مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

مجموع رسائل الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام

المؤلف:


المحقق: عبدالله بن محمّد الشاذلي
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية
الطبعة: ١
الصفحات: ٧٠٨

١

٢

فهرس

مقدمة السيد العلامة مجد الدين بن محمد المؤيدي............................... ٧

مقدمة التحقيق................................................................ ١٨

كتاب البالغ المدرك........................................................... ٤١

كتاب فيه معرفة الله عزوجل.................................................... ٤٩

كتاب الدّيانة................................................................. ٨٦

جواب لأهل صنعاء على كتاب كتبوه إليه عند قدومه البلد........................ ٩٢

كتاب المسترشد في التوحيد (ج ١)........................................... ٩٨

كتاب المسترشد في التوحيد (ج ٢)......................................... ١١٧

باب الرد على أهل الزيغ من المشبهين........................................ ١٤٥

كتاب المنزلة بين المنزلتين................................................... ١٥٢

كتاب الجملة............................................................... ١٨٠

كتاب أصول الدين.......................................................... ١٩١

مسألة في العلم والقدرة والإرادة والمشيئة..................................... ١٩٧

كتاب الرد على سليمان بن جرير............................................. ٢٠٠

كتاب تفسير الكرسي........................................................ ٢٠٤

كتاب العرش والكرسي....................................................... ٢١٠

كتاب الرد على المجبرة القدرية.............................................. ٢١٨

كتاب الرد على المجبرة القدرية.............................................. ٢٣٩

كتاب الرد على الحسن بن محمد بن الحنفية................................. ٢٦٧

باب إثبات النبوة............................................................ ٤٢٢

الدليل على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.................................. ٤٢٥

٣

جواب مسألة النبوة والإمامة.................................................. ٤٢٨

تثبيت إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه.................. ٤٣٦

ذكر خطايا الأنبياء عليهم‌السلام.............................................. ٤٣٩

الرد على من زعم أن القرآن قد ذهب بعضه................................... ٤٦٠

كتاب تفسير معاني السنة.................................................... ٤٦٥

مسألة في الإمامة............................................................ ٤٨٣

كتاب القياس للهادي عليه‌السلام............................................. ٤٨٦

كتاب دعوة وجه بها إلى أحمد بن يحيى بن زيد ومن قبله...................... ٥٠٤

جواب مسائل الحسين بن عبد الله الطبري.................................... ٥٢٣

من سيرة الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين صلوات الله عليه............ ٥٣٩

عهد الإمام الهادي عليه‌السلام لعمّاله......................................... ٥٤٥

جواب مسألة الرجل من أهل قم.............................................. ٥٥٠

جواب مسائل أبي القاسم الرازي رحمه‌الله تعالى................................ ٥٥٨

من مسائل محمد بن عبيد الله................................................ ٦٠٨

مسألة من مسائل النّباعي..................................................... ٦١٣

مسألة لأبي القاسم محمد بن يحيى عليهما‌السلام.............................. ٦١٥

مسألة في الذبائح........................................................... ٦٢٠

من مسائل علي بن محمد العلوي............................................. ٦٢١

جواب مسائل لابنه المرتضى عليهما‌السلام.................................... ٦٢٣

الفهارس العامة.............................................................. ٦٢٧

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلوات الله على سيدنا ونبينا محمد

وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين

منذ أن تأسست مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية كان في مقدمة أهدافها إخراج النصوص التي بقيت ووصلتنا من قدماء الأعلام من أهل البيت عليهم‌السلام ، كالإمام زيد بن علي ، والإمام القاسم بن إبراهيم ، والإمام الحسن بن يحيى ، والإمام أحمد بن عيسى ، والإمام عبد الله بن موسى ، والإمام يحيى بن الحسين ، والإمام الحسن بن علي وغيرهم.

وما ذلك إلا رعاية لوصية رسول الله صلوات الله عليه في أهل بيته ، وتمسكا بحديث الثقلين الذي جعل في التمسك بالقرآن وأهل البيت الأمان من الضلال ، واهتماما بعلوم من أمرنا الله تعالى أن نصلي عليهم في كل يوم من أيام حياتنا.

والاهتمام الخاص بالقدماء من أهل البيت يعود إلى أن فترتهم كانت فترة إجماع ، فلا يعرف علما منهم قال بغير التوحيد والعدل وصدق الوعد والوعيد وغير ذلك من المسائل الأساسية لتحقيق المعرفة بالله ، ولدفع الإنسان نحو صلاح دنياه وآخرته.

وقد بدأت المؤسسة في تحقيق مجموعة من الكتب التي تحقق هذا الهدف نحو رسائل الإمام زيد بن علي ، والمجموع الحديثي والمجموع الفقهي له أيضا ؛ والجامع الكافي في فقه الزيدية للحافظ أبي عبد الله العلوي الذي جمع آراء مجموعة من أعلام أهل البيت ؛ وآمالي الإمام أحمد بن عيسى ؛ ورسائل الإمام القاسم بن إبراهيم ؛ ورسائل الإمام يحيى بن الحسين ؛ وغير ذلك.

والحمد لله فقد تم العمل على القسم الأول من رسائل الإمام يحيى بن الحسين وهو يضم الرسائل الأصولية ، بينما سيضم القسم الثاني رسائل الإمام الهادي في المسائل الفقهية والأخلاقية ، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى اتمام ما بقي وأن يجعل الأعمال خالصة لوجهة الكريم.

هذا وقد بذلت جهودا كبيرة من قبل كل من شارك في إعداد هذا الكتاب ، وذلك

٥

ليخرج الكتاب مخدوما خدمة تليق بما ضم من علم. فقد سعينا إلى أن يخرج الكتاب خاليا تماما من الأخطاء ، ومقارنا على نسخ معتمدة ، ومفهرسا فهرسا تفصيليا يقرب كل مسألة في الكتاب ، وغير ذلك من الأمور التي يتطلبها إخراج كتاب ترجى فوائد كبرى من استيعاب ما فيه. فنرجو أن يكون الواقع كذلك ، كما نرجوا منك أخي القارئ أو أختي القارئة تزويدنا بأي ملاحظات على هذا الكتاب ليستفاد منها في الكتب القادمة.

وفي الأخير نود أن نشكر كل من أسهم في هذا الكتاب من بعيد أو قريب ، وعلى وجه الخصوص نذكر المحقق الفاضل الذي بذل أكثر الجهد في المقابلة والتصحيح وغيره ؛ كما نشكر الأخوة في مركز أهل البيت للدراسات الإسلامية الذين قاموا بطباعة هذا الكتاب على الكمبيوتر وخصوصا الأخ إبراهيم بن مجد الدين المؤيدي القائم على المركز ، لتعاونه وتقبله لأي ملاحظة تسهم في نجاح العمل ، راجين من الله تعالى أن يكتب أجر الجميع ، وينفع أمة الإسلام بهذه العلوم.

والله من وراء القصد أولا وآخرا.

٦

مقدمة السيد العلامة مجد الدين بن محمد المؤيدي

قال والدنا ومولانا وحجة عصرنا شيخ الإسلام وإمام أهل البيت الكرام

مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أيده الله تعالى وأطال بقاه :

أروي مؤلفات إمام اليمن الهادي إلى الحق المبين ، أمير المؤمنين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم‌السلام ، الأحكام ، والمنتخب ، والمجموع [هذا الذي بين يديك] ، وغيرها ؛ بالطرق المذكورة في كتابنا الجامعة المهمة لأسانيد كتب الأئمة ؛ وكتابنا لوامع الأنوار وجوامع العلوم والآثار إلى الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين (ع) التي منها :

عن والدي العلامة محمد بن منصور المؤيدي رضى الله تعالى عنهما سماعا فيما سمعت فيه منها بقراءتي عليه رضي الله عنه وبالإجازة العامة ، وهو عن والدنا الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم ، عن شيخه السيد الإمام محمد بن محمد الكبسي ، عن شيخه السيد الإمام محمد بن عبد الرب.

ويروي الإمام المهدي محمد بن القاسم ذلك وغيره ، عن شيخه الإمام المنصور بالله محمد بن عبد الله الوزير ، عن شيخه السيد الإمام أحمد بن زيد الكبسي ، عن شيخه السيد الإمام محمد بن عبد الرب.

والسيد الإمام محمد بن عبد الرب يروي ذلك وغيره عن عمه العلامة إسماعيل ، عن أبيه العلامة محمد ، عن أبيه العلامة زيد ، عن أبيه الإمام المتوكل على الله إسماعيل ، عن أبيه الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد ، عن السادة الأعلام إبراهيم بن المهدي القاسمي ؛ وأمير الدين بن عبد الله المطهري ، وصلاح بن أحمد بن عبد الله الوزير ، ثلاثتهم عن السيد الإمام أحمد بن عبد الله الوزير ، عن الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين (ع) ؛ عن القاضي العلامة علي بن أحمد ، عن القاضي العلامة علي بن زيد رضي الله عنهم ؛ عن الإمام المتوكل على الله المطهر بن محمد بن سليمان الحمزي ، عن الفقيه نجم الدين يوسف بن

٧

أحمد ، عن الفقيه شرف الدين الحسن بن محمد النحوي ، عن الفقيه عماد الدين يحيى بن حسن البحيح رضي الله تعالى عنهم ؛ عن الأمير الخطير المؤيد بن أحمد ؛ عن الأمير الكبير الناصر للحق الحسين بن بدر الدين محمد (ع) ، عن الشيخ محيي الدين عطية بن محمد ، عن الأميرين الداعيين إلى الله تعالى شيبتي الحمد شمس الدين وبدره يحيى ومحمد ابني أحمد بن يحيى بن يحيى عليهم‌السلام ، عن القاضي شمس الدين جعفر بن أحمد رضي الله تعالى عنه ، عن القاضي أحمد بن أبي الحسن الكني ، عن أبي الفوارس توران شاه ، عن أبي علي بن آموج ، عن القاضي زيد بن محمد ، عن علي خليل ، عن القاضي يوسف الخطيب رضي الله تعالى عنهم ؛ عن الإمام المؤيد بالله ، والإمام أبي طالب ، عن السيد أبي العباس ، عن السيد الإمام علي بن العباس الحسني ، عن الإمام الهادي إلى الحق ، جميع مؤلفاته.

ويروي الإمامان المؤيد بالله ، وأبو طالب ، وأبو العباس الحسني عن السيد الإمام يحيى الهادي بن الإمام المرتضى محمد بن يحيى ، عن عمه الإمام الناصر للدين أحمد بن يحيى ، عن والده إمام اليمن محيي الفرائض والسنن ، أمير المؤمنين الهادي إلى الحق القويم ، يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم عليهم‌السلام.

وأروى أيضا مؤلفات الإمام الهادي إلى الحق القويم يحيى بن الحسين عليهما‌السلام عن والدي رضي الله عنه عن الإمام المهدي لدين الله محمد بن القاسم ، عن الإمام المنصور بالله محمد بن عبد الله الوزير ، عن مشايخه السادة الأعلام ، أحمد بن زيد الكبسي ، وأحمد بن يوسف زبارة ، ويحيى بن عبد الله الوزير ، ثلاثتهم عن السيد الإمام الحسين ، عن أبيه يوسف ، عن أبيه الحسين بن أحمد زبارة الحسني ، عن السيد العلامة عامر بن عبد الله بن عامر ، عن الإمام المؤيد بالله محمد ، عن أبيه الإمام القاسم بن محمد ، عن السادة الأعلام أمير الدين بن عبد الله ، وإبراهيم بن المهدي ؛ وصلاح بن أحمد بن عبد الله الوزير ، عن السيد الإمام أحمد بن عبد الله الوزير ، عن الإمام شرف الدين ، عن الإمام محمد بن علي السراجي ، عن الإمام عز الدين بن الحسن ، عن الإمام المطهر بن محمد ، عن الإمام المهدي أحمد بن يحيى عليهم‌السلام ، عن أخيه الهادي بن يحيى ، وشيخه محمد بن يحيى ، عن القاسم بن أحمد بن حميد الشهيد ، عن أبيه عن جده ، عن الإمام المنصور بالله عزوجل عبد الله بن حمزة (ع) ، عن محيي الدين محمد بن أحمد القرشي رضي الله تعالى عنهم ، عن الإمام المتوكل

٨

على الرحمن أحمد بن سليمان (ع) ، عن الشيخ الأجل إسحاق بن أحمد ، عن عبد الرزاق بن أحمد ، عن الشريف علي بن الحارث ، وأبي الهيثم يوسف بن أبي العشيرة ، عن الحسن بن أحمد الضهري إمام مسجد الهادي ، عن محمد بن أبي الفتح رضوان الله عليهم ، عن الإمام المرتضى لدين الله محمد ، عن أبيه إمام الأئمة وهادي الأمة أمير المؤمنين وسيد المسلمين الهادي إلى الحق المبين يحيى بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم رضوان الله وسلامه عليهم.

فسائل الشهب عنه في مطالعها

والصبح حين بدا والبدر حين أضا

سل سنة المصطفى عن نجل صاحبها

من علم الناس مسنونا ومفترضا

فالله تعالى نسأل ، أن يمن لنا وللمؤمنين بمرافقتهم ، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين ، والصديقين والشهداء والصالحين ؛ وحسن أولئك رفيقا.

نعم وكل من تقدم في هذا الإسناد المبارك من مشاهير علماء الزيدية ، وأعلام الثقات الأثبات من العصابة المرضية ، ولو نقلت فضائلهم وأحوالهم لضاق المقام.

هذا واعلم أنه يلزمك أيها المكلف طلب الحق وعرفانه ، ويتوجه عليك تحقيقه وإتقانه ، حتى تكون على بصيرة من ذلك في الدين ، غير مرتبك في حبائل المقلدين ، ولا مرتطم في ضلال المضلين ، من الجاهلين والمعاندين ، فترتوي من معين برهانه ، وتعرفه بالدليل ، وتقتفي بتوفيق الله تعالى أوضح سبيل ، إن لم تكن والعياذ بالله ممن غطى الرين على قلبه ، وغشى الزيغ أنوار بصره ولبه ، وأخذ دينه عن أفواه الرجال وقلّدهم ؛ فمالوا به من يمين إلى شمال ، فكان من دين الله على أعظم زوال ، كما ورد به الخبر عن سيد البشر ، صلى الله عليه وعلى آله خير آل ؛ وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون (وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) [الأنفال : ٢٣].

هذا وقد كثرت في هذه الأعصار الضلالات ، وانتشرت كل الانتشار الجهالات ، وصار يدعي اتباع الحق والدليل ـ ويموه على الرعاع من الأتباع بالوقوف على منهاج السنة ورفض التقليد ، ليصدهم عن السبيل ـ من ليس من ذلك القبيل ، بل هو رافض للحجج النيرة ، مفرق لعمى بصره بين ما جمع الله تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وآله

٩

وسلم في الآيات المتكاثرة والأخبار المتواترة ، من الكتاب والسنة والعترة المطهرة ، واقف في حومة الدعوى ، داع إلى تقليد أرباب الزيغ بمجرد الأهواء (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ) [الحج : ٨ ـ ٩] ووقعت شبههم هذه الباطلة ، وتأثرت تمحالاتهم المضمحلة الماحلة في قلوب كثير ممن لا ثبوت لأفهامهم في مجال العلوم ؛ ولا رسوخ لأقدامهم في مقام المنطوق والمفهوم ، ولا اطلاع لهم على الحقائق ؛ ولا تمييز بالنظر الصحيح بين مخالف وموافق.

وصار الحال كما قال :

أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى

فصادف قلبا فارغا فتمكنا

وأكد هذا أن مؤلفات المخالفين منشورة ؛ قد امتلأت بها جوانب المعمورة ، وأسفار الهداة من سفن النجاة عن الانتشار محصورة ومهجورة ، حتى صار الذين لا هوى لهم في مجانبة الحق ، يطلعون على نقولات الباطل المختلق ، ولا يهتدون إلى أقوال أئمتهم ، وردود أعلام ملتهم ، ويروون الروايات عن الرواة ، فلا يفرقون بين معدّل ومجروح ، ومقبول ومطروح ، ولا يعرفون من هو في حزب المضلين الغواة ، ومن هو في حزب المهتدين الهداة ، مع سفن النجاة ، ـ وهنا أغتنم الفرصة لأحث المؤمنين الأخيار من العلماء الأبرار وطلبة العلم الشريف كثر الله سوادهم على الاهتمام بإخراج كتب أئمتهم الأطهار ، وشيعتهم الأبرار إلى حيّز الوجود ، سليمة نقية صافية خالية من الدغل والزلل ، وتوخي الأمانة والنزاهة في النقل من الأصول المأمونة.

هذا ومن العجائب وما عشت أراك الدهر عجبا أن أناسا من رؤساء هؤلاء الفريق ، صاروا يموهون على الأغمار ، بأن العترة الأطهار عليهم‌السلام ، وأتباعهم الأبرار رضي الله عنهم ، ينهون عن اتباع الدليل ، ويأمرون بالتقليد ، ويسمون ـ من خالف آل محمد صلوات الله عليه وعليهم ورفض الأدلة المعلومة من الكتاب والسنة ـ بالاجتهاد المطلق ، والاتباع للحق.

ويا سبحان الله ومن الذي دعا الخلق إلى الحق ، واتباع الكتاب والسنة ، وهدى العباد ،

١٠

وسنّ لهم الجهاد والاجتهاد ، والأخذ ببرهان الأدلة ؛ غير أهل بيت النبوة ؛ ومعدن الرسالة ، قرناء التنزيل ، وأمناء التأويل صلوات الله وسلامه عليهم.

وقد علم كل ذي علم أنها ما تأسست التقليدات إلا لصد الناس عن العترة المطهرة عن الأرجاس ، المنزهة عن الأدناس ، وهي من البدع المحدثة في الأديان ، التي ما أنزل الله بها من سلطان.

وقد علم أولو العلم أن هؤلاء الأئمة الذين أمروا الناس بتقليدهم ، كانوا من أنصار أئمة العترة ، القائمين بما أمرهم الله تعالى لهم من المودة والنصرة ، وأقوالهم وأفعالهم معلومة ، وحاشاهم عن رفض التمسك بالثقلين وتنكب سفينة النجاة ، وترك المودة لمن أمرهم الله تعالى بمودته ، وألزمهم بموالاته وطاعته ، من أعلام أهل بيت نبيهم الهداة.

قال : المحدث الكبير يحي بن أبي بكر العامري في الرياض المستطابة :

وقد ذكر ابن الجوزي وغيره أن الأئمة المتبوعين في المذاهب بايع كل واحد منهم لإمام من أئمة أهل البيت ، بايع أبو حنيفة لإبراهيم بن عبد الله بن الحسن ، وبايع مالك لأخيه محمد ، وبايع الشافعي لأخيهما يحيى. انتهى المراد.

ومتابعة أبي حنيفة للإمام الأعظم زيد بن علي عليهما‌السلام مشهورة.

قال السيوطي في تاريخ الخلفاء صفحة (٢٤٣) طبعة سنة ١٤٠٨ هجرية : وفي سنة (١٤٥ ه‍) كان خروج محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب إلى قوله : وآذى المنصور خلقا من العلماء ممن خرج معهما ، أو أمر بالخروج ، قتلا وضربا وغير ذلك ، منهم أبو حنيفة وعبد الحميد بن جعفر ، وابن عجلان.

وممن أفتى بجواز الخروج مع محمد على المنصور ، مالك بن أنس رحمه‌الله. انتهى.

هذا ، فكيف ينسب المبتدعون ذلك إلى ورثة الكتاب والسنة ، وكل إمام منهم عليهم‌السلام يدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ كلّ من بلغته الدعوة ، ومؤلفاتهم مشحونة بالأدلة على وجوب اتباع الأدلة ، ولكن لا بد لكل مبتدع من دعوى كلمة حق يراد بها باطل ، أو تلفيق شبهة زيغ يستهوي بها الجاهل الغافل ، وهذا هو لبس الحق بالباطل الذي ينهى عنه الملك العادل ، بأمثال قوله عزوجل : (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) [البقرة : ٤٢].

١١

ولهذا تعين البيان بحسب الإمكان لما أخذ الله تعالى من الميثاق في منزل الفرقان ، وسنة سيد ولد عدنان ، ولسنا والحمد لله نستنكر من غلبة الباطل وكثرة أهله ، ولا نستوحش لانقباض الحق وقلة حزبه ، فإن سنة الله عزوجل في عباده ، وعادته المستمرة في بلاده ، التخلية بين خلقه في هذه الدار ، ليتمكن الجميع من الاختيار ، وقد أخّر الجزاء لدار القرار ، واقتضت حكمته الربانية قبض الدنيا عن خاصة أوليائه ، وانزواءها عن خلاصة أصفيائه ، ليكون الاتباع لخالص الدين ، والطاعة لمحض اليقين.

وتالله لقد غرست في صدور المتمردين شجرات ، يجتنى من زيغها وضلالها ثمرات ، ولله حكمة بالغة ، وربنا الرحمن المستعان على ما يصفون.

وعلى كل حال فحزبه المنصورون وإن قهروا ، وجنده الغالبون وإن غلبوا ، كما قصه عزوجل في الكتاب المبين (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف : ١٢٨] وقد قال عمار الذي يدور مع الحق حيثما دار رضوان الله عليه ، لما أخّر عن المقام الذي اختاره الله تعالى له ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إمامه وإمام الأبرار :

يا ناعي الإسلام قم فانعه

قد مات عرف وبدا منكر

ما لقريش لا علا كعبها

من قدموا اليوم ومن أخروا

وذلك في صدر الإسلام فكيف بمثل هذه الأيام ، التي هي من أعلام النبوة ، بتصديق مواعيد الله على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؛ من اغتراب الإسلام ، وتغيير الأعلام ، واقتراب ظهور دينه الحنيف ، وتجديد شرعه الشريف ، بقيام خاتم الأئمة ومقيم الحجة من أهل بيت نبيه ، مهدي هذه الأمة ، كاشف الظلمة ، ومفرج الغمة (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ) [المائدة : ٥٢] ، إنه على كل شيء قدير وهو حسبنا ونعم الوكيل.

قال بعض علماء العترة عليهم‌السلام : إني لأكثر التعجب ، وما عشت أراك الدهر عجبا ، من رجل عالم بمصادر الأمور ومواردها ، وكيفية الاستدلال ومقاصدها ، ودلالات الألفاظ على معانيها ، وتراهم وهم كثير ، يوردون ويروون عن الله عزوجل ؛ وعن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تلك الأدلة والنصوص ، والقواطع في حق أهل البيت عليهم

١٢

الصلاة والسلام على الخصوص ؛ بما لا يمكن دفعه لفظا ولا معنى ، ولا سندا ولا متنا ، حتى إذا استنتجت منهم فائدتها ، وطلبت منهم عائدتها ، بوجوب اتباعهم الذي هو مقتضاه في علم أو عمل ؛ أنكر وبرطم ، ولوى عنقه وتجهم ، وإن ذكرت عنده خلافتهم رآها نكرا ، أو رأى من يتابعهم في مقالة أو مذهب عده مبتدعا ، أو سمع بقراءة في كتبهم ومؤلفاتهم اتخذها هزوا ولعبا ، فما أدري ما بقي لهم من معاني تلك الأدلة والنصوص ، وأي فضل ترك لهم على الناس إذ أوجب عليهم أن يكونوا تبعا والله قد جعلهم متبوعين ، ومؤخرين والله قد جعلهم مقدمين ، وأجل النظر فيما تجده في كتب كثير من محدثي العامة وفقهائها ، فلا تلقاها إلا على هذا النهج ، ما ذاك إلا لإرادة الله عزوجل إظهار الحق على ألسنتهم وأيديهم ، حجة عليهم وإن راموا إنكارها. انتهى.

قلت : فقد صار الأمر في حالهم ما قصه الله تعالى من أمثال قوله تعالى : (وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ) [النمل : ١٤] ، وأصل كل ضلالة وفتنة ، ومنبع كل فرقة ومحنة في هذه الأمة ، والأمم السالفة اتباع الأهواء ، والإخلاد إلى الدنيا.

وقد علم كل ذي علم وفهم ، وفهم كل ذي فهم ، ما جرى لأهل بيت النبوة في هذه الأمة ، وما فعله الطغاة مع العترة المطهرة ، وما ساعدهم به علماء السوء ، وفقهاء الضلال ؛ من اتباع أهوائهم على كل حال ، ورفض أهل بيت نبيهم ، وطرح ما يدينون به من دين ربهم ، حتى غيروا معالم دين الله ، وافتروا على الله ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لترويج ما يهوونه من الصد عن سبيل الله في الأفعال والأقوال ، كل ذلك معارضة للآل ، ومخالفة لما أمرهم به في شأنهم ذو الجلال.

وقد قصدوا استئصال السلالة النبوية ، وإبادة الذرية العلوية ، وإزالتهم عن وجه البسيطة بالكلية ، وأبلغوا مجهودهم في طمّ منارهم ، وطمس أنوارهم ، فأبى الله تعالى لهم ذلك ، وغلبهم على ما هنالك ، كيف وهم قرناء الكتاب ، والحجة على ذوي الألباب ، والسفينة المنجية من العذاب ، والثقل الأصغر الذين خلّفهم الرسول مع الثقل الأكبر في الأرض ، ولن يفترقا إلى يوم العرض (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) [التوبة : ٣٢].

وتهافت في أثرهم الأتباع من العوام ، والهمج الرعاع من الطغام ، أتباع كل ناعق ،

١٣

وسيقة كل سائق ، وركضوا في ميادين الدول ، كما وصفهم الله عزوجل (إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُ) [الفرقان : ٤٤] ، وهم الجم الغفير ، والجمع الكثير (وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنعام : ١١٦](وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) [يوسف : ١٠٣] ، فعظمت الفتنة ، واشتدت المحنة ، وتمت الفرقة المنهي عنها في الكتاب المبين ، وعلى لسان الرسول الأمين.

هذا واعلم أن الله جل جلاله قال : (فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) [يونس : ٣٢] ، وقال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «افترقت أمة أخي موسى إلى إحدي وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية ، والباقون في النار ، وافترقت أمة أخي عيسى الى اثنتين وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية والباقون في النار ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، منها فرقة ناجية والباقون في النار» ، وهذا الخبر متلقى بالقبول ، فكلام من شكك فيه غير مقبول ، وقال وصيه علي بن أبي طالب صلوات الله عليه : «ما وحده من كيفه ، ولا حقيقته أصاب من مثله ، ولا إياه عنى من شبهه ، ولا صمده من أشار إليه وتوهمه» ، وغير ذلك مما هو معلوم بين الأمة ، ثم إنه معلوم بضروريات المعقول عدم صدق المتناقضات وما إليه تؤول ، وقد قال جل ذكره : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ) [الزمر : ٣٢] ، فكيف تكون هذه الفرق كلها ناجية على اختلاف أهوائها وتباين آرائها؟ (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ) [المؤمنون : ٧١].

وقد أوضح لهم الدليل ، وأنهج لهم السبيل ، بما ركب فيهم من العقول ، وأتاهم به الرسول ، فلم يكن خلاف من خالف ، وشقاق من شاقق ، فيما هذا حاله ، إلا إخلالا بما كلفه الله تعالى من معرفته ، أو عنادا لما احتج به عليه من حجته ، ألم ينههم عن التفرق في الدين ، والاكتفاء بالظن فيما لا بد فيه من اليقين؟ قال جل ذكره : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام : ١٥٣] ، وقال عزوجل : (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى : ١٣] ، وغير ذلك مما احتج به على الخلق ، وأرشدهم به إلى الحق.

١٤

وقد طرحت هذه الفرق حجة الله الكبرى عليها ، وهي العقول التي ميّز الله تعالى بينها وبين البهائم بها ، فألهمها فجورها وتقواها ، فمنهم من شبّه الله بخلقه ، ومنهم من أثبت قدماء مع الله ، ولو شابهها لشاركها فيما لأجله قضت العقول بحدوثها ، واستدلت به على موجدها ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وقد قال تعالى نفيا للمثل بطريقة الكناية أو مجاز الزيادة في الذكر المنير : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى : ١١] ، وقال تعالى فيما أفاد عموم السلب من الأخبار : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) [الأنعام : ١٠٣] ، وقال تعالى : (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٤] ، فانحط صاحب هذه المقالة عن دائرة التوحيد ، وتفكر في خالقه وهو لا يعرف ماهية نفسه ، وتركيب حقائقه ، التي هي مخلوقة موضوعة ؛ مقدرة مصنوعة ، وكيف يطمح بجهله إلى التفكر في رب العالمين ، المتعالي بجلال العزة والعظمة عن المخلوقين ، (قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) [عبس : ١٧ ـ ٢٦] ، سبحان الله الملك الحق المبين ، ما أوضح آياته ، وأصرح بيناته ، وأبلغ نعماءه ، وأسبغ آلاءه.

هذا وقد أرشدنا ذو العزة القاهرة ، والعظمة الباهرة ، إلى النظر في عجائب مصنوعاته ، وغرائب مبتدعاته ، التي حارت فيها العقول ، مثل قوله عزوجل : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) [البقرة : ١٦٤].

ومنهم من دخل في ظلال الجبر والظلمة ، ونبذ العدل والحكمة ، وزاغ عن الهدى والرحمة ، وقد قرع سمعه قوله تعالى : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران : ١٨] ، وقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) [آل عمران : ١٠٨] ، (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر : ٣١] ، (وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ) [البقرة : ٢٠٥] ، (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر : ٧] ، وقالت الجبرية : بل أراده وشاءه وخلقه وارتضاه ، فأبطلوا حجة الله على خلقه ، بإنزال كتبه ، وإرسال رسله ، ونهيه

١٥

وأمره ، وتهديده وزجره ، وأسقطت عن أنفسها التكليف ، وتلعّبت بالدين الحنيف ، وقالوا كما قال الله في الذكر الحكيم : (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ) [الأنعام : ١٤٨] ، ولما كان في قولهم إسقاط الحجة ردّ عليهم بقوله : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) [الأنعام : ١٤٩] ، أي إذا ثبت أنهم كذبوا كما كذب الذين من قبلهم ، وألا علم عندهم ، وما يتبعون إلا الظن ، وما هم إلا يخرصون ، فقد ثبتت الحجة لله على خلقه ، وأنه سبحانه ما شاء إتيانهم القبائح ، وارتكابهم الفضائح ، (فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ) [الأنعام : ١٤٩].

فأخبر أنه لو شاء أن يجبرهم بالقهر والقسر لهداهم أجمعين ، ولكنه جل وعلا مكّنهم من الأمرين ، وبين لهم النجدين ، وركّب فيهم العقول ، وأرسل إليهم الرسول ، ولو أكرههم لسقطت حكمة التكليف ، وبطل مراده ، وكانت الحجة عليه لا له على عباده ، (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ) [الزمر : ٦٠].

ثم إنهم في زعمهم ليس لهم على صحة دينهم برهان قاطع ، ولا بيان ساطع ، يجوّزون الكذب الصراح في كل ما أتى به الشارع ، لقولهم : إنه لا يقبح منه قبيح ، ولنفيهم التحسين والتقبيح بالعقل ، موادهم سقيمة ، وأشكالهم عقيمة ، طرق عاداتهم منسدة ، وكم قاعدة لهم منهدة ، إن لم يفعل الله شيئا لشيء ـ أيتها الجبرية بزعمكم أنه يلزم الاستكمال تبعا للفلاسفة الملحدين الجهال ـ فما معنى تعليل نفي الحجة عليه بالإرسال.

وكم آية في الكتاب هم عنها عمون ، تنادي بالرد عليهم إن كانوا يعقلون ، (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات : ٥٦] ، وقال تعالى : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) [آل عمران : ٧] ، فسمى الله تعالى المحكمات أم الكتاب ، ترد إليهن المتشابهات ؛ أو المؤولات من الخطابات ، أنزلها الله زيادة في التكليف ، وتعريضا للابتلاء ، ومضاعفة للثواب ، هذا كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من

١٦

بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد.

هذا وبيان شبه هذه الفرق وتقرير الرد عليها وتحرير الدلائل وما خالفت فيه من المسائل لا يحتمل مدار رحاه هذه السواقط ، وإنما أردنا التنبيه لمن غفل عن مهاوي التلف ، ومداحض المساقط.

وحجج الله تعالى واضحة المنهاج ، بينة الفجاج ، ودينه قويم ، وصراطه مستقيم (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) [الأنفال : ٤٢] ، وإليك النظر أيها المطلع ، المتبع لكتاب ربه ، وسنة نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إن كنت عن طريق الحق غير حائد ولا لضروري المعقول والمنقول بجاحد ؛ فالمقصود بالخطاب أرباب النظر والاعتبار ؛ من ذوي الأبصار (إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) [الرعد : ١٩] ، فأما من أعمى بصائرهم الهوى ، وأغشى أبصارهم الردى ؛ من طائفتي المتمردين والمقلدين ؛ الذين ألفوا آبائهم ضالين فليسوا بمقصودين (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ) [النمل : ٨٠ ـ ٨١].

اللهم صل على محمد وآله ؛ وأتمم علينا نعمتك في الدارين ، واكتب لنا رحمتك التي تكتبها لعبادك المتقين ، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا ، واجعلنا هداة مهتدين ، (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ) [الحشر : ١٠] ، (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ) [النمل : ١٩].

مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي

كتب بأمره ولده / إبراهيم مجد الدين المؤيدي

مركز أهل البيت (ع) للدراسات الإسلامية ـ صعدة

١٧

مقدمة التحقيق

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين حمدا كثيرا طيبا مباركا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين.

أما بعد : فإن الله خلق الخلق في هذه الدنيا لعبادته ، وأوجب عليهم معرفته ، وأرسل رسله إليهم لتبليغ أحكامه ، وإقامة الحجة على عباده ، وكان آخرهم سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأمره الله بتبليغ رسالته ، وأداء أمانته ، وأنزل معه قرآنا يتلى على عباده ، وكان من أعظم مهماته ـ كما أنها من أعظم مهمات الأنبياء عليهم‌السلام من قبله ـ دحض الشبه ، ورد الأباطيل ، وبيان بطلانها ، لا سيما في العقائد ، لا سيما في ما يتعلق بمعرفة الله عزوجل ، وإذا تصفحنا آيات القرآن الكريم وسوره ، وجدنا صدق ما قلناه ، فمعظم آياته في رد شبه المشركين ، ودحض شبه اليهود والنصارى ، والرد على المجبرة ، والدهرية ، والرد على مرجئة اليهود ، وقد قام الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طوال حياته يدعو إلى الله ، ويبين حججه وآياته ، ويبين بطلان ما عليه المشركون ويكشف عوار عقائدهم ، حتى ألجئ إلى المحاربة العسكرية ، فهزمهم عسكريا ومعنويا حتى صار كل من في الجزيرة يتبرأ من دينهم بعد أن كان مفخرة لهم ، ولم يمت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلا بعد أن علا صرح الدين ، وشمخ بنيانه ، وتقوّت أركانه ، وسطع نوره.

ولضمان بقاء الدين ، وحذرا من دغل المندسين ، ولأن ظهور الإسلام لم يقض نهائيا على حزب الشيطان ، بل ظهوره وسيطرته جعلتهم يتخذون النفاق وسيلة أخرى لحرب الدين وأهله ، ولكون الأهواء ستظل تنتج أفكارا ورجالا تحارب الحق وتحاول طمسه واستبداله بما يشابهه من الباطل ، من أجل هذا كله ، ومن أجل بقاء نور الحق ساطعا ،

١٨

ومشعله متوقدا ليهتدي به من أحب معرفة الحق ، جعل الله نصاب ذلك النور وموضعه ـ وهو سبحانه أعلم حيث يجعل رسالته ـ أهل بيت محمد عليه وعليهم‌السلام.

يقول مولانا وحجة عصرنا سليل الهدى والحكمة / مجد الدين بن محمد بن منصور المؤيدي أبقاه الله في كتابه (التحف شرح الزلف) الطبعة الثالثة ص ٢٢ في أهل البيت عليهم‌السلام : «وكفاهم ما أثنى عليهم الله تعالى في الذكر المنزل ، وعلى لسان جدهم المرسل ، فهم أهل التنزيل والتأويل ، والتحريم والتحليل ، خيرة الله من ذؤابة إبراهيم الخليل ، وحملة حجته من سلالة إسماعيل ، وورثة خاتم النبيين ، وسيد الوصيين ، قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) [آل عمران : ٣٣ ـ ٣٤] ، وقال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ) [البقرة : ١٢٤] ، وقال عز من قائل : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ) [الحديد : ٢٦] ، وقال جل ذكره : (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً) [النساء : ٥٤].

ثم بين جل وعلا موضع حجته ومنبع حكمته ، من هذه الشجرة المطهرة من ذرية الرسول والوصي صلى الله عليهما وعلى آلهما ، لباب هذه الذرية المصطفاة ، وخيار الخيار من الصفوة المجتباة ، فقال عز من قائل : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا) [فاطر : ٣٢] ، وقال سبحانه وتعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) [الأحزاب : ٣٣] ، وقال عز من قائل : (قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى) [الشورى : ٢٣] ، وقال تبارك وتعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء : ٥٩] ، وقال تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) [النحل : ٤٣] ، وقال جل وعلا (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧].» انتهى.

وكان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد نصب بعده علما للهداية ، وإماما للأمة ودليلا للمسترشد ، أخاه وصنوه ونفسه بنص الكتاب ، عليا عليه‌السلام ، وجعله فاروقا بين الحق والباطل.

١٩

فقام عليه‌السلام بالحفاظ على الدين ، وإيضاح المشكل ، ورد الشبه ، فهذه خطبه عليه‌السلام التي جمع الرضي بعضها في كتاب نهج البلاغة ، مليئة بذكر تنزيه الله عن مشابهة خلقه وذكر عدله وحكمته ، وإيضاح الحجج على أن الله لم يقدّر على أحد معصيته ، مثل قوله عليه‌السلام :

«أول الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الإخلاص له ، وكمال الإخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنه غير الصفة ، فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه ، ومن قال : فيم؟ فقد ضمّنه ، ومن قال : علام؟ فقد أخلى عنه ، كائن لا عن حدث ، موجود لا عن عدم ، مع كل شيء لا بمقارنة ، وغير شيء لا بمزايلة».

ويقول عليه‌السلام : «لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبها ، ولم تقع عليه الأوهام بتقدير فيكون ممثلا».

وقال عليه‌السلام : «لا شبح فيتقضى ، ولا محجوب فيحوى ، لم يقرب من الأشياء بالتصاق ، ولم يبعد عنها بافتراق».

قال المولى العلامة الحجة / مجد الدين بن محمد المؤيدي أيده الله في كتابه لوامع الأنوار ج ١ / ص ٢٤٧ في كلامه على القضاء والقدر :

«قلت : وقد أبانه وصرح به على مقتضى ما دانت به العدلية في الوجهين ، وأوضح من الفرقة الموسومة بالقدرية المجوسية من الفريقين ، مع ما تقدم من الدلالات القاطعة ، والبراهين الساطعة ، إمام الموحدين ، باب مدينة علم سيد المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم ، المبين للأمة ما اختلفوا فيه من بعد أخيه ، أمير المؤمنين وسيد الوصيين في جوابه للشامي الذي سأله ، رواه الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة عليه‌السلام في الشافي بإسناده إلى أمير المؤمنين علي كرم الله وجهه ، وقد سأله الشيخ الشامي عن مسيره إلى الشام : أكان بقضاء وقدر؟.

فقال علي (ع) : والذي فلق الحبة وبرأ النسمة ما قطعنا واديا ولا علونا تلعة إلا بقضاء

٢٠