الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]

الفصل في الملل والأهواء والنّحل - ج ١

المؤلف:

أبي محمد علي بن أحمد [ ابن حزم الأندلسي الظاهري ]


الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار الكتب العلميّة
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٠

١
٢

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله على جزيل نعمائه وكريم آلائه ، والصلاة والسلام على عبده ونبيّه محمد بن عبد الله الذي أكرمه بالرسالة وحمّله الأمانة ، فكان خير مبلّغ وأصدق محدّث ، وعلى آله الكرام البررة المطهّرين ، وأصحابه الجاهدين المجاهدين المنتجبين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد.

فقد اهتمّ المسلمون بدراسة الأديان والمذاهب اهتماما لم يسبقهم إليه أحد من الأمم الأخرى ، فوضعوا في ذلك كتبا ورسائل مطوّلة ومختصرة ، عامّة وخاصة ، في الردّ على أصحاب المذاهب ونقض معتقداتهم وأقوالهم. فمن الكتب العامّة «كتاب مقالات الإسلاميين» لأبي الحسن الأشعري ، وألّف عبد القاهر البغدادي كتابه «الفرق بين الفرق» كما ألّف أبو الفتح محمد بن عبد الكريم الشهرستاني كتابه «الملل والنحل». أما الكتب الخاصّة بالردّ على طائفة من الطوائف ، فمنها كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة» للبيروني ، والكتب الكثيرة التي وضعت في الردّ على النصارى واليهود ، أو في ردّ بعض الفرق الإسلامية على بعضها الآخر.

غير أن كتاب «الفصل في الملل والأهواء والنحل» للإمام ابن حزم الأندلسي الظاهري ، يمتاز عن غيره من الكتب التي ألّفت في هذا الموضوع بميزة جعلته فريدا في بابه ، هذه الميزة هي الالتزام الصارم بقواعد الجدل والحجاج ، من عرض حجج الخصوم عرضا مجردا واستيفائها استيفاء وافيا ، ومن ثمّ الردّ عليها ونقضها واحدة واحدة ، إما من العقل فيما يتعلّق بالطوائف التي لا تدين بالإسلام ، أو من العقل والنقل معا فيما يتعلق بالذين يدينون به. مع التزامه في كل ذلك الوضوح التام واجتنابه التعقيد في طرح المسائل التي يعرضها. يقول في مقدمة كتابه «الفصل» :

«إنّ كثيرا من الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتبا كثيرة جدا ، فبعضهم أطال وأسهب وأكثر وهجّر واستعمل الأغاليط والشغب ، فكان ذلك شاغلا عن الفهم وقاطعا دون العلم ، وبعض حذف وقصّر وقلّل واختصر وأضرب عن كثير من قويّ معارضات

٣

أصحاب المقالات ، فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة ، وظالما لخصمه في أن لم يوفه حقّ اعتراضه ، وباخسا حقّ من قرأ كتابه إذ لم يفنّد به غيره.

وكلّهم ـ إلّا تحلّة القسم ـ عقّد كلامه تعقيدا يتعذّر فهمه على كثير من أهل الفهم وحلّق على المعاني من بعد ، حتى صار ينسي آخر كلامه أوّله. وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد معانيهم ، فكان هذا منهم غر محمود في عاجله وآجله» (١).

ويبدو فنّ الجدل عند ابن حزم وكأنه مطيّة امتلك زمامها فسلس قيادها ، ويبدو هذا واضحا في تضاعيف كتابه ، وخاصة عند مناقشته لنصوص من التوراة والإنجيل ، فيبيّن ما في هذه النصوص من تحريف وتخبّط وتخليط ، ففي أحد أسفار التوراة يعدّد واضعوه أولاد لاوي والجنود الذين ينتسبون إليهم ، وفي سفر آخر تأتي هذه الأعداد بشكل مخالف بالزيادة أو بالنقص ؛ وكذلك الحال بالنسبة للمدن ورؤساء العشائر. ويذكر سفر آخر من أسفار التوراة أن عدد بني إسرائيل كان عند خروجهم من مصر ستمائة ألف ونيّف ، فيناقش ابن حزم هذا العدد ويبيّن استحالته في موجب العقل ، إلى استحالات أخرى تتّضح للقارىء عند اطلاعه على هذا الكتاب.

ولا يفوتنا أن نشير إلى حدّة ابن حزم وانفعاله الزائد عند عرض آراء خصومه ومناقشتها ، حتى ليدفعه هذا إلى استعمال تعابير أقل ما يقال فيها إنها جارحة في كثير من المواضع ، كقوله : «فعليهم ما يخرج من أسافلهم» ، وقوله : «ولو لم يكن في توراتهم إلا هذه الكذبة وحدها لكفت في أنها موضوعة مبدّلة من حمار في جهله» ، «وأراد أن يخرج هذا الساقط من مزبلة فوقع في كنيف عذرة» ، «وما افتراه الكفرة أسلافهم الأنتان» ، «لقد كان الثور أهدى منه والحمار أنبه منه بلا شكّ» إلى غير ذلك من التعابير التي لا تكاد تخلو صفحة منها. ولا شكّ أن هذه الحدّة ناشئة عن إخلاصه العميق لما يؤمن به ، ونفوره البالغ مما يعتنقه خصومه.

ونكتفي هنا بما أوردناه من هذه العجالة في الكلام على هذا الكتاب الفريد ، داعين القارئ الكريم إلى الاطّلاع عليه بتأنّ وعناية ، ونقدّم ـ قبل عرض الكتاب ـ ترجمة موجزة للمؤلف.

والحمد لله أولا وآخرا ، والصلاة والسلام على عبده ورسوله محمد وعلى آله وأصحابه الطيّبين الطاهرين.

أحمد شمس الدين

بيروت ١٥/ ٩/ ١٩٩٥

__________________

(١) انظر مقدمة الفصل (ص ١١ و ١٢).

٤

ابن حزم الأندلسي (*)

نسبه :

هو أبو محمد عليّ بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الفارسيّ الأصل ، ثم الأندلسي القرطبي اليزيديّ مولى الأمير يزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي المعروف بيزيد الخير.

مولده ونشأته وسيرته ووفاته

: ولد ابن حزم بقرطبة في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة للهجرة (١). ونشأ في تنعّم ورفاهية ، ورزق ذكاء مفرطا وذهنا سيّالا. وكان والده من كبراء أهل قرطبة ، عمل الوزارة في الدولة العامرية ، وكذلك وزر أبو محمد في شبيبته. وكان قد مهر أولا في الأدب والأخبار والشعر والمنطق والفلسفة ، ثم اتجه إلى التعمق في الفقه ، فتفقّه

__________________

(*) انظر ترجمته في سير أعلام النبلاء (١٨ / ١٨٤ ـ ٢١٢) ومعجم الأدباء (١٢ / ٢٣٥) وتاريخ الحكماء (ص ٢٣٢ ، ٢٣٣) والصلة (٢ / ٤١٥ ـ ٤١٧) وجذوة المقتبس (ص ٣٠٨ ـ ٣١١) وبغية الملتمس (ص ٤١٥ ـ ٤١٨) والذخيرة (المجلد الأول ، القسم الأوّل : ص ١٦٧ ـ ١٧٥) والمطرب (ص ٩٢) ، والمعجب (ص ٣٢ ـ ٣٥) والمغرب (١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٧) ووفيات الأعيان (٣ / ٣٢٥ ـ ٣٣٠) وتذكرة الحفاظ (٣ / ١١٤٦ ـ ١١٥٥) والعبر للذهبي (٣ / ٢٣٩) ودول الإسلام (١ / ٢٦٨) ومرآة الجنان (٣ / ٧٩ ـ ٨١) والبداية والنهاية (١٢ / ٩١ ، ٩٢) والإحاطة (٤ / ١١١ ـ ١١٦) ولسان الميزان (٤ / ١٩٨ ـ ٢٠٢) والنجوم الزاهرة (٥ / ٧٥) وطبقات الحفاظ (ص ٤٣٦ ، ٤٣٧) وطبقات الأمم لصاعد (ص ٨٦) ونفح الطيب (٢ / ٧٧ ـ ٨٤) وكشف الظنون (ص ٢١ ، ١١٨ ، ٤٦٦) وهدية العارفين (١ / ٦٩٠ ، ٦٩١) وإيضاح المكنون (١ / ٣١٩) وشذرات الذهب (٣ / ٢٩٩ ، ٣٠٠) ودائرة المعارف الإسلامية (١ / ١٣٦ ـ ١٤٤) وغيرها.

(١) قال ابن بشكوال في الصلة (٢ / ٤١٧) : «قال القاضي صاعد بن أحمد : كتب إليّ ابن حزم بخطه يقول : ولدت بقرطبة في الجانب الشرقي في ربض منية المغيرة قبل طلوع الشمس آخر ليلة الأربعاء آخر يوم من رمضان سنة أربع وثمانين وثلاثمائة ، بطالع العقرب ، وهو اليوم السابع من نوفمبر».

٥

أولا للشافعي ، ثم أدّاه اجتهاده إلى القول بنفي القياس كله جليّه وخفيّه والأخذ بظاهر النصّ وعموم الكتاب والحديث والقول بالبراءة الأصلية واستصحاب الحال ، وصنّف في ذلك كتبا كثيرة وناظر عليه. وقد بسط لسانه وقلمه في جماعة من الأئمة العلماء ، فكان أن امتحن في ذلك ، فشرّد عن وطنه ، وجرت له أمور ، وقام عليه جماعة من المالكية. وجرت بينه وبين أبي الوليد الباجي مناظرات ومنافرات ، ونفّروا منه ملوك الناحية ، فأقصته الدولة ، وأحرقت مجلدات من كتبه ، وتحوّل إلى بادية لبلة فأقام في قرية له. وقال أبو الخطاب بن دحية : كان ابن حزم قد برص من أكل اللّبان ، وأصابه زمانة ، وعاش ثنتين وسبعين سنة غير شهر.

وقال صاعد الأندلسي : ونقلت من خطّ ابنه أبي رافع أن أباه توفي عشية الأحد لليلتين بقيتا من شعبان سنة ستّ وخمسين وأربعمائة ، فكان عمره إحدى وسبعين سنة وأشهرا ، رحمه‌الله.

أقوال العلماء فيه :

قال أبو حامد الغزالي : وجدت في أسماء الله تعالى كتابا ألّفه أبو محمد بن حزم الأندلسي يدلّ على عظم حفظه وسيلان ذهنه.

وقال أبو القاسم صاعد بن أحمد الأندلسي : كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة ، مع توسّعه في علم اللسان ووفور حظّه من البلاغة والشعر والمعرفة بالسير والأخبار.

وقال أبو عبد الله الحميدي (صاحب جذوة المقتبس) : كان ابن حزم حافظا للحديث وفقهه ، مستنبطا للأحكام من الكتاب والسنّة ، متفننا في علوم جمّة ، عاملا بعلمه ، ما رأينا مثله فيما اجتمع له من الذكاء وسرعة الحفظ وكرم النفس والتديّن ، وكان له في الأدب والشعر نفس واسع وباع طويل ، وما رأيت من يقول الشعر على البديه أسرع منه.

وقال الإمام الذهبي : كان ينهض بعلوم جمّة ، ويجيد النقل ، ويحسن النظم والنثر ، وفيه دين وخير ، ومقاصده جميلة ، ومصنفاته مفيدة ، وقد زهد في الرئاسة ، ولزم منزله مكبّا على العلم.

٦

وقال اليسع بن حزم الغافقي : أما محفوظه فبحر عجّاج وماء ثجّاج ، يخرج من بحره مرجان الحكم ، وينبت بثجّاجه ألفاف النعم في رياض الهمم ، لقد حفظ علوم المسلمين وأربى على كل أهل دين ، وألّف «الملل والنحل» ، وكان في صباه يلبس الحرير ولا يرضى من المكانة إلا بالسرير.

مصنفاته :

ذكر ياقوت في معجم الأدباء أن مبلغ تصانيف ابن حزم في الفقه والحديث والأصول والتاريخ والنسب والأدب والردّ على المخالفين نحو من أربعمائة مجلد. وسنذكر فيما يلي بعض هذه التصانيف.

١ ـ كتاب «الفصل (١) في الملل والأهواء والنحل». وهو هذا الكتاب الذي بين يديك.

٢ ـ كتاب «الخصال الحافظ لجمل شرائع الإسلام». وهو مجلدان ، كما في سير أعلام النبلاء للذهبي. وذكره حاجي خليفة في كشف الظنون تحت اسم : «الخصال الجامعة لمحصل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام» وذكر أنه مجلد.

٣ ـ كتاب «الإيصال إلى فهم كتاب الخصال». قال الذهبي في سير أعلام النبلاء : «خمسة عشر ألف ورقة» ، وقال في تذكرة الحفاظ : «أورد فيه أقوال الصحابة فمن بعدهم والحجة لكل قول». وهذا الكتاب هو شرح لكتابه «الخصال» وقد اختصر هذا الكتاب ابنه أبو رافع ليكمل بعض أجزاء «المحلى».

٤ ـ كتاب «المجلّى» في الفقه. وهو المتن الذي عمل عليه شرحا سماه بالمحلّى ، وهو التالي.

٥ ـ كتاب «المجلّى في شرح المجلّى بالحجج والآثار». له أكثر من طبعة ، منها طبعة دار الكتب العلمية.

٦ ـ كتاب «حجّة الوداع». طبع في دار اليقظة العربية بدمشق سنة ١٩٥٩ بتحقيق الأستاذ ممدوح حقي.

__________________

(١) الفصل (بكسر ففتح) : جمع فصلة ، وهي النخلة المنقولة من محلها إلى محل آخر لتثمر.

٧

٧ ـ كتاب «التلخيص والتخليص في المسائل النظرية». كذا ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء. وزاد ياقوت في اسمه : «... وفروعها التي لا نصّ عليها في الكتاب ولا الحديث».

٨ ـ كتاب «الإحكام لأصول الأحكام» له أكثر من طبعة ، منها طبعة دار الكتب العلمية.

٩ ـ كتاب «ما انفرد به مالك وأبو حنيفة والشافعي». وقد ذكره ابن حزم في كتابه المحلى فقال : «وقد أفردنا أجزاء ضخمة فيما خالف فيه أبو حنيفة ومالك والشافعي جمهور العلماء ، وفيما قاله كل واحد منهم مما لا يعرف أحد قال به قبله ، وقطعة فيما خالف فيه كل واحد منهم الإجماع المتيقن المقطوع به».

١٠ ـ كتاب «الإملاء في شرح الموطأ».

١١ ـ كتاب «الإملاء في قواعد الفقه».

١٢ ـ كتاب «الإجماع» كما في سير أعلام النبلاء ، وسماه الذهبي في تذكرة الحفاظ : «منتقى الإجماع» ، وزاد ياقوت في اسمه : «... وبيانه من جملة ما لا يعرف فيه اختلاف».

١٣ ـ كتاب «نقط العروس» في تواريخ الخلفاء. وسمّاه ابن حيّان في المقتبس : «نقط العروس في نوادر الأخبار». وقد نشره المستشرق زيبولد في مجلة مركز الدراسات التاريخية بغرناطة سنة ١٩١١ ، وأعاد نشره الدكتور شوقي ضيف بمجلة كلية الآداب (العدد ١٣ ، سنة ١٩٥١). ونشره الدكتور إحسان عباس ضمن مجموع رسائل ابن حزم الأندلسي.

١٤ ـ كتاب «أسماء الصحابة الرواة وما لكل واحد من العدد». نشرته دار الكتب العلمية ـ بيروت.

١٥ ـ كتاب «الأصول والفروع». صدر عن دار الكتب العلمية.

١٦ ـ كتاب «الأخلاق والسير في مداواة النفوس». صدر عن الدار.

١٧ ـ كتاب «جمهرة أنساب العرب». صدر عن الدار.

١٨ ـ كتاب «جوامع السيرة النبوية». صدر عن الدار.

١٩ ـ كتاب «طوق الحمامة في الألفة والألّاف». صدر عن الدار.

٨

٢٠ ـ كتاب «مراتب الإجماع». صدر عن الدار.

٢١ ـ كتاب «الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم». صدر عن الدار.

٢٢ ـ كتاب «النبذة الكافية في أحكام أصول الدين». صدر عن الدار.

إلى غير ما ذكرنا من الكتب التي يضيق المقام عن حصرها. منها ـ إضافة إلى ما ذكرنا بعضه من كتب الفقه والحديث والأصول والجدل وغيرها ـ كتب في الطب ، ذكرها الذهبي في سير أعلام النبلاء ، فقال : ولابن حزم «رسالة في الطب النبوي» وذكر فيها أسماء كتب له في الطب منها : «مقالة العادة» ، و «مقالة في شفاء الضدّ بالضدّ» ، و «شرح فصول بقراط» ، و «كتاب بلغة الحكيم» ، و «كتاب حدّ الطبّ» ، و «كتاب اختصار كلام جالينوس في الأمراض الحادة» ، و «كتاب في الأدوية المفردة» ، و «مقالة في المحاكمة بين التمر والزبيب» ، و «مقالة في النحل» ، وأشياء سوى ذلك.

٩
١٠

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[مقدمة المصنف]

بسم الله الرحمن الرحيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا. قال الشيخ الإمام الأوحد ، الحافظ ، العلم ، ناصر الدين أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم (رضي الله عنه) :

الحمد لله حمدا كثيرا ، وصلى الله على محمد عبده ورسوله وخاتم أنبيائه بكرة وأصيلا ، وسلم تسليما.

أما بعد : فإن كثيرا من الناس كتبوا في افتراق الناس في دياناتهم ومقالاتهم كتبا كثيرة جدّا ، فبعض أطال وأسهب (١) ، وأكثر وهجّر (٢) ، واستعمل الأغاليط والشغب ، فكان ذلك شاغلا عن الفهم ، وقاطعا دون العلم. وبعض حذف وقصّر ، وقلّل واختصر ، وأضرب عن كثير من قويّ معارضات أصحاب المقالات فكان في ذلك غير منصف لنفسه في أن يرضى لها بالغبن في الإبانة وظالما لخصمه في أن لم يوفّه حق اعتراضه ، وباخسا حقّ من قرأ كتابه ، إذ لم يفنّد (٣) به غيره. وكلهم ـ إلّا تحلّة القسم (٤) ـ عقد كلامه تعقيدا يتعذر فهمه على كثير من أهل الفهم ، وحلّق على المعاني من بعد حتى صار ينسي آخر كلامه أوّله ، وأكثر هذا منهم ستائر دون فساد

__________________

(١) أسهب : أكثر من الكلام وأطال. ويقال : أسهب كلامه وفيه ، وفي كلامه إسهاب (المعجم الوسيط : ص ٤٥٧).

(٢) الهجر : الهذيان والقبيح من القول (المعجم الوسيط : ص ٩٧٣).

(٣) يقال : فنّد رأي فلان : أضعفه وأبطله (المعجم الوسيط : ص ٧٠٣).

(٤) تحلّة القسم : قال العلماء : معناه ما ينحلّ به القسم وهو اليمين ، قال ابن قتيبة : معناه تقليل مدة ورودها ، قال : وتحلّة القسم تستعمل في هذا في كلام العرب. وقد وردت هذه اللفظة في حديث عند مسلم (كتاب البرّ والصلة والآداب ، حديث ١٥٠) عن أبي هريرة ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسّه النار إلا تحلّة القسم».

١١

معانيهم (١) ، فكان هذا عملا منهم غير محمود في عاجله وآجله.

قال «أبو محمد رضي الله عنه» : فجمعنا كتابنا هذا مع استخارتنا الله عزوجل في جمعه ، وقصدنا به إيراد البراهين المنتجة عن المقدّمات الحسية أو الرّاجعة إلى الحسّ من قرب أو من بعد على حسب قيام البراهين التي لا تخون أصلا مخرّجة إلى ما أخرجت له ، وألّا يصح منه إلّا ما صححت البراهين المذكورة فقط ، إذ ليس الحق إلا ذلك ، وبالغنا في بيان اللفظ وترك التعقيد ، راجين من الله عزوجل على ذلك الأجر الجزيل ، وهو تعالى وليّ من تولّاه ، ومعطي من استعطاه لا إله إلّا هو ، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) فنقول وبالله التوفيق : رءوس الفرق المخالفة لدين الإسلام ستّ ، ثم تتفرق كل فرقة من هذه الفرق السّتّ على فرق ، وسأذكر جماهيرها إن شاء الله تعالى.

فالفرق السّت التي ذكرناها على مراتبها في البعد عنّا.

أولاها : مبطلو الحقائق : وهم الذين يسميهم المتكلمون «السوفسطائية».

وثانيتها : القائلون بإثبات الحقائق ، إلّا أنهم قالوا : إنّ العالم لم يزل ، وأنه لا محدث له ولا مدبر.

وثالثتها : القائلون بإثبات الحقائق ، وأن العالم لم يزل ، وأنّ له مدبّرا لم يزل.

ورابعتها : القائلون بإثبات الحقائق. وقال بعضهم : إنّ العالم لم يزل ، وقال بعضهم : بل هو محدث. واتفقوا على أن له مدبّرين لم يزالوا ، وأنهم أكثر من واحد ، واختلفوا في عددهم.

وخامستها : القائلون بإثبات الحقائق ، وأن العالم محدث ، وأن له خالقا واحدا لم يزل ، وأبطلوا النبوّات كلّها.

وسادستها : القائلون بإثبات الحقائق ، وأن العالم محدث ، وأن له خالقا واحدا لم يزل ، وأثبتوا النبوّات ، إلّا أنهم خالفوا في بعضها فأقروا ببعض الأنبياء عليهم‌السلام ، وأنكروا بعضهم.

__________________

(١) يريد أنهم ستروا فساد معانيهم بهذا.

١٢

قال : «أبو محمد» (رضي الله عنه) : وقد تحدث في خلال هذه الأقوال آراء هي منتجة من هذه الرءوس ، ومركبة منها ، فمنها ما قد قالت به طوائف من الناس مثل ما ذهبت إليه فرق من الأمم من القول بتناسخ الأرواح (١) ، أو القول بتواتر النبوّات في كلّ وقت ، وأنّ في كل نوع من أنواع الحيوان أنبياء ، ومثل ما قد لقيت جماعة من القائلين به ، وناظرتهم عليه من القول بأن العالم محدث وله مدبّر لم يزل ، إلّا أن النفس والمكان المطلق ، وهو الخلاء والزمان المطلق لم تزل معه.

قال «أبو محمد» : وهذا قول قد ناظرني عليه عبد الله بن خلف بن مروان الأنصاري ، وعبد الله بن محمد السلمي الكاتب ، ومحمد بن علي بن أبي الحسين الأصبحي الطبيب ، وهو قول يؤثر عن محمد بن زكريا الرازي الطبيب (٢) ، ولنا عليه فيه كتاب مفرد في نقد كتابه في ذلك ، وهو المعروف بالعلم الإلهي ، وكمثل ما ذهب إليه قوم من أن الفلك لم يزل ، وأنه غير الله تعالى ، وأنه هو المدبر للعالم الفاعل له إجلالا بزعمهم لله عزوجل عن أن يوصف بأنه فعل شيئا من الأشياء وقد كنّى بعضهم عن ذلك بالعرش. ومنها ما لا نعلم أن أحدا قال به إلّا أنه غير الله تعالى ، وأنه هو المدبر للعالم الفاعل له إجلالا بزعمهم لله عزوجل من أن يوصف بأنه فعل شيئا من الأشياء وقد كنّى بعضهم عن ذلك بالعرش. ومنها ما لا نعلم أن أحدا قال به إلّا أنه مما لا يؤمن أن يقول به قائل من المخالفين عند تطبيق الحجج عليهم ، فيلجئون إليها ، فلا بدّ إن شاء الله تعالى من ذكر ما يقتضيه مساق الكلام منها.

وذلك مثل القول : بأنّ العالم محدث ولا محدث له ، فلا بدّ بحول الله تعالى من إثبات المحدث بعد الكلام في إثبات الحدوث ، وبالله تعالى التوفيق والعون لا إله إلّا هو.

باب مختصر جامع في ماهية البراهين الجامعة الموصلة إلى معرفة

الحق في كل ما اختلف فيه الناس وكيفية إقامتها

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : هذا باب قد أحكمناه في كتابنا المرسوم

__________________

(١) تناسخ الأرواح : مذهب طوائف الهندوس. وهناك أيضا بعض الفرق التي تدّعي الانتماء إلى الإسلام تؤمن به أيضا.

(٢) هو أبو بكر محمد بن زكريا الرازي الطبيب. أصله من الريّ وقدم بغداد وتعلم بها الطب وباشر

١٣

بـ «التقريب في حدود الكلام» (١) وتقصيناه هنالك غاية التقصي والحمد لله رب العالمين. إلّا أننا نذكر هاهنا جملة كافية لتكون مقدمة لما يأتي بعدهم مما اختلف الناس فيه ، يرجع إليها إن شاء الله تعالى عزوجل فنقول وبالله التوفيق :

إن الإنسان يخرج إلى هذا العالم ونفسه قد ذهب ذكرها جملة في قول من يقول : إنها كانت قبل ذلك ذاكرة ، أو لا ذكر لها البتة في قول من يقول : إنها حدثت حينئذ ، أو أنها مزاج عرض ، إلا أنه قد حصل أنه لا ذكر للطفل حين ولادته ولا تمييز إلّا ما لسائر الحيوان من الحسّ والحركة الإرادية فقط ، فتراه يقبض رجليه ويمدّهما ، ويقلب أعضاءه حسب طاقته ، ويألم إذا أحسّ البرد ، أو الحرّ ، أو الجوع ، وإذا ضرب ، أو قرص ، وله سوى ذلك مما يشاركه فيه الحيوان والنوامي (٢) مما ليس حيوانا ، من طلب الغذاء لبقاء جسمه على ما هو عليه ولنمائه ، فيأخذ الثدي ويميزه بطبعه ـ من سائر الأعضاء ـ بفيه دون سائر أعضائه ، كما تأخذ عروق الشجر والنبات رطوبات الأرض والماء لبقاء أجسامها على ما هي عليه ، ولنمائها ، فإذا قويت النفس على قول من يقول : إنها مزاج ، أو إنها حدثت حينئذ ، أو أخذت يعاودها ذكرها وتمييزها في قول من يقول : إنها كانت ذاكرة قبل ذلك ، أو إنها كالمفيق من مرض فأول ما يحدث لها من التمييز الذي ينفرد به الناطق من الحيوان فهم ما أدركت بحواسّها الخمس ، كعلمها : أن الرائحة الطيبة مقبولة من طبعها ، والرائحة الرديئة منافرة لطبعها ، وكعلمها أن الأحمر مخالف للأخضر ، وللأصفر وللأبيض ، وللأسود ، وكالفرق بين الخشن والأملس ، والمكتنز (٣) والمتهيّل (٤) واللزج (٥) ، والحار والبارد والدافىء ، وكالفرق بين الحلو

__________________

بيمارستان العضدي. توفي ببغداد سنة ٣١١ ه‍. وله عدد كبير من الكتب والمصنفات. انظر هدية العارفين (٢ / ٢٧ ـ ٢٩).

(١) ذكره حاجي خليفة في كشف الظنون (ص ٤٦٦) باسم : «التقريب في المنطق» وقال : «وهو مختصر جعله مدخلا إليه وأورد الأمثلة الفقهية بألفاظ عامية بحيث أزال سوء الظنّ عنه». وقد طبع هذا الكتاب في السودان (دار مكتبة الحياة) بتحقيق الدكتور إحسان عباس ، وذلك سنة ١٩٥٩ م ، وسماه : «التقريب لحدود المنطق والمدخل إليه بالألفاظ العامية والأمثلة الفقهية».

(٢) النوامي : النباتات النامية.

(٣) المكتنز : المجتمع والممتلئ (المعجم الوسيط : ص ٨٠٠).

(٤) تهيّل الشيء : انهال بعضه في إثر بعض (المعجم الوسيط : ص ١٠٠٤) ويريد بالمتهيل هنا : المترهّل.

(٥) لزج الشيء لزجا ولزوجا ولزوجة : تمطط وتمدد وكان فيه ودك يعلق باليد ونحوها (المعجم الوسيط : ص ٨٢٣).

١٤

والحامض ، والمرّ والمالح والعفص (١) ، والزاعق (٢) والتفه (٣) ، والعذب والحريف (٤) ، وكالفرق بين الصوت الحادّ والغليظ ، والرقيق والمطرب والمفزع.

قال «أبو محمد» : فهذه إدراكات الحواس لمحسوساتها.

والإدراك السادس : علمها بالبديهيات (٥) ، فمن ذلك علمها بأن الجزء أقلّ من الكل ، فإنّ الصبيّ الصغير في أوّل تمييزه إذا أعطيته تمرتين بكى ، وإذا زدته ثالثة سرّ ، وهذا علم منه بأن الكل أكثر من الجزء ، وإن كان لا يتنبه لتحديد ما يعرف من ذلك ، ومن ذلك علمه بأن لا يجتمع المتضادّان ، فإنك إذا وقّفته قسرا بكى ونازع إلى القعود ، علما منه بأنه لا يكون قائما قاعدا معا. ومن ذلك : علمه بأنه لا يكون جسم واحد في مكانين ، فإنه إذا أراد الذهاب إلى مكان ما فأمسكته قسرا بكى ، وقال كلاما معناه : دعني أذهب ، علما منه بأنه لا يكون في المكان الذي يريد أن يذهب إليه ما دام في مكان واحد. ومن ذلك : علمه بأنه لا يكون الجسمان في مكان واحد ، فإنك تراه ينازع على المكان الذي يريد أن يقعد فيه ، علما منه بأنه لا يسعه ذلك المكان مع ما فيه ، فيدفع من في ذلك المكان الذي يريد أن يقعد فيه إذ يعلم أنه ما دام في المكان ما يشغله فإنه لا يسعه وهو فيه. وإذا قلت له ناولني ما في هذا الحائط وكان لا يدركه قال : لست أدركه وهذا علم منه بأن الطويل زائد على مقدار ما هو أقصر منه ، وتراه يمشي إلى الشيء الذي يريد ليصل إليه ، وهذا علم منه بأن ذا النهاية يحصر ويقطع بالعدو ، وإن لم يحسن العبارة بتحديد ما يدري من ذلك. ومنها : علمه بأنه لا يعلم الغيب أحد ، وذلك أنك إذا سألته عن شيء لا يعرفه أنكر ذلك وقال : لا أدري. ومنها : فرقه بين الحق والباطل (٦) فإنه إذا أخبر بخبر تجده في بعض الأوقات لا يصدّقه حتى إذا تظاهر (٧) عنده بمخبر آخر وآخر صدّقه وسكن إلى ذلك. ومنها : علمه بأنه لا يكون

__________________

(١) العفص : الذي فيه مرارة وتقبّض (المعجم الوسيط : ص ٦١١).

(٢) زعق الماء والطعام : كان مرّا غليظا لا يطاق شربه (المعجم الوسيط : ص ٣٩٤).

(٣) التفه : الطعام الذي لا طعم له (المعجم الوسيط : ص ٨٦).

(٤) الحرّيف : الذي فيه حرافة. والحرافة : حدة في الطعم تحرق اللسان والفم (المعجم الوسيط : ص ١٦٧).

(٥) البدهيات ، أو البديهيات : هي المعلومات التي لا تحتاج إلى برهنة ، فهي تعلم بالبديهة دون حاجة إلى سابق علم لأنها مسلّمة.

(٦) جعله الفرق بين الحق والباطل من البديهيات فيه نظر.

(٧) أي اعتضد بخبر آخر.

١٥

شيء إلا في زمان فإنك إذا ذكرت له أمرا ما قال : متى كان (١)؟ وإذا قلت له : لم تفعل كذا وكذا ، قال : متى كنت أفعله؟ وهذا علم منه بأنه لا يكون شيء مما في العالم إلّا في زمان. ويعرف أن للأشياء طبائع وماهية تقف عندها ولا تتجاوزها ، فتراه إذا رأى شيئا لا يعرفه قال : أيّ شيء هذا؟ فإذا شرح له سكت. ومنها : علمه بأنه لا يكون فعل إلّا من فاعل ، فإنه إذا رأى شيئا قال : من عمل هذا؟ ولا يقنع البتة بأنه انعمل بدون عامل. وإذا رأى بيد آخر شيئا قال : من أعطاك هذا؟ ومنها : معرفته بأن في الخبر صدقا أو كذبا ، فتراه يكذّب بعض ما يخبر به ، ويصدّق بعضه ، ويتوقف في بعضه. هذا كلّه مشاهد من جميع الناس في مبدأ نشأتهم.

قال «أبو محمد» فهذه أوائل العقل التي لا يختلف فيها ذو عقل ، وهاهنا أيضا أنبياء غير ما ذكرنا إذا فتّشت وجدت وميزها كل ذي عقل من نفسه ومن غيره ، وليس يدري أحد كيف وقع له العلم بهذه الأشياء كلها بوجه من الوجوه.

ولا يشك ذو تمييز صحيح في أن هذه الأشياء كلها صحاح لا امتراء فيها ، وإنما يشكّ فيها بعد صحة علمه بها من دخلت عقله آفة (٢) وفسد تمييزه أو مال إلى بعض الآراء الفاسدة فكان ذلك أيضا آفة دخلت على تمييزه كالآفة الدّاخلة على من به هيجان الصفراء (٣) ، فيجد العسل مرّا ، ومن في عينه ابتداء نزول الماء فيرى خيالات لا حقيقة لها ، وكسائر الآفات الدّاخلة على الحواسّ.

قال «أبو محمد» : فهذه المقدمات الصحاح التي ذكرنا هي التي لا شك فيها ، ولا سبيل إلى أن يطلب عليها دليلا إلا مجنون أو جاهل لا يعلم حقائق الأشياء ومن الطفل أهدى منه ، وهذا أمر يستوي في الإقرار به كبار جميع بني آدم عليه‌السلام وصغارهم في أقطار الأرض ، إلّا من غالط حسّه ، وكابر عقله ، فيلحق بالمجانين ، لأن الاستدلال على الشيء لا يكون إلّا في زمان ، ولا بدّ ضرورة أن يعلم ذلك بأوّل العقل ، لأنه قد علم بضرورة العقل : أنه لا يكون شيء مما في العالم إلّا في وقت ، وليس بين أوّل أوقات تميز النفس في هذا العالم ، وبين إدراكها لكل ما ذكرنا مهلة البتة ، لا دقيقة

__________________

(١) لا يصل الطفل إلى استيعاب مفهوم الزمان إلّا في سنّ متأخرة كما ثبت في علم النفس الحديث.

(٢) آفة : علّة.

(٣) الصفراء : سائل شديد المرارة يختزن في كيس المرارة لونه أصفر يضرب للحمرة. والصفراء أيضا : مزاج من أمزجة البدن (المعجم الوسيط : ص ٥١٦).

١٦

ولا أقل ولا أكثر فلا سبيل إلى الاستدلال عليها ، إذ لا وقت يمكن فيه الاستدلال على ذلك فصح أنها ضرورات أوقعها الله تعالى في النفس ، ولا سبيل إلى الاستدلال البتة إلّا من هذه المقدمات ، ولا يصح شيء إلّا بالردّ عليها ، فما شهدت له مقدمة من هذه المقدمات بالصحة فهو صحيح متيقّن ، وما لم تشهد له بالصحة فهو باطل ساقط.

إلّا أن الرجوع إليها قد يكون من قرب ، وقد يكون من بعد ، فما كان من قرب فهو أظهر إلى كل نفس ، وأمكن للفهم ، وكلما بعدت المقدّمات المذكورة صعب العمل في الاستدلال حتى يقع في ذلك الغلط إلا للفهم (١) القويّ الفهم والتمييز ، وليس ذلك مما يقدح في أن ما رجع إلى مقدّمة من المقدّمات التي ذكرنا حق ، كما أن تلك المقدمة حق ، لا فرق بينهما في أنهما حقّ ، وهذا مثل الأعداد فكلما قلّت الأعداد سهل جمعها ولم يقع فيها غلط ، حتى إذا كثرت الأعداد وكثر العمل في جمعها صعب ذلك حتى يقع فيها الغلط إلّا للحاسب الكافي المجيد ، وكلّ ما قرب من ذلك وبعد فهو كلّه حق ، ولا تفاضل في شيء من ذلك ، ولا تعارض مقدمة كما ذكرنا مقدمة أخرى منها ، ولا يعارض ما يرجع إلى مقدّمة أخرى منها رجوعا صحيحا ، وهذا كله يعلم بالضرورة. ومن علم النفس بأن علم الغيب لا يعرف صحّ ضرورة أنه لا يمكن أن يحكي أحد خبرا كاذبا طويلا فيأتي من لم يسمعه فيحكي ذلك الخبر بعينه كما هو لا يزيد فيه ولا ينقص إذ لو أمكن ذلك لكان الحاكي لمثل ذلك الخبر عالما بالغيب ، لأن هذا هو علم الغيب نفسه ، وهو الإخبار عما لا يعلم المخبر عنه بما هو عليه ، فإذ ذلك كذلك بلا شك فكل ما نقله من الأخبار اثنان فصاعدا مفترقان قد أيقنا أنهما لم يجتمعا ولا تشاعرا (٢) ، فلم يختلفا فيه ، فبالضرورة يعلم أنه حقّ متيقّن مقطوع به على غيبه ، وبهذا علمنا صحّة موت من مات وولادة من ولد ، وعزل من عزل ، وولاية من ولي ، ومرض من مرض ، وإفاقة من أفاق ، ونكبة من نكب ، والبلاد الغائبة عنّا ، والوقائع والملوك ، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وديانتهم ، والعلماء وأقوالهم ، والفلاسفة وحكمهم ، لا شك عند أحد يوفّي عقله حقه في شيء مما نقل من ذلك مما ذكرنا ، وبالله تعالى التوفيق.

__________________

(١) الفهم : ذو الفهم.

(٢) أي لم يشعر أحدهما بالآخر.

١٧

القسم الأوّل

«السوفسطائية»

باب الكلام على أهل القسم الأول ، وهم مبطلو الحقائق

وهم السوفسطائية.

قال «أبو محمد» : ذكر من سلف من المتكلمين أنهم ثلاثة أصناف ، فصنف منهم نفى الحقائق جملة ، وصنف منهم شكّوا فيها ، وصنف منهم قالوا : هي حقّ عند من هي عنده حق ، وهي باطل عند من هي عنده باطل.

وعمدة ما ذكر من اعتراضهم : هو اختلاف الحواس في المحسوسات ، كإدراك البصر من بعد عنه صغيرا ، ومن قرب منه كبيرا ، وكوجود من به حمى صفراء حلو المطاعم مرّا ، وما يرى في الرؤيا مما لا يشك فيه رائيه أنه حقّ من أنه في البلاد البعيدة.

قال «أبو محمد» : وكل هذا لا معنى له ، لأن الخطاب وتعاطي المعرفة إنما يكون مع أهل المعرفة ، وحسّ العقل شاهد بالفرق بين ما يخيّل إلى النائم ، وبين ما يدركه المستيقظ ، إذ ليس في الرؤيا من استعمال الجري على الحدود المستقرة في الأشياء المعروفة ، وكونها أبدا على صفة واحدة ما في اليقظة ، وكذلك يشهد الحسّ أيضا بأنّ تبدّل المحسوس عن صفته اللازمة له تحت الحس إنما هو لآفة في حسّ الحاسّ له لا في المحسوس ، جار كل ذلك على رتبة واحدة لا تتحول ، وهذه هي البداية والمشاهدات التي لا يجوز أن يطلب عليها برهان إذ لو طلب على كل برهان برهان لاقتضى ذلك وجود موجودات لا نهاية لها ، ووجود أشياء لا نهاية لها محال لا سبيل إليه ، على ما سنبينه إن شاء الله تعالى. والذي يطلب على البرهان برهانا فهو ناطق بالمحال ، لأنه لا يفعل ذلك إلا وهو مثبت لبرهان ما ، فإذا وقف عند البرهان الذي ثبت لزمه الإذعان له.

فإن كان لا يثبت برهانا فلا وجه لطلبه ما لا يثبته لو وجده ، والقول بنفي الحقائق مكابرة للعقل والحسّ.

١٨

ويكفي من الردّ عليهم أن يقال لهم : «قولكم إنه لا حقيقة للأشياء» ، أحقّ هو أم باطل؟ فإن قالوا «هو حق» أثبتوا حقيقة ما ، وإن قالوا : «ليس هو حقّا» ، أقرّوا ببطلان قولهم ، وكفوا خصومهم أمرهم.

ويقال للشّكاك منهم ـ وبالله تعالى التوفيق ـ : أشكّكم موجود صحيح منكم أم غير صحيح ولا موجود؟ فإن قالوا : هو موجود صحيح منّا أثبتوا أيضا حقيقة ما ، وإن قالوا : هو غير موجود نفوا الشك وأبطلوه. وفي إبطال الشك إثبات الحقائق أو القطع على إبطالها.

وقد قدّمنا بعون الله تعالى إبطال قول من أبطله فلم يبق إلا الإثبات.

ويقال ـ وبالله التوفيق ـ لمن قال هي حق عند من هي عنده حق ، وهي باطل عند من هي عنده باطل : إن الشيء لا يكون حقا باعتقاد من اعتقد أنه حق ، كما أنه لا يبطل باعتقاد من اعتقد أنه باطل. وإنما يكون الشيء حقا بكونه موجودا ثابتا ، سواء اعتقد أنه حق أو اعتقد أنه باطل. ولو كان غير هذا لكان معدوما موجودا في حال واحدة في ذاته. وهذا عين المحال.

وإذا أقروا بأن الأشياء حق عند من هي عنده حق ، فمن جملة تلك الأشياء التي تعتقد أنها حق عند من يعتقد أن الأشياء حق بطلان قول من قال إن الحقائق باطل ، وهم قد أقروا أن الأشياء حق عند من هي عنده حق ، وبطلان قولهم من جملة تلك الأشياء ، فقد أقروا بأن بطلان قولهم حق ، مع أن هذه الأقوال لا سبيل إلى أن يعتقدها ذو عقل البتة ، إذ حسّه يشهد بخلافها ، وإنما يمكن أن يلجأ إليها بعض المتنطّعين (١) على سبيل الشغب. وبالله تعالى التوفيق.

القسم الثاني

من قال بان العالم لم يزل (٢) وانه لا مدبر له

قال «أبو محمد» (رضي الله عنه) : لا يخلو العالم من أحد وجهين : إمّا أن يكون لم يزل أو أن يكون محدثا لم يكن ثم كان. فذهبت طائفة إلى أنه لم يزل وهم الدّهرية ، وذهبت طائفة من الناس إلى أنه محدث.

__________________

(١) التنطع : المغالاة والتكلف (المعجم الوسيط : ص ٩٣٠).

(٢) أي أنه قديم موجود منذ الأزل دون موجد له.

١٩

فنبتدئ بحول الله تعالى وقوته بإيراد كل حجة شغب بها القائلون بأن العالم لم يزل ، وتوفية اعتراضهم بها ، ثم نبين بحول الله تعالى نقضها وفسادها ، فإذا بطل القول بأنه لم يزل وجب القول بالحدوث وصح ، إذ لا سبيل إلى وجه ثالث ، لكنا لا نقنع بذلك حتى نأتي بالبراهين الظاهرة والنتائج الموجبة والقضايا الضرورية على إثبات حدوث العالم.

ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم.

الاعتراض الأول :

فمما اعترضوا به أن قالوا : لم نر شيئا حدث إلّا من شيء أو في شيء ، فمن ادّعى غير ذلك فقد ادّعى ما لا يشاهد ولم يشاهد.

الاعتراض الثاني :

وقالوا أيضا : لا يخلو محدث الأجسام ـ الجواهر والأعراض ، وهي كل ما في العالم ـ إن كان العالم محدثا من أن يكون أحدثه لأنه (١) ، أو أحدثه لعلّة ، فإن كان أحدثه لأنّه ، فالعالم لم يزل لأنّ محدثه لم يزل إذ هو علة خلقه فالعلّة لا تفارق المعلول ، وما لم يفارق من لم يزل فهو أيضا لم يزل ، إذ هو مثله بلا شك ، فالعالم لم يزل.

وإن كان أحدثه لعلة ، فتلك العلّة لا تخلو من أحد وجهين ، إما أن تكون لم تزل ، وإمّا أن تكون محدثة.

فإن كانت لم تزل فمعلولها لم يزل ، فالعالم لم يزل.

وإن كانت تلك العلة محدثة لزم من حدوثها ما لزم في حدوث سائر الأشياء من أنه أحدثها لأنه ، أو لعلة.

فإن كان لعلة لزم ذلك أيضا في علة العلة ، وهكذا أبدا.

وهذا يوجب وجوب محدثات لا أوائل لها. قالوا : وهذا قولنا.

قالوا : وإن كان أحدثها لأنه ، فهذا يوجب أن العلّة لم تزل. كما بينا آنفا.

__________________

(١) سيتكرر هذا الأسلوب في مواضع أخرى. ويريد أنه أحدثه ـ أي الله تعالى ـ بطريق الفيض كالمرآة التي تنعكس فيها صور الأشياء لا لعلّة. أي أنه حدث بالضرورة.

٢٠