دراسات في علم الأصول - ج ٤

آية الله السيّد علي الشاهرودي

دراسات في علم الأصول - ج ٤

المؤلف:

آية الله السيّد علي الشاهرودي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: محمّد
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٤٨

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد للله وماشاء الله ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، حسبي الله ،

توكلت على الله. اللهم صلّ على سيد أنبيائك ،

واشرف رسلك ، محمد وأهل بيته الطاهرين ،

والعن أعدائهم أجمعين.

اللهم اعصمني من الزلل ، ووفقني لما يرضيك عني

في العلم والعمل.

٣
٤

مباحث الاستصحاب

أدلة حجية الاستصحاب

الأقوال في حجية الاستصحاب

تنبيهات

تعارض الاستصحاب مع الأدلة

٥
٦

المبحث الخاص :

في الاستصحاب

والكلام فيه يقع من جهات :

الجهة الأولى : في تعريفه. ذكر شيخنا الأنصاري للاستصحاب تعاريف ، وأشكل عليها ، ثم زعم أن أسدها وأخصرها (إبقاء ما كان) (١).

وأفاد المحقق الخراسانيّ أن جميع التعاريف المذكورة للاستصحاب من قبيل شرح الاسم ، وكلها مشيرة إلى معنى واحد ، هو مورد النفي والإثبات ، وذلك المعنى الواحد هو (الحكم ببقاء حكم أو موضوع ذي حكم شك في بقائه) (٢).

ونقول : الظاهر ان ما اختاره المحقق المذكور في تعريف الاستصحاب بيان لما أفاده الشيخ ، إذ المراد بالإبقاء في كلامه ليس الإبقاء الخارجي ، وهو واضح ، بل المراد به حكم الشارع بالبقاء ، كما انّه لم يرد به الحكم بالبقاء واقعا ، فانه ليس من الاستصحاب في شيء ، وإنّما أراد به الحكم بالبقاء في مرحلة الشك.

وأما ما ذكره من رجوع جميع التعاريف إلى معنى واحد فلا يمكن المساعدة عليه ، لاستحالة تعريفه بما ينطبق على جميع الأقوال. فعلى القول بكون الاستصحاب من الأمارات وحجية مثبتاته لا يمكن تعريفه (بالحكم بالبقاء) إذ الحكم ليس أمارة ، بل هو منكشف بالأمارة ومدلول لها ، وهي كاشفة عنه ، بل

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٤١ (ط. جامعة المدرسين).

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٧٣.

٧

لا بد حينئذ من تعريفه بما حكاه الشيخ عن شارح المختصر من الصغرى والكبرى ، فان حجيته على الأمارية إن كانت من باب الظن النوعيّ انطبق عليه الصغرى ، أعني كون الشيء متيقن الحدوث ولم يظن عدمه ، فان نفس هذه الحالة تورث الظن النوعيّ بالبقاء ، لأنّ ما ثبت يدوم غالبا. وان كانت من باب الظن الشخصي ، وقد ثبت اعتباره في عدة موارد ، كباب القبلة والشك في عدد الركعات وغير ذلك ، انطبق عليه الكبرى أو النتيجة أعني الظن بالبقاء.

وبناء على كون الاستصحاب أصلا ، أي وظيفة مجعولة للشاك وعدم حجية مثبتاته ـ على ما بنى عليه الشيخ ـ صح تعريفه (بحكم الشارع بالبقاء) لكن لا ببقاء الحكم أو الموضوع كما هو صريح عبارة الكفاية ، لأن دليل حجية الاستصحاب هو الأخبار ، وليس فيها من إبقاء المتيقن أثر ولا عين ، بل الحكم ببقاء اليقين السابق من حيث الجري العملي على طبقه ، فانه الظاهر من الأدلة ، فما في الكفاية غير خال من المسامحة على كل تقدير.

فظهر بما بيناه عدم إمكان تعريف الاستصحاب بمعنى واحد يرد عليه النفي والإثبات على جميع الأقوال ، بل لا بد على كل قول من تعريف يوافقه.

الجهة الثانية : في كون الاستصحاب من المسائل الأصولية أو القواعد الفقهية. قد بينا في أول مباحث الألفاظ ان ضابط المسألة الأصولية استنباط حكم فرعي منها مع قطع النّظر عن ثبوت أيّ مسألة غيرها ، وأوضحنا هناك كون جملة من مباحث الألفاظ كبحث الأوامر والنواهي من هذا القبيل ، وعلى هذا لا ريب في كون الاستصحاب قاعدة فقهية على المختار من اختصاصه بالشبهات الموضوعية والأحكام الجزئية ، ويكون الميزان فيه بيقين المقلد وشكه ، فهو يجري الاستصحاب ، وان علم مقلّده بانتقاض حالته السابقة ، كما هو شأن كل قاعدة فقهية من قاعدة الطهارة والفراغ ونحوها.

٨

وأما على المعروف من جريانه في الشبهات الحكمية والأحكام الكلية ، فدليل الاستصحاب بعنوانه الواحد متكفل لجهتين بحسب انطباقه على الموارد المختلفة ، من غير ان يستلزم منه استعمال اللفظ في أكثر من معنى واحد ، كحديث الرفع الشامل للشبهات الحكمية والموضوعية ، ودليل حجية الخبر بناء على شموله للموضوعات. فمن حيث جريانه في الشبهات الموضوعية يكون الاستصحاب قاعدة فقهية ، ومن حيث جريانه في الشبهات الحكمية مسألة أصولية ، ويكون الميزان فيه بيقين المجتهد وشكه ، فإذا شك المجتهد في حرمة وطئ الحائض بعد انقطاع دمها قبل ان تغتسل ، أجرى استصحاب الحرمة ، ولو كان المقلد غافلا عن ذلك رأسا ، ويكون أثر الاستصحاب للمجتهد جواز الإفتاء بالحرمة ، كما جاز له الإفتاء بها عند علمه بالحرمة ، فيرجع إليه المقلد بمقتضى أدلة وجوب التقليد ورجوع العامي إلى العالم.

الجهة الثالثة : لا ريب في ان صفتي اليقين والشك متضادتان ، بل بلحاظ الخصوصية المأخوذة في كل منهما متناقضتان ، فان اليقين متقوم بعدم احتمال الخلاف ، والشك متقوم باحتماله ، فكل منهما متقوم بنقيض ما يتقوم به الآخر ، فيستحيل تعلقهما بشيء واحد في زمان واحد ، بل لا بد من ثبوت جهة اختلاف في نفس الصفتين ، أو في متعلقهما.

أما الاختلاف في المتعلق فتارة : يكون بالتباين من جميع الجهات ، كتعلق اليقين بعدالة زيد والشك باجتهاده ، وهو خارج عن دليل المنع عن نقض اليقين بالشك بالبداهة.

وأخرى : يتحد متعلقيهما ذاتا ، ويكون اختلافهما من حيث الزمان بسبق زمان أحد المتعلقين على الآخر. وحينئذ إن كان زمان المتيقن سابقا على زمان المشكوك ، بأن تعلق اليقين بالحدوث ، والشك بالبقاء ، فهو مورد الاستصحاب

٩

المتعارف. وان انعكس الأمر ، بان كان المشكوك سابقا ، والمتيقن لا حقا ، فهو مورد الاستصحاب القهقرى ، الّذي لا دليل عليه ، لا من الاخبار ولا من بناء العقلاء ، إلّا في باب الظهورات ، ومن صغرياته أصالة عدم النقل ، وإلّا لانسد باب التمسك بظواهر الأخبار والآيات ، لاحتمال عدم كونها ظاهرة حين صدورها فيما هي ظاهرة فيه فعلا ، وكذا الحال في السجلات والأوراق القديمة.

وثالثة : يكون اتحادهما من حيث كون المتيقن من أجزاء علة المشكوك ، وهو مورد قاعدة المقتضي والمانع ، كما إذا تيقن بثبوت المقتضي بشيء وشك في وجود مقتضاه ، لاحتمال وجود المانع. وكل من اليقين والشك في الفرض وان تعلق بغير ما تعلق به الآخر إلّا انه لمكان الارتباط بين المتعلقين أمكن دعوى دخوله تحت الأدلة ، ولزوم ترتيب آثار تحقق المقتضى ـ بالفتح ـ.

ثم ان المقتضي والمانع قد يراد بهما التكوينيان كالنار المقتضية للحرارة ، والرطوبة المانعة عنها ، ومثاله الشرعي صب الماء على البشرة للغسل أو الوضوء مع احتمال وجود الحاجب ، فان الصب مقتضى للوصول ، والحاجب مانع عنه ، ومثله صب الماء على الحشفة بعد البول مع احتمال خروج المذي المانع عن الوصول.

وقد يراد بالمقتضي موضوع الحكم ، وبالمانع ما اعتبر عدمه ، كما إذا لاقى المتنجس ماء يحتمل كريته ، فان الملاقاة مقتضي للسراية شرعا ، والكرية مانعة عنها ، فالقائل بحجية القاعدة يحكم بنجاسته. وسر التعبير عن الموضوع بالمقتضي عدم انفكاكه عن الحكم ، فكأنه مقتضى له ، وهو غير خال عن المسامحة ، فان مقتضى الحكم حقيقة إرادة الحاكم واختياره.

وثالثة يراد بالمقتضي المصلحة الداعية لجعل الحكم ، ومن المانع ما يزاحمها من المفسدة. وهذا أيضا لا يخلو عن عناية ، فان المصلحة بوجودها الخارجي غاية للحكم ، نعم بوجودها العلمي مقتضي له.

١٠

وكيف كان القائل بحجية القاعدة يحتمل أن يريد جميع الأقسام ، كما يحتمل إرادته البعض دون بعض ، ونتعرض لبيان ذلك في محله إن شاء الله تعالى.

وأما اختلاف نفس الصفتين فيما إذا اتحد متعلقيهما من تمام الجهات ، فهو اما يكون بسبق زمان الشك على زمان اليقين ، وهذا ليس موردا لشيء من القواعد. واما يكون بسبق زمان اليقين على زمان الشك ، وهو مورد قاعدة اليقين ، ولذا يعبر عنها بالشك الساري ، ومرجعه إلى الشك في مطابقة قطعه السابق للواقع وعدمها ، فالمسائل المبحوث عنها أربعة :

الأولى : ما انعقد له البحث أعني الاستصحاب ، وهو متقوم على ما عرفت باجتماع صفتي اليقين والشك في زمان واحد ، مع تعلق اليقين بالحدوث ، والشك بالبقاء ، سواء تقارنت الصفتان حدوثا ، أو سبقت إحداهما الأخرى.

الثانية : الاستصحاب القهقرى الّذي عرفت عدم حجيته إلّا في باب الظهورات.

الثالثة : قاعدة المقتضي والمانع ، وهي متقومة بتعلق اليقين بالمقتضي ، والشك بوجود مقتضاه لاحتمال وجود المانع.

الرابعة : قاعدة اليقين ، وهي متقومة باتحاد متعلق اليقين والشك ، وتأخر زمان الشك عن زمان اليقين.

ونتعرض لكل من القاعدتين بعد الفراغ عما هو مهمنا في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

الجهة الرابعة : بعد ما عرفت أن الاستصحاب متقوم باليقين بالحدوث والشك في البقاء ، فاعلم انه ينقسم باعتبارات. فقد ينقسم بلحاظ المستصحب ، فانه تارة : يكون موضوعا خارجيا ، وأخرى : حكما شرعيا. والحكم الشرعي تارة : يكون جزئيا ، وأخرى : كليا. وأيضا الحكم الشرعي تارة : يكون

١١

تكليفيا ، وأخرى : وضعيا ، كما أنه قد يكون أمرا وجوديا وقد يكون عدميا ، هذا كله في أقسام الاستصحاب بلحاظ متعلق اليقين والشك.

وقد ينقسم بلحاظ منشأ اليقين ، فانه ان تعلق بالموضوعات الخارجية كان منشؤه الحسّ من الرؤية ونحوها ، وان تعلق بالحكم كان منشؤه الكتاب أو السنة أو الإجماع أو العقل.

وقد ينقسم بلحاظ منشأ الشك. فان الشك في البقاء قد يكون من جهة الشك في الرافع ، وأخرى : من جهة الشك في المقتضي مع اليقين بعدم طرو الرافع.

وقد وقع الخلاف في كل من هذه التفاصيل بعد القول بالحجية وعدمها مطلقا. ففصل من حيث المستصحب بين الأمر الوجوديّ والعدمي ، وبين الحكم التكليفي والوضعي ، وبين الحكم الكلي وغيره وهو المختار. وفصل من حيث منشأ اليقين بين ما إذا كان منشأ اليقين بالحكم هو الكتاب والسنة أو غيرهما كما اختاره الشيخ. وفصل من حيث منشأ الشك في البقاء بين الشك في المقتضي والشك في الرافع (١) ، وهو أيضا مختار الشيخ قدس سرّه إلى غير ذلك مما لا يهمنا التعرض لها.

والمهم التعرض لأدلة الاستصحاب مقدار ما يستفاد منها.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٦٣٧ (ط. جامعة المدرسين).

١٢

أدلة حجية الاستصحاب

استدل على حجية الاستصحاب بأمور :

الأوّل : السيرة ، فان الإنسان بما أنه حيوان يجري على طبق الحالة السابقة ، كما انه مرتكز كل ذي شعور من سائر أصناف الحيوان ، ولم يرد عنها ردع من الشارع.

والكلام فيها تارة : يقع صغرويا ، وأخرى : كبرويا.

أما من حيث الصغرى ، فالظاهر عدم ثبوت هذه السيرة من العقلاء ، فان عملهم على طبق الحالة السابقة انما هو لأحد وجوه. فأحيانا يكون للاطمئنان بالبقاء ، كما في التاجر الّذي يرسل الأموال إلى طرقه في البلاد البعيدة ، فانه مطمئن ببقائه ، ولذا لو فرض كونه معرضا للفناء لسبب من حرب ونحوه لم يرسل إليه شيء. وقد يكون ذلك من جهة الرجاء والاحتياط كالوالد يرسل الأموال إلى ولده البعيد عنه ، لاحتمال حياته واحتياجه. وربما يكون ذلك من جهة الغفلة عن انتقاض الحالة السابقة رأسا ، كالخارج من داره حيث يرجع من غير توجه منه إلى احتمال خرابه أصلا.

وأما في غير هذه الموارد فلم يثبت لا من العقلاء بناء على العمل على طبق الحالة السابقة ، بل الظاهر عدم ثبوته ، لأن بنائهم عليه تعبدا بعيد جدا ، فان كان ذلك لا بد وأن يكون بملاك ، كما ان عملهم بخبر الواحد كان من جهة كاشفيته واختلال نظامهم بدونه. كما ان ملاكه لو كان لا بد وان يكون معلوما

١٣

لدينا ، لكوننا منهم ، ولا نرى فيه ملاكا أصلا ، إذ ليس للحدوث كاشفية عن البقاء ، كما لا يلزم من عدمه اختلال نظامهم ، ولذا لم يختل نظام أمور من لا يقول بحجية الاستصحاب.

وبهذا ظهر فساد ما ذكره المحقق النائيني من ان العمل على وفق الحالة السابقة بإلهامه تعالى حفظا لنظام البشر عن الاختلال (١).

وأما من حيث الكبرى ، فلا ينبغي الشك في ان السيرة إذا كانت ثابتة فهي حجة ، لعدم ردع الشارع عنها مع تمكنه منه ، فهو إمضاء لها ، كما هو الشأن في بقية موارد ثبوتها.

وما أفاده المحقق الخراسانيّ من صلوح الآيات الناهية عن العمل بالظن للردع عنها (٢) يناقض تمسكه بالسيرة لحجية خبر الواحد ، فانه ذكر بعد احتمال اختصاص الآيات بالأصول عدم صلاحيتها للردع (٣) ، لاستلزامه الدور ، كما لا تصلح السيرة لتخصيص عمومها. وذكرنا هناك ان الآيات بما انها إرشاد إلى ما استقل به العقل من لزوم تحصيل الأمن من العقاب كما هو ظاهر قوله سبحانه (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ)(٤) حيث وصفهم عزّ شأنه بأنهم مأمونون دائما ، والمؤمن هو اليقين بالواقع ، أو بما هو مؤمن ظاهرا ، فلا تصلح للردع عما قامت السيرة على اعتباره ، فانه مؤمن لا محالة ، وخارج عنها بالتخصص. هذا مع ان المتيقن تخصيص العام اللاحق بالخاص السابق ، وليس العام المتأخر ناسخا ولا رادعا عن الخاصّ المتقدم عند الدوران ، على ما بين في محله.

__________________

(١) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٥٧.

(٢) كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٨٠.

(٣) المصدر السابق : ٩٩.

(٤) الدخان : ٥١.

١٤

نعم على مسلكه قدس‌سره فرق بين ما نحن فيه وبين حجية الخبر ، فان هناك بعد فرض عدم شمول الآيات للعمل بالخبر ، وعدم حجية السيرة ، لاحتمال كونها مردوعة ، وسقوط كلا الأمرين ، تصل حينئذ النوبة إلى التمسك بالأصل العملي ، وهو استصحاب بقاء حجية الخبر الثابتة قبل ورود الآيات الناهية ، كما ذكره قدس‌سره في هامش الكفاية (١). وأما في المقام ، فلا يمكن الرجوع إلى الاستصحاب ، فانه مصادرة ظاهرة ، لأن حجيته أول الكلام.

الثاني : ان اليقين بالحدوث يوجب الظن بالبقاء ، وهو حجة.

وفيه : منع الصغرى والكبرى. اما الكبرى ، فلأن مقتضى العمومات عدم جواز العمل بالظن إلّا ما خرج بالدليل ، ولم يقم دليل على اعتبار الظن بالبقاء الناشئ من اليقين بالحدوث.

واما الصغرى ، فلأنه ان أريد بالظن الظن الشخصي فهو مقطوع العدم. وان أريد به الظن النوعيّ فكذلك ، بداهة اختلاف قابلية الأشياء للاستمرار والبقاء ، ولا جامع بينها ليحصل الظن النوعيّ ببقاء ما حدث إلى مدة مظبوطة.

الثالث : الإجماع المحكي ، ولا يخفى وهنه ، إذ لو أريد به الإجماع المصطلح الكاشف عن رأي المعصوم عليه‌السلام فهو مقطوع العدم ، لأن القائلين بحجية الاستصحاب ذكروا مدرك ذهابهم إليها. وإن أريد به مجرد الاتفاق ، فهو على تقدير ثبوته غير مفيد ، ومن هنا يظهر عدم اعتبار نقل الإجماع في المقام ولو بنينا على حجية الإجماع المنقول في نفسه ، فان المحصل منه ليس بحجية فضلا عن منقوله.

__________________

(١) كفاية الأصول : ٢ ـ ١٠١.

١٥

حجية الاستصحاب على أساس الأخبار المعتبرة :

الرابع : الأخبار ، وعمدتها روايات زرارة الثلاث :

الأولى : قال : (قلت له : الرّجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن. فإذا نامت العين والاذن والقلب وجب الوضوء. قلت : فان حرك على جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فانه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين أبدا بالشك وإنّما تنقضه بيقين آخر) (١).

والكلام فيها تارة من حيث السند ، وأخرى : من حيث المتن.

أمّا من حيث السند فشيخنا الأنصاري وان نقلها بعنوان المضمرة (٢) ، وذكر ان إضمارها لا يضر بعد كون الراوي زرارة الّذي لا يروي إلّا عن الإمام عليه‌السلام إلّا ان الظاهر كونها صحيحة ، فان رجالها كلهم ثقات عدول من زرارة ومن بعده.

وأمّا الإضمار فمدفوع ، وذلك :

أولا : يندفع بأن جمعا من الاعلام نقلوها مسندة عن الباقر عليه‌السلام كالسيد بحر العلوم في فوائده ، ولا يبعد عثوره على أصل زرارة ونقله عن كتابه ، والفاضل النراقي على ما حكاه عنه الشيخ في تنبيهات الاستصحاب.

وثانيا : تطمئن النّفس بأن زرارة لا ينقل الحكم الشرعي عن غير الإمام مضمرا من غير نصب قرينة ، بل يعد ذلك من مثله خيانة ، فالظاهر ان الإضمار حدث من التقطيع ، لأن دأب الرّواة في أصولهم على ذكر الإمام الّذي يروي عنه في الحديث الأول ، وبعد ذلك ينقلون الأحاديث الأخر المروية عنه بعنوان الإضمار وإرجاع الضمير إليه ، والمقطعون نقلوا تلك الأحاديث في الأبواب المتفرقة

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١ ـ باب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، ح ١.

(٢) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٣ (ط. جامعة المدرسين).

١٦

مضمرة ، فلم يعلم المنقول عنه ، وكان الأولى أن يثبتوا ذلك كما هو ديدن المتأخرين فعلا.

وأما متن الحديث وما يستفاد منه. فأولا سأل زرارة عن الشبهة الحكمية وأنّ الخفقة أي السنة توجب الوضوء ، لشبهة مفهومية واحتمال صدق النوم عليها ، أو لشبهة حكمية محضة واحتمال كونها أحد النواقض ، فبين الإمام عليه‌السلام له الواقع بقوله (قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ... إلخ) وعلى ما يقال النوم الحقيقي واشتغال النّفس بنفسه ملازم لنوم العيون ، ولذا جعله الإمام عليه‌السلام معيارا لتحقق النوم الناقض.

ثم بعد ذلك سأل عن الشبهة الموضوعية بقوله (فان حرك على جنبه شيء ولم يعلم) أي إذا لم يسمع الصوت ولم يعرف هل انّ ذلك كان من جهة اشتغال فكره بالأمور المناسبة لحاله ، كما يتفق ذلك كثيرا لمن أشرف على النوم ، فيشغله عن استماع الصوت ، أو انّه لأجل النوم؟ فبيّن الإمام عليه‌السلام له الحكم الظاهري بقوله (لا حتى يستيقن أنه قد نام ، حتى يجيء من ذلك أمر بيّن) كما أوضح غايته ، وانها اليقين بالناقض وظهوره ، ثم ذيّله بقوله (وإلّا فانه على يقين من وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشك).

ودلالة هذا الذيل على حجية الاستصحاب في مورده أمر واضح ، ولذا لم يختلف فيه أحد على ما نعلم. وإنّما الكلام في التعدي إلى بقية الموارد ، وقد ذكر له منشئان :

أحدهما : ما ذكره الشيخ وتبعه صاحب الكفاية (١).

ثانيهما : ما ذكره المحقق النائيني (٢).

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٣ ـ ٥٦٤. كفاية الأصول : ٢ ـ ٢٨٤.

(٢) أجود التقريرات : ٢ ـ ٣٥٩ ـ ٣٦٠.

١٧

ونقول : في توضيح ذلك ان محل الاستشهاد من المضمرة هي الشرطية الثانية المستفادة من الغاية المذكورة قبلها ، وهي قوله عليه‌السلام (وإلّا) أي ان لم يستيقن أنه قد نام ، ولم يجئ من ذلك أمر بيّن ، فان جعلنا جزائها محذوفا قد دل عليه كلمة (لا) المذكورة قبلها ، أي لا يجب الوضوء وكان قوله عليه‌السلام «فانه على يقين من وضوئه ، ولا تنقض اليقين بالشك» علة للجزاء ، أقيمت مقامه ، ودخل عليها كلمة (فاء) الجزائية ، كما في قوله سبحانه (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ)(١) فحينئذ لا يمكن ان يراد من اليقين والشك في الجملة المذكورة اليقين بالوضوء والشك في النوم ، الّذي هو مورد السؤال ، بجعل اللام للعهد ، لاستلزامه التكرار ، واتحاد العلة والمعلول ، أي المصادرة وهو قبيح ، فيدور الأمر بين احتمالين آخرين.

أحدهما : أن يراد من اليقين فيها اليقين بالوضوء ، ويراد من الشك الشك في كل ناقض ، فيكون التعدي عن مورد الرواية في خصوص الشك دون اليقين ، فيكون التعليل كبرى كلية في خصوص الشك في بقاء الوضوء ، وجامعه الشك في الحدث.

ثانيهما : أن يراد من اليقين اليقين بحدوث كل شيء ، ومن الشك الشك في بقاء كل متيقن ، ليكون التعدي عن مورد الرواية من كلتا الجهتين ، أي من حيث اليقين والشك معا.

وبكل من الاحتمالين يندفع المحذور ، إلّا أن الظاهر منهما هو الثاني ، لأن ظاهر التعليل ان الإمام عليه‌السلام كان في مقام إقناع السائل ، وأنه لما ذا لا يجب الوضوء في الفرض ، فلا بد وان يكون إشارة إلى ما هو المرتكز في الأذهان من عدم رفع اليد عن الأمر المبرم بأمر غير مبرم ، ومنه نقض اليقين بالشك. ومن الواضح أنه لا خصوصية في ما هو المرتكز في الأذهان لليقين بالوضوء عن غيره ، فيتعين

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

١٨

الاحتمال الثاني ، ويتم المطلوب. هذا بناء على كون الجزاء للشرط مقدرا ، كما بنى عليه شيخنا الأنصاري (١).

وأما بناء على كون المذكور في القضية بنفسها جزاء ، فيقع الكلام في مقامين :

أحدهما : في إمكان ذلك بأحد وجهيه على ما يتضح.

ثانيهما : في إمكان التعدي حينئذ وعدمه.

أما المقام الأول : فيحتمل فيه أن يكون قوله عليه‌السلام : «فانه على يقين من وضوئه» تمهيدا للجزاء ومقدمة له ، ويكون الجزاء قوله عليه‌السلام بعد ذلك «ولا تنقض اليقين أبدا بالشك» ، وهذا الاحتمال في غاية الوهن ، إذ عليه كان حق التعبير هكذا (وإلّا فبما انه على يقين من وضوئه) كما لا يناسب حينئذ تصدير (لا تنقض) الّذي هو الجزاء (بالواو).

ويحتمل أن يكون قوله عليه‌السلام (فانه على يقين من وضوئه) بنفسه جزاء للشرط. وهذا الاحتمال أيضا فاسد. أما بناء على إبقائه على ظاهره من كونه اخبارا ، فلعدم الترتب بينه وبين الشرط ، بداهة ان المراد من اليقين بالوضوء انما هو اليقين بالوضوء السابق على احتمال النوم ، لا الوضوء بالفعل ، فانه مشكوك على الفرض ، واليقين والشك متضادان لا يجتمعان. ومن الظاهر ان اليقين بالوضوء حدوثا ثابت ، استيقن بالنوم أو لم يستيقن به ، فلا ترتب بين الأمرين ، واعتباره بين الشرط والجزاء مما لا يخفى. ومن ثم التزمنا تبعا للشيخ بكون الجزاء في تلك الآيات الكريمة محذوفا ، وما ذكر فيها علة للجزاء أقيمت مقامه ، لعدم الترتب بينه وبين الشرط المذكور فيها.

__________________

(١) فرائد الأصول : ٢ ـ ٥٦٣ (ط. جامعة المدرسين).

١٩

وأما بناء على ان يكون جملة خبرية مستعملة في مقام الإنشاء ، كما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سرّه ، وعليه بنى كونه بنفسه جزاء للشرط ، مدعيا ان استعمال الجملة الخبرية في مقام الإنشاء كثير جدا (١) ، فالإشكال المزبور وان كان يندفع ، إلّا أنه يرد عليه أمران :

الأوّل : ان ما يستعمل في إنشاء الطلب انما هو الجملة الخبرية الفعلية ، وأما الجملة الاسمية فلم نر استعمالها في إنشاء الطلب. نعم قد تستعمل في إنشاء محمولها كما في باب الطلاق والوصية والهبة ونحو ذلك ، فيقال : هي طالق ، أو هذا لك أو لزيد بعد وفاتي. واعتبار الماضوية ونحوها في الصيغة أحيانا شرعي لا لغوي.

الثاني : ان الجملة الخبرية إنما تستعمل في إنشاء طلب المادة المتحققة فيها ، فينشأ وجوب الإعادة بقول : يعيد صلاته ، أو أعاد الصلاة. وعليه يلزم أن يكون المنشأ بقوله «فانه على يقين من وضوئه» طلب اليقين بالوضوء ، لا المضي على اليقين السابق ، إذ لم يذكر فيه عنوان المضي على اليقين ولا البناء عليه ، وهذا كما ترى. فلا يمكن جعل الجملة المذكورة في الرواية جزاء للشرط على جميع التقادير.

المقام الثاني : نسلم كون جزاء الشرط هي العلة المذكورة في القضية ، إلّا أنه مع ذلك يتعدى عن مورد المضمرة أو الصحيحة ، لقرائن خارجية ، وشواهد داخلية. أما الخارجية فهي ورود النهي عن نقض اليقين والشك بعنوانه في موارد كثيرة مختلفة ، يستفاد منها عدم الخصوصية لليقين بالوضوء والشك في الناقض ، كما ذكر هذا العنوان في كلام كثير من العلماء على ما نقله الشيخ ، بل رأينا ذكره في كلمات بعض علماء العامة في كتابه الموسوم بالمبسوط.

__________________

(١) فوائد الأصول : ٤ ـ ٣٣٦.

٢٠