الملل والنّحل - ج ٢

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني

الملل والنّحل - ج ٢

المؤلف:

أبي الفتح محمد بن عبدالكريم بن أبي بكر أحمد الشهرستاني


المحقق: أمير علي مهنا و علي حسن فاعور
الموضوع : الفرق والمذاهب
الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٣٥٨

١
٢

٣
٤

الباب الأول

أهل الأهواء والنحل

من الصابئة (١) ، والفلاسفة ، وآراء العرب في الجاهلية ، وآراء الهند ، وهؤلاء يقابلون أرباب الديانات تقابل التضادّ كما ذكرنا. واعتمادهم على الفطر السليمة ، والعقل الكامل والذهن الصافي.

فمن معطّل بطّال ؛ لا يردّ عليه فكره برادّ ، ولا يهديه عقله ونظره إلى اعتقاد ، ولا يرشده فكره وذهنه إلى معاد. قد ألف المحسوس وركن إليه ، وظنّ أنه لا عالم سوى ما هو فيه من مطعم شهيّ ، ومنظر بهيّ ، ولا عالم وراء هذا المحسوس. وهؤلاء هم الطبيعيون الدهريون(٢) لا يثبتون معقولا.

ومن محصل نوع تحصيل ، قد ترقى عن المحسوس ، وأثبت المعقول ، لكنه لا يقول بحدود ، وأحكام ، وشريعة ، وإسلام. ويظن أنه إذا حصّل المعقول ، وأثبت للعالم مبدأ ومعادا ، وصل إلى الكمال المطلوب من جنسه. فتكون سعادته على قدر

__________________

(١) الصابئة : من عبدة الكواكب والنجوم ، وهم قلة كانوا يعيشون في حرّان ما بين النهرين. والناظر في ديانتهم يرى مزيجا غريبا من التوحيد ومن عناصر خرافية فيها تنجيم وسحر ، وتعظيم للجن والشياطين والكواكب ، يوسطونها بينهم وبين الله ، وقد زعموا أنهم المعنيون باسم الصابئة الوارد في القرآن الكريم.

(٢) الدهريون : وهم فرقة كانت منتشرة في زمن النظّام المعتزلي لا تؤمن بدين ولا تقر بإله ، ولا تؤمن إلا بالمحسوس ، ولا تعتقد أن وراء هذا العالم المادي عالما ، فلا معاد ولا ثواب ولا عقاب ، ونسبتهم إلى الدهر أخذا من حكاية الله عنهم قولهم : (وَقالُوا ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ) (سورة الجاثية : الآية ٢٤).

٥

إحاطته وعلمه. وشقاوته بقدر سفاهته وجهله. وعقله هو المستبد بتحصيل هذه السعادة ، ووضعه هو المستعد لقبول تلك الشقاوة. وهؤلاء هم الفلاسفة الإلهيون. قالوا : الشرائع وأصحابها أمور مصلحية عامية. والحدود ، والأحكام ، والحلال ، والحرام أمور وضعية. وأصحاب الشرائع رجال لهم حكم عملية ، وربما يؤيدون من عند واهب الصور بإثبات أحكام ، ووضع حلال وحرام مصلحة للعباد ، وعمارة للبلاد. وما يخبرون عنه من الأمور الكائنة في حال من أحوال عالم الروحانيين من الملائكة والعرش ، والكرسي ، واللوح ، والقلم فإنما هي أمور معقولة لهم ؛ قد عبّروا عنها بصور خيالية جسمانية. وكذلك ما يخبرون به من أحوال المعاد ؛ من الجنة والنار مثل : قصور ، وأنهار ، وطيور ، وثمار في الجنة ، فترغيبات للعوام بما تميل إليه طباعهم. وسلاسل وأغلال ، وخزي ونكال في النار ، فترهيبات للعوام بما تنزجر عنه طباعهم. وإلا ففي العالم العلوي لا يتصور أشكال جسمانية ، وصور جرمانية.

وهذا أحسن ما يعتقدونه في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، لست أعني بهم الذين أخذوا علومهم من مشكاة (١) النبوة ، وإنما أعني بهؤلاء الذين كانوا في الزمن الأول دهرية وحشيشية ، وطبيعية (٢) ، وإلهية ، قد اغتروا بحكمهم ، واستقلوا بأهوائهم وبدعهم.

ثم يتلوهم ويقرب منهم قوم يقولون بحدود وأحكام عقلية ، وربما أخذوا أصولها وقوانينها من مؤيّد بالوحي ، إلا أنهم اقتصروا على الأول منهم ، وما نفذوا إلى الآخر. وهؤلاء هم الصابئة الأولى ؛ الذين قالوا بعاذيمون ، وهرمس ، وهما : شيث وإدريس عليهما‌السلام ، ولم يقولوا بغير هما من الأنبياء عليهم‌السلام.

* * *

__________________

(١) المشكاة : كل كوّة ليست بنافذة ، وقوله تعالى : (كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ) قال الزجاج : هي الكوّة.

(لسان العرب مادة شكا).

(٢) الطبيعية : نسبة إلى الطبيعيين ، وهم ينكرون الألوهية ، ويقولون بإثبات الطبائع للأجسام.

٦

والتقسيم الضابط أن نقول :

١ ـ من الناس من لا يقول بمحسوس ولا معقول ، وهم السوفسطائية (١).

٢ ـ ومنهم من يقول بالمحسوس ، ولا يقول بالمعقول ، وهم الطبيعية.

٣ ـ ومنهم من يقول بالمحسوس والمعقول ، ولا يقول بحدود ، وأحكام ؛ وهم الفلاسفة الدهرية.

٤ ـ ومنهم من يقول بالمحسوس ، والمعقول ، والحدود ، والأحكام. ولا يقول بالشريعة والإسلام ، وهم الصابئة.

٥ ـ ومنهم من يقول بهذه كلها ، وبشريعة ما ، وإسلام. ولا يقول بشريعة نبينا محمدصلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهم المجوس ، واليهود ، والنصارى.

٦ ـ ومنهم من يقول بهذه كلها ، وهم المسلمون.

* * *

ونحن قد فرغنا عمن يقول بالشرائع والأديان. فنتكلم الآن فيمن لا يقول بها ، ويستبد برأيه وهواه ، في مقابلتهم.

الفصل الأول

الصابئة والحنفاء

قد ذكرنا فيما تقدم أن الصبوة في مقابلة الحنيفية (٢) : وفي اللغة : صبأ الرجل : إذا مال وزاغ ، فبحكم ميل هؤلاء عن سنن الحق ، وزيغهم عن نهج الأنبياء ، قيل لهم الصابئة.

__________________

(١) السوفسطائية : وهي نزعة تنكر قيمة التفكير البشري وتجعل القيمة للأساليب الخطابية بعكس النزعة الماورائية التي تعنى بالرياضيات والعلوم الفلكية والطبيعية.

(٢) الحنيفيّة : وجماعتها من المفكرين الموحدين أبوا أن يقبلوا اليهودية والنصرانية كما هما ، واكتفوا بعبادة الله لا شريك له مع اتباع عادات قومهم ، واتخذوا لهم إماما هو إبراهيم الخليل كليم الله ، وكانوا يكثرون من الأسفار إلى ديار النصرانية والاتصال بعلمائها «وقد جعلوا وجهة أكثرهم أعالي الحجاز وبلاد الشام ، وأعالي العراق ، أي المواضع التي كانت غالبية أهلها على النصرانية يومئذ ، وجعلوا أكثر كلامهم وسؤالهم مع الرهبان». (انظر تاريخ العرب قبل الإسلام ٥ : ٣٩٩).

٧

وقد يقال : صبأ الرجل إذا عشق وهوى.

وهم يقولون : الصبوة هي الانحلال عن قيد الرجال.

وإنما مدار مذهبهم على التعصب للروحانيين ؛ كما أن مدار مذهب الحنفاء هو التعصب للبشر الجسمانيين.

والصابئة تدّعي أن مذهبها هو الاكتساب ، والحنفاء تدعي أن مذهبها هو الفطرة.

فدعوة الصابئة إلى الاكتساب ، ودعوة الحنفاء إلى الفطرة.

الفصل الثاني

أصحاب الروحانيات

وفي العبارة لغتان :

روحاني ، بالضم ، من الرّوح. وروحاني ، بالفتح ، من الرّوح.

والرّوح والرّوح متقاربان ، فكأن الرّوح جوهر ، والروح : حالته الخاصة به.

١ ـ مذهب أصحاب الروحانيات

ومذهب هؤلاء : أن للعالم صانعا ، فاطرا ، حكيما ، مقدسا عن سمات الحدثان.

والواجب علينا معرفة العجز عن الوصول إلى جلاله. وإنما يتقرب إليه بالمتوسطات المقرّبين لديه ، وهم الروحانيون المطهرون المقدسون جوهرا ، وفعلا ، وحالة.

* أما الجوهر : فهم المقدسون عن المواد الجسمانية ، المبرّءون عن القوى الجسدية ، المنزّهون عن الحركات المكانية ، والتغيرات الزمانية ، قد جبلوا على الطهارة ، وفطروا على التقديس والتسبيح : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (١) وإنما أرشدنا إليهم معلمنا الأول عاذيمون ، وهرمس (٢) ، فنحن نتقرب

__________________

(١) سورة التحريم : الآية ٦ ، وتمامها قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ).

(٢) هرمس : نسبت إليه عدة كتابات ورسائل مشكوك في مصادرها وتعود إلى القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد. والمظنون أنها ألّفت في مدينة الإسكندرية. وتعكس في مجموعها جوّا من التلفيق والتوفيق بين ـ

٨

إليهم ، ونتوكل عليهم. وهم أربابنا وآلهتنا ، ووسائلنا وشفعاؤنا عند الله ، وهو رب الأرباب ، وإله الآلهة ، رب كل شيء ومليكه.

فالواجب علينا أن نطهر نفوسنا عن دنس الشهوات الطبيعية ، ونهذب أخلاقنا عن علائق القوى الشهوانية والغضبية ، حتى تحصل مناسبة ما بيننا وبين الروحانيات ، فحينئذ نسأل حاجاتنا منهم ، ونعرض أحوالنا عليهم ، ونصبو في جميع أمورنا إليهم ، فيشفعون لنا إلى خالقنا وخالقهم ، ورازقنا ورازقهم. وهذا التطهير والتهذيب ليس يحصل إلا باكتسابنا ورياضتنا ، وفطامنا أنفسنا عن دنيّات الشهوات باستمداد من جهة الروحانيات. والاستمداد هو التضرع والابتهال بالدعوات ، وإقامة الصلوات ، وبذل الزكوات ، والصيام عن المطعومات والمشروبات ، وتقريب القرابين والذبائح ، وتبخير البخورات ، وتعزيم العزائم. فيحصل لنفوسنا استعداد واستمداد من غير واسطة ، بل يكون حكمنا وحكم من يدّعي الوحي على وتيرة واحدة.

قالوا : والأنبياء أمثالنا في النوع ، وأشكالنا في الصورة ، يشاركوننا في المادة ، يأكلون مما نأكل ، ويشربون مما نشرب ، ويساهموننا في الصورة. أناس بشر مثلنا ، فمن أين لنا طاعتهم؟ وبأية مزية لهم لزمت متابعتهم؟ (وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) (١) مقالتهم.

* * *

__________________

ـ المذاهب الفلسفية والدينية ، اليونانية والشرقية المختلفة. وهي معاصرة لمجموعة أخرى من الكتابات تسمى «الوحي الكلداني» وبينهما عناصر كونية مشتركة عديدة.

وقد بقيت لنا في مجموعة «الكتابات الهرمسية» ١٧ رسالة عنوان الأولى منها هوpoimandres راعي الناس. وقد امتد هذا العنوان إلى مجموعة هذه الرسائل كلها بسبب خطأ وقع فيه مرسليو فتشيينو الذي ترجمها في سنة ١٤٧١.

ومن بين الكتابات الهرمسية أيضا رسالة موجزة بعنوان «لوح الزمرد» tabula smaragdina بقيت لنا منها ترجمة عربية ولاتينية. (انظر موسوعة الفلسفة ٢ : ٥٣٨).

(١) سورة المؤمنون : الآية ٣٤.

٩

* وأما الفعل : فقالوا : الروحانيات هم الأسباب المتوسطون في الاختراع ، والإيجاد ، وتصريف الأمور من حال إلى حال ، وتوجيه المخلوقات من مبدإ إلى كمال ، يستمدون القوة من الحضرة القدسية ، ويفيضون الفيض على الموجودات السفلية.

فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها ، وهي هياكلها. فلكل روحاني هيكل. ولكل هيكل فلك ، ونسبة الروحاني إلى ذلك الهيكل الذي اختص به ، نسبة الروح إلى الجسد ، فهو ربه ومدبره ومديره. وكانوا يسمون الهياكل أربابا ، وربما يسمونها آباء. والعناصر : أمهات. ففعل الروحانيات تحريكها على قدر مخصوص ليحصل من حركاتها انفعالات في الطبائع والعناصر ، فيحصل من ذلك تركيبات وامتزاجات في المركبات. فيتبعها قوى جسمانية ، وتركب عليها نفوس روحانية مثل أنواع النبات ، وأنواع الحيوان. ثم قد تكون التأثيرات كلية صادرة عن روحاني كلي. وقد تكون جزئية صادرة عن روحاني جزئي. فمع جنس المطر ملك ، ومع كل قطرة ملك.

ومنها مدبرات الآثار العلوية الظاهرة في الجو :

مما يصعد من الأرض فينزل مثل : الأمطار ، والثلوج ، والبرد ، والرياح.

ومما ينزل من السماء مثل الصواعق ، والشهب.

ومما يحدث في الجو : من الرعد ، والبرق ، والسحاب ، والضباب ، وقوس قزح ، وذوات الأذناب ، والهالة (١) ، والمجرة (٢).

ومما يحدث في الأرض مثل الزلازل ، والمياه ، والأبخرة ، إلى غير ذلك.

ومنها متوسطات القوى السارية في جميع الموجودات ، ومدبرات الهداية الشائعة في جميع الكائنات ، حتى لا نرى موجودا ما خاليا عن قوة وهداية إذا كان قابلا لهما.

* * *

__________________

(١) الهالة : دارة القمر.

(٢) المجرّة : شرج السماء ، يقال هي بابها وهي كهيئة القبة. وفي حديث ابن عباس : المجرّة باب السماء وهي البياض المعترض في السماء والنّسران من جانبيها. (اللسان مادة جرر).

١٠

قالوا :

* وأما الحالة : فأحوال الروحانيات من الروح ، والريحان ، والنعمة ، واللذة ، والراحة ، والبهجة ، والسرور في جوار ربّ الأرباب : كيف يخفى؟.

ثم طعامهم وشرابهم : التسبيح ، والتقديس ، والتهليل ، والتمجيد ، والتحميد. وأنسهم بذكر الله تعالى وطاعته ، فمن قائم ، ومن راكع ، ومن ساجد ، ومن قاعد لا يزيد تبديل حالته لما هو فيه من البهجة واللذة ، ومن خاشع بصره لا يرفع ، ومن ناظر لا يغم ، ومن ساكن لا يتحرك ، ومن متحرك لا يسكن ، ومن كروبي (١) في عالم القبض ، ومن روحاني في عالم البسط : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ) (٢).

٢ ـ مناظرات بين الصابئة ، والحنفاء

وقد جرت مناظرات ومحاورات بين الصابئة والحنفاء في المفاضلة بين الروحاني المحض ، وبين البشرية النبوية.

ونحن أردنا أن نوردها على شكل سؤال وجواب ، وفيها فوائد لا تحصى :

قالت الصابئة :

الروحانيات أبدعت إبداعا لا من شيء. لا مادة ، ولا هيولى. وهي كلها جوهر (٣) واحد على سنخ (٤) واحد. وجواهرها أنوار محضة لا ظلام فيها ، وهي من شدة ضيائها لا يدركها الحس ، ولا ينالها البصر ، ومن غاية لطافتها يحار فيها العقل ، ولا يجول فيها الخيال.

ونوع الإنسان مركب من العناصر الأربعة ، مؤلف من مادة ، وصورة ، والعناصر

__________________

(١) كروبي ، من كرب الأمر : دنا وقرب.

(٢) سورة التحريم : الآية ٦ ، وقد أوردنا الآية بكاملها ص ٣٠٨ ح ١.

(٣) الجوهر : كل جوهر مؤلف من مادة ـ ويسميها أرسطو هيولى ـ وصورة ؛ هي والصورة هي التي تكيّف الجوهر. والصورة لما دونها ، ومادة لما فوقها ؛ فاللوح صورة بالنسبة إلى الخشب ومادة بالنسبة إلى السرير.

(٤) السنخ : الأصل من كل شيء.

١١

متضادة ومزدوجة بطباعها ، اثنان منها مزدوجان ، واثنان منها متضادان ، ومن التضاد يصدر الاختلاف والهرج (١) ، ومن الازدواج يحصل الفساد والمرج (٢). فما هو مبدع لا من شيء ، لا يكون كمخترع من شيء.

والمادة والهيولى سنخ الشر ومنبع الفساد ، فالمركب منها ومن الصورة : كيف يكون كمحض الصورة؟ والظلام كيف يساوي النور؟ والمحتاج إلى الازدواج ، والمضطر في هوة الاختلاف ، كيف يرقى إلى درجة المستغني عنهما؟.

أجابت الحنفاء :

بأن قالت : بم عرفتم معاشر الصابئة وجود هذه الروحانيات؟ والحس ما دلكم عليه ، والدليل ما أرشدكم إليه؟ قالوا : عرفنا وجودها ، وتعرفنا أحوالها من عاذيمون ، وهرمس : شيث ، وإدريس عليهما‌السلام.

قالت الحنفاء : لقد ناقضتم وضع مذهبكم ، فإن غرضكم في ترجيح الروحاني على الجسماني : نفي المتوسط البشري ، فصار نفيكم إثباتا ، وعاد إنكاركم إقرارا.

ثم من الذي يسلم أن المبدع لا من شيء أشرف من المخترع من شيء؟ بل وجانب الروحاني أمر واحد ، وجانب الجسماني أمران :

أحدهما : نفسه وروحه.

والثاني : حسه وجسده. فهو من حيث الروح مبدع بأمر الله تعالى. ومن حيث الجسد مخترع بخلقه. ففيه أثران : أمري ، وخلقي : قولي ، وفعلي. فساوى الروحاني بجهة ، وفضله بجهة ، خصوصا إذا كانت جهته الخلقية ما نقصت الجهة الأخرى ، بل كملت وطهرت.

__________________

(١) الهرج : الاختلاط. وفي حديث أشراط الساعة : يكون كذا وكذا ويكثر الهرج ، قيل : وما الهرج يا رسول الله؟ قال : «القتل».

(٢) المرج : القلق ؛ وفي التنزيل : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ؛ أي في ضلال. والمرج : الفتنة والفساد. وفي الحديث : كيف أنتم إذا مرج الدين؟ أي فسد وقلقت أسبابه.

١٢

وإنما الخطأ عرض لكم من وجهين :

أحدهما : أنكم فاضلتم بين الروحاني المجرد ، والجسماني المجرد. فحكمتم بأن الفضل للروحاني ، وصدقتم. لكن المفاضلة بين الروحاني المجرد ، والجسماني والروحاني المجتمع. ولا يحكم عاقل بأن الفضل للروحاني المجرد ، فإنه بطرف ساواه ، وبطرف سبقه. والفرض فيما إذا لم يدنس بالمادة ولوازمها ، ولم تؤثر فيه أحكام التضادّ والازدواج ؛ بل كان مستخدما لها بحيث لا تنازعه في شيء يريده ويرضاه ، بل صارت معينات له على الغرض الذي لأجله حصل التركيب ، وعطلت الوحدة والبساطة ، وذلك تخليص النفوس التي تدنّست بالمادة ولوازمها وصارت العلائق عوائق.

وليت شعري : ما ذا يشين اللباس الحسن الشخص الجميل؟ وكيف يزري اللفظ الرائق بالمعنى المستقيم؟ ونعم ما قيل (١) :

إذا المرء لم يدنس من اللّؤم عرضه

فكلّ رداء يرتديه جميل

وإن هو لم يحمل على النّفس ضيمها

فليس إلى حسن الثّناء سبيل

هذا كمن خاير بين اللفظ المجرّد والمعنى المجرّد : فاختار المعنى ، قيل له : لا بل خاير بين المعنى المجرّد ، والعبارة والمعنى حتى لا يشكل ، إذ المعنى اللطيف في العبارة الرشيقة أشرف من المعنى المجرّد.

والوجه الثاني : أنكم ما تصورتم من النبوة إلا كمالا وتماما فحسب. ولم يقع بصركم على أنها كمال هو مكمّل غيره ، ففاضلتم بين كمالين مطلقا ، وما حكمتم إلا بالتساوي وترجيح جانب الروحاني! ونحن نقول : ما قولكم في كمالين؟ أحدهما كامل ، والثاني كامل ومكمل عالما ، أيهما أفضل؟.

__________________

(١) قائل هذين البيتين هو السموأل بن عادياء الأزدي ، وهو شاعر جاهلي حكيم من سكان خيبر ، كان ينتقل بينها وبين حصن له «الأبلق». وهو الذي تنسب إليه قصة الوفاء مع امرئ القيس الشاعر. متوفى نحو ٦٥ ق ه / نحو ٥٦٠ م. (الأعلام ٣ : ١٤٠ وانظر معاهد التنصيص ١ : ٣٨٨ وياقوت في معجم البلدان ١ : ٨٦) ..

١٣

قالت الصابئة :

نوع الإنسان ليس يخلو من قوتي الشهوة والغضب ، وهما ينزعان إلى البهيمية والسبعية ، وينازعان النفس الإنسانية إلى طباعها. فيثور من الشهوية : الحرص والأمل. ومن الغضبية : الكبر والحسد ، إلى غير هما من الأخلاق الذميمة. فكيف يماثل من هذه صفته نوع الملائكة المطهرين عنهما وعن لوازمهما ولواحقهما؟! صافية أوضاعهم عن النوازع الحيوانية كلها ، خالية طباعهم عن القواطع البشرية بأسرها ، لم يحملهم الغضب على حب الجاه ، ولا حملتهم الشهوة على حب المال ، بل طباعهم مجبولة على المحبة والموافقة ، وجواهرهم مفطورة على الألفة والاتحاد.

أجابت الحنفاء :

بأن هذه المغالطة مثل الأولى حذو النعل بالنعل (١) ، فإن في طرف البشرية نفسين : نفس حيوانية لها قوتان : قوة الغضب ، وقوة الشهوة. ونفس إنسانية لها قوتان : قوة علمية ، وقوة عملية. وبتينك القوتين لها أن تجمع وتمنع ، وبهاتين القوتين لها أن تقسم الأمور وتفصل الأحوال. ثم تعرض الأقسام والأحوال على العقل. فيختار العقل الذي هو كالبصر النافذ له ، من العقائد : الحق دون الباطل. ومن الأقوال : الصدق دون الكذب. ومن الأفعال : الخير دون الشر ، ويختار بقوته العملية من لوازم القوة الغضبية : الشدة ، والشجاعة ، والحمية ؛ دون الذلة والجبن والنذالة. ويختار بها أيضا من لوازم القوة الشهوية : التآلف ، والتودّد ، والبذاذة (٢) دون الشره ، والمهانة ، والخساسة. فيكون من أشد الناس حمية على خصمه وعدوه ، ومن أرحم الناس تذللا وتواضعا لوليّه وصديقه. وإذا بلغ هذا الكمال فقد استخدم القوتين ، واستعملهما في جانب الخير. ثم يترقى منه إلى إرشاد الخلائق في تزكية النفوس عن العلائق ، وإطلاقها عن قيد الشهوة والغضب ، وإبلاغها إلى حد الكمال.

__________________

(١) الحذو : التقدير والقطع ، وفي الحديث : لتركبنّ سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل ، أي تعملون مثل أعمالهم كما تقطع إحدى النعلين على قدر الأخرى. (انظر لسان العرب مادة حذا).

(٢) البذاذة : رثاثة الهيئة ، وفي الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : البذاذة من الإيمان ؛ قال الكسائي : البذاذة هو أن يكون الرجل متقهّلا رثّ الهيئة.

١٤

ومن المعلوم أن كل نفس شريفة عالية زكية هذه حالها ، لا تكون كنفس لا تنازعها قوة أخرى على خلاف طباعها ، وحكم العنين (١) العاجز في امتناعه عن تنفيذ الشهوة ، لا يكون كحكم المتصون الزاهد المتورع في إمساكه عن قضاء الوطر (٢) مع القدرة عليه. فإن الأول مضطر عاجز ، والثاني مختار قادر ، حسن الاختيار ، جميل التصرف. وليس الكمال والشرف في فقدان القوتين ، وإنما الكمال كله في استخدام القوتين.

فنفس النبي عليه الصلاة والسلام كنفوس الروحانيين : فطرة ، ووضعا. وبذلك الوجه وقعت الشركة. وفضلها وتقدمها باستخدام القوتين اللتين دونها ، فلم تستخدمه. واستعمالها في جانب الخير والنظام ، فلم تستعمله ، وهو الكمال.

قالت الصابئة :

الروحانيات صور مجردة عن المواد ، وإن قدّر لها أشخاص تتعلق بها تصرفا وتدبيرا ، لا ممازجة ولا مخالطة ، فأشخاصها نورانية أو هياكل كما ذكرنا. والفرض أنها إذا كانت صورا مجردة كانت موجودات بالفعل لا بالقوة : كاملة لا ناقصة : والمتوسط يجب أن يكون كاملا حتى يكمل غيره ، وأما الموجودات البشرية فصور في مواد ، وإن قدّر لها نفوس ، فنفوسها إما مزاجية ، وإما خارجة عن المزاج. والفرض أنها إذا كانت صورا لفي مواد ، كانت موجودات بالقوة لا بالفعل ، ناقصة لا كاملة ، والمخرج من القوة إلى الفعل يجب أن يكون أمرا بالفعل (٣) ، ويجب أن يكون غير ذات ما يحتاج إلى الخروج ، فإن ما بالقوة لا يخرج بذاته من القوة إلى الفعل ، بل بغيره ، والروحانيات هي المحتاج إليها حتى تخرج الجسمانيات إلى الفعل ، والمحتاج إليه كيف يساوي المحتاج؟.

__________________

(١) العنين : المعترض بالفضول.

(٢) الوطر : الحاجة والأرب. قال الله تعالى : (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً). قال الخليل : الوطر كل حاجة يكون لك فيها همة ، فإذا بلغها البالغ قيل : قضى وطره وإربه.

(٣) لأن الفعل متقدّم على القوة منطقيا وزمانيا ، كما أن الصورة متقدّمة على المادة. والبرهان على ذلك أن الأزلي متقدّم بالطبع على ما هو زائل. ولا يكون شيء أزليا بفضل القوة لأن ما له قوة الكون له أيضا قوة العدم.

١٥

أجابت الحنفاء :

هذا الحكم الذي ذكرتموه ، وهو كون الروحانيات موجودات بالفعل ، غير مسلم على الإطلاق ، لأن من الروحانيات ، ما يكون وجوده بالقوة ، أو ما هو فيه وجود بالقوة. ويحتاج إلى ما وجوده بالفعل ، حتى يخرجه من القوة إلى الفعل ، فإن النفس لها استعداد القبول من العقل عندكم ، والعقل له إعداد لكل شيء ، وفيض على كل شيء ، وأحدهما بالقوة ، والآخر بالفعل ، وهذا لضرورة الترتب في الموجودات العلوية ، فإن من لم يثبت الترتب فيها لم تتمش له قاعدة عقلية أصلا ، وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب ، والنقصان في جانب ، فليس كل روحاني كاملا من كل وجه ، ولا كل جسماني ناقصا من كل وجه. فمن الجسمانيات أيضا ما وجوده كامل بالفعل ، وسائر النفوس أيضا محتاجة إليه ، وذلك أيضا لضرورة الترتب في الموجودات السفلية ، وإن من لم يثبت الترتب لم تستمر له قاعدة عقلية أصلا. وإذا ثبت الترتب فقد ثبت الكمال في جانب ، والنقصان في جانب. فليس كل جسماني ناقصا من كل وجه.

قالت : وإذا سلمتم لنا أن هذا العالم الجسماني في مقابلة ذلك العالم الروحاني ، وإنما يختلفان من حيث إن ما في هذا العالم من الأعيان فهو آثار ذلك العالم ، وما في ذلك العالم من الصور فهو مثل هذا العالم ، والعالمان متقابلان كالشخص والظل ، وإذا أثبتم في ذلك العالم موجودا ما بالفعل كاملا تاما ، حتى تصدر عنه سائر الموجودات : وجودا ، ووصولا إلى الكمال. فيجب أن تثبتوا في هذا العالم أيضا موجودا ما بالفعل كاملا تاما ؛ حتى تصدر عنه سائر الموجودات : تعلما ووصولا إلى الكمال.

قالوا : وإنما طريقنا إلى التعصب للرجال ونيابة الرسل في الصورة البشرية ، طريقكم في إثبات الأرباب عندكم وهي الروحانيات السماوية ، وذلك احتياج كل مربوب (١) إلى رب يدبره ، ثم احتياج الأرباب إلى رب الأرباب.

__________________

(١) المربوب : من ربّ يرب الأمر إذا ساسه وقام بتدبيره ، والرب يطلق على الله تبارك وتعالى ، ويطلق على مالك الشيء ، فيقال : رب الدين ورب المال ، ويستعمل بمعنى السيد والمدبّر والقيّم والمنعم ، ومنه ـ

١٦

ومن العجب أن عند الصابئة أكثر الروحانيات قابلة منفعلة ، وإنما الفاعل الكامل واحد ، وعن هذا صار بعضهم إلى أن الملائكة إناث وقد أخبر التنزيل عنهم بذلك (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢).

وإذا كان الفاعل الكامل المطلق واحدا ، فما سواه قابل محتاج إلى مخرج يخرج ما فيه بالقوة إلى الفعل ، فكذلك نقول في الموجودات السفلية : النفوس البشرية كلها قابلة للوصول إلى الكمال بالعلم والعمل ، فتحتاج إلى مخرج يخرج ما فيها بالقوة إلى الفعل. والمخرج هو النبي والرسول ، وما هو مخرج الشيء من القوة إلى الفعل لا يجوز أن يكون أمرا بالقوة محتاجا ، فإن ما لم يتحقق بالفعل وجودا ، لا يخرج غيره من القوة إلى الفعل ، فالبيض لا يخرج البيض من القوة إلى صورة الطير ، بل الطير يخرج البيض.

وهذا الجواب يماثل الجواب الأول من وجه ، وفيه فائدة أخرى من وجه آخر ، وهي : أن عند الحنفاء المعقول لا يكون معقولا حتى يثبت له مثال في المحسوس وإلا كان متخيلا موهوما ، والمحسوس لا يكون محسوسا حتى يثبت له مثال في المعقول وإلا كان سرابا معدوما ، وإذا ثبتت هذه القاعدة ، فمن أثبت عالما روحانيا ، وأثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه : وجوده بالفعل ، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق ، فيلزمه ضرورة أن يثبت عالما جسمانيا ، ويثبت فيه مدبرا كاملا من جنسه : وجوده بالفعل ، وفعله إخراج الموجودات من القوة إلى الفعل بفيض الصور عليها على قدر الاستحقاق ، ويسمى المدبر في ذلك العالم «الروح الأول» على مذهب الصابئة والمدبر في هذا العالم «الرسول» على مذهب الحنفاء ، ثم يكون بين الرسول والروح مناسبة وملاقاة عقلية ، فيكون الروح الأول مصدرا ، والرسول مظهرا ، ويكون بين الرسول وسائر البشر مناسبة وملاقاة حسية ، فيكون الرسول مؤديا ، والبشر قابلا.

__________________

ـ ما جاء في حديث أشراط الساعة : وأن تلد الأمة ربّها.

(٢) سورة الزخرف : الآية ١٩ وتمامها قوله عزوجل : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ).

١٧

قالت الصابئة :

الجسمانيات مركبة من مادة وصورة ، والمادة لها طبيعة عدمية ، وإذا بحثنا عن أسباب الشر والفساد ، والسفه والجهل ، لم نجد لها سببا سوى المادة والعدم ، وهما منبعا للشر.

والروحانيات غير مركّبة من المادة والصورة ، بل هي صورة مجرّدة ، والصورة لها طبيعة وجودية ، وإذا بحثنا عن أسباب الخير ، والصلاح ، والحكمة ، والعلم لم نجد لها سببا سوى الصورة ، وهي منبع الخير ، فنقول : ما فيه أصل الخير ، أو ما هو أصل الخير ، كيف يماثل ما فيه أصل الشرّ؟!

أجابت الحنفاء :

بأن ما ذكرتم في المادة أنها سبب الشر فغير مسلم ، فإن من المواد ما هو سبب الصور كلها عند قوم ، وذلك هو الهيولى الأولى ، والعنصر الأول ، حتى صار كثير من قدماء الفلاسفة إلى أن وجودها قبل وجود العقل. ثم إن سلم فالمركب من المادة والصورة كالمركب من الوجوب والجواز عندكم ، فإن الجواز له طبيعة عدمية ، وما من وجود سوى وجود الباري تعالى إلا وجوده جائز بذاته ، واجب بغيره ، فيجب أن يلازمه أصل الشر.

قالوا : وإن سلم لكم أيضا تلك المقدمة ، فعندنا صور النفوس البشرية ، وخصوصا صور النفوس النبوية ، كانت موجودة قبل وجود المواد ، وهي المبادي الأولى ، حتى صار كثير من الحكماء إلى إثبات أناس سرمديين (١) ، وهي الصورة المجردة التي كانت موجودة قبل العقل كالظلال حول العرش (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) (٢) وكانت هي أصل الخير ومبدأ الوجود ، ولكن لما ألبست الصور البشرية لباس

__________________

(١) السرمد : الدائم الذي لا ينقطع ، والسرمدي ما لا أول له ولا آخر.

(٢) سورة الزمر : الآية ٧٥ ، وتمامها قوله تعالى : (وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ).

١٨

المادة ؛ تشبثت بالطبيعة ، وصارت المادة شبكة لها ، فساح عليها الواهب الأول ، فبعث إليها واحدا من عالمه ، وألبسه لباس المادة ليخلص الصور عن الشبكة ، لا ليكون هو المتشبث بها ، المنغمس فيها ، المتوسخ بأوضارها (١) ، المتدنس بآثارها ، وإلى هذا المعنى أشار حكماء الهند رمزا بالحمامة المطوقة ، والحمامات الواقعة في الشبكة (٢).

ثم قالوا : معاشر الصابئة! أبدا تشنعون علينا بالمادة ولوازمها ، وما لم نفصل القول فيها لم ننج من تشنيعكم.

فنقول : النفوس البشرية وخصوصا النبوية من حيث إنها نفوس فهي مفارقة للمادة ، مشاركة لتلك النفوس الروحانية : إما مشاركة في النوع بحيث يكون التمييز بالأعراض والأمور العرضية ، وإما مشاركة في الجنس بحيث يكون الفصل بالأمور الذاتية ، ثم زادت على تلك النفوس باقترانها بالجسد أو بالمادة. والجسد لم ينتقص منها ، بل كملت هي لوازم الجسد ، وكملت بها ، حيث استفادت من الأمور الجسدانية ما تجسدت بها في ذلك العالم من العلوم الجزئية ، والأعمال الخلقية. والروحانيات فقدت هذه الأبدان لفقدان هذا الاقتران ، فكان الاقتران خيرا لا شرّ فيه ، وصلاحا لا فساد معه ، ونظاما لا ثبج (٣) له ، فكيف يلزمنا ما ذكرتموه؟.

قالت الصابئة :

الروحانيات : نورانية علوية لطيفة. والجسمانيات : ظلمانية ، سفلية ، كثيفة. فكيف يتساويان؟ والاعتبار في الشرف والفضيلة بذوات الأشياء وصفاتها ، ومراكزها ومحالها. فعالم الروحانيات : العلو لغاية النور واللطافة (٤). وعالم الجسمانيات : السفل

__________________

(١) الأوضار ، الواحد وضر : وهو وسخ الدسم واللبن وغسالة السقاء.

(٢) وهي في كتاب كليلة ودمنة ، وهي مثل عن إخوان الصفاء كيف يبتدئ تواصلهم ويستمتع بعضهم ببعض والعاقل لا يعدل بالإخوان شيئا فالإخوان هم الأعوان على الخير كله والمؤاسون عند ما ينوب من المكروه.

(٣) الثبج : الاضطراب والنتوء ، ورجل ثبج : أي مضطرب الخلق.

(٤) فالعقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة ، والعلوي خير من السفلي ، واللطيف أكمل من الكثيف.

هذا كله إشارة إلى المادة ، وسبب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين ، ففي قوله تعالى : (قُلِ الرُّوحُ مِنْ ـ

١٩

لغاية الكثافة والظلمة ، والعالمان متقابلان ، والكمال للعلويّ لا للسفليّ ، والصفتان متقابلتان ، والفضيلة للنور لا للظلمة.

أجابت الحنفاء :

قالوا : لسنا نوافقكم أولا على أن الروحانيات كلها نورانية ، ولا نساعدكم ثانيا أن الشرف للعلو ، ولا نساهلكم أصلا أن الاعتبار في الشرف بذوات الأشياء.

وعلينا بيان هذه المقدمات الثلاث ، فإن فيها فوائد كثيرة.

أما الأولى فقالوا : حكمتم على الروحانيات حكم التساوي ، وما اعتبرتم فيها التضاد والترتب. وإذا كانت الموجودات كلها ، روحانيها وجسمانيها ، على قضية التضاد والترتب ، فلم أغفلتم الحكمين هاهنا؟ وذلك أن من قال : الروحاني هو ما ليس بجسماني ؛ فقد أدخل جواهر الشياطين والأبالسة والأراكنة (١) في جملة الروحانيات ، وكذلك من أثبت الجن أثبتها روحانية لا جسمانية. ثم من الجن من هو مسلم ، ومنها من هو ظالم. ومن قال الروحاني هو المخلوق روحا ، فمن الأرواح ما هو خيّر ، ومنها ما هو شرير ، والأرواح الخبيثة أضداد الأرواح الطيبة ، فلا بد إذن من إثبات تضاد بين الجنسين ، وتنافر بين الطرفين فلم تسلم دعواكم أنها كلها نورانية.

بلى : وعندنا ، معاشر الحنفاء ، الروح هو الحاصل بأمر الباري تعالى ، الباقي على مقتضى أمره. فمن كان لأمره تعالى أطوع ، وبرسالات رسله أصدق : كانت الروحانية فيه أكثر والروح عليه أغلب. ومن كان لأمره تعالى أنكر ، وبشرائعه أكذب : كانت الشيطنة عليه أغلب.

__________________

ـ أَمْرِ رَبِّي) أي هو أمر عظيم ، وشأن كبير من أمر الله تعالى ، ترك تفصيله ليعرف الإنسان عجزه عن علم حقيقة نفسه مع العلم بوجودها ، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه هكذا ، كان بعجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى. وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك معرفة مخلوق مجاور له دلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز. (انظر الرازي ١ : ٣٠٨ ومجمع البيان ٣ : ٤٣٧).

(١) الأراكنة ، جمع أركون : وهو العظيم من الدهاقين.

٢٠