والسّلوك ، وإمّا لسبب خاصّ ؛ وذلك لمعالجة الوقائع والحوادث والمستجدّات في عهد النّبوّة ـ وهذا التّنزيل وإن كان لسبب خاصّ ، فهو مرتبط بالهداية العامّة ، فإنّ العبرة لعموم اللّفظ لا لخصوص السّبب ـ فإنّ تنزيله لسبب دليل واضح على كون «القرآن العظيم» نزل لهداية النّاس وإرشادهم ، ولإصلاح حياتهم وتقويم شئونهم. ولهذا لم يكن اهتمام الصّحابة لمعرفة أسباب نزول آيات القرآن الكريم غريبا ؛ فإنّهم قد عايشوا ظروف تلك الأسباب ، ولهذا كانوا أعلم العباد بكتاب الله تعالى.

قال الصّحابيّ الجليل عبد الله بن مسعود : «والّذي لا إله غيره ما نزلت آية من كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيمن نزلت ، وأين نزلت ، ولو أعلم مكان أحد بكتاب الله منّي تناله المطايا لأتيته» (١). وقال الصّحابي الجليل حبر الأمّة عبد الله بن عباس في بيان أهميّة «علم أسباب نزول القرآن» : «إنّا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيما نزل ، وإنّه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ، ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ، فإذا اختلفوا اقتتلوا» (٢). وقال ابن دقيق العيد : «بيان سبب النّزول طريق قويّ على فهم القرآن» (٣). وقال النّيسابوريّ : «لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصّتها وبيان نزولها» (٤).

ولهذا اعتنى العلماء بعلم أسباب النّزول عناية فائقة في التّفسير عموما ، وفي التّصنيف والتّدوين في أسباب النّزول خصوصا ، فأفرده بالتّأليف الإمام «عليّ بن المدينيّ» [ت سنة ٣٢٤ ه‍]. والإمام عبد الرحمن بن محمد ـ المعروف بمطرف ـ الأندلسي [ت سنة ٤٠٢ ه‍] فصنّف كتاب : «القصص والأساليب التي نزل من أجلها القرآن». والإمام أبو الحسن عليّ بن أحمد الواحدي النّيسابوري [ت سنة ٤٦٨ ه‍] فقد صنّف كتابه المشهور «أسباب النزول». والإمام ابن الجوزي [ت سنة ٥٩٧ ه‍] فصنّف

__________________

(١) الإتقان في علوم القرآن : للحافظ السيوطي ، في أوّل النوع التاسع في معرفة أسباب النزول ، ج ١ / ٢٩.

(٢) الإتقان للسيوطي ، ج ٢ / ١٨٧.

(٣) الموافقات للشّاطبي ، ج ٣ / ٣٤٨.

(٤) الإتقان ، ج ١ / ١٩.

٦

كتابه «أسباب نزول القرآن». والإمام ابن حجر العسقلاني [ت سنة ٨٥٢ ه‍] فصنّف كتابه «العجاب في بيان الأسباب». والإمام السيوطي [ت سنة ٩١١ ه‍] فصنّف كتابه «لباب النّقول في أسباب النّزول».

ولا يخلو تفسير من تفاسير الأئمة من ذكر أسباب النّزول في بداية تفسيرهم للآيات القرآنيّة التي نزلت على سبب ، وجعلوا معرفة أسباب النّزول شرطا من شروط صحّة التّفسير.

ولا تخفى فوائد معرفة أسباب النّزول ، وهي كثيرة منها : معرفة حكمة التّشريع. ودفع اللّبس والإشكال عن إدراك مقاصد الآيات ؛ فإن معرفة أسباب النّزول يعين على إدراك المراد من الآيات. ومعرفة أسباب النّزول يعين على معرفة مراتب العموم والخصوص ، مع ملاحظة أنّ العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السّبب.

ولهذه الاعتبارات الهامّة لعلم أسباب النّزول رأيت أن أقوم مستعينا بالله تبارك وتعالى بجمع أشهر روايات هذا العلم الهامّ من أصول كتب الرّواية والتّفسير ومن كتب أسباب النّزول ، وتدوينها في هذا الكتاب الذي أسميته ب «تسهيل الوصول إلى معرفة أسباب النّزول ، الجامع بين روايات الطّبريّ والنّيسابوريّ وابن الجوزيّ والقرطبيّ وابن كثير والسّيوطي والشّوكاني» بالعزو إلى كتبهم ومصنّفاتهم ليسهل الرّجوع إليها ، وهذه فائدة جليلة ، حيث ارتبط سبب النّزول مع التّفسير بجميع خصائصه ومعطياته ، وكانت كتب «أسباب النّزول» مفصولة عن كتب التّفسير ، وفي هذا الكتاب المبارك تحقّقت هذه الفائدة الجليلة ، فلله الحمد والمنّة على جميل كرمه وإحسانه وتوفيقه ، اللهمّ تقبّل منّا صالح أعمالنا واغفر لنا وارحمنا ، والحمد لله ربّ العالمين.

خادم العلم الشريف

خالد بن عبد الرحمن العك

دمشق في ٢٤ ذي القعدة سنة ١٤١٧ ه‍.

غفر الله تعالى له ولوالديه ولجميع المسلمين

٧

أهمية علم أسباب النزول

قال الإمام ابن دقيق العيد :

«بيان سبب النّزول طريق قويّ في فهم معاني القرآن».

وقال شيخ الإسلام تقيّ الدّين :

«معرفة سبب النّزول يعين على فهم الآية ؛ فإنّ العلم بالسّبب يورث العلم بالمسبّب».

وقال الحافظ السّيوطي في معرض ذكره لفوائد معرفة أسباب النزول :

«منها : معرفة الحكمة الباعثة على تشريع الحكم ..

ومنها : الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال ..» (١).

معرفة أسباب النزول ومكانته في التفسير (٢)

أسباب النزول هو علم يبحث فيه عن أسباب نزول آية أو سورة ، ووقتها ومكانها وغير ذلك ، فهو فرع من فروع علم التفسير ، والغرض منه ضبط تلك الأمور ، وفائدته معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم ، وتخصيص الحكم به ، عند من يرى العبرة بخصوص السبب ، وإن اللفظ قد يكون عاما ويقوم الدليل على تخصيصه ، فإذا عرف السبب قصر التخصيص على ما عداه ، ومن فوائده فهم معاني القرآن واستنباط الأحكام ، إذ ربما لا يمكن معرفة تفسير الآية بدون الوقوف على سبب قصتها وبيان نزولها ، فمعرفة أسباب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن ، فهو يعين على فهم القرآن الكريم ، فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب.

__________________

(١) الإتقان ، ج ١ / ١٩.

(٢) أصول التفسير وقواعده للمؤلّف ، ص ٩٩ ـ ١٠٥ ، ط دار النفائس ، بيروت.

٨

ثم ليس المفسر بغنى عن معرفة أسباب النزول ، الذي هو فرع من فروع علم التفسير ، والذي فيه بيان مجمل وإيضاح خفي وموجز ، ومنه ما يكون وحده تفسيرا ، ففي الموطأ عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه ، أنه قال : «قلت لعائشة أم المؤمنين وأنا يومئذ حديث السن : أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما) [سورة البقرة ، الآية : ١٥٨] ، فما على الرجل شيء ألّا يطوف بهما؟ قالت عائشة : كلا لو كان كما تقول لكانت : «فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما» ؛ إنما نزلت هذه الآية في الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة ، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن ذلك فأنزل الله تعالى : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ) الآية.

وإن أسباب النزول التي صحت أسانيدها وجدت خمسة أقسام (١) :

الأول : قسم هو المقصود من الآية يتوقف فهم المراد منهما على علمه ؛ فلا بدّ للمفسر من البحث عنه ، وهذا منه تفسير مبهمات القرآن مثل قوله تعالى : («قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها) [سورة المجادلة ، الآية : ١] ، ومنه ما اقتضاه حال خاص نحو : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا) [سورة البقرة ، الآية : ١٠٤].

الثاني : قسم هو حوادث تسببت عليها تشريعات أحكام ، وصور تلك الحوادث لا تبين مجملا ، ولا تخالف مدلول الآية بوجه تخصيص أو تعميم أو تقييد ، ولكنها إذا ذكرت أمثالها وجدت مساوية لمدلولات الآيات النازلة عند حدوثها ؛ مثل حديث عويمر العجلاني الذي نزلت فيه آية اللعان (٢) ، ومثل حديث كعب بن عجرة التي نزلت فيه آية : (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ) الآية .. [سورة البقرة ، الآية : ١٩٦] ، فقد قال كعب : هي لي خاصة ولكم عامة. وهذا القسم لا يفيد البحث فيه إلا زيادة في فهم معنى الآية ، وتمثيلا لحكمها ، ولا يخشى توهم تخصيص الحكم بتلك الحادثة ، إذ قد اتفق العلماء ، أو كادوا ؛ على أن سبب النزول في مثل هذا لا يخصص ، واتفقوا على أن أصل التشريع أن لا يكون خاصا.

__________________

(١) مقدّمة التحرير والتّنوير ، لابن عاشور ، ص ٤١ ـ ٤٥ ، بتصرّف.

(٢) والأصح أنّها نزلت في هلال بن أميّة. انظر سبب نزولها في هذا الكتاب.

٩

الثالث : قسم هو حوادث تكثر أمثالها ولا تختص بشخص واحد ، فتنزل الآية لإعلانها وبيان أحكامها ، فكثيرا ما تجد المفسرين وغيرهم يقولون نزلت في كذا وكذا ، وهم يريدون أن من الأحوال التي تشير إليها تلك الآية تلك الحالة الخاصة ، فكأنهم يريدون التمثيل. ففي كتاب الأيمان من صحيح البخاري ، أنّ عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من حلف على يمين صبر (١) يقتطع بها مال امرئ لقي الله وهو عليه غضبان» ، فأنزل الله تصديق ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية .. [سورة آل عمران ، الآية : ٧٧] ، فدخل الأشعث بن قيس فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ قالوا : كذا وكذا ، قال : فيّ أنزلت ؛ كانت لي بئر في أرض ابن عم لي ... الخ. فابن مسعود جعل الآية عامة ؛ لأنه جعلها تصديقا للحديث العام ، والأشعث بن قيس ظنها خاصة به ، إذ قال : فيّ أنزلت ، بصيغة الحصر. وهذا القسم قد أكثر من ذكره أهل القصص وبعض المفسرين ، مع أن القاعدة عند الأصوليين في ذلك ؛ أن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ثم لا فائدة في ذكره على أن ذكره قد يوهم القاصرين قصر الآية على تلك الحادثة ؛ لعدم ظهور العموم من ألفاظ تلك الآيات.

الرابع : قسم هو حوادث حدثت ، وفي القرآن آيات تناسب معانيها ، سابقة أو لاحقة ، فيقع في عبارات بعض السلف ما يوهم أن تلك الحوادث هي المقصود من تلك الآيات ، مع أن المراد أنها مما يدخل في معنى الآية ، ويدل هذا النوع على وجود اختلاف كثير بين الصحابة في كثير من أسباب النزول ، كما هو مبسوط في المسألة الخامسة من بحث أسباب النزول من الإتقان للسيوطي ، فارجع إليه ففيه أمثلة كثيرة.

وقد ذكر السيوطي في الإتقان عن الزركشي : قد عرف من عادة الصحابة والتابعين أن أحدهم إذا قال : نزلت هذه الآية في كذا ؛ فإنه يريد بذلك أنها تتضمن هذا الحكم لا أن هذا كان السبب في نزولها.

الخامس : قسم يبيّن مجملات ويدفع متشابهات ، مثل قوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٤٤) [سورة المائدة ، الآية : ٤٤] ، فإذا ظن أحد أن

__________________

(١) يمين صبر : أي ألزم بها وحبس عليها ، وكانت لازمة لصاحبها من جهة الحكم.

١٠

ـ من ـ هنا للشرط أشكل عليه كيف يكون الجور في الحكم كفرا ، ثم إذا علم أن سبب النزول هم اليهود ، علم أن ـ من ـ موصولة ، وعلم أن الذين تركوا الحكم بالإنجيل لا يتعجب منهم أن يكفروا بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وكذلك حديث عبد الله بن مسعود ، قال : لما نزل قوله تعالى : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ) [سورة الأنعام ، الآية : ٨٢] ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم ، ظنوا أن الظلم هو المعصية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه ليس بذلك ألا تسمع قول لقمان لابنه : (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) (١٣) [سورة لقمان ، الآية : ١٣] (١).

هذا وإن القرآن كتاب جاء لهداية الأمم ، والتشريع لها ، وهذا الهدي قد يكون واردا قبل الحاجة إليه ، وقد يكون نازلا عند الحاجة ، وقد يكون مخاطبا به قوما على وجه الزجر أو الثناء أو غيرهما ، وقد يكون مخاطبا له جميع من يصلح لخطابه. وهو في جميع ذلك قد جاء بكليات تشريعية وتهذيبية ؛ والحكمة في ذلك أن يكون وعي الأمة لدينها سهلا عليها ، وليمكن تواتر الدين ، وليكون لعلماء الأمة مزية الاستنباط ، وإلا فإن الله سبحانه قادر أن يجعل القرآن أضعافا لما أنزل ، وأن يطيل عمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم للتشريع ، أكثر مما أطال عمر إبراهيم وموسى ، ولذلك قال الله عزوجل : (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [سورة المائدة ، الآية : ٣] ، فكما لا يجوز حمل كلماته على خصوصيات جزئية ؛ لأن ذلك يبطل مراد الله تعالى ، كذلك لا يجوز تعميم ما قصد منه الخصوص ، ولا إطلاق ما قصد منه التقييد ؛ لأن ذلك قد يفضي إلى التخليط في المراد ، أو إلى إبطاله من أصله.

وثمة فائدة عظيمة لأسباب النزول ، وهي أن في نزول القرآن عند حدوث حوادث ، دلالة على إعجازه من ناحية الارتجال ، وهي إحدى طريقتين لبلغاء العرب في أقوالهم ، فنزوله على حوادث يقطع دعوى الذين ادعوا أنّه أساطير الأولين.

ويضيف الإمام الشاطبي في إيضاح مزايا معرفة أسباب التنزيل فيقول (٢) :

«معرفة أسباب التنزيل لازمة لمن أراد علم القرآن. والدليل على ذلك أمران :

__________________

(١) صحيح البخاري برقم ٦٩١٨ ، وصحيح مسلم برقم ١٢٤.

(٢) الإمام الشاطبي ، كتابه : الموافقات في أصول الشريعة ، ج ٣ / ٣٤٧ ـ ٣٥٠.

١١

أحدهما : أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن ، فضلا عن معرفة مقاصد كلام العرب ؛ إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال : حال الخطاب من جهة نفس الخطاب ، أو المخاطب أو المخاطب ، أو الجميع ، إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين ، وبحسب مخاطبين ، وبحسب غير ذلك ، كالاستفهام : لفظه واحد ويدخله معان أخرى من تقرير وتوبيخ وغير ذلك ، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد والتعجيز وأشباهها. ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة ، وعمدتها مقتضيات الأصول ، وليس كل حال ينقل ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول ، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة ، فات فهم الكلام جملة ، أو فهم شيء منه ، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط ، فهي من المهمات في فهم الكتاب بلا بدّ ، ومعنى معرفة السبب : هو معرفة مقتضى الحال.

ثانيهما : إنّ الجهل بأسباب النزول موقع في الشبه والإشكالات ، ومورد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال ، حتى يقع الخلاف ، وذلك مظنة وقوع النزاع. ويوضح هذا المعنى ما روى أبو عبيد عن إبراهيم التيمي ، قال : «خلا عمر ذات يوم ، فجعل يحدث نفسه : كيف تختلف هذه الأمة ونبيّها واحد وقبلتها واحدة؟ فقال ابن عباس : يا أمير المؤمنين! إنّا أنزل علينا القرآن فقرأناه ، وعلمنا فيم نزل ، وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرءون القرآن ولا يدرون فيم نزل ، فيكون لهم فيه رأي ، فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا فإذا اختلفوا اقتتلوا. قال : فزجره عمر وانتهره ، فانصرف ابن عباس ، ونظر عمر فيما قال ، فعرفه ، فأرسل إليه ، فقال : أعد عليّ ما قلت! فأعاد عليه ، فعرف عمر قوله وأعجبه. وما قاله صحيح في الاعتبار ، ويتبيّن بما هو أقرب ؛ فقد روى ابن وهب عن بكير : أن سأله نافع : كيف كان رأي ابن عمر في «الحرورية»؟ (١) قال : يراهم شرار خلق الله ، إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار فجعلوها على المؤمنين. فهذا .. معنى الرأي الذي نبه ابن عباس عليه ، وهو الناشئ عن الجهل بالمعنى الذي نزل فيه القرآن.

__________________

(١) الحرورية : هم من الخوارج الذين خرجوا على سيدنا علي ، فكفروا المسلمين واستحلوا دماءهم وأعراضهم وأموالهم ، فقاتلهم سيدنا علي قتالا عنيفا ، نزلوا بحروراء ، وهو موضع بنواحي الكوفة ، فقيل لهم «الحرورية» وكان عددهم ثمانية آلاف ، كانوا يبالغون بالعبادات ، ويستهينون بتكفير المسلمين ، وقد افترق الخوارج إلى فرق شتى ، بلغت عشرين فرقة ، وكل فرقة تكفر غيرها. انظر الفرق بين الفرق للبغدادي ، والملل والنحل للشهرستاني.

١٢

وروي أن مروان أرسل بوابه إلى ابن عباس ، وقال : قل له «لئن كان كل امرئ فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذّبا ، لنعذّبنّ أجمعون»؟! فقال ابن عباس : ما لكم ولهذه الآية؟ إنما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يهود ، فسألهم عن شيء فكتموه إيّاه ، وأخبروه بغيره ، فأروه أن قد استحمدوا إليه بما أخبروه عنه فيما سألهم ، وفرحوا بما أوتوا من كتمانهم ، ثم قرأ : (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) ... إلى قوله : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) [سورة آل عمران ، الآيتان : ١٨٧ ـ ١٨٨] ، فهذا السبب بيّن أن المقصود من الآية غير ما ظهر لمروان.

ثم يذكر الشاطبي قصة عمر بن الخطاب مع قدامة بين مظعون حين شرب الخمر ، وهو يتأوّل الآية الكريمة : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا) [سورة المائدة ، الآية : ٩٣] ، حيث قال : فأنا من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا ، شهدت مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدرا وأحدا والخندق والمشاهد ، فقال عمر : ألا تردّون عليه قوله؟ فقال ابن عباس : إن هؤلاء الآيات أنزلن عذرا للماضين وحجة على الباقين ، فعذر الماضين بأنهم لقوا الله قبل أن تحرم عليهم الخمر ، وحجة على الباقين ، لأن الله يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية .. [سورة المائدة ، الآية : ٩٠] ، ثم قرأ إلى آخر الآية .. فإن كان من الذين آمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ، ثم اتقوا وأحسنوا ، فإن الله قد نهى أن يشرب الخمر ، قال عمر : صدقت.

ويذكر الشاطبي خبرا آخر عن جماعة من أهل الشام مع عمر أيضا في تأويلهم الآية : (لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ) ، لشربهم الخمر ، فدعاهم إليه ، فلما أن قدموا عليه استشار فيهم الصحابة ، فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نرى أنّهم قد كذبوا على الله وشرّعوا في دينه ما لم يأذن به ، إلى آخر الحديث.

ثم قال الشاطبي : «ففي الحديثين بيان أنّ الغفلة عن أسباب النزول تؤدي إلى الخروج عن المقصود بالآيات» (١).

__________________

(١) والذي يؤكد ما ذكره الإمام الشاطبي هنا ما ذكره الإمام الرازي في تفسيره عن سبب نزول قول الله تعالى : (فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) [سورة : البقرة ، الآية : ٢٠٠] ، ونحن ـ

١٣

ثم قال : «وهذا شأن أسباب النزول في التعريف بمعاني المنزّل ، بحيث لو فقد ذكر السبب لم يعرف من المنزل معناه على الخصوص ، دون تطرق الاحتمالات ، وتوجه الإشكالات. وقد قال عليه الصلاة والسلام : «خذوا القرآن من أربعة : عبد الله بن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة» (١).

وقد قال ابن مسعود في خطبة خطبها : «والله لقد علم أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله ... والذي لا إله غيره ما أنزلت سورة من كتاب الله إلّا أنا أعلم أين أنزلت! ولا أنزلت آية من كتاب الله إلّا وأنا أعلم فيم أنزلت! ولو أعلم أحدا أعلم بكتاب الله منّي تبلغه الإبل لركبت إليه».

وهذا يشير إلى أن علم أسباب النزول من العلوم التي يكون العالم بها عالما بالقرآن الكريم وعلم تفسيره.

آية التّسمية وبيان نزولها

عن أبي رزق ، عن الضّحاك ، عن ابن عباس أنّه قال : أول ما نزل به جبريل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : يا محمد! استعذ ثم قل : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). [وفي إسناده انقطاع ، الضحاك لم يدرك ابن عباس].

وعن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا يعرف ختم السورة حتى ينزل عليه (بسم الله الرحمن الرحيم) (٢).

__________________

ـ نتساءل : ما العلاقة بين ذكر الله وذكر الآباء ، والسياق وارد في ذكر أحكام مناسك الحج : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ ..)؟ فإذا عرفنا سبب النزول تبين لنا المقصود من ذلك. قال الرازي في تفسيره ، ج ٢ / ١٨٦ : «روي عن ابن عباس : أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق ، يقفون بين مسجد منى وبين الجليل ، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ، ويتناشدون فيها الأشعار ، ويتكلمون بالمنثور من الكلام ، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه. فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لآبائهم أو أشدّ ذكرى».

(١) رواه الترمذي والحاكم عن ابن عمر بإسناد صحيح.

(٢) سنن أبي داود برقم ٧٨٨ ، وهو حديث صحيح.

١٤

وعن عبد الله ابن أبي حسين ، عن عبد الله بن مسعود ، قال : كنّا لا نعلم فصل ما بين السورتين حتى نزل (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ).

وعن عبد الله بن نافع عن أبيه ، عن ابن عمر ، قال : نزلت (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) في كلّ سورة (١).

نزول القرآن مفرّقا

قال الله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) (١٠٦) [سورة الإسراء ، الآية : ١٠٦].

أي : أنزله الله تعالى مفرّقا ، وبيّنه مفصّلا ، على تؤدة وتمهل.

قال الإمام الشعبي : فرّق الله تنزيله ، فكان بين أوّله وآخره عشرون أو نحو من عشرين سنة (٢). [والصحيح الثابت ثلاث وعشرون سنة].

قال الإمام النيسابوري :

أنزله [الله تعالى] قرآنا عظيما ، وذكرا حكيما ، وحبلا ممدودا ، وعهدا معهودا ، وظلّا عميما ، وصراطا مستقيما.

فيه معجزات باهرة ، وآيات ظاهرة ، وحجج صادقة ، ودلالات ناطقة دحض به حجج المبطلين ، ورد به كيد الكائدين ، وأيّد به الإسلام والدّين ...

وبعد هذا : فإنّ علوم القرآن غزيرة وضروبها جمّة كثيرة .. [منها علم أسباب النزول] ، فلا يحلّ القول في أسباب نزول الكتاب إلّا بالرواية والسماع ممّن شاهدوا التنزيل ووقفوا على الأسباب ، وبحثوا عن علمها وجدّوا في طلبها ، وقد ورد الشرع بالوعيد للجاهل ذي العثار في هذا العلم بالنار.

فعن سعيد بن جبير عن ابن عباس (٣) ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اتقوا الحديث

__________________

(١) أسباب النزول للنيسابوري ، ١٥ ـ ١٦ ، والدّر المنثور للسيوطي ، ج ١ / ٧.

(٢) أسباب النزول للنيسابوري ٦.

(٣) أسباب النزول للنيسابوري ، ٦ ـ ٧.

١٥

إلّا ما علمتم ؛ فإنّه من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النّار ، ومن قال في القرآن من غير علم فليتبوّأ مقعده من النّار».

والسلف الماضون رحمهم‌الله كانوا من أبعد الغاية احترازا عن القول في نزول الآية.

عن محمد بن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن آية من القرآن ، فقال : اتّق الله وقل سدادا ، ذهب الذين يعلمون فيما أنزل القرآن ، وأمّا اليوم فكل أحد يخترع شيئا ، ويختلق إفكا وكذبا ، ملقيا زمامه إلى الجهالة ، غير مفكر في الوعيد للجاهل بسبب الآية.

وذلك الذي حدا بي إلى إملاء هذا الكتاب الجامع للأسباب ، لينتهي إليه طالبوا هذا الشأن ، والمتكلمون في نزول القرآن ، فيعرفوا الصدق ويستغنوا عن التمويه والكذب ، ويجدّوا في تحفظه بعد السماع والطلب.

ولا بدّ من القول أولا في مبادئ الوحي ، وكيفيّة نزول القرآن ابتداء على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعهد جبريل إيّاه بالتنزيل ، والكشف عن تلك الأحوال ، والقول فيها على طريق الإجمال ، ثم نفرّع القول مفصّلا في سبب نزول كل آية [حسب ترتيب السور] روي لها سبب مقول ، مرويّ منقول ، والله تعالى الموفق للصواب والسداد (١).

أول ما نزل من القرآن

روى عبد الرزاق عن معمر عن ابن شهاب الزهري ، قال : أخبرني عروة ، عن عائشة أنّها قالت : أول ما بدئ به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلّا جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء ، فكان يأتي «حراء» فيتحنّث فيه ـ وهو التعبد ـ اللّيالي ذوات العدد ، ويتزوّد لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزوّد لمثلها ، حتى فجأه الحقّ وهو في غار حراء ، فجاءه الملك ، فقال : (اقْرَأْ) فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «فقلت : ما أنا بقارئ» ، قال : «فأخذني حتى بلغ منّي

__________________

(١) من مقدمة الإمام النيسابوري ٧ ـ ٨ ، الترمذي في كتاب العلم ٥ ، ولفظه : «من قال في كتاب الله برأيه فأصاب فقد أخطأ» ، وفي إسناده ضعف.

١٦

الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ منّي الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارئ ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ منّي الجهد ، فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) حتى بلغ (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥)». فرجع بها يرجف فؤاده ، حتى دخل على خديجة ، فقال : «زملوني» ، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع ، فقال : «يا خديجة! ما لي»؟! وأخبرها الخبر ، وقال : «قد خشيت عليّ» فقالت له : كلّا!؟ أبشر ، فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنّك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحقّ (١).

عن محمد بن يحيى قال (٢) : حدثنا أبو صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل عن ابن شهاب ، قال : أخبرني محمد بن عباد بن جعفر المخزومي : أنّه سمع بعض علمائهم يقول : كان أول ما أنزل الله على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) (١) (خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) (٢) (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) (٣) (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (٤) (عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) (٥) قالوا : هذا صدرها أنزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يوم حراء ، ثم أنزل آخرها بعد ذلك بما شاء الله.

وعن علي بن الحسين بن واقد ، قال : حدثني أبي ، قال : سمعت علي بن الحسين يقول : أول سورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) ، وآخر سورة نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة (المؤمنون) ، ويقال : (العنكبوت). وأول سورة نزلت بالمدينة : (وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) (١) وآخر سورة نزلت في المدينة : (بَراءَةٌ). وأول سورة علمها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بمكة : (وَالنَّجْمِ) وأشدّ آية على أهل النّار : (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) (٣٠) وأرجى آية في القرآن لأهل التوحيد : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ) [سورة النساء ، الآية : ٤٨] ، وآخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨١] ، وعاش النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعدها تسع ليال (٣).

__________________

(١) البخاري : بدء الوحي ، رقم ٣ ، ومسلم : الإيمان ، باب : بدء الوحي رقم ١٦٠.

(٢) أسباب النزول للنيسابوري ١٠.

(٣) أسباب النزول للنيسابوري ، ١٢ ـ ١٣.

١٧

آخر ما نزل من القرآن

عن شعبة ، قال : حدّثنا أبو إسحاق ، قال : سمعت البراء بن عازب يقول : آخر آية نزلت : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [سورة النساء ، الآية : ١٧٦] ، وآخر سورة أنزلت براءة (١).

وعن الضّحّاك عن ابن عباس ، قال : آخر آية نزلت : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) [سورة البقرة ، الآية : ٢٨١].

وعن أبي صالح ، عن ابن عباس ، في قوله : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) ، قال : ذكروا أنّ هذه الآية ، وآخر آية من سورة النساء ، نزلت آخر القرآن. [وهي آية الكلالة. والكلالة : هو من مات وليس له أصل أو فرع يرثه ، وقيل : هم الورثة من غير الأصول والفروع].

وعن أبي قتادة : أنّ رجلا قال : يا رسول الله! أرأيت صوم يوم الاثنين؟ قال : «فيه أنزل عليّ القرآن ، وأول شهر أنزل فيه القرآن شهر رمضان ، قال الله تعالى ذكره : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [سورة البقرة ، الآية : ١٨٥]» (٢).

__________________

(١) البخاري : التفسير / النساء ، باب : (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ ..) ، رقم ٤٣٢٩ ، وباب : (بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ ..) ، رقم ٤٣٧٧.

(٢) أسباب النزول للنيسابوري ، ١٣ ـ ١٤.

١٨

٢ ـ سورة البقرة

وهي مدنية ، عن عكرمة ، قال : أول سورة أنزلت بالمدينة سورة البقرة.

وعن مجاهد ، قال : أربع آيات من أوّل هذه السورة نزلت في المؤمنين ، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين ، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين (١).

الآية : ٦ ـ قول الله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا).

قال الضحاك : نزلت في أبي جهل ، وخمسة من أهل بيته. وقال الكلبي : يعني اليهود (٢).

الآية : ١٤ ـ وقوله تعالى : (وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا).

قال الكلبي : عن أبي صالح ، عن ابن عباس : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبيّ وأصحابه [المنافقين] ، وذلك أنّهم خرجوا ذات يوم ، فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال عبد الله بن أبيّ : انظروا كيف أردّ هؤلاء السفهاء عنكم ، فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال : مرحبا بالصدّيق سيّد بني تيم ، وشيخ الإسلام ، وثاني رسول الله في الغار ، الباذل نفسه وماله ، ثم أخذ بيد عمر ، فقال : مرحبا بسيّد بني عديّ بن كعب ، الفاروق القويّ في دين الله ، الباذل نفسه وماله لرسول الله ، ثم أخذ بيد عليّ ، فقال : مرحبا بابن عمّ رسول الله وختنه [أي : زوج ابنته] سيّد بني هاشم ما خلا رسول الله ، ثم

__________________

(١) أسباب النزول للواحدي ، ١٨ ـ ١٩ ، وقال الحافظ السيوطي في كتابه «لباب النقول في أسباب النزول» : أخرج ابن جرير عن محمد بن أبي محمد عن عكرمة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين ، أنّهما نزلتا في يهود المدينة ، وأخرج عن الربيع بن أنس قال : آيتان نزلتا في قتال الأحزاب : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ) ـ إلى قوله ـ (وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

(٢) انظر تفسير ابن كثير ج ١ / ٤٥.

١٩

١ ـ سورة الفاتحة

هي مكّيّة ، من أوائل ما نزل من القرآن.

عن مروان بن معاوية ، عن الولاء بن المسيّب ، عن الفضل بن عمر ، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال : نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش.

وممّا يقطع به على أنّها مكيّة قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ) (٨٧) [سورة الحجر ، الآية : ٨٧] يعني الفاتحة.

وعن إسماعيل بن جعفر ، قال : أخبرني العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وقرأ عليه أبيّ بن كعب أمّ القرآن فقال : «والذي نفسي بيده ما أنزل الله في التوراة ، ولا في الإنجيل ، ولا في الزبور ، ولا في القرآن مثلها ، إنّها لهي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته» (١).

وسورة «الحجر» مكية بلا خلاف ، ولم يكن الله ليمتنّ على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بإيتائه فاتحة الكتاب وهو بمكة ، ثم ينزلها بالمدينة. ولا يسعنا القول بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قام بمكة بضع عشرة سنة يصلي بلا فاتحة الكتاب ، هذا ممّا لا تقبله العقول (٢).

وسمّيت «الفاتحة» ب «أمّ القرآن» لأنّها تضمّنت معاني القرآن. وسمّيت ب «السبع المثاني» لأنها سبع آيات وتثنّى وتكرّر قراءتها في كلّ صلاة (٣).

__________________

(١) المستدرك للحاكم ، ج ٢ / ٢٥٨ ، وصححه وأقرّه الذهبي.

(٢) أسباب النزول للنيسابوري ، ١٧ ـ ١٨.

(٣) تفسير ابن كثير ، ج ١ / ٩ ـ ١٠.

٢٠