المحصّل

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المحصّل

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: دكتور حسين أتاي
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: مكتبة دار التراث
الطبعة: ١
الصفحات: ٦٠٨

١
٢

٣
٤

بسم الله الرحمن الرحيم

دراسة مقارنة بين شراح المحصل

و

موقف فخر الدين الرازى من علم الكلام

ان فلسفة الدين الاسلامى عند بعض المفكرين المسلمين هى علم الكلام والحقيقة أن علم الكلام ينبغى أن يقال له «فلسفة الدين الإسلامى» لأنه يضع أسس الدين الاسلامى الفكرية «العقائدية النظرية» ويناقشها ويدافع عنها على أسس عقلية ومنطقية وتجارب علمية داعما اياها بالوحى المنزل ، ومفسرا النصوص الدينية على حسب ارتقاء العقل البشرى بتجاربه العلمية النافذة لفهم قوانين وأسرار الكون والمجتمع الإنسانى.

وقد مرّ علم الكلام بمراحل فى الفكر الاسلامى وان كان هناك فكرة تعمل ضده وتناقضه منذ ظهوره وحتى يومنا هذا ولكن ظهر مفكرون اشتغلوا بعلم الكلام ، سمّوا متكلمين أو علماء الكلام حقا وبتعبير آخر فلاسفة الدين الاسلامى.

ويعتبر القرن الخامس والسادس والسابع الهجرى ، والحادى عشر والثانى والثالث عشر الميلادى عصور نضوج علم الكلام. وفى تلك الفترة عاش فخر الدين الرازى وأصبح من أفذاذ المتكلمين ، والذين جاءوا بعده مباشرة من المتكلمين الفلاسفة والقضاة المتكلمين اهتموا بمنهجه وشرحوا ولخصوا كتبه المتعددة خاصة «المحصل» فى علم الكلام.

فان فخر الدين الرازى كنيته واسمه أبو عبد الله محمد بن عمر بن حسين

٥

ابن على ؛ ولد فى مدينة الرى عام ٥٤٢ أو ٥٤٤ ه‍ ١١٤٨ م ؛ وتوفى فى مدينة هراة عام ٦٠٦ ه‍ ـ ١٢٠٩ م

وهو امام وفيلسوف فى علم الكلام وفلسفة الدين ، الا أنه لا يوجد كتاب يتحدث عن شخصية الرازى فى لغة غير اللغة العربية. وفى السنوات الأخيرة بدأ العلماء والباحثون يهتمون بالرازى متكلما ومفسرا. ولا شك أن فخر الدين الرازى لم يأخذ حقه من الدراسة والبحث فى نطاق البحوث الاسلامية بعد ؛ اذ لم تقدم عنه ابحاث علمية تتناوله كفيلسوف مسلم.

ومن خلال اطلاعنا على ما كتب عن هذا العالم الكبير ، وعلى ضوء ما وصلنا إليه من نتائج نستطيع أن نقول : ان الرازى قد لعب دورا كبيرا فى علم الكلام والفلسفة الاسلامية ويمكن ايجاز ذلك فى نقطتين.

الأولى ـ انه استوعب فلسفة ارسطو التقليدية ثم كان أول من أدخل هذه الفلسفة فى علم الكلام. ونتيجة لما قام به الرازى أصبح علم الكلام فلسفة ويمكن أن نقول بعبارة أخرى انه جعل تلك الفلسفة كلاما. وهكذا امتزج علم الكلام بالفلسفة ، ولكن لا ينبغى أن يفهم من ذلك ان المسائل الفلسفية التى عارضها علم الكلام أصبحت بذلك مشروعة ؛ بحيث اعتبرت كلاما. لقد ادى ذلك المنهج الّذي اختلطت فيه الفلسفة بعلم الكلام ، الى عدم دراسة الفلسفة كعلم مستقل وبالتالى الى خمود التفكير الحر فى العالم الاسلامى.

وبعد ذلك فقد اتبع نهج الرازى حتى دخلت الفلسفة فى علم الكلام وامتزجت به ومن ثم فلم تدرس الفلسفة كعلم مستقل أو لم تصبح دراسة مستقلة عن علم الكلام. ثم أصبحت هذه الفلسفة الممتزجة بعلم الكلام سببا للتأخر ولإخماد شعلة التفكير الحر فى العالم الاسلامى. ومن جهة أخرى فان محيى الدين بن عربى والسهروردى قد اهتما بالجانب الوجودى من الفلسفة فى التصوف وجعلاها منه وبذلك انسحبت الفلسفة المحضة أو العامة عن ميدان الفلسفة ولم يكن الرازى وحده رائدا فى هذا المجال ، بل نجد أيضا محيى الدين بن عربى والسهروردى يدخلان الجانب الوجودى من الفلسفة فى التصوف حتى وصل بهما الحد الى اعتباره جزءا منها. وهكذا امتزجت الفلسفة المحضة والتفكير الحر بالتصوف

٦

فأصبحت الفلسفة تدرس بين سطور علم الكلام والتصوف بقدر ما أعطيت من العناية.

وبعد عهد الرازى (٦٠٦ ه‍ ، ١٢٠٩ م) وشهاب الدين السهروردى (٥٨٧ ه‍ ، ١١٩١ م) لا نصادف فيلسوفا حقيقيا. لأن محبى الفلسفة اكتفوا منها بالقدر الّذي دخل فى علم الكلام والتصوف وبسبب ذلك لم ينم التفكير الفلسفى المحايد الحر ؛ لأن منشأ التفكير الفلسفى وسبب تقدمه فى الحقيقة هو التفكير الحر المحايد التام.

والمعلوم أن التفكير الفلسفى لا يخطو الى الإمام الا فى ظل جو يسوده التفكير الحر الّذي لا يخضع لا غلال تقيده ، تلك الأغلال التى من شأنها أن تطفئ اللهب المتوقد فى سماء فسيحة رحبة.

والّذي لا بد من قوله هنا هو أن الفلسفة انما تنتج وتثمر اذا درست لذاتها لا من أجل غيرها. ولهذا يجب أن تدرس الفلسفة من أجل التفلسف فقط. ولكن فخر الدين الرازى خالف ذلك عند ما دمج الفلسفة بالكلام ، بحيث أصبحت الفلسفة تدرس من خلال علم الكلام. واذا كان علم الكلام قد استفاد من الفلسفة فى بداية الأمر فانه توقف عند ما توقفت الدراسات الفلسفية وأعتقد ان الأستاذ اسماعيل حقى الإزميري قد أخطأ عند ما جعل سيف الدين الآمدي اوسع علما بالفلسفة من فخر الدين الرازى (١).

الثانية ـ واذا كان الرازى قد أدخل الفلسفة فى علم الكلام فانه ـ على ضوء فلسفة ارسطو التقليدية ـ قد أعطى اتجاها جديدا لعلم الكلام ، فأثر بذلك على الفكر الاسلامى وقد ظهر تأثير الرازى جليا فى غيره من خلال بقاء العديد من العلماء والمفكرين أسرى اتجاهه ومنهجه بعد ذلك (٢). لقد أدى هذا التيار

__________________

(١) أزميرلى اسماعيل حقي ، يكى علم الكلام علم الكلام الجديد ، جلد ١/٨٧ استنبول ، اوقاف اسلامية مطبعة سى. ١٣٣٩.

(٢) يبدو واضحا عند من يقارن المحصل مع متن «طوانع الانوار» للقاضى عبد الله بن عمر البيضاوي المتوفى سنة ٦٨٥ ه ـ ١٢٨٦ م. ان اول من اقتفى اثر المحصل هو القاضي اليضاوي في متنه المذكور وهو لم يكتف بالسير على نهج المحصل

٧

الجديد الى انتشار مذهب الاشاعرة ، كما كان له تأثير فى اختفاء وانكماش مذهب الماتريدية ، بالرغم من أن أسلوب ومنهج الماتريدية فى دراسة علم الكلام يختلف عن منهج وأسلوب الرازى. ويتضح هذا التأثير أكثر بعد وفاة أكبر متكلمى الماتريدية وهو أبو المعين النسفى (٥٠٨ ه‍ / ١١١٤ م) اذ لا نرى أحدا يتبع منهجه من بعده. ومن ثم أهمل كتابه «تبصرة الأدلة» لقد كان منهج النسفى يختلف اختلافا كبيرا عن منهج أرسطو التقليدى حيث انه شبيه بمنهج «السمنتكس (*)» اليوم. بعد ذلك استولت المدرسة الأشعرية التى تقبلت الفلسفة المشائية على الفلسفة الأخرى ، وأصبحت ممثلا لها فى العالم الاسلامى بعد فخر الدين الرازى.

واذا كان قد أهمل ذلك حتى الآن فانه ينبغى أن يهتم به مستقبلا ؛ ولهذا فاننا نفكر ان نقوم بعمل علمى آخر حول كتاب تبصرة الأدلة لأبى المعين النسفى.

ان تلك المحاولة الفلسفية الكلامية أدت الى نشأة مذهب كلامى ذى اتجاه واحد فى البحث والدراسة ، ولم تتح فرصة لنمو الأفكار الفلسفية الحرة.

ولكى نبرز دور فخر الدين الرازى فى علم الكلام بوجه عام ، نرى من المناسب أن نبين رأينا فى الغزالى أولا ؛ لأن الامام الغزالى هو الآخر قد لعب دورا كبيرا فى التفكير الاسلامى قبل ذلك ومهد الطريق للرازى ويمكن تلخيص ذلك فى النقاط التالية :

١ ـ لقد ألمّ الغزالى بجميع العلوم الإسلامية. وفى كل علم من تلك العلوم كان له الدور الموجه وخاصة فى أربعة علوم رئيسية. وبذلك تميز عمن سبقوه لقد

__________________

فحسب بل اقتبس منسبه العبارات والتعاريف والتعابير والاصطلاحات. ومع ذلك فانه لم يشر لا من قريب ولا من بعيد الرازي ولكن الشارح شمس الدين بن محمود ابن عبد الرحمن الاصفهاني المتوفى سنة ٧٤٩ ه ، ١٣٤٨ م قد ذكر لفظ «الامام» مشيرا الى الرازي. وبذلك مهد الامام الرازي طريقا ومنهجا جديدا في علم الكلام لمن اتى بعده امثل عذد الدين عبد الرحمن بن احمد الايجي القاضي المتوفى سنة ٧٥٢ ه ، ١٣٥٥ م حيث كان قد بني مؤلفه المشهور المواقف في علم الكلام اعتمادا على المحصل لفخر الدين الرازي وكما استفاد ايضا من المتكلمين الذين سبقوه.

(*) semantpigs علم معنى الالفاظ ومرادفها semasiology علم مدلول الالفاظ وارتباط الفكر باللغة وتطور دلالات الالفاظ.

٨

أصبحت شخصية الغزالى العالم والمفكر مثلا حيا لمن أتى بعده ، لكن ذلك تطلب ممن نهج منهجه واقتفى أثره عملا كبيرا وجهدا شاقا. أما العلوم الأربعة الرئيسية التى برز فيها الغزالى هى : ١ ـ الفقه وأصوله. ٢ ـ علم الكلام. ٣ ـ الفلسفة. ٤ ـ التصوف. لقد ضلع فى هذه الجوانب الأربعة وأصبح له فيها دور التوجيه لقد كان عالما وإماما فى تلك العلوم جميعا ، ولا شك ان ذلك يرجع الى تميزه بذكاء حاد وشغف بالعلوم على اختلاف أنواعها ولهذا من الصعب ان نجد قبله عالما يحمل نفس ثقافته الواسعة تلك.

٢ ـ ان ثقافة الغزالى لم تقف عند حد معرفته للعلوم الاسلامية فحسب ، بل تعدتها الى حد الالمام والاحاطة بالثقافة التى تعارض الاسلام عالما بما لدى خصومه فى نفس الوقت من أدلة وحجج. واعتمادا على ذلك كان يسوق آراءه المستندة على أساس راسخ متين. فمثلا عند ما يقوم التصوف من الناحية التشريعية يستند فى ذلك على ما لديه من ثقافة فى الفقه وأصوله ولذلك عند ما يقال ان الغزالى يتحدث فى الفقه كذا أو فى التصوف كذا لا ينظر الى رأيه كأى رأى من الآراء بل ينظر الى أنه أهل لرأيه وصاحب كلمة صحيحة فيما يقول. وكذلك الأمر فيما يتعلق بالعلوم الأخرى التى ضلع فيها مثل علم الكلام والفلسفة. وهكذا جذب الغزالى بثقافته الواسعة انظار غيره من العلماء ؛ فأثار فيهم روح التوسع فى العلوم حيث نشأ من بعده نهج التوسع فى الأبحاث والعلوم ، لكن ذلك أصبح حائلا أمام التعمق فيها ، لقد حاول العلماء من بعده التشبه به فى ثقافته الواسعة تاركين التخصص فى المواضيع مما أدى الى ضياع العلم والفلسفة.

٣ ـ لم يكن الغزالى ضد الفلسفة فحسب ؛ بل عارض علم الكلام أيضا ، ولذلك كان له تأثير ملحوظ فى هذين الموضوعين الذين يعتبران مجال تفكير أكثر من العلوم الأخرى ولكون الغزالى يتمتع بمكانة علمية ودينية لدى جمهور المسلمين فان عداوته لعلم الكلام والفلسفة انتشرت لدى الأوساط المختلفة ، ومن ثم ازداد خصومهما من مختلف الطبقات. ولا تزال هذه الفكرة منتشرة فى الأوساط الدينية حتى يومنا هذا. ان هذا الموقف السلبى من الغزالى قد أعاق نمو التفكير ومشروعية الحرية التى تحتاج إليها بالضرورة التنمية الفكرية.

٩

٤ ـ عند ما قام الغزالى بوضع معيار للعلوم المختلفة أخطأ فى اعطاء كل علم من العلوم حقه. فهو قد أعطى للتصوف مثلا قيمة أكثر مما يستحق ؛ مما أدى الى اختلال التوازن بين العلوم المختلفة. لقد استطاع الغزالى بما له من شخصية ومكانة علمية فذة لدى الجمهور كما قلنا ؛ أن يلعب دورا كبيرا فى إقناع الناس بصحة رايه ومنهجه. وقد كان ذلك سببا من الأسباب التى أدت الى ترجيح رأيه عند ما تعرض لكل من الفلسفة وعلم الكلام. ان الغزالى لم يكتف بذكر آرائه تلك فى كتاب أو فى موضوع معين بل بثها بين ثنايا كتبه المختلفة فى التفسير والحديث والشريعة والتصوف. وبين رأيه بوضوح فى ذلك كله وتصح فيما يتعلق بعلم الكلام بعدم التعمق فيه لأنه لا حاجة تدعو الى الاستفاضة فى موضوعاته وقال نفس الشيء بالنسبة للعلوم الشرعية الأخرى فهو يقول بهذا الصدد :

«فان العلم كثير والعمر قصير وهذه العلوم آلات أو مقدمات وليست مطلوبة لعينها بل لغيرها. وكل ما يطلب لغيره فلا ينبغى أن ينسى فيه المطلوب ويستكثر منه فاقتصر من شائع علم اللغة على ما تفهم منه لغة العرب. وتنطق به ومن غريبه على غريب القرآن وغريب الحديث ودع التعمق فيه. واقتصر من النحو على ما يتعلق بالكتاب والسنة ... فما من علم الا وله اقتصار واقتصاد واستقصاء .. ونحن نشير إليها فى الحديث والتفسير والفقه والكلام لتقيس بها غيرها. فالاقتصار فى التفسير هو ما يبلغ ضعف القرآن فى المقدار كما صنفه على الواحدى النيسابورى وهو الوجيز ، والاقتصاد هو ما يبلغ ثلاثة أضعاف القرآن : كما صنفه من الوسيط فيه. وما وراء ذلك استقصاء مستغنى عنه فلا مرد الى انتهاء العمر.

واما الحديث فالاقتصار فيه تحصيل ما فى الصحيح بتصحيح نسخة على رجل خبير بعلم متن الحديث واما حفظ اسامى الرجال فقد كفيت به بما تحمله عنك قبلك ولك أن تقول على كتبهم. وليس يلزمك حفظ متون الصحيحين ولكن تحصله تحصيلا تقدر منه على طلب ما يحتاج إليه عند الحاجة واما الاقتصاد فيه فان تضيف إليها ما خرج عنهما مما ورد فى المسندات الصحيحة.

واما الفقه فالاقتصار فيه على ما يحويه مختصر المزنى وهو الّذي رتبناه فى

١٠

خلاصة المختصر والاقتصاد فيه ما يبلغ ثلاثة امثاله وهو القدر الّذي أوردناه فى الوسيط والاستقصاء ما أوردناه فى البسيط.

وأما الكلام فمقصوده حماية المعتقدات التى نقلها أهل السنة من السلف الصالح لا غير. وما وراء ذلك طلب لكشف حقائق الأمور من غير طريقها ، ومقصود حفظ السنة تحصيل رتبة الاقتصار منه بمعتقد مختصر ، وهو القدر الّذي أوردناه فى كتاب قواعد العقائد من جملة هذا الكتاب. والاقتصاد فيه ما يبلغ قدر مائة ورقة وهو الّذي أوردناه فى كتاب الاقتصاد فى الاعتقاد» (٣).

وبعد اطلاعنا على موقف الغزالى من الفلسفة وعلم الكلام ذلك الموقف الّذي أوجزناه آنفا يأتى فخر الدين الرازى ليوحد بين الفلسفة وعلم الكلام كما أسلفنا وهكذا تكتسب الفلسفة مشروعيتها من مشروعية علم الكلام. ولكن بسبب عدم استقلالها لم تستطع أن تتقدم ، ثم ان هذا الوضع قد أثر بدوره فى العلوم التجريبية.

واذا أردنا ان نفهم التفكير الاسلامى بعد الرازى علينا أن نبدأ بالرازى قبل ذلك ونفهمه جيدا. وبكل أسف نقول ان الرازى لم يفهم كما ينبغى لعدم اهتمام الناس بمؤلفاته الأخرى كاهتمامهم بتفسيره الكبير لقد أخذ الرازى لقب الامام بناء على موفقه من علم الكلام علما أن بعض أعماله العلمية الخاصة بهذا العلم لم تنشر بعد مثل «المطالب العلية» و «الملخص» و «نهاية العقول» و «المحصول (*) فى الأصول» وغيرها من الأعمال العلمية المهمة ، ومن جهتنا ننوى القيام بنشر تلك الأعمال المهمة بقدر استطاعتنا وبقدر ما تسمح به امكاناتنا.

دراسة مقارنة بين المحصل وشروحه :

اذا قلنا ان فخر الدين الرازى هو نقطة بداية أو نهاية الملتقى بين المتقدم

__________________

(٣) الغزالي ، احياء علوم الدين ، ١/٥٨ ، القاهرة ، ١٩٦٧.

(*) طبعت جامعة الامام محمد بن سعود الاسلامية ، المحصل في علم اصول الفقه في ست مجلدات ١٤٠١ ه ـ ١٩٨١ م. وهذه المقالة كتبت قبل ذلك.

١١

والمتأخر نكون قد أنصفناه بلا شك فهو نقطة بداية بمعنى ان الثقافة الفلسفية والكلامية الاسلامية اتخذت اتجاها جديدا بعده وهو ملتقى الطرق بين المتقدم والمتأخر بمعنى أن الثقافة الاسلامية الفلسفية والكلامية التقليدية قد انتهت إليه واذا جاز التعبير فان منزلته تعادل منزلة ارسطو فى الثقافة اليونانية من حيث الأهمية. لقد استطاع الالمام بكل ما توصل إليه الأقدمون ثم صاغه فى قالب جديد. ونعتقد أن هذا يكفى لأن تفتخر به الثقافة الاسلامية.

لقد قسم الرازى كتاب المحصل الى أربعة أقسام :

١ ـ القسم الأول فى مبادي المعرفة ومصادرها وكيفية اكتسابها.

٢ ـ القسم الثانى فى الموجود والأشياء الموجودة وترتيبها وخصائصها المميزة بعضها من بعض.

٣ ـ القسم الثالث فى اثبات المبدأ الأول وواجب الوجود ومصدر كل الموجودات.

٤ ـ القسم الرابع فى السمعيات وما يدخل فيها من نبوة ، وآراء الفرق المختلفة النشأة من فهم النصوص والأخبار.

لم يكن الرازى السبّاق لمثل هذا التقسيم. فان ابن سينا يذكر فى أول الاشارات بانه يبدأ بالمنطق ثم بالأشياء الطبيعية وثلث بما بعد الطبيعة. ان هذا النهج مفيد ونافع للقارىء حيث انه يتبين له لأول وهلة ما ذا يحتوى الكتاب وما هى الغاية منه وكأن المؤلف قد لخص كتابه للقارىء ببضع كلمات ليشوقه ويجعله يستمر فى القراءة. وهكذا نرى أن من سبق فخر الدين الرازى من المتكلمين قد اتبع هذا النهج لقد كان العلماء يبوبون كتبهم مبتدئين أولا بنظرية المعرفة ثم بأنواع الأدلة والكائنات الطبيعية كما درجوا الى البحث عن وجود الله تعالى ثم النبوات. وكأنهم رأوا قبل كل شيء أنه من الضرورى الايمان بالله تعالى ورسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأن ذلك يجعل الانسان مدركا لمدى المعرفة ولأن الله تعالى قال : «فاعلم انه لا إله الا الله» ، ومن ثم ليعرف بأن هناك كائنات حية

١٢

كثيرة فى هذا الكون وأن رب العالمين قد اصطفى الانسان من بين هذه الموجودات بانزال الوحى إليه. والى جانب هذا لا شك انه كانت هناك مواضيع أخرى أو خاصة افردت لها الكتب والتآليف. اما اليوم فان كل مؤلف يتبع منهجا خاصا به بحيث يستطيع ابداء رأيه بشكل ينسجم مع مستوى استيعاب الناس مسلطا الأضواء على بعض المشاكل التى تدور فى اذهان الآخرين.

ان المؤلف يشرح غايته ومنهجه فى مقدمة كتابه ويبين موقف كتابه البيئات العلمية. والشارح كذلك يبين غايته من خلال شرحه ووضع الكتاب الّذي يشرحه بين الأوساط العلمية.

ان المحصل لفخر الدين الرازى كما يفهم من اسمه هو محصل أفكار وآراء الرازى أولا ثم محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين من الفلاسفة والمتكلمين ثانيا. ولهذا فانه جدير بأن يوضع بين الكتب التى عنى بها شارحوها وأعطوها عناية كبيرة ووجدوا فيها أشياء مبهمة فأوضحوها وأفكارا جديدة فنقدوها.

الحقيقة أن القارئ يجد فى المحصل آراء استطاع المتقدمون أن يسبقوا المؤلف فيها الا أن المؤلف قد أتى بشيء جديد فى الايضاح والشرح والبيان وقد لخص ما كتبه فى كتبه المختلفة مثل المباحث المشرقية ونهاية العقول والملخص وغيرها. فالقارئ يلاحظ الأفكار والعبارات المركزة فى المحصل ، اذا قارن ما فيه بكتب المؤلفين الآخرين.

ان المحصل يحتوى على فلسفة المشائين بدءا من ارسطو وحتى ابن سينا فى المنطق والفلسفة الطبيعية وما وراء الطبيعة وناقش واجب الوجود وامكانية وجود العالم كما ورد عند الفارابى وابن سينا فى الفلسفة الوجودية لقد كان الكلام والفلسفة قبل الرازى مفترقين فى المنهج والمحتوى ؛ ولكن الرازى جمع بين آراء ومناهج الفلاسفة والمتكلمين فى كتابه «المحصل» مثل أدلة اثبات وجود الله تعالى. لقد اتخذ المتكلمون من قبله من جملة ما اتخذوه من الطرق فى اثبات وجود الله تعالى طريق الحدوث. وأما الفلاسفة فكانوا يتبعون طريق الامكان. والرازى جمعهما فى مؤلفه هذا. لقد رجح الرازى طريق الامكان على طريق

١٣

الحدوث فى قوله : «علة الحاجة الى المؤثر لما سبق الامكان لا الحدوث» (٤) فانه رجح دليل الامكان على دليل الحدوث فى خلق الله للكون. وبهذا الصدد يقول :

(أ) لأن الحدوث كيفية لوجود الحادث فيكون متأخرا عنه والوجود متأخر تأثير القادر فيه المتأخر عنه احتياج الممكن إليه ، المتأخر عن علة احتياجه إليه ، فلو كانت العلة هى الحدوث لزم تأخر الشيء عن نفسه بمراتب.

(ب) احتجوا (أى المتكلمين) بأن علة الحاجة لو كانت هى الامكان ، لزم احتياج العدم الممكن الى المؤثر ، وهو محال لأن التأثير يستدعى حصول الأثر والعدم نفى محض فلا يكون أثرا.

(ج) جوابه : فان قيل : ان علة العدم عدم العلة (٥).

ان فخر الدين الرازى فى بند (ا) يبين سبب ترجيحه علة حاجة الكون الى وجود الله تعالى بأنه الامكان ويعطى سبب ترجيحه بأن احتياج الممكن الى الواجب الوجود احتياج مباشر وملازم وموجود منذ بداية الأمر وقبل احداث الممكن.

ولذلك لا يمكن ان يخطر ببال الانسان المفكر درجات أو مراحل فى علية الحاجة لأن الانسان يضل فى الطريق الحق عند ما يندرج فى وسائل الاحتياج المتعددة. والاحتياج متلاحم ومتلاصق وبتعبير آخر اذا كانت علة الحاجة هى الامكان. وأما اذا كان علة الحاجة هى الحدوث تتأخر علة الحاجة عن الحدوث. وهذا هو المعنى الدقيق فى المسألة. وعلى ذلك تظهر علة الحاجة بعد أن يحدث الكون ، يعنى بعد أن يخلق الله الكون ونراه بأعيننا وحواسنا حينئذ نفهم أو نستدل بما أن الكون قد حدث وصار بعد أن لم يكن موجودا. إن الله احدثه وكونه وخلقه. هنا علة الحاجة تأخرت عن الحدوث أو على الأقل بالنسبة الى فهم الانسان. فأما فى الامكان فان الانسان يفهم فى بداية الحاجة قبل كون الحدوث

__________________

(٤) الحمل ، ٥٤ ، مصر ١٣٢٣.

(٥) نفس المحصل.

١٤

أو قبل ايجاد وخلق الكون ، فانه محتاج الى موجود وخالق قبل أن يكون أى شيء. وهنا يفهم من امكانيته أنه محتاج الى واجب الوجود لأن يكون موجودا. هنا علة الحاجة سابقة الى الايجاد. وهذا يستند على التفكير المحض والبحث ، ويعتبر آخر مسألة ميتافيزيقية.

وفى بند (ب) فان الرازى أتى بدليل المتكلمين المتقدمين فى ترجيح علية الحدوث على الامكان ، واستدلال المتقدمين من المتكلمين بأن الامكان لو كان هو علة الاحتياج وأن الامكان هو استواء طرفى الوجود والعدم لكن العدم الممكن يعنى لا العدم المستحيل ، محتاج الى مؤثر. فالمتفق عليه أن يفهم ان العدم نفى محض ، ولا يحتاج الى مؤثر ، حتى لا يخطر ببال انسان ان ادعاء الحاجة الى المؤثر محال لأن العدم غير محتاج لأنه اذا احتاج ، معناه أصبح موجودا وأثرا لمؤثر لأنه لما كان محتاجا الى المؤثر والمؤثر يؤثر فيه ويصبح أثرا لأن علية الحاجة سابقة على الوجود فى الامكان ، وان كانت الحاجة ثابتة يلزم أن يكون العدم ثابتا وموجودا وهو محال. ولذلك اعتبر المتكلمون القدماء وبعض المحدثين منهم حاجة الكون الى واجب الوجود هى الحدوث لا الامكان.

وفى بند (ج) فان الرازى أعطى لهم الجواب ، بأن الممكن فى حالة الامكان بما أنه مستوى طرفى العدم والوجود. والممكن ليس هو موجودا ولا معدوما على حد تعبير الفلاسفة نظريا فانه غير موجود فعلا فلا يحتاج الى المؤثر ولا يخطر ببال المفكر احتياجه إليه لأنه عدم ولا حاجة الى تفكير وجوده ولا سبب له ولا علة. لأنه ما دام فى حيز العدم فانه عدم سبب التفكير فى حاجته الى المؤثر ، هو عدمه يعنى عدم علته وهو قاعدة عند المتكلمين والفلاسفة : علة العدم عدم العلة. فمعناه أن العلة فى ان الشيء غير موجود ومعدوم هو عدم وجود علته يعنى لا يوجد دليل لعلة وجوده. وهذا دليل على عدم وجوده وكذلك استدلال المتكلمين على أن العدم الممكن محتاج الى مؤثر غير وارد ولا مستند على تفكير منطقى. وهذا الجواب يظهر ويعتمد على استعمال المصطلحات الفلسفية والكلامية ، وتحقيق أو تبين معانيها كما هى مصطلح عليها بدقة ممكنة.

ومن جانبنا كان من الممكن أن يقوم بجواب ثان لذلك. فى الحقيقة ، الممكن

١٥

الحقيقى هو مستوى طرفى العدم والوجود محتاج الى مؤثر ؛ وطرفه العدمى أيضا محتاج الى المؤثر لأن يكون موجودا ولا غبار فيه ، والا كيف يمكن أن يكون موجودا ، فان عدم الوجود سابق على الوجود فى الممكن الموجود ، واذا لم نعتبر الحاجة هنا يعنى فى الممكن حالة عدم وجوده كيف ، يمكن أن يكون موجودا فيما بعد ، ينبغى ألا يكون هناك أى مانع من أن العدم الممكن محتاج الى المؤثر ، وبطبيعة الحال الممكن محتاج الى المؤثر حال عدمه لأن يكون موجودا وحال وجوده لأن يكون وجوده دائما ومستمرا ولذلك يحتاج الممكن الموجود الى المؤثر فى الوجود والدوام.

فى الجملة ، ان الممكن فى كلتا الحالتين الوجود والعدم محتاج الى المؤثر نظريا فى حالة العدم ، لأننا نفكر أنه سيكون موجودا بمؤثر ، وفى هذه الحالة هو معدوم ومحتاج. والممكن محتاج الى المؤثر وجوديا فى حالة الوجود ليستمر وجوده.

ويقول فخر الدين الرازى فى ترجيحه الامكان على الحدوث بناء على تعليله ماهية الامكان. ويظهر من عبارات الرازى فى ترجيحه هذه المرة أنه بالامكان يستطيع الانسان أن يثبت استمرارية ودوام الحاجة ؛ يقول بهذا الصدد :

(١) «والممكن حال بقائه ، لا يستغنى عن المؤثر ، لأن علة الحاجة الامكان والامكان ضرورى اللزوم للماهية الممكنة ، فهى ابدا محتاجة. لا يقال إنه صار الوجود أولى به حال البقاء. لأنا نقول هذه الأولوية المغنية عن المرجح ، ان كانت حاصلة حال الحدوث ، وجب الاستغناء عن المؤثر حال الحدوث ، وان لم تكن حاصلة حال الحدوث فهو أمر حدث حال البقاء ؛ ولو لاه لما حصل الاستمرار. فالشيء حال استمراره مفتقر الى المرجح» (٦).

يشير الرازى فى هذه العبارات الى ماهية الممكن ، وهى أن الماهية ليست غنية عن المؤثر. ان ماهية الممكن كما بينا آنفا ، اذا اخرجت من العدم الى

__________________

(٦) المحصل ٥٤.

١٦

الوجود ؛ فصفة الامكان لا تنفصل عنه وتلازمه ؛ فصفة الامكان بما أنها لازمة وضرورية للماهية والماهية اذا خرجت من العدم الى الوجود ، لا تنقلب من الامكان الى الوجوب وتبقى الماهية على صفة الامكان كما كانت عليه قبل اتصافها بالوجود. وفى هذه الحالة تحتاج الى الواجب الوجود. ونظرية الامكان عند ما وضعت من قبل الفارابى وشرحها بعده ابن سينا وهما قصدا هذا المعنى وهو خلاف الحدوث. ان الحدوث اذا قبل بالمعنى الّذي حدده المتكلمون بأنه خروج الشيء من العدم الى الوجود ، وقبل وجوده لم يكن متصفا بأية صفة من صفات النفى ولم يسمّ ـ باسم من الأسماء سوى النفى المحض حيث ليس له اسم يقابله. واذا وجد وحدث لم يكن له أى صلة بما كان قبل وجوده ، لأنه قبل وجوده لم يكن شيئا مذكورا حتى يستطيع الانسان أن يفكر بأن له علاقة بما قبله وما بعده. واذا وجد لم يكن محتاجا بدوره الى المؤثر ليوجده ويحدثه مرة ثانية لأنه يلزمه تحصيل الحاصل.

وأما احتياج الممكن الوجود الى المؤثر حال وجوده لا يستلزم تحصيل الحاصل فالفرق هو أن الممكن لا يحتاج الى المؤثر فى وجوده أو لاتصاف الماهية بالوجود ، بل لاتصاف الماهية بالامكان وهذا الامكان باق بعد وجوده ، ولكن فى الحدوث غير باق ما هو قبله ولذلك يمكن التفكير بعدم احتياجه الى المؤثر ؛ لأن المؤثر قد اظهر اثره وأتم عمله وانتهى ، ولم يبق له علاقة مع عمله فى نظرية الحدوث وحاجة الوجود الى الاستمرار فى نظرية الحدوث ينبغى أن تبنى على نظرية أخرى أو تستند على دليل آخر. ودليل الحدوث لا يعطى ذلك بصراحة ووضوح واما نظرية الامكان فانها تتضمنه ؛ وهذا هو سبب الترجيح عند الرازى.

(٢) «احتجوا (المتكلمون الذين يرجحون نظرية الحدوث) بأن المؤثر حال البقاء اما ان يكون له فيه تأثير أو لا يكون. فان كان له فيه تأثير ؛ فذلك الأثر اما ان يكون الوجود الّذي كان حاصلا وهو محال. لأن تحصيل الحاصل محال. واما أن يكون أمرا جديدا ؛ كأن يكون المؤثر مؤثرا فى الجديد لا فى الباقى. وان لم يكن له فيه تأثير أصلا ؛ استحال أن يكون مؤثرا».

١٧

ويقول هنا أصحاب نظرية الحدوث ان الشيء المحدث متى ما أحدث وخلق فأنه يصبح بغنى عن المؤثر وغير محتاج إليه مرة ثانية ، اذ لم يبق له حاجة به لأن الشيء المحدث عند ما حدث وتم انقطعت علاقته مع مؤثره وان فرض علاقته به لا يعطى أى معنى لأنه ما ذا يعمل المؤثر فى المرة الثانية هل يعطى وجودا لموجود وهذا لا يمكن بالطبع لأن الموجود غير محتاج الى الوجود والا يكون ايجاد الموجود وهو محال وبتعبيرهم هو تحصيل الحاصل. واذا اعطى المؤثر وأوجد شيئا جديدا. وهو شيء جديد ومحدث آخر ليس هو الشيء المحدث الأول السابق. وبما أن المؤثر لا يعمل شيئا فى المحدث لا فى ايجاده بعد ان وجد ولا فى ابقائه لأن الابقاء تزويد الشيء بالوجود مرة ثانية ولا حاجة إليه لأن الموجود بما أنه موجود لا يحتاج الى الموجود ولا يبقى المؤثر مؤثرا.

(٣) «والجواب : لا نعنى بالتأثير تحصيل أمر جديد بل بقاء الأثر لبقاء المؤثر» (٤).

جواب الرازى هنا ليس مقنعا. فهو وان لم يكن تحصيل أمر جديد ، فانه استمرار وتزويد الموجود بالوجود لكى يبقى الموجود دائم الوجود. وصحة هذه الدعوى تقوم على اثبات وجود العلاقة المستمرة بين المؤثر والأثر ودوام حاجة الموجود الى الموجود حال وجوده.

وهنا ارى انه من الأحرى ان توضع هنا أقوال الشراح نصب الأعين حتى يمكن للقارىء الكريم المقارنة فى إيضاح وشرح وفهم عبارات الرازى حيث نتمكن من خلال ذلك تقديم وتقريب المعنى الى الأذهان.

يقول نصير الدين الطوسى فى شرح النصوص فى ب ج : «أقول : الحدوث هو كون الوجود مسبوقا بالعدم فهو للوجود الموصوف به. والصفة متأخرة بالطبع عن موصوفها. والوجود الموصوف به متأخر عن تأثير موجوده بالذات تأخير المعلول عن العلة. وتأثير الموجود متأخرا عن احتياج الأثر إليه فى الوجود تأخيرا بالطبع.

__________________

(٤) المحصل (هامش) ٥٤.

١٨

واحتياج الأثر متأخر عن علته بالذات وجميعها أربع تأخرات. اثنان بالطبع واثنان بالذات وذلك يقتضي امتناع كون الحدوث علة للاحتياج.

وقد قالوا فى معارضة الامكان صفة للممكن فهو متأخر عنه. والممكن متأخر عن تأثير المؤثر فيه. والتأثير متأخر عن الاحتياج المتأخر عن علته وهى فاسدة. لأن الممكن الموصوف بالامكان ليس متأخرا عن تأثير المؤثر. انما يتأخر عنه وجوده أو عدمه المتأخران عن ذاته اللذين بسببهما احتاج الى مؤثر ثم الى علة الاحتياج.

والقائلون بكون الامكان علة الحاجة هم الفلاسفة والمتأخرون من المتكلمين ، والقائلون بكون الحدوث علة لها هم الأقدمون منهم.

وقولهم : لو كان الامكان علة الحاجة لزم احتياج العدم الى المؤثر وهو محال ليس بشيء لأن عدم المعلول ليس نفيا صرفا ولا مانع من أن يكون معلولا لعدم العلة كما مر القول فيه. وقد تبين أن ذلك غير مشتمل على فساد. (٥) وفى شرح النصوص : ١ ، ٢ ، ٣.

«أقول : القول بأن الممكن حال بقائه محتاج الى المؤثر هو قول الحكماء والمتأخرين من المتكلمين. وبعض منهم يفرقون بين الموجد وبين المبقى. والاعتراض بأن المؤثر حال البقاء اما أن يكون له فى الأثر تأثير أم لا ، يشتمل على غلط. فان المؤثر فى البقاء لا يكون له أثر البقاء حال العدم. وتحصيل الحاصل انما لزم منه. والحق أن المؤثر يفيد البقاء بعد الاحداث.

وقوله وان كان أمرا جديدا كان المؤثر مؤثرا فى الجديد لا فى الباقى. جوابه : نعم تأثيره بعد الأحداث فى أمر جديد هو البقاء فانه غير الاحداث فهو مؤثر فى أمر جديد صار به باقيا ، لا فى الّذي كان باقيا.

وقوله فى الجواب. لا نعنى بالتأثير تحصيل أمر جديد بل بقاء الأثر لبقاء

__________________

(٥) المحصل (هامش) ٥٤. الطوسي ، تلخيص المحصل ١٢٠ ـ ١٢١ طهران ١٩٨٠.

١٩

المؤثر ، ليس بشيء لأن البقاء المستفاد من المؤثر أمر جديد لو لاه لكان الأثر مما لا يبقى» (٦).

لا أريد أن أعلق على عبارات الطوسى لأنها واضحة الا الجملة الأخيرة مع استصغاره عبارة الرازى فى الجواب ولم يزد عليها شيئا وانما اعاد نفس المعنى بعبارات أخرى.

وأما ابن أبى الحديد فقد علق على قول الرازى قائلا : «فصل : ثم تكلم فى أن الممكن الباقى هل يستغنى حال بقائه عن المؤثر أم لا وهى مسئلة خلاف بين الفلاسفة وكبير من المتكلمين. فاحتج لمذهب الفلاسفة بأن الحاجة الى المؤثر الامكان. والامكان ضرورى اللزوم لماهية الممكن فيكون محتاجا أبدا ثم سأل نفسه فقال انه حال البقاء صار أولى بالوجود واجاب بأن هذه الأولوية المغنية عن المرجح ان كانت حاصلة حال الحدوث وجب الاستغناء عن المؤثر حال الحدوث وان لم تكن حاصلة حال الحدوث فهى أمر حصل (و) حدث حال البقاء ولو لاه لما حصل الاستمرار. فالممكن حال استمراره مفتقر الى المرجح (٧).

وفى شرح نص الرازى (١ ، ٢ ، ٣) يقول ابن أبى الحديد :

«أقول : ان هذا خروج عن محل النزاع لأن الفلاسفة ومن وافقهم من المتكلمين على هذه المسألة يزعمون أن الممكن الباقى محتاج حال بقائه الى مؤثر خارج عن هذه الأولوية سواء صح القول بها أو فسد. ولو جاز عند الفلاسفة أن يكون وجود العالم حال استمراره تسليم هذه الأولوية من علة خارجة عنه بالكلية واجبة الوجود يقتضي دوامه واستمراره. وفى هذا وقع النزاع وهو محل البحث والنظر وكلام صاحب الكتاب تصريح بالرجوع عن المذهب الّذي يروم ان ينتصر له. حكى حجة لمن زعم انه لا يكون المؤثر مؤثرا الا فى أمر حادث. ومحصولها ان المؤثر حال بقاء الأثر اما ان يكون له تأثير أو لا يكون. فان كان له فيه تأثير فذلك التأثير اما الوجود الّذي كان حاصلا وهو محال لأن تحصيل الحاصل محال ،

__________________

(٦) المحصل (هامش) ٥٤ ، ٥٥. تلخيص المحصل ١٤١.

(٧) تعليقات ابن ابي الحديد ، ٤٥٥ ب ، مكتبة جامعة استانبول تحت ٣٢٩٧.

٢٠