كنت أميريّاً

محمّد عبد المحسن آل شيخ

كنت أميريّاً

المؤلف:

محمّد عبد المحسن آل شيخ


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٤

١
٢

٣
٤

مقدّمة الناشر

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين ، المبعوث رحمةً للعالمين محمّد الصادق الأمين ، وعلى آله وصحبه العاملين بهديه ،

وبعد فهذا كتاب قيّم يحتوي قصّة رجل هداه الله ، بعد ما عاش فترة مظلمةً من شبابه بعيداً عن الحقّ ، سائراً في جهالات الدجّالين ، يتبختر على الناس ، مدّعياً العلم والالتزام بالقرآن ، واتّباع السنّة ، ومتشبّهاً في شكله وزيّه بمن يسمّيهم السلف ، مستهيناً بالآخرين ، مكفّراً لهم ، زاعماً بُطلان عقائد المسلمين ، وأعمال المؤمنين ...

٥

ثمّ أنعم الله عليه بالهداية إلى الحقّ الواضح ، بنور الإيمان ؛ لأنّه تنبّه بما جرى له ، وشاء وطلب من الله الهداية : (وَاللهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

ثمّ كتب هذا الكتاب يحكي ما جرى له قبل وبعد ، عسى أن يُنيرَ الدرب للآخرين من أمثاله المغرّرين بتلك الدعاوي الفارغة.

ولأنّ الحكاية شائقة مثيرة ، وفيها موعظة بليغة لأبناء المسلمين الناشئين ، ولغيرهم ، ليزدادوا إيماناً بالحقّ الذي هم عليه ، وليبتعدوا عن دعاوي الزيف ، ويتركوا التزييف لعقائد الامّة الإسلامية باسم السلف الصالح الذي هو بريءٌ من تلك الدعاوي.

أقدمنا على تقديمه ، إبلاغاً للرسالة التي نحسّها على عاتقنا في دعوة المسلمين وإرشادهم ، لكي يعرفوا الحقّ ويستنيروا بنوره فيتّبعوه ، وليعرفوا طرق الغواية والزيغ والضلال فيتجنّبوها.

٦

والله الهادي هو حسبنا ونعم الوكيل. وصلّى الله على سيّدنا رسول الله وعلى آله وصحبه المؤمنين أجمعين.

الناشر

٧

قبل أن أبدأ الكتابة ، استوقفني الأمر ، خوفاً من أن أُتّهم بالدخول في عمل سياسيّ ، وأنا لستُ إلّا طبيباً للأطفال ، فتردّدت كثيراً ، لكنّي عزمتُ على الكتابة ، لأنّي أتوقّع أن يكون بعض الناس على نفس الخطّ الذي كنتُ أسير عليه ، وفي نفس الحالة التي عشتها ، ليقرأ ما جرى لي ، ويعتبر ، ويتجاوز المآزق والعقبات والخرافات والبدع ، ويعبر من الظلمات إلى النور ، ويتوقّى مزالق الإرهاب والشرور.

والذي يُريحني أنّي عملتُ بواجب فرضه الرسول عليَّ بقوله : «كلّكم راع وكلّكم مسئول عن رعيته».

٨

ولقد كنتُ من أشدّ الملتزمين بتعظيم الامراء والحكّام للبلاد الإسلاميّة : معتبراً إيّاهم «الأئمّة (الذين أوجب الله ورسوله طاعتهم على الامّة وأنّهم ظلّ الله تعالى في الأرض على العباد ، ووسيلة السعادة في المعاش والمعاد.

مقدّساً لكلّ حاكم تقديسي للرسول والخلفاء وللصحابة.

ذاكراً لهم بكلّ تعظيم وتكريم واحترام.

وباذلاً جهدي في نشر هذه الفكرة بين الشباب والأصحاب والأقارب وحتّى الأباعد.

كما إنّ موقفي من المخالفين كان شديداً جدّاً ، فكنتُ أعتبر مَن يعترض على الولاة والحكّام زنديقاً خارجيّاً ، يريد الكيد للإسلام والدين ، والامّة وكيانها.

حتّى كانت الحادثة التالية في ليلة من ليالي الشتاء ، حينما فزعت أنا وزوجتي ، من النوم على أثر صوت

٩

رهيب ، كأنّه اصطدام سيّارة بباب البيت ، ثمّ تلاه ضوضاء وصخب ، خارج المنزل.

أزحت الستارة من الشبّاك فرأيتُ رجلين يترنّحان ويعربدان ، والغريب جدّاً أنّهما كانا عاريين تماماً ، فذُهلنا ـ أنا وزوجتي ـ ، ولم نَرَ في الشارع أحداً غيرهما. ولم يخرج أحدٌ من داره إلّا رجلا واحداً ، من الجيران ، كنتُ أعرفه من خلال المدرسة زميلاً في الصفّ ، لكنّي أكرهه وأبتعد منه ، لكونه شيعياً ، رافضيّاً!

وبالرغم من السنين الطوال التي كان يعيشها معنا في حارة واحدة ، وشارع واحد ، فإنّي لم أجد له في قلبي موضعاً ، فهو يُخالفني في العقيدة والسيرة : أنا سلفيٌّ وهّابيٌّ ، وهو شيعيٌّ رافضيّ ، وأنا أميريٌّ متعصّبٌ ، وهو شعوبيٌّ خارجيٌّ.

لم أرَ في الشارع ، تلك الليلة خارجاً من الدار إلّا

١٠

ذلك الرجل الذي يحمل اسم عبد (ربّ) الحسين!

مع أنّ الجيران كلّهم قد أفاقوا على أصوات الاصطدام والعربدة والصياح.

وبعد مُدّةٍ : جاءت سيّارة النجدة ، فخرج الناس ، وخرجتُ أنا ، إلى الشارع ، فوجدتُ ذلك الرجل الوحيد الذي كان يتكلّم مع الشرطة ، ويقول :

ما هذا الوضع المزري؟

هؤلاء الأجانب يسرحون ويمرحون في وطننا الإسلامي ، وعلى أرضنا الطاهرة ، وبهذا الشكل المزري المخجل : عراةً ، سكارى ، يزعجون الناس؟.

ونظرتُ ، فإذا الشخصان العاريان هما من جنود الاحتلال الأمريكي.

ورأيتُ بامّ عيني قناني الخمر في سيّارتهما.

وهما كما قلتُ «عراة تماماً»، وبكلّ وقاحة يحتضن أحدهما الآخر.

١١

وخرج بعض الجيران إلى الشارع ، وفوراً ، أخذتهما الشرطة ، وهدأ الشارع.

ولكن ذلك الشيعيّ ـ عبد (ربّ) الحسين ـ بقي المتكلّم الوحيد ، يخطب في وسط ذلك الجوّ يقول :

إنّ هذا الذي حدث هو واحدٌ من مآسي الحكم الفاسد ، الذي يتقلّده الامراء الفاسدون ، الجهلة!.

يقولها بكلّ حماس ، وبكلّ جدّ وجُرْأة ، وأمام كلّ المجتمعين ، وفي تلك الحالة الغريبة!.

أفزعني هجومه على الحكم والحاكم ، وهو وليُّ الأمر!

وظلّت كلماته هذه في ذلك الجوّ الرهيب ترنّ في اذني وتثقل على قلبي كان يقول :

«إنّكم غافلون!

إنّ الحاكم إذا كان فاسداً سوف يجرّ المجتمع إلى الفساد ، لأنّ الناس على دين ملوكهم.

١٢

إنّ الحاكم الفاسد ، يمثّلكم في الدنيا ، ويتولّى على رقابكم وأموالكم وأعراضكم.

وهو سوف يقدمكم يوم القيامة ، ويمثّلكم هناك ، كما يمثّلكم في الدنيا في المجتمعات والمواقف!.

وكما يجرّ عليكم هنا الويلات ، فإنّه هناك في الآخرة يسوق بكم إلى النار ، كما قال الله تعالى : ... (فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (هود : ١١ / ٩٧ ـ ٩٩).

رجعتُ إلى البيت ، وسألتني الزوجة : ما ذا كان الحادث؟.

فأجبتها : ناس أجانب!.

قالت : أمريكان!.

قلت ـ وأنا مَلآنُ غضباً ـ : نعم!.

١٣

عرفت الزوجة في وجهي ونبرات صوتي ، الانزعاج ، ولكنّي حاولت أن أخفي عنها ، فلم احدّثها بكلّ ما رأيتُ وسمعتُ.

ولكنّها سألت : ومن كان ذلك المتكلّم؟ وما ذا كان يقول؟.

علمتُ أنّها كانت ترى من الشبّاك ما كان في الشارع ، ولكنّها هل سمعت كلّ ما كان هناك من حديث وخطاب؟!

لم أرد أن اخبرها بخطاب ذلك الجار ، لأنّه يحتوي على ما أعتقده «كفراً وخروجاً عن الإسلام ، ولا اريد أن اشوّه عقيدتها.

وبتُّ تلك الليلة قلقاً ، ولم أطق النوم ، كانَ شيءٌ ثقيلٌ يجثم فوق صدري ، يهيّج أحاسيسي ومشاعري ، حاولتُ ـ من غير جدوى ـ الخروج من تحت ثقله ، والتفلّت من قيوده ، لم أتمكّن.

١٤

هل ما قاله هذا الرجل صحيح ومعقول؟

فأنا ـ إذَن ـ وجماعتي السلفيّة الأميريّون ، في ضلالة طوال هذه الأعوام من أعمارنا؟!

أم إنّ هذا الجار الشيعيّ ، هو فعلاً خارجيّ يريدُ إثارة الناس ، ودعوتهم للفتنة!

فأنا أعتقد : أنّ الحاكم هو «وليُّ الأمر الذي أمر الله بطاعته ، في قوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.)

فلا يمكن أن نخرج من طاعة الأمير ، لمجرّد سهو ، أو غفلة منه ، أو من أجل عمل يقوم به الأمريكان في البلاد.

ثمّ إنّ دعوة الرجل الجار الشيعيّ تجعلني في مواجهة المشايخ كلّهم ، وفي مواجهة المباحث والاستخبارات والدخول في السياسة ، التي لا تعنيني إطلاقاً ، ولا اريد أن أدخل هذا المأزق الحرج المتعب ، ولا اريد أن اواجه

١٥

وليّ الأمر ، فأكون بالتالي خارجاً من جماعة المسلمين ، وشاذّاً «ومن شذّ فهو في النار» كما في حديث صحيح يحتوي على هذا النصّ.

ولقد كان ، يشعل فؤادي لهباً ، أن أجدني على شفا النار ، تبعاً للحاكم ، إذا كان ما يقوله هذا الرجل حقّاً ، فنحن على باطل.

وقلتُ : إنّ أقوى وسيلة هو الهجوم.

واستعددت لقراءة ما كتبه مشايخنا عن طاعة الولاة والامراء والحكّام ، وحفظتُ ـ عن ظهر قلب ـ الآيات والأحاديث وكلمات العلماء ، ونصوص العقيدة الواسطيّة ، والصحيحة ،

واطّلعتُ على قصص الخوارج والمآسي التي جرّتها قضايا الخروج على الحكّام في طول التاريخ ، بعد فشلها.

* * *

١٦

وفي صباح يوم عيد الأضحى المبارك خرجتُ من الدار فإذا بجار لي من أهل السنّة يدعى أبا خالد ، عانقته وباركت له العيد ، ودعوت له بالقبول والبركة والسلامة ، ولعياله ، بالرغم من أنّه غير ملتزم ، حليق اللحية ، وبناته وزوجته غير محجّبات.

لكنّي احاول أن اعاملهم بالخُلُق الحسن ، لأنّ السنّة تأمرنا بمداراة الجار ، ولا يزال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) يوصي بالجار.

وفجأة ظهر ذلك الرجل الشيعيّ عبد (ربّ) الحسين ، واتّجه إلينا ، وعانق صاحبي بحرارة ، وهنّأه بالعيد وتبادلا التهاني والمعايدة.

ثمّ مدّ إليّ يده ، فمددتها إليه قصيرةً ، وبكلّ برود ، ولكنّه تلقّفها بقوّة وحرارة ، وحاول أن يعانقني ، فسحبت نفسي إلى الوراء ، وكلّ ذلك وهو يبارك لي العيد ، ويُهنّئُني ، ويدعو لي.

١٧

لكنّي لم أردّ عليه ولا بكلمة واحدة!

والرجل لم يترك دعاءه ، ولم ترتفع البسمة من شفتيه ، حتّى ودّع ، ومضى لشأنه.

وهنا لاحظتُ العجب على وجه صاحبي (أبي خالد) السنّي ، فإذا هو يقول لي :

ما هذه المعاملة الخشنة مع هذا الرجل الجار؟

لما ذا لم تسمح له أن يعانقك؟

لما ذا لم تهنّئه بالعيد ، وهو قد هنّأك؟

لما ذا لم تردّ عليه‌السلام ، وهو قد سلّم عليك؟

قلت له ـ وأنا منفعل ـ : إنّه رجلٌ شيعيٌّ من أهل البدعة ، يجب أن نحذر منه ، ونبتعد عنه ولا نخالطه! لئلّا نفتتن به وبفتنته.

فقال لي : أبهذا أمرك الإسلام؟

أليس القرآن يقول : (وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها)؟

١٨

وهل هذه طريقة الدعوة إلى الله؟

وهل هذه الموعظة الحسنة التي أمر الله بها؟

وهل هذه الحكمة في مواجهة الناس ومعاملتهم؟ حتّى غير المسلمين.

فضلاً عن هذا ، فهو يُعلن الإسلام ويصلّي ويصوم مثلنا؟

ثمّ إنّا نعيش معه ، ولم نَرَ منه إلّا الحَسَنَ الجميل في المنطق والفعل ، والتعامل.

فما هي البدعة التي رأيتها منه؟

قلتُ : هل نسيتَ كلامه تلك الليلة ضدّ الحكومة وضدّ الأمير؟ إنّه يريد إثارة الفتنة! إنّه خارجيّ!

فقال لي ـ وهو يضحك ـ : مهلاً ، لا تحكم على الناس بهذه الأحكام القاسية!

مَن خوّلك صلاحيّة الحكم على الناس هكذا؟

وهل أنت على يقين من صحّة عقائدك وأقوالك

١٩

وسيرتك؟!

مَن أعطاك هذه الولاية على الناس حتّى تحكم على الرجل بأنّه خارجيّ؟

إنّ الرجل يعيش بيننا منذ الطفولة فلم نَرَ منه غير الأدب الجمّ ، والأخلاق الحسنة ، والإنصاف ، والخدمة ، والمروءة ، والالتزام بالأعراف الطيّبة. وهو وطنيّ متحمّس ، وكريم ، وقد رأيتَ اليوم أدبه وحسن خُلُقه.

وأمّا ما تقول عنه في تلك الليلة : فقد رأيتَ شجاعته وجُرْأته ، في مقابل ما فعله الأمريكان ، وأمام الشرطة ، حيث كان المتكلّم الوحيد ، وقد كَمَّ الجُبْن أفواهنا جميعاً.

وأراكَ اليوم تتكلّم بطلاقة ، ولكنّك تلك الليلة كنت «أخرس»!

لما ذا لم تقل هناك شيئاً ولم تنهَ عن المنكر الذي رأيتَه : أمريكان ، سكارى ، عراة ، ألم ترهم؟

٢٠