موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

السيد علي الشهرستاني

موسوعة الأذان بين الأصالة والتحريف - ج ١

المؤلف:

السيد علي الشهرستاني


الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة المؤمل الثقافية
الطبعة: ٠
الصفحات: ٤٨٠

١
٢

٣
٤

الإهداء

إلى من آمن بالله والناس مشركون.

إلى من تحمّل كلّ شيء من أجل الرسول والرسالة.

إلى من صبر على أذى قريش وهو يقول : أحد ، أحد.

إلى من رفع نداء التوحيد وحطّم بتكبيره شوكة قريش.

إلى من لم يؤذّن لأحد بعد رسول الله إلّا للزهراء والحسنين.

إلى من أُبعد أو ابتعد عن مجريات الأحداث بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

إلى من وقف أمام التحريف داعياً إلى الأصالة.

إلى مؤذّن رسول الله ومحبّ عترته وآل بيته.

إلى الصحابيّ الجليل بلال الحبشيّ رضوان الله تعالى عليه.

أهدي دراستي هذه.

المؤلف

٥
٦

مقدّمة المؤلف

مرّ الفقه الإسلامي بمراحل وأدوار متعددة ، وكُتب بأساليب ورؤى مختلفة ، وطبق مناهج خاصة لفقهاء الإسلام ، فالبعض أجمل فيه ، والآخر فصّل ، وثالث عُني بذكر الأدلّة ، ورابع بتكثير الفروع ، وخامس بمسائل الخلاف ، وسادس بفقه الوفاق ، واهتمّ غيرهم بجوانب أُخرى منه.

وقد دُوّنت تلك المصنّفات تارة أصلاً ومتناً ، واُخرى تعليقاً وشرحاً ، وثالثة نظماً وشعراً ، وغير ذلك.

وقد اختططتُ منهجاً بين تلك المناهج ، مسلِّطاً الضوء على العلل والأسباب التي أدّت إلى اختلاف المسلمين في الأحكام الشرعيّة ، موضّحاً فيه ملابسات التشريع ، غير مُتناس لمنهج الأقدمين في دراسة الفروع ، آخذاً بنظر الاعتبار ما يلائم عقليّة المسلم المعاصر من التعرّف على جذور الخلاف وأسبابه.

فالفقيه لو جمع إلى أدلّته القرآنيّة والحديثيّة شيئاً من تاريخ التشريع وملابسات الأحكام الشرعية لا تّضح للسامع والقارئ حقائق كثيرة في هذا السياق. وكذا المؤرّخ عليه أن يدرس الأحداث دراسة تحليلية استنباطية كما يفعل الفقيه بالأحاديث ، وأن لا يكتفي بنقل البلاذري والطبري والواقدي وابن سعد وغيرهم من أعلام المؤرِّخين.

٧

وقد أوضحنا بعض معالم منهجنا في مقدمة كتابنا (وضوء النبيّ) وأكّدنا على ضرورة دراسة المتن والسند معاً ، مع بيان الجذور السياسية والاجتماعية والتاريخية والجغرافية للأحداث ، وأن لا يكتفي المؤرّخ أو الفقيه بواحد منها دون الآخر ؛ لأن اتّخاذ أحد الأسلوبين (القديم أو الجديد) ربما لا يقنع المطالع وخصوصاً في القضايا الخلافية ، فالبحوث الإسنادية مثلاً هي بحوث تخصّصية بحتة لا يستسيغها الأكاديمي (الجامعي) ، وقد تثقل على مسامع غير المتخصّصين. وكذلك الحال بالنسبة إلى البحوث التاريخية التشريعية ، فرّبما لا يرى الطالب الحوزوي والأزهري كثير فائدة في طرحها ، ومن هنا سَعَينا أن نجمع ـ في دراساتنا ـ بين الأسلوبين ، كي نخاطب أكبر عدد ممكن من القراء الأعزاء ، مبسطين العبارة والفكرة بقدر المستطاع. وأشرنا إلى بعض أهدافنا صراحةً بالقول :

لقد انتهجنا هذا الأسلوب في دراسـتنا واتّبعناه لا لشيء إلّا لتطوير وإشاعة مثل هذه الدراسات في معاهدنا العلمية وجامعاتنا الإسلامية ، على أمل تعاون المعنيّين معنا في ترسيخ هذه الفكرة وتطويرها ، وأن لا يدرسوا الفقه دراسة إسنادية متنية فقط دون معرفة ملابسات الحكم التاريخية والسياسية ، ونرى في طرح مثل هذه الدراسات رُقيّاً للمستوى الفقهي والأُصولي لدى المذاهب الإسلامية ، وتقريباً لوجهات النظر بين المسلمين ، وترسيخاً لروح الانفتاح فيهم ، ومحاولة للقضاء على مختلف النزعات العاطفية وإبعادها عن مجالات البحث العلمي ، وعدم السماح لتحكّم الخلفيات الطائفية ، والرواسب الذهنية في هذه البحوث العلمية النظرية.

٨

ولو اتّبعنا مثل هذا الأُسلوب في جميع أبواب الفقه لوصلنا إلى حقيقة الفقه الإسلامي من أيسر طرقه وأسلمها ، ولوقفنا على تاريخ التشريع وملابساته ، ولا تّضحت لنا خلفيات صدور بعض الأحكام ، وعرفنا حكم الله الواحد الذي ينشده الجميع.

وممّا يجب التأكيد عليه أنّ مشـروعنا سـيطـبّق ـ إن شـاء الله تعالى ـ في إطارين :

١ ـ الإطار التأسيسي.

٢ ـ الإطار التطبيقي.

ولنا دراسات عن السنّة النبوية ، والقراءات القرآنية ، والنسخ وأساسيّات نقاط الافتراق بين المذاهب الإسلامية كالعصمة ، والقياس ، والاستحسان وسواها.

وقد قدّمنا سابقاً بعض النماذج التطبيقية للفكرة ، فكان (وضوء النبيّ) هو الأوّل ، ثمّ أردفناه بالأذان ، آملين أن نُلحق به الصلاة والحجّ والزكاة وغيرها بإذن الله تعالى.

ولا نقصد من عملنا هذا إعطاء وجهة نظر فقهيه خاصّـة بـنا ، بل كانت تلك الدراسـات بياناً لكلـيّات عقائديـة تاريخـية فقهـية ينبغـي أن يعـرفها ويتعرّف عليهـا كلّ مسلم غير جامـد على منهج خاصّ ونسق معروف عند طبقة خاصّة من الفقهاء والمؤرّخين والكتّاب.

وقد عنيتُ في عملي هذا برفع الغامض وحلّ المبهم من المسائل ، وأردت أن أنتقل بالقارئ الكريم إلى واحات العلم ، وميادين المعرفة ، من غصن إلى غصن ، ومن فنن إلى فنن على شجرة المعرفة لنقنطف من الثمار أحلاها ... من الفقه ، إلى التفسير ، إلى التاريخ ، إلى الرجال ، إلى الحديث ، إلى اللغة ، وإلى كلّ شيء يمتّ للبحث بصلة.

٩

فالغاية من دراساتنا اذاً هي بيان كليّات وأمّهات المسائل لا جزئيّاتها وسننها ومستحباتها ، فلا تعني بحوثنا بمثل فضل الأذان والمؤذّن ، أو جواز أذان المراة والصبىّ وعدمهما ، أو جواز إعطاء الأجرة على الأذان أم لا ، وغيرها من عشرات المسائل المطروحة.

وكذلك ما يتّصل بالوضوء ، فلم تكن الدراسة متجهة إلى البحث عن الأسباب والموجبات والنواقض والمستحبات ، بل متجهة إلى بيان حدود الأعضاء المغسولة والممسوحة ، وكيفيّة وضوء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وهكذا الحال بالنسـبة إلى دراسـاتنا اللاحقة ـ إن وفّق الله لإتمامها ـ فهي بحوث عن الكليّات والأمّهات لا عن التشـعبّات والتفريعات وما يتعلّق بالآداب والسنن.

هذا ، وقد جعلت دراستي عن الأذان عما هو الأصيل منه والمحرَّف ، فجاءت في ثلاثة أبواب.

الباب الأول : «حيّ على خير العمل» الشرعية والشعارية.

الباب الثاني : «الصلاة خير من النوم» شِرعة أم بِدعة؟.

الباب الثالث : «أشهد أن عليّاً ولـىّ الله» بين الشرعية والابتداع.

وقدمت لهذه الأبواب ببعض البحوث التمهيدية ، كالأذان لغة واصطلاحاً ، وكَبيان ما قاله أهل السنّة والجماعة بمذاهبهم الأربعة ، والشيعة ـ بفرقها الثلاث ـ في بدء الأذان ، ثمّ كانت لنا وقفه مع أحاديث الرؤيا ، ثمّ تحقيق في ما وراء نظرية الرؤيا.

منبهاً القارئ الكريم على أن هذه الدراسة هي مواضيع مترابط بعضها ببعض ترابطاً وثيقاً ، فلا يمكن فهم مكانة الشهادة الثالثة في الأذان إلّا بعد قراءة «حيّ على خير العمل».

١٠

ونظير هذا ما يتعلق بالحَيعَلة الثالثة «حيّ على خير العمل» ، فإن معناها لا يتّضح كاملاً إلّا بعد قراءة الشهادة الثالثة «أشهد أن عليّاً وليّ الله».

أمّا «الصلاة خير من النوم» فهي الجدار الحائل بين البابَين ، والموضح لأسرار محاربة شرعية وشعارية الشهادة والحيعلة الثالثتين.

وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين

E-mail:info] shahrestani.org

http://www. shahrestani.org

١١
١٢

بحوث تمهيدية

ـ الأذان لغة واصطلاحاً

ـ تاريخ الأذان

ـ بدء الأذان عند أهل السنّة والجماعة

ـ أهل البيت وبدء الأذان

ـ وقفة مع أحاديث الرؤيا

ـ تحقيق فيما وراء نظرية الرؤيا

ـ الأذان إعلام للصلاة أم بيان لأصول العقيدة؟

ـ الأذان وآثاره في الحياة الاجتماعية

١٣
١٤

الأذان نغمة الوحي في سماء الدنيا ، يُرتّلها المؤذِّن آناء الليل وأطراف النهار ، داعياً عباد الله إلى عبادته جلّ شأنه ، ناطقاً بالحقيقة الخالدة ، معلناً حقائق الدين الحنيف بكلّ صراحة ووضوح ، مُذَكِّراً بحلول وقت مناجاة الربّ الكريم ، والدخول في حضرة الجليل.

كلمات تهزّ المشاعر والعواطف وتشدّ الأرواح إلى مالكها الذي اليه الرُّجعى وإليه المصير.

أسماء مباركة تردّدها شفاه المؤمنين ، فتزيد المؤمن إيماناً ، والكافر عناداً وخسراناً.

إنّه دعوة الرحمن أولياءه إلى الطاعة والرحمة والمغفرة ، وهو نداء ملائكة السماء ، وأُنشودة المؤمنين إلى قيام يوم الدين.

وما أن يتمّ المؤذن نداءه للظهر والعصر ، حتّى يحلّ الغروب وظلام الليل ، وإذا بتراتيل الإسلام :

١٥

أشهدُ أن لا إله إلّا الله ، أشهدُ أن لا إله إلّا الله.

أشهدُ أنَّ محمّداً رسول الله ، أشهدُ أن محمّداً رسول الله تعلو من المآذن.

فالأذان حيـنذاك إعلام لإقامة الصـلاة في غسق الليل ، وما أن يتمّ المؤمن صلاته ومناجاته مع ربّه حتّى ينصرف إلى الرقـاد ، وإذا بالصـبح يطلع عليه بفجـره الصـادق هاتفاً المؤذن فيه باسم الربّ الجليل وباسم الرسول الأمـين تارة أُخرى :

أشهد أن لا إله إلّا الله ، أشهد أن لا إله إلّا الله.

أشهد أنّ محمداً رسول الله ، أشهد أنّ محمداً رسول الله.

ليقيم ما أمر به الله في كتابه (أقِمِ الصلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمسِ إلى غَسَقِ الليلِ وقرآن الفجرِ إن قرآنَ الفجرِ كانَ مَشهوداً) (١)

* * *

والأذان من السنن المؤكّدة التي حثّ عليها الشارع المقدّس ، وهي دعوة الخالق لعباده إلى الدخول في أجواء رحابه المباركة اللامتناهية فُرادى أو مجتمعين ، متراصّين متحابّين ، مؤمنين ، في زمان معيّن ومكان واحد ، وباتّجاه محور وقبلة واحدة ، يرهبون باجتماعهم أعداء الله وجند إبليس.

إنّه إذاً من أعظم الشعائر الإسلاميّة ؛ لكونه دعوة الحيّ القيّوم لتنبيه الغافلين وإيقاظ النائمين وتذكير الناسين ، بل هو من مصاديق قوله جلّ شأنه : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْـمُسْلِمِينَ) (٢)

ولعلّ من الغرابة بمكان أن نرى وقوع الاختلاف في أمر بديهىّ وإعلامىّ كالأذان الذي ينادي به مؤذّنو المسـلمين في كلّ يوم وليلة عدّة مرات ـ على اختلاف ألسنة الناس ـ بلسان عربي مبين ، ومن على المآذن وبصـوت عال يسمعه الجميع.

__________________

(١) الإسراء : ٧٨.

(٢) فصّلت : ٢٣. وانظر في ذلك الحاوي الكبير للماوردي ٢ : ٤٠.

١٦

فنتساءل عن سبب الاختلاف والتنازع في فصول هذه الشَّعيرة الإسلاميّة؟ ولماذا يكون اختلاف في مثل هذه المسألة بين المذاهب الإسلاميّة؟

بل لماذا تذهب الشـافعيّة إلى تربـيع التكبـير بخـلاف المالكـيّة القائلـة بتثنيـته؟

وهل هناك أُمور خفيّة وراء اختلافهم في إفراد أو تثنية الإقامة؟!

وهل حقاً أنّ هناك تثو يباً (١) أوَّلا وتثو يباً ثانياً؟

وهل يجب أن يؤتى بالتثو يب في أثناء فصول الأذان ، أم بعدها قبل الإقامة؟ بل ما هو المعني بالتثو يب؟ هل هو : «الصلاة خير من النوم» أو «قد قامت الصلاة» أو : «حيّ على خير العمل» أو هو شيء آخر؟

ثُمَّ لماذا اختلفت رواية عبدالله بن زيد بن عبد ربّه بن ثعلبة الأنصاري في الأذان (٢) عن رواية أبي محذورة القرشي؟

ولماذا تجيز المذاهب الأربعة الأذان قبل الوقت لصلاة الفجر خاصّة ، مع تأكيدهم المبرم على عدم جواز ذلك في سائر الأوقات المعيّنة؟

وكيف يمكن تصحيح خبر تأذين ابن أُمّ مكتوم الأعمى للفجر ، وتضعيفهم لروايات صحيحة أخرى تطابق العقل والشرع في أنّه كان يؤذّن بالليل وفي شهر رمضان خاصة؟

بل كيف يقـولون بتأذيـن ابن أُم مكـتوم مع قـولهـم بكراهـة تأذيـن الأعمـى؟

__________________

(١) التثويب من ثاب يثوب ، ومعناه : العَود إلى الإعلام بعد الإعلام ، كقول المؤذّن (حىّ على الصلاة) ، فإنّه يعود ويرجع إلى دعوته تارة أخرى فيقول (قد قامت الصلاة) أو (الصلاة خير من النوم) أو (الصلاة الصلاة يرحمك الله) أو أىّ شيء آخر.

وقالوا عن (الصلاة خير من النوم) إنّه التثويب الأوّل ، وما يقوله المؤذّن بعد الأذان مثل (السّلام عليك أيّها الأمير ، حيّ على الصلاة) وأمثاله إنّه التثويب الثاني.

(٢) انظر صفحة ٢٩ ـ ٣٤.

١٧

أضف إلى ذلك كله أنّه ما الداعي إلى اختلاف أذان أهل مكّة عن أذان أهل المدينة ، واختلاف الأذانين عن أذاني أهل الكوفة وأهل البصرة؟

ولماذا يختلفون فيما هو ـ واللفظ لابن حزم ـ «منقول نقل الكافّة بمكّة وبالمـدينـة وبالكوفـة ، لأنّه لم يمرّ بأهل الإسلام يوم إلّا وهم يؤذّنون فيه في كلّ مسجد من مساجدهم خمس مرّات فأكثـر ، فمثل هذا لا يجـوز أن يُنسى ولا أن يُحرّف» (١).

فلماذا نُسي أو حُرّف هذا الأذان واختُلف فيه بين مصر وآخر؟

ولو صحّ ما قاله ابن حزم ـ من صحّة جميع منقولات الأذان على اختلافها ـ عند جمعه بين الوجوه في الأذان ؛ فكيف يمكننا أن نوفّق بين وحدة الشر يعة وبين تعدّدية الأذان؟ فهل كان رسول الله قد صحّح الجميع؟ أم وقع في الأذان تغيـير يشهد به إحداث عثمان بن عفان للأذان الثالث يوم الجمعة (٢)؟.

قال ابن حزم جامعاً بين كلّ تلك الوجوه :

«... كلّ هذه الوجوه قد كان يُؤذّن بها على عهد رسول الله بلا شكّ ، وكان الأذان بمكّة على عهد رسول الله يسمعه عليه‌السلام إذا حجّ ، ثمّ يسمعه أبو بكر وعمر ، ثم عثمان بعده عليه‌السلام ... فمن الباطل الممتنع المحال الذي لا يحلّ أن يظنّ بهم أنّ أهل مكّة بدّلوا الأذان وسمعه أحد هؤلاء الخلفاء رضي الله عنهم ، أو بلغه والخلافة بيده فلم يغيّر ...

وكذلك فُتحت الكوفة ونزل بها طوائف من الصحابة رضي الله عنهم ، وتداولها عمّال عمر بن الخطاب ، وعمّال عثمان رضي الله عنهما ، كأبي موسى الأشعري ، وابن مسعود ، وعمّار ، والمغيرة ،

__________________

(١) المحلَّى لابن حزم ٣ : ١٥٣.

(٢) انظر : تحفة الأحوذي ٣ : ٤١ / أبواب الجمعة ـ باب ما جاء في أذان الجمعة ؛ عون المعبود ٣ : ٣٠٢.

١٨

وسعد بن أبي وقّاص. ولم يَزَل الصحابة الخارجون عن الكوفة يؤذّنون في كلّ يوم سفرهم خمس مرات ، إلى أن بَنَوها وسكنوها ، فمن الباطل المحال أن يُحال الأذان بحضرة من ذكرنا ويخفى ذلك على عمر وعثمان أو يعلمه أحدهما فيقرّه ولا ينكره.

ثم سكن الكوفة عليّ بن أبي طالب إلى أن مات ، وأنفذ العمّال من قِبله إلى مكّة والمدينة ، ثمّ الحسن ابنهُ رضي الله عنه إلى أن سلّم الأمر لمعاوية ، فمن المحال أن يُغيَّر الأذان ولا ينكر تغييره عليّ ولا الحسن ، ولو جاز ذلك على عليّ لجاز مثله على أبي بكر وعمر وعثمان ، وحاشا لهم من هذا فما يَظنُّ هذا بهم ولا بأحد منهم مسلمٌ أصلاً.

فإن قالوا : ليس أذان مكّة ولا أذان الكوفة نقل كافّة.

قيل لهم : فإن قالوا لكم : بل أذان أهل المدينة ليس هو نقل كافة ، فما الفرق؟

فإنِ ادّعوا في هذا محالاً ادُّعي عليهم مثله.

فإن قالوا : إن أذان أهل مكّة وأهل الكوفة يرجع إلى قوم محصور عددهم.

قيل لهم : وأذان أهل المدينة يرجع إلى ثلاثة رجال لا أكثر ، مالك وابن الماجشون وابن أبي ذئب فقط ، وإنّما أخذه أصحاب هؤلاء عن هؤلاء فقط.

فإن قالوا : لم يختلف في ..» (١).

إلى غيرها من عشرات الأسئلة التي طرحها ابن حزم وسعى لرفعها ، لكن المشكلة بقيت كما هي ، فما الذي تكتنفه هذه المسألة من الملابسات إذاً؟

__________________

(١) المحلّى لابن حزم ٣ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

١٩

وهل يُعدّ هذا الاختلاف حقاً من الاختلاف المسموح به في الشر يعة ، أم أنّه شيء آخر؟.

بل لِم اشتدّ أُوار النزاع بين المسلمين في أمور بديهية ، كالوضوء والأذان ـ مثلاً ـ وهما من الأمور العبادية التي يؤدّيها كلّ مسلم عدّة مرّات في اليوم والليلة؟

قال ابن حزم : «أربعة أشياء تَنازَع الناسُ فيها : الوضوء ، والأذان ، والإقامة ، والطواف بالبيت» (١).

وهل يمكن جعل معيار الاختلاف في الأذان بمثابة الاختلاف في تعيين المُدِّ والصاع والوسق الذي يُختلف فيه بين منطقة وأُخرى ، أو يُغيَّر ـ أي يُحدَثُ فيه ـ من قبل الأمير والخليفة لحاجة له فيه؟

كلا «ليس هذا من المدّ والصاع والوسق في شيء ، لأنّ كل مدّ أو قفيز أُحدث بالمدينة وبالكوفة قد عُرف ، كما عُرف بالمدينة مُـدّ هشام الذي أُحـدِث ، والمدّ الذي ذكره مالك في مُـوطّئه : أن الصاع هو مدّ وثلث بالمدّ الآخر ، وكمُـدّ أهل الكوفة الحجّاجي ، وكصاع عمر بن الخطّاب. ولا حرج في إحداث الأمير أو غيره مدّاً أو صاعاً لبعض حاجته ، وبقي مُدُّ النبيّ وصاعه ووسقه منقولاً إليه نقل الكافّة إليه» (٢)!

فكيف يختلفون في الأذان إذاً ، فيذهب بعضهم إلى أنّه شُرّع في السماء ، ويقول الآخر إنّه شُرّع بعد رؤيا رآها صحابيٌّ أو عدد من الصحابة؟

وهل يصحّ تشريع العبادة بمنام يراه أحد الناس ، أم أنّ تشريعها يجب أن يكون بوحي من الله؟

__________________

(١) المحلّى لابن حزم ٣ : ١٦١ ضمن بحثه عن جواز التقديم والتأخير في الأذان والإقامة وعدمه.

(٢) المحلّى لابن حزم ٣ : ١٥٦ ـ ١٥٧.

٢٠