تذكرة الفقهاء - ج ٧

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

تذكرة الفقهاء - ج ٧

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث ـ قم
الطبعة: ١
ISBN: 964-319-007-2
الصفحات: ٤٩٦

١
٢

٣
٤

كتاب الحجّ والعمرة‌

٥
٦

وفيه مقدّمة ومقاصد.

أمّا المقدّمة ففيها مسائل :

مسألة ١ : الحجّ لغة : القصد (١) ، ولهذا سمّي الطريق محجّة ، لأنّه يوصل إلى المقصود.

وقال الخليل : الحجّ : كثرة القصد إلى من تعظّمه (٢).

وسمّي الحجّ حجّا ، لأنّ الحاجّ يأتي قبل الوقوف بعرفة إلى البيت ثم يعود إليه لطواف الزيارة ثم ينصرف إلى منى ثم يعود إليه لطواف الوداع.

وفيه لغتان : بفتح الحاء وكسرها (٣).

وأمّا في عرف الشرع فقال الشيخ : إنّه كذلك إلاّ أنّه اختصّ بقصد البيت الحرام لأداء مناسك مخصوصة عنده متعلّقة بزمان مخصوص (٤).

وقال ابن إدريس : الحجّ في الشريعة : القصد إلى مواضع مخصوصة لأداء مناسك مخصوصة عندها متعلّقة بزمان مخصوص ليدخل الوقوف بعرفة‌

__________________

(١) الصحاح ١ : ٣٠٣ ، القاموس المحيط ١ : ١٨٢.

(٢ و ٣) العين ٣ : ٩.

(٤) المبسوط ـ للطوسي ـ ١ : ٢٩٦ ، الجمل والعقود ( ضمن الرسائل العشر ) : ٢٢٣.

٧

والمشعر ومنى (١).

وهو غير وارد على الشيخ ، لأنّ كلّ واحد من الوقوفين قد يسقط بصاحبه ، وكذا قصد منى مع بقاء حقيقة الحجّ ، بخلاف قصد البيت ، فإنّه لا يصدق مسمّى الحجّ إلاّ به.

وقال بعض العامّة : الحجّ في الشرع اسم لأفعال مخصوصة (٢).

وما ذكرناه أولى ، لأنّ التخصيص أولى من النقل (٣).

وأمّا العمرة فهي في اللغة عبارة عن الزيارة (٤) ، وفي الشرع عبارة عن زيارة البيت الحرام لأداء مناسك عنده ، ولا تختص المبتولة بزمان ، بخلاف المتمتّع بها ، فإنّ وقتها وقت الحجّ.

والنسك بإسكان السين : اسم لكلّ عبادة ، وبضمّها : اسم للذبح ، والمنسك موضع الذبح ، وقد يراد به موضع العبادة.

مسألة ٢ : الحجّ فريضة من فرائض الإسلام ومن أعظم أركانه بالنصّ والإجماع.

قال الله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ ) (٥) قال ابن عباس : من كفر باعتقاده أنّه غير واجب (٦).

وسأل علي بن جعفر أخاه الكاظم عليه‌السلام ، عن قوله تعالى : ( وَمَنْ كَفَرَ ) قال : قلت : ومن لم يحجّ منّا فقد كفر؟ قال : « لا ، ولكن من‌

__________________

(١) السرائر : ١١٨.

(٢) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٦٤.

(٣) في النسخ الخطية « ط ، ف ، ن » : النسخ ، بدل النقل.

(٤) القاموس المحيط ٢ : ٩٥.

(٥) آل عمران : ٩٧.

(٦) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٦٤.

٨

قال ليس هذا هكذا فقد كفر » (١).

وقال تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (٢).

وما رواه العامّة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : ( بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمّدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم شهر رمضان وحجّ البيت ) (٣) ذكر فيها الحجّ.

وعن ابن عباس قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : ( يا أيّها الناس إن الله كتب عليكم الحجّ ) فقام الأقرع بن حابس فقال : أفي كلّ عام يا رسول الله؟ فقال : ( لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ، الحجّ مرّة فمن زاد فتطوّع ) (٤).

ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إذا قدر الرجل على ما يحجّ به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام » (٥).

وعن ذريح المحاربي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « من مات ولم يحجّ حجّة الإسلام ولم تمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحجّ أو سلطان يمنعه فليمت يهوديّا أو نصرانيّا » (٦).

وقد أطبقت الأمّة كافّة على وجوب الحجّ على جامع الشرائط في العمر مرّة واحدة.

مسألة ٣ : والحجّ فيه ثواب عظيم وأجر جزيل.

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ـ ٥ ، التهذيب ٥ : ١٦ ـ ٤٨ ، الإستبصار ٢ : ١٤٩ ـ ٤٨٨.

(٢) البقرة : ١٩٦.

(٣) سنن الترمذي ٥ : ٥ ـ ٢٦٠٩ ، سنن البيهقي ٤ : ٨١ ، مسند أحمد ٢ : ٩٣ ، ١٢٠.

(٤) سنن البيهقي ٤ : ٣٢٦ ، المستدرك ـ للحاكم ـ ٢ : ٢٩٣.

(٥) التهذيب ٥ : ١٨ ـ ٥٤.

(٦) الكافي ٤ : ٢٦٨ ـ ١ ، الفقيه ٢ : ٢٧٣ ـ ١٣٣٣ ، التهذيب ٥ : ٤٦٢ ـ ١٦١٠.

٩

روى معاوية بن عمّار ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام : « أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقيه أعرابي ، فقال له : يا رسول الله إنّي خرجت أريد الحجّ ففاتني ، وإنّي رجل ميّل (١) ، فمرني أن أصنع في مالي ما أبلغ به مثل أجر الحاج ، قال : فالتفت إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال له : انظر إلى أبي قبيس فلو أنّ أبا قبيس لك ذهبة حمراء أنفقته في سبيل الله ما بلغت به مبلغ الحاج ».

ثم قال : « إنّ الحاج إذا أخذ في جهازه لم يرفع شيئا ولم يضعه إلاّ كتب الله له عشر حسنات ومحي عنه عشر سيّئات ورفع له عشر درجات ، فإذا ركب بعيره لم يرفع خفّا ولم يضعه إلاّ كتب له مثل ذلك ، فإذا طاف بالبيت خرج من ذنوبه ، فإذا سعى بين الصفا والمروة خرج من ذنوبه ، فإذا وقف بعرفات خرج من ذنوبه ، فإذا وقف بالمشعر الحرام خرج من ذنوبه ، فإذا رمى الجمار خرج من ذنوبه ».

قال : « فعدّد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذا وكذا موقفا إذا وقفها الحاج خرج من ذنوبه ، ثم قال : أنّى لك أن تبلغ ما بلغ (٢) الحاج ».

قال أبو عبد الله عليه‌السلام : « ولا تكتب عليه الذنوب أربعة أشهر ، وتكتب له الحسنات إلاّ أن يأتي بكبيرة » (٣).

وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « الحاج يصدرون على ثلاثة أصناف : فصنف يعتقون من النار ، وصنف يخرج من ذنوبه كيوم ولدته امّه ، وصنف يحفظ في أهله وماله ، فذاك أدنى ما يرجع به الحاج » (٤).

__________________

(١) في الكافي : يعني كثير المال.

(٢) في المصدر : « يبلغ ».

(٣) التهذيب ٥ : ١٩ ـ ٢٠ ـ ٥٦ ، وفي الكافي ٤ : ٢٥٨ ـ ٢٥ صدرها بتفاوت.

(٤) التهذيب ٥ : ٢١ ـ ٥٩.

١٠

وفي الصحيح عن معاوية بن عمّار عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الحجّ والعمرة تنفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير (١) خبث الحديد » قال معاوية : فقلت له : حجّة أفضل أو عتق رقبة؟

قال : « حجّة أفضل » قلت : فثنتين؟ قال : « فحجّة أفضل » قال معاوية : فلم أزل أزيده ويقول : « حجّة أفضل » حتى بلغت ثلاثين رقبة ، قال : « حجّة أفضل » (٢).

وعن الصادق عليه‌السلام قال : « الحاج والمعتمر وفد الله إن سألوه أعطاهم ، وإن دعوه أجابهم ، وإن شفعوا شفّعهم ، وإن سكتوا بدأ بهم (٢) ، ويعوّضون بالدرهم ألف ألف درهم » (٤).

مسألة ٤ : والعمرة واجبة ـ كالحجّ في وجوبه وهيئة وجوبه ـ على من يجب عليه الحجّ عند علمائنا أجمع ـ وبه قال علي عليه‌السلام ، وعمر وابن عباس وزيد بن ثابت وابن عمر وسعيد بن المسيّب وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد والحسن البصري وابن سيرين والشعبي والثوري وإسحاق والشافعي في الجديد ، وأحمد في إحدى الروايتين (٥) ـ لقوله تعالى ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (٦) والأمر للوجوب ، والعطف بالواو يقتضي التشريك في الحكم.

وما رواه العامة : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، جاء إليه رجل فقال :

__________________

(١) الكير كير الحدّاد ، وهو زقّ أو جلد غليظ ذو حافات. الصحاح ٢ : ٨١١ « كير ».

(٢) التهذيب ٥ : ٢١ ـ ٦٠.

(٣) في المصدر ونسخة بدل : « ابتدأهم ».

(٤) الكافي ٤ : ٢٥٥ ـ ١٤ ، التهذيب ٥ : ٢٤ ـ ٧١.

(٥) المغني ٣ : ١٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٥ ، الوجيز ١ : ١١١ ، فتح العزيز ٧ : ٤٧ ـ ٤٨ ، المجموع ٧ : ٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣٠.

(٦) البقرة : ١٩٦.

١١

أوصني ، قال : ( تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتحجّ وتعتمر ) (١).

وقال عليه‌السلام : ( الحجّ والعمرة فريضتان ) (٢).

ومن طريق الخاصة : عن زرارة ـ في الصحيح ـ عن الباقر عليه‌السلام ، قال : « العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحجّ ، لأنّ الله تعالى يقول ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) » (٣) والأخبار في ذلك متواترة.

وقال الشافعي في القديم وأحمد في الرواية الثانية : إنّ العمرة ليست واجبة ـ وهو مروي عن ابن مسعود ، وبه قال مالك وأبو ثور وأصحاب الرأي ـ لما رواه جابر : أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل عن العمرة أواجبة هي؟ قال : ( لا ، وأن تعتمر فهو أفضل ) (٤).

ولأنّه نسك غير مؤقّت فلم يكن واجبا كالطواف المجرّد (٥).

والحديث نقله الترمذي عن الشافعي أنّه ضعيف لا تقوم بمثله الحجّة ، وليس في العمرة شي‌ء ثابت بأنّها تطوّع (٦).

وقال ابن عبد البرّ : روي ذلك بأسانيد لا تصح ولا تقوم بمثلها الحجة.

__________________

(١) أوردها ابنا قدامة في المغني ٣ : ١٧٥ ، والشرح الكبير ٣ : ١٦٦.

(٢) المستدرك ـ للحاكم ـ ١ : ٤٧١ ، سنن الدار قطني ٢ : ٢٨٤ ـ ٢١٧ ، سنن البيهقي ٤ : ٣٥٠.

(٣) التهذيب ٥ : ٤٣٣ ـ ١٥٠٢.

(٤) سنن الترمذي ٣ : ٢٧٠ ـ ٩٣١ ، وفيه : ( .. وأن تعتمروا .. ).

(٥) المغني ٣ : ١٧٤ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٥ ، فتح العزيز ٧ : ٤٧ ـ ٤٨ ، الحاوي الكبير ٤ : ٣٤ ، المجموع ٧ : ٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣٠ ، التفريع ١ : ٣٥٢ ، الكافي في فقه أهل المدينة : ١٧١ ـ ١٧٢ ، مقدّمات ابن رشد : ٣٠٤.

(٦) سنن الترمذي ٣ : ٢٧١ ذيل الحديث ٩٣١ ، وراجع : المغني ٣ : ١٧٥ ، والشرح الكبير ٣ : ١٦٦.

١٢

ثم نحمله على المعهود ، وهي العمرة التي قضوها حين أحصروا في الحديبية ، أو على العمرة التي اعتمروها مع حجّتهم مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّها لم تكن واجبة على من اعتمر ، أو نحمله على من زاد على العمرة الواحدة.

وقياسهم باطل بالفرق ، فإنّ الإحرام شرط في العمرة وليس شرطا في الطواف.

مسألة ٥ : ولا فرق بين أهل مكة وغيرهم في وجوبها عليهم بإجماع علمائنا ، لعموم الأدلّة ، فالقرآن عمّم الحكم في الحجّ والعمرة على الجمع المعرّف بلام الجنس ، والأخبار دالّة على العموم أيضا.

وقال أحمد : ليس على أهل مكة عمرة ، وقال : كان ابن عباس يرى العمرة واجبة ويقول : يا أهل مكة ليس عليكم عمرة ، إنّما عمرتكم طوافكم بالبيت (١) ، وبه قال عطاء وطاوس (٢).

قال عطاء : ليس أحد من خلق الله إلاّ عليه حجّ وعمرة واجبان لا بدّ منهما لمن استطاع إليهما سبيلا إلاّ أهل مكة ، فإنّ عليهم حجّة ، وليس عليهم عمرة من أجل طوافهم بالبيت (٣).

ولأنّ ركن العمرة ومعظمها الطواف بالبيت وهم يفعلونه ، فأجزأ عنهم (٤).

وهو غلط ، لأنّه قول مجتهد مخالف لعموم القرآن ، فلا يكون حجّة ، وستأتي مباحث العمرة بعد ذلك إن شاء الله تعالى.

__________________

(١ ـ ٤) المغني ٣ : ١٧٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٦٦.

١٣
١٤

و أمّا المقاصد فيشتمل الأول منها على فصول‌

الفصل الأول

في كيفية الوجوب‌

مسألة ٦ : الحجّ يجب بأصل الشرع مرّة واحدة ، وكذا العمرة ، ولا يجب أزيد منها وهو قول عامّة أهل العلم (١).

وحكي عن بعض الناس أنّه قال : يجب في كلّ سنة مرّة (٢). وهو خلاف النصّ :

قال الله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (٣) ومقتضى الأمر لا يقتضي التكرار ، فإيجابه مخالفة له.

وما رواه العامّة في حديث ابن عباس ، وقد سبق (٤).

وعن أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : ( يا أيّها الناس قد فرض الله عليكم الحجّ فحجّوا ) فقال رجل : أكلّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( لو‌

__________________

(١) المغني والشرح الكبير ٣ : ١٦٥ ، المجموع ٧ : ٩ ، فتح العزيز ٧ : ٣ ، حلية العلماء ٣ : ٢٣١.

(٢) حلية العلماء ٣ : ٢٣٢ ، المجموع ٧ : ٩.

(٣) آل عمران : ٩٧.

(٤) سبق في المسألة ٢.

١٥

قلت : نعم ، لوجبت ولما استطعتم ) ثم قال : ( ذروني ما تركتكم فإنّما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، فإذا أمرتكم بشي‌ء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شي‌ء فدعوه ) (١).

ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي ـ في الحسن ـ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إذا تمتّع الرجل بالعمرة فقد قضى ما عليه من فريضة العمرة » (٢).

وقال الصادق عليه‌السلام ، في رجل أعتق عشيّة عرفة عبدا له ، قال : « يجزئ عن العبد حجّة الإسلام ، ويكتب للسيد أجران (٣) : ثواب العتق وثواب الحجّ » (٤).

ولا خلاف بين المسلمين كافّة في ذلك ، ولا عبرة بقول من شذّ من العامّة.

إذا عرفت هذا ، فما زاد على ذلك مستحب إلاّ ما يجب بسبب ، كالنذر وشبهه ، والإفساد والقضاء ، وكما يجب الإحرام بحجّ أو عمرة لدخول مكة على ما يأتي ، والاستئجار ، وسيأتي.

وما ورد في أخبارنا من وجوبه على أهل الجدة (٥) في كلّ عام (٦) ، فمحمول على وجوبه على البدل ، على معنى أنّه إذا لم يفعله في أول عام تمكّنه ، وجب عليه في ثاني العام والثالث وهكذا ، كما نقول : إنّ خصال الكفّارة كلّها واجبة على هذا المنهاج.

__________________

(١) صحيح مسلم ٢ : ٩٧٥ ـ ١٣٣٧.

(٢) الكافي ٤ : ٥٣٣ ـ ١ ، التهذيب ٥ : ٤٣٣ ـ ١٥٠٣ ، الاستبصار ٢ : ٣٢٥ ـ ١١٥٠.

(٣) في النسخ الخطية والطبعة الحجرية : أجرين.

(٤) الفقيه ٢ : ٢٦٥ ـ ١٢٨٩.

(٥) الجدة : الغنى وكثرة المال. مجمع البحرين ٣ : ١٥٥ « وجد ».

(٦) راجع : الكافي ٤ : ٢٦٥ ـ ٢٦٦ ، الأحاديث ٥ و ٦ و ٨ و ٩ ، والتهذيب ٥ : ١٦ ـ ٤٦ ـ ٤٨ ، والاستبصار ٢ : ١٤٨ ـ ١٤٩ ـ ٤٨٦ ـ ٤٨٨.

١٦

وأيضا فإنّ السند لا يخلو من ضعف ، فإنّ الحديث الذي رواه حذيفة بن منصور عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « أنزل الله فرض الحجّ على أهل الجدة في كلّ عام » (١) في طريقه محمد بن سنان وفيه قول.

مسألة ٧ : قد بيّنّا أنّ الواجب بأصل الشرع مرّة واحدة في الحجّ والعمرة ، وما عداها مستحب مندوب إليه إلاّ لعارض يقتضي وجوبه ، كالاستئجار وغيره ممّا تقدّم ذكره ، ويتكرّر الوجوب بتكرّر السبب.

وليس من العوارض الموجبة : الردّة والإسلام بعدها ، فمن حجّ أو اعتمر ثم ارتدّ ثم عاد إلى الإسلام لم يلزمه الحجّ عند علمائنا ، وبه قال الشافعي (٢) ، خلافا لأبي حنيفة (٣).

ومأخذ الخلاف : أنّ الردّة عنده (٤) محبطة للعمل ، وعندنا وعند الشافعي (٥) أنّها إنّما تحبطه بشرط أن يموت عليها.

قال الله تعالى ( وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ ) (٦) الآية.

وأحمد وافق أبا حنيفة في المسألة لكن لا من جهة هذا المأخذ (٧).

مسألة ٨ : ووجوب الحجّ والعمرة على الفور لا يحلّ للمكلّف بهما تأخيره عند علمائنا أجمع ـ وبه قال علي عليه‌السلام ، ومالك وأحمد والمزني وأبو يوسف (٨) ، وليس لأبي حنيفة فيه نصّ (٩) ، ومن أصحابه من قال : هو‌

__________________

(١) الكافي ٤ : ٢٦٦ ـ ٦ ، التهذيب ٥ : ١٦ ـ ٤٦ ، الاستبصار ٢ : ١٤٨ ـ ٤٨٦.

(٢) المجموع ٧ : ٩ ، فتح العزيز ٧ : ٥.

(٣) المجموع ٧ : ٩ ، فتح العزيز ٧ : ٥.

(٤) المجموع ٧ : ٩ ، فتح العزيز ٧ : ٥.

(٥) المجموع ٧ : ٩ ، فتح العزيز ٧ : ٥.

(٦) البقرة : ٢١٧.

(٧) كما في فتح العزيز ٧ : ٥.

(٨) مقدّمات ابن رشد ١ : ٢٨٨ ، الكافي في فقه الإمام أحمد ١ : ٤٦٧ ، المغني ٣ : ١٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٨٢ ، الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ ، المجموع ٧ : ١٠٢ و ١٠٣ ، فتح العزيز ٧ : ٣١ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٨٠ ، بدائع الصنائع ٢ : ١١٩ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٣٤.

(٩) كما في الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ ، والمجموع ٧ : ١٠٣.

١٧

قياس مذهبه (١) ـ لقوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ ) (٢) الآية ، مقتضاه الأمر ، وهو للفور عند بعضهم (٣).

وما رواه العامّة عن ابن عباس عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : تعجّلوا الحجّ فإنّ أحدكم لا يدري ما يعرض له (٤).

وعن علي عليه‌السلام عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : من وجد زادا وراحلة تبلّغه البيت فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديّا أو نصرانيّا (٥).

ومن طريق الخاصة : ما رواه الحلبي ـ في الصحيح ـ عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « إذا قدر الرجل على ما يحجّ به ثم دفع ذلك وليس له شغل يعذره به فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام » (٦).

ولأنّها عبادة لها وقت معلوم لا يفعل في السنة إلاّ مرّة واحدة ، فيجب على الفور كالصوم.

وقال الشافعي : إنّه لا يجب على الفور ، بل يجوز له تأخيره إلى أيّ وقت شاء ـ ونقله العامّة عن ابن عباس وجابر وأنس ، ومن التابعين : عطاء وطاوس ، ومن الفقهاء : الأوزاعي والثوري ـ لأنّ فريضة الحجّ نزلت سنة ست من الهجرة ، وقيل : سنة خمس ، وأخّره النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من غير مانع ، فإنّه خرج إلى مكة سنة سبع لقضاء العمرة ولم يحج ، وفتح مكة سنة‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٤ : ٢٤.

(٢) آل عمران : ٩٧.

(٣) إحكام الفصول في أحكام الأصول : ١٠٢ ، الإحكام في أصول الأحكام ١ : ٣٨٧ ، أصول السرخسي ١ : ٢٦.

(٤) مسند أحمد ١ : ٣١٤ ، وأوردها الماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ٢٤.

(٥) سنن الترمذي ٣ : ١٧٦ ـ ٨١٢ وفيه : ( ملك ) بدل ( وجد ) وأوردها كما في المتن ، الماوردي في الحاوي الكبير ٤ : ٢٤.

(٦) التهذيب ٥ : ١٨ ـ ٥٤.

١٨

ثمان ، وبعث الحاج سنة تسع ، وحجّ هو عليه‌السلام سنة عشر ، وعاش بعدها ثمانين يوما ، ثم قبض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١).

والجواب : المنع أوّلا من تمكّنه من الحجّ ، فإنّه عليه‌السلام أحرم بالعمرة عام الحديبية فأحصر (٢).

وثانيا بالمنع من تأخير النبي عليه‌السلام عن عام الوجوب ، فإنّ الآية نزلت ـ وهي قوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (٣) الآية ـ سنة تسع (٤) ، وقيل : سنة عشر (٥) ، فبادر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحجّ من غير تأخير.

مسألة ٩ : الحجّ واجب على كلّ جامع للشرائط الآتية ، من ذكر وأنثى وخنثى.

وإن كان أعمى فإن افتقر إلى قائد وتمكّن من تحصيله والاستعانة به على حجّة إمّا بإجارة أو غيرها ، وجب عليه الحجّ بنفسه ، وليس له أن يستأجر من يحجّ عنه ـ وبه قال الشافعي وأحمد (٦) ـ لعموم الآية (٧) والأخبار.

وقال أبو حنيفة : لا يلزمه فرض الحجّ بنفسه ، فإن استأجر من يحجّ عنه ، جاز ـ وروى الكرخي عنه أنّه لا حجّ عليه (٨) ـ لأنّ الحجّ عبادة تعلّقت‌

__________________

(١) الحاوي الكبير ٤ : ٢٤ ـ ٢٥ ، فتح العزيز ٧ : ٣١ ، المجموع ٧ : ١٠٢ و ١٠٣ ، المغني ٣ : ١٩٦ ، الشرح الكبير ٣ : ١٨٢ ، حلية العلماء ٣ : ٢٤٣.

(٢) كما في الحاوي الكبير ٤ : ٢٥.

(٣) آل عمران : ٩٧.

(٤) كما في الحاوي الكبير ٤ : ٢٥.

(٥) كما في الحاوي الكبير ٤ : ٢٥.

(٦) الحاوي الكبير ٤ : ١٤ ، المجموع ٧ : ٨٥ ، الوجيز ١ : ١١٠ ، فتح العزيز ٧ : ٢٧ ، حلية العلماء ٣ : ٢٤٠.

(٧) آل عمران : ٩٧.

(٨) فتح العزيز ٧ : ٢٧.

١٩

بقطع مسافة ، فوجب أن لا تلزم الأعمى كالجهاد (١).

وهو خطأ ، لأنّ العمى ليس فيه أكثر من فقد الهداية بالطريق ومواضع النسك ، والجهل بذلك لا يسقط وجوب القصد ، كالبصير يستوي حكم العالم به والجاهل إذا وجد دليلا ، فكذا الأعمى.

ولأنّه فقد حاسّة ، فلم يسقط بها فرض الحجّ بنفسه ، كالأصمّ.

مسألة ١٠ : مقطوع اليدين أو الرّجلين إذا استطاع التثبّت على الراحلة من غير مشقّة إمّا مع قائد أو معين إن احتاج إليه ووجده ، أو بدونهما إذا استغنى عنهما ، وجب عليه الحجّ ـ وبه قال الشافعي (٢) ـ لعموم قوله تعالى ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ ) (٣) الآية ، وغيرها من الأدلّة.

وقال أبو حنيفة : لا يلزمه كالأعمى (٤). والخلاف فيهما (٥) واحد.

مسألة ١١ : المحجور عليه للسفه يجب عليه الحجّ كغيره مع الشرائط ، للعموم ، إلاّ أنّه لا يدفع المال إليه ، لأنّه ممنوع من التصرّف فيه ، لتبذيره ، بل يخرج الولي معه من ينفق عليه بالمعروف ويكون قيّما عليه.

ولو احتاج إلى زيادة نفقة لسفره ، كان الزائد في ماله ينفق القيّم عليه منه ، بخلاف الصبي والمجنون إذا أحرم بهما الولي ، فإنّ نفقتهما الزائدة بالسفر في مال الولي ـ خلافا للشافعي في أحد القولين (٦) ـ لأنّه لا وجوب عليهما ، وإذا زال عذرهما ، لزمهما حجة الإسلام ، بخلاف المبذّر.

ولو شرع السفيه في حجّ الفرض أو في حجّ نذره قبل الحجر بغير إذن‌

__________________

(١) المبسوط ـ للسرخسي ـ ٤ : ١٥٤ ، بدائع الصنائع ٢ : ١٢١ ، الهداية ـ للمرغيناني ـ ١ : ١٣٤ ، تحفة الفقهاء ١ : ٣٨٤ ، فتح العزيز ٧ : ٢٧.

(٢) الحاوي الكبير ٤ : ١٤ ـ ١٥ ، المجموع ٧ : ٨٥.

(٣) آل عمران : ٩٧.

(٤) الحاوي الكبير ٤ : ١٥ ، المجموع ٧ : ٨٥.

(٥) أي في الأعمى ومقطوع اليدين أو الرجلين.

(٦) فتح العزيز ٧ : ٢٧.

٢٠