صيانة الآثار الإسلاميّة

الشيخ جعفر السبحاني

صيانة الآثار الإسلاميّة

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٨٧

١
٢

٣
٤

قال الله تعالى :

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ).

النور / ٣٦

وقال عزّ من قائل :

(فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً)

الكهف / ٢١

«لمّا قرأ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله تعالى : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) فقام إليه رجل قال : أيّ بيوتٍ هذه يا رسول الله؟ قال : بيوت الأنبياء ، فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول الله وهذا البيت منها ـ مشيراً الى بيت عليٍّ وفاطمة ـ؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :نعم ، من أفاضلها».

الدرّ المنثور ٦ : ٢٠٣

٥

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه وحده نستعين وعليه وحده نتوكل

والحمد لله ربّ العالمين ، والصَّلاة والسلام على سيد رُسُله ، وخاتم أنبيائه وآله ومن سار على خطاهم وتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

يهتم المسلمون اهتماماً كبيراً بالعقيدة الصحيحة لأنّها تشكّل حجر الزاوية في سلوكهم ومناراً يضيءُ دروبهم وزاداً لمعادهم.

ولهذا كرّسَ رسُولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الفترة المكيّة من حياته الرسالية نفسه لإرساء أُسس التوحيد الخالص ، ومكافحة الشرك والوثنية ، ثمّ بنى عليها في الفترة المدنية صَرحَ النظامِ الأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي والسياسيّ.

ولهذا ـ ونظراً للحاجةِ المتزايدة ـ رأينا أن نقدّم للأُمةِ الإسلاميّة الكريمة دراسات عقائدية عابرة مستمدَّةٍ من كتاب اللهِ العزيز ، والسنّةِ الشريفة الصحيحة ، والعقل السليم ، وما اتَّفق عليه علماءُ الأُمةِ الكرام ، والله الموفِّق.

معاونيّة التعليم والبحوث الإسلاميّة

٦

تقدیم

الآثار الإسلاميّة ونتائجها الإيجابيّة

الأُمم الحيّة المهتمَّة بتاريخها تسعى إلى صيانة كلّ أثر تاريخيّ له صلة بماضيها ، ليكون آيةً على أصالتها وعَراقتها في العلوم والفنون ، وأنها ليست نبتة بلا جذور أو فرعاً بلا أُصول.

والأُمة اليقظة تحتفظ بآثارها وتراثها الثقافيّ والصناعيّ والمعماريّ وما له علاقة بسابقها ممّا ورثته عن أسلافها ، صيانةً لكيانها وبَرهنةً على عزّها الغابر.

وقد دعت تلك الغايةُ السامية الشعوبَ الحيّة لإيجاد دائرة خاصّة في كلّ قطر لحفظ التراث والآثار : من ورقة مخطوطة ، أو أثر منقوش على الحجر ، أو إناء ، أو منار ، أو أبنية ، أو قِلاع وحصونٍ ، أو مقابر ومشاهد لإبطالهم وشخصيّاتهم الذين كان لهم دور في بناء الأُمة وإدارة البلد وتربية الجيل ، إلى حدّ يُنفقون في سبيلها أموالاً طائلة ، ويستخدمون عمّالاً وخُبراء يبذلون سعيهم في حفظها وترميمها وصيانتها عن

٧

الحوادث.

إنّ التراث بإطلاقه آية رُقيّ الأُمة ومقياس شعورها ودليل تقدّمها في معترك الحياة.

والجدير بالذكر أنّ الشخصية البارزة إذا زارت بلداً وحلّت فيه ضيفاً ، يجعل في برنامجها زيارة المناطق الأثرية والمشاهد والمقابر العامرة التي ضمَّت جثمانَ الشخصيّات التي تنبضُ الحياة الراهنة بتضحياتهم ومجاهدتهم من غير فرق بين دولةٍ إلهيّة أو علمانيّة.

هذا هو موجز الكلام في مطلق الآثار ، وهَلُمَّ معي ندرس أهميّة صيانة الآثار الإسلامية التي تركها المسلمون من عصر الرسول إلى عصرنا هذا في مناطق مختلفة.

لا شكّ أنّ كلّ أثر يمت للإسلام والمسلمين بوجه من الوجوه بصلة ، له أثره الخاصّ في التدليل على أنّ للشريعة الإسلامية وصاحبها حقيقة ، وليست هي ممّا نسجَتْها يدُ الخيال أو صنعتها الأوهام.

وبعبارة واضحة : الآثار المتبقّية من المسلمين إلى يومنا هذا تدلُّ على أنّ للدعوة الإسلامية وداعيها واقعيّة لا تُنكر ، وأنّه بُعِثَ في زمن خاص بشريعة عالميّة ، وبكتاب معجز تحدّى به الأُمم ، وآمن به لفيف من الناس.

ثمّ إنّه هاجر من موطنه إلى يثرب ، ونشر شريعته في الجزيرة العربيّة ، ثمّ اتّسعت بفضل سعي أبطالها ومعتنقيها إلى سائر المناطق ، وقد قدّم في سبيلِها تضحيات ، وتربّى في أحضانها علماء وفقهاء وغير ذلك.

فهذه آثارهم ومشاهدهم وقبورهم تشهد بذلك.

٨

فصيانةُ هذه الآثار على وجه الإطلاق تُضفي على الشريعة في نظر الأغيار واقعية وحقيقة ، وتزيل عن وجهها أيّ ريب أو شك في صحّة البعثة والدعوة ، وجهاد الأُمّة ونضال المؤمنين.

فإذا كانت هذه نتيجةُ الصيانة ، فإنّ نتيجة تدميرها وتخريبها أو عدم الاعتناء بها مسلَّماً عكس ذلك.

ومع الأسف نرى الأُمّة الإسلامية ابتُليت في هذه الآونة بأُناس جعلوا تدميرَ الآثار وهدمها جزءاً من الدين ، والاحتفاظ بها ابتعاداً عنه ، فهذه عقليّتهم وهذا شعورهم ، الذي لا يقلّ عن عقلية وشعور الصبيان ، الذين لا يعرفون قيمة التراث الواصل إليهم عن الآباء ، فيلعبون به بين الخرق والهدم وغير ذلك.

لا شكّ أنّ لهدم الآثار والمعالم التاريخية الإسلامية وخاصّة في مهد الإسلام : مكة ، ومهجر النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : المدينة المنوّرة ، نتائج وآثار سيّئة على الأجيال اللّاحقة التي سوف لا تجد أثراً لوقائعها وحوادثها وأبطالها ومفكّريها ، وربّما تنتهي بالمآل إلى الاعتقاد بأنّ الإسلام قضيّة مفتعلة ، وفكرة مبتدعة ليس لها أيّ أساسٍ واقعي تماماً.

فالمطلوب من المسلمين أن يُكوِّنوا لجنة من العلماء من ذوي الاختصاص للمحافظة على الآثار الإسلامية وخاصة النبويّة منها ، وآثار أهل بيته ، والعناية بها وصيانتها من الاندثار ، أو من عمليات الإزالة والمحو ، لما في هذه العناية والصيانة من تكريمٍ لأمجاد الإسلام وحفظ لذكريات الإسلام في القلوب والعقول ، وإثبات لأصالة هذا الدين ، إلى جانب ما في أيدي المسلمين من تراث ثقافي وفكري عظيم.

٩

وليس في هذا العمل أيُّ محذور شرعي ، بل هو أمر محبَّذ ، اتّفقت عليه كلمة المسلمين الأوائل كما سيوافيك.

فالسلف الصالح وقفوا ـ بعد فتح الشام ـ على قبور الأنبياء ذات البناء الشامخ .. فتركوها على حالها من دون أن يخطر ببال أحدهم وعلى رأسهم عمر بن الخطاب بأنّ البناء على القبور أمر محرّم يجب أنْ يُهدم ، وهكذا الحال في سائر القبور المشيّدة بالأبنية في أطراف العالم.

وإنْ كنت في ريبٍ من هذا فاقرأ تواريخَهم ، وإليك نصّ ما جاء في دائرة المعارف الإسلامية : إنّ المسلمين عند فتحهم فلسطين وجدوا جماعة في قبيلة «لخم» النصرانيّة يقومون على حرم إبراهيم ب «حِبْرون» (١) ولعلّهم استغلّوا ذلك ففرضوا أتاوة على حجاج هذا الحرم ... وربما يكون توصيف تميم الداري أن يكون نسبة إلى الدار أي الحرم ، وربما كان دخول هؤلاء اللخميين في الإسلام ؛ لأنّه قد مكّنهم من القيام على حرم إبراهيم الذي قدّسه المسلمون تقديسَ اليهود والنصارى من قبلهم (٢).

وجاء أيضاً في مادة «الخليل» يقول المقدسي ـ وهو أوّل من أسهب في وصف الخليل ـ : إنّ قبر ابراهيم كانت تعلوه قُبّة بُنيت في العهد الإسلامي.

ويقول مجير الدين : إنّها شُيّدت في عهد الأمويين ، وكان قبر إسحاق مغطّى بعضُه ، وقبر يعقوب قباله ، وكان المقدسي أول من أشار

__________________

(١) كلمة عبرية تعني : مدينة الخليل.

(٢) دائرة المعارف الإسلامية ٥ : ٤٨٤ مادة تميم الداري.

١٠

إلى تلك الهِبات الثمينة التي قدّمها الأُمراء الوَرِعون من أقاصي البلاد إلى هذا الضريح ، إضافةً إلى الاستقبال الكريم الذي كان يلقاه الحجاج من جانب التميميين (١).

ولو قام باحث بوصف الأبنية الشاهقة التي كانت مشيّدة على قبور الأنبياء والصالحين قبل ظهور الإسلام وما بناه المسلمون في عصر الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يومنا هذا في مختلف البلدان لجاء بكتاب فخم ضخم ، ويَكشف عن أنّ السيرة الرائجة في تلك الأعصار قبل الإسلام وبعده من عصر الرسول والصحابة والتابعين لهم إلى يومنا هذا كانت هي العناية بحفظ آثار رجال الدين ، الكاشفة عن مشروعية البناء على القبور ، وإنّه لم ينبس أيّ شخص في رفض ذلك ببنت شفة ولم يعترض عليها أحد ، بل تلقّاها الجميع بالقبول والرضا ، إظهاراً للمحبّة والودّ لأصحاب الرسالات والنبوّات وأصحاب العلم والفضل ، ومن خالف تلك السنّة وعدّها شركاً أو أمراً محرّماً فقد اتّبع غير سبيل المؤمنين ، قال سبحانه : (وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) (النساء / ١١٥).

اليوم وبعد مضيّ عشرين قرناً ـ تقريباً ـ على ميلاد السيد المسيح عليه‌السلام تحوّل المسيح وأُمّه العذراء وكتابه الانجيل وكذلك الحواريون ، تحوّلوا ـ في عالم الغرب ـ إلى أُسطورة تاريخية ، وصار

__________________

(١) دائرة المعارف الإسلامية ٨ : ٤٣١.

١١

بعض المستشرقين يشكِّكون ـ مبدئياً ـ في وجود رجل اسمه المسيح وأُمّه مريم وكتابه الإنجيل ، ويعتبرونه أُسطورة خيالية تشبه أُسطورة «مجنون ليلى».

لما ذا؟ لأنّه لا يوجد أيّ أثر حقيقيّ وملموس للمسيح ، فمثلاً لا يُدرى ـ بالضبط ـ أين وُلِد؟ وأين داره التي كان يسكنها؟ وأين دفنوه بعد وفاته ـ على زعم النصارى أنّه قتل ـ؟ أمّا كتابه السماوي فقد امتدّت إليه يد التحريف والتغيير والتزوير ، وهذه الأناجيل الأربعة لا ترتبط إليه بصلة وليست له ، بل هي ل «متّى» و «يوحنّا» و «مرقس» و «لوقا» ، ولهذا ترى في خاتمتها قصّة قتله المزعوم ودفنه ، ومن الواضح ـ كالشمس في رائعة النهار ـ أنّها كتبت بعد غيابه.

وعلى هذا الأساس يعتقد الكثير من الباحثين والمحقّقين أنّ هذه الأناجيل الأربعة إنّما هي من الكتب الأدبيّة التي يعود تاريخها إلى القرن الثاني من الميلاد.

فلو كانت الميزات الخاصّة بعيسى محفوظة ، لكان ذلك دليلاً على حقيقة وجوده وأصالة حياته وزعامته ، وما كان هناك مجال لإثارة الشكوك والاستفهامات من قِبَل المستشرقين ذوي الخيالات الواهية.

أمّا المسلمون ، فهم يواجهون العالَم مرفوعيّ الرأس ، ويقولون : يا أيّها الناس لقد بُعثَ رجلٌ من أرض الحجاز ، قبل ألف وأربعمائة سنة لقيادة المجتمع البشري ، وقد حقّق نجاحاً باهراً في مهمّته ، وهذه آثار

١٢

حياته ، محفوظة تماماً في مكة والمدينة ، فهذه الدار التي وُلد فيها ، وهذا غار حراء حيث هبط إليه الوحي والتنزيل فيها ، وهذا هو مسجده الذي كان يُقيم الصلاة فيه ، وهذا هو البيت الذي دُفن فيه ، وهذه بيوت أولاده وزوجاته وأقربائه ، وهذه قبور ذريّته وأوصيائه عليهم‌السلام.

والآن ، إذا قَضينا على هذه الآثار فقد قضينا على معالم وجوده صلى‌الله‌عليه‌وآله ودلائل أصالته وحقيقته ، ومهّدنا السبيلَ لأعداءِ الإسلام ليقولوا ما يريدون.

إنّ هدم آثار النبوّة وآثار أهل بيت العصمة والطهارة ليس فقط إساءة إليهم عليهم‌السلام وهتكاً لحرمتهم ، بل هو عداء سافر مع أصالة نبوّة خاتم الأنبياء ومعالم دينه القويم.

إنّ رسالة الإسلام رسالة خالدة أبديّة ، وسوف يبقى الإسلام ديناً للبشرية جمعاء إلى يوم القيامة ، ولا بدّ للأجيال القادمة ـ على طول الزمن ـ أنْ تعترف بأصالتها وتؤمن بقداستها.

ولأجلِ تحقيق هذا الهدف يجب أن نحافظ ـ أبداً ـ على آثار صاحب الرسالة المحمدية صلى‌الله‌عليه‌وآله لكي نكون قد خَطَوْنا خطوة في سبيل استمرارية هذا الدين وبقائه على مدى العصور القادمة ، حتى لا يشكّك أحد في وجود نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله كما شكّكوا في وجود النبيّ عيسى عليه‌السلام.

لقد اهتمَّ المسلمون اهتماماً كبيراً بشأن آثار النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله وسيرته وسلوكه ، حتى أنّهم سجّلوا دقائق أُموره وخصائص حياته ومميّزات شخصيّته ، وكلّ ما يرتبط بخاتمه ، وحذائه ، وسواكه ، وسيفه ، ودرعه ، ورمحه ، وجواده ، وإبله ، وغلامه ، وحتى الآبار التي شرب منها

١٣

الماء ، والأراضي التي أوقفها لوجه الله سبحانه ، والطعام المفضّل لديه ، بل وكيفية مشيته وأكله وشربه ، وما يرتبط بلحيته المقدّسة وخضابه لها ، وغير ذلك ، ولا زالت آثار البعض منها باقية إلى يومنا هذا (١).

هذه كلمة موجزة عن موقف الموضوع عند العقلاء عامة والمسلمين خاصّة ، فهلمّ معي ندرس المسألة في ضوء الكتاب والسنّة حتى تتجلّى الحقيقة بأعلى مظاهرها ، وإنّ صيانة قبور الأنبياء والأولياء والشهداء وتعميرها وتشييدها بقباب ، هي ممّا دعا إليها الكتاب والسنّة النبويّة وسيرة المسلمين إلى أوائل القرن الثامن ، عصر إثارة الشكوك حول هذا الموضوع وغيره ، عصر ابن تيمية (٧٦١ ـ ٧٢٨ ه‍) الذي أثار تلك الفكرة لتفريق كلمة الأُمّة ، وتلقّى ذلك بالقبول وارث منهجه محمد ابن عبد الوهاب النجدي (١١١٥ ـ ١٢٠٦ ه‍) ، إلى أن أحيا منهج شيخه بعد الاندراس بفضل سيف آل سعود ، وحمايتهم له لغاية نفسانية لا تُنكَر.

وندرس الموضوع في خلال فصول ولنقدِّم ما تدلّ عليه من الآيات.

جعفر السبحاني

__________________

(١) راجع طبقات الصحابة لابن سعد ١ : ٣٦٠ ـ ٥٠٣ حول هذا الموضوع.

١٤

الفصل الأوّل :

الآية الأُولى

 الإذن برفعِ بيوتٍ خاصة

إذا كان لصيانة الآثار الإسلاميّة ذلك التأثير الكبير الذي اتّضح للقارئ في التقديم الماضي ، فعلينا استنطاق كتاب الله حولَ هذا الموضوع حتى نقف على حكم الله فيه.

وسنشير هنا إلى الآيات ذات الصلة الواضحة بالموضوع ، والتي لا تتجاوز عن أربع آيات : قال سبحانه : (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ) (النور / ٣٦ ـ ٣٧).

وللمفسّرين حول هذه الآية بحوث ، منها : تعيين متعلّق الظرف ، أعني قوله : (فِي بُيُوتٍ) ، فهل هو متعلّق بما قبلها ، أي قوله سبحانه في الآية المتقدّمة عليها (كَمِشْكاةٍ) أي المشكاة في بيوت ، أو هو متعلّق

١٥

بفعل مقدّر يدلّ عليه لفظ (يُسَبِّحُ) في الآية ، ولا مانع من التكرار ، أو متعلّق بشيء آخر مثل قوله : سبّحوا في بيوت؟ إنّ المهم بيان أمرين :

الأول : ما هو المراد من هذه البيوت التي أذن أن ترفع؟

الثاني : ما هو المراد من الرفع فيها؟ أمّا الأول ، فالمفسّرون فيه على أقوال.

١ ـ المراد المساجد الأربعة.

٢ ـ مطلق المساجد.

٣ ـ بيوت النبيّ.

٤ ـ المساجد وبيوت النبيّ.

استفدنا هذه الأقوال من المصادر (١) ، والمهم تعيين المراد منها وفق الموازين الصحيحة في تفسير الآية.

١ ـ إنّ القولين : الأول والثاني مبنيان على صحّة إطلاق البيت على المسجد ، ولو صحّ ذلك لغة ـ ولن يصحّ كما سيوافيك ـ إلّا أنّه إطلاق شاذ ، لا يصحّ تفسير القرآن بالاستعمال الشاذ ، وذلك لأنّ البيت في القرآن غير المسجد ، فالمسجد الحرام غير بيت الله الحرام الذي جعله الله قياماً للناس (٢).

__________________

(١) الطبري ، التفسير ، ١٨ : ١١١ ـ ١١٢ ؛ السيوطي ٦ : ٢٠٣ ؛ الزمخشري ، الكشاف ٢ : ٣٩٠ ؛ الرازي ، التفسير ٢٤ : ٣ ؛ القرطبي ، الجامع لأحكام القرآن ١٢ : ٢٦٦ ؛ ابن كثير ، التفسير ٣ : ٢٩٢ ؛ اسماعيل حقي البرسوي ، روح البيان ٢ : ١٥٨ ؛ القاسمي ، محاسن التأويل ٧ : ٢١٣ ؛ صديق حسن خان ، فتح البيان ٦ : ٣٧٢ ؛ أبو حيان ، البحر المحيط ٦ : ٤٥٨.

(٢) المائدة : ٩٧.

١٦

٢ ـ إنّ البيت لا ينفكّ عن السّقف لقوله تعالى : «(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ) (الأحزاب / ٣٣) ، وقال سبحانه : «(وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ) (الزخرف / ٣٣) ، وقال سبحانه : (فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا) (النمل / ٥٢).

فهذه الآيات تدلّ على أنّ البيت لا ينفكُّ عن السقف ، بخلاف المساجد فإنّها ربما تكون مكشوفة بلا سقف ، وهذا هو المسجد الحرام تراه مكشوفاً بلا سقف ، ومعه كيف يمكن تفسير البيوت بالمساجد؟

٣ ـ إنّ سورة النور التي وردت فيها هذه الآية تعتني بشأن البيوت عامة ، ويقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ) (النور / ٢٧ ـ ٢٩) فقد تكرّر في هذه الآيات ذكر البيوت ظاهراً ومستتراً سبع مرّات.

ثمّ إنّه سبحانه يسترسل في ذكر البيوت في الآية (٦١) ويقول : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ

١٧

 عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) (النور / ٦١) فقد ذكر فيها البيوت عشر مرّات.

فالآيةُ قيدَ البحث وقعت بين هاتين الطائفتين من الآيات ، أفيصحُّ لنا أن نفسّر قوله (فِي بُيُوتٍ) بالمساجد مع هذه الآيات الكثيرة التي تضمّنت استعمال البيت قبال المسجد؟

٤ ـ إنّ من يُفسّر البيوت بالمساجد يعتمد على رواية موقوفة لابن عباس ومجاهد ، لكنّها لا تقاوم ما ورد مسنداً عن النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله : روى الحافظ السيوطي قال : أخرج ابن مردويه عن أنس بن مالك وبريدة : أنّ رسول الله قرأ هذه الآية (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ) فقام إليه رجل قال : أيّ بيوت هذه يا رسول الله؟ قال : «بيوت الأنبياء» ، فقام إليه أبو بكر وقال : يا رسول الله وهذا البيت منها ـ مشيراً إلى بيت علي وفاطمة ـ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : «نعم ومن أفاضلها» (١).

ولأجل رجحان الحديث المسند على الموقوف ، قال الآلوسي في تفسيره بعد نقل الحديث : وهذا إن صحّ لا ينبغي العدول عنه (٢).

ولأجل بعض ما ذكرنا قال أبو حيان : الظاهر أنّ البيوت مطلق يصدق على المساجد والبيوت التي تقع الصلاة فيها وهي بيوت الأنبياء (٣).

__________________

(١) السيوطي ، الدرّ المنثور ٦ : ٢٠٣.

(٢) الآلوسي ، روح المعاني ١٨ : ١٧٤.

(٣) أبو حيان ، البحر المحيط ٦ : ٤٥٨.

١٨

وقد روي عن الإمام أبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين عليه‌السلام : أنّ المقصود بيوت الأنبياء وبيوت عليّ عليهم‌السلام (١).

٥ ـ إنّ القرآن الكريم يعتني ببيوت النبي وأهلها ، يقول سبحانه : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) (الأحزاب / ٥٣) ويعتني بأهلها ويقول : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) (الأحزاب / ٣٣).

٦ ـ وإذا راجعنا اللغة : نرى أنّ أصحاب المعاجم يفسّرونه على وجه لا ينطبق على المسجد ، يقول الراغب : أصل البيت مأوى الإنسان بالليل ، لأنّه يقال : بات : أقام بالليل ، كما يقال : ظلّ بالنهار ، ثمّ قد يقال للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه وجمعه أبيات وبيوت لكن البيوت للمسكن أخصّ والأبيات بالشعر (٢).

وقال في اللسان : البيت معروف ، وبيت الرجل داره ، وبيته قصره ، ومنه قول جبرئيل عليه‌السلام : بشّر خديجةَ ببيتٍ من قصب ، أراد : بشّرها بقصر من لؤلؤة مجوّفة أو بقصر من زمردة (٣).

فهذه القرائن لو تدبّر فيها المفسّر لأذعن أنّ المراد من (بُيُوتٍ) غير المساجد ، سواء أُريد منه المسجد الحرام ومسجد النبي والمسجد الأقصى ومسجد قبا ، أو أُريد مطلق المساجد.

٧ ـ أضف إلى ذلك أنّ تفسير البيوت بالمساجد مروي عن كعب

__________________

(١) البحراني ، البرهان ٣ : ١٣٧.

(٢) الراغب ، المفردات : ٦٤ مادة بيت.

(٣) ابن منظور ، اللسان ٢ : ١٤ مادة بيت.

١٩

الأحبار ، ذلك الحبر اليهودي الذي أدخل الإسرائيليّات في السنن والأحاديث ، روى ابن كثير قال : قال كعب الأحبار : مكتوب في التوراة أنّ بيوتي في الأرض المساجد (١) ، ولو صحّ أنّ ابن عباس أخذه عن كعب الأحبار كما يدّعيه علماء الرجال في ترجمة كعب الأحبار فلعلّه أخذ منه ، ومرويّات كعب إسرائيليّات لا يصحّ الاحتجاج بها.

غير أنّه ما تضافر عن النبي الأكرم خلاف ذلك ، حيث قال : «جُعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً» (٢) ، فإذا كان جميع الأرض مسجداً لله تبارك وتعالى فيكون جميعها معبداً ومسجداً.

٨ ـ وربّما يتصوّر أنّ ذيل الآية الذي جاء فيه قوله (يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) قرينة على أنّ المراد من البيوت هي المساجد ، ولكنّه غَفِلَ عن أنّ شأن بيوت الأنبياء والأولياء والصالحين ، شأن المساجد ، فهم فيها بين قائم وراكع وساجد وذاكر.

وقد اعتنى النبيّ الأكرم بشأن البيوت ، فقد عقد مسلم باباً في صحيحه لاستحباب إقامة الصلاة النافلة في البيت وروى فيه الروايات التالية :

أ ـ عن ابن عمر عن النبيّ (ص) : «اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتّخذوها قبوراً».

ب ـ عن ابن عمر عن النبي (ص) : «صلّوا في بيوتكم ولا

__________________

(١) ابن كثير ، التفسير ٣ : ٢٩٢.

(٢) البخاري ، الصحيح ١ : ٩١ كتاب التيمم ، ح ٢ ؛ البيهقي ، السنن : ٤٣٣ باب أينما أدركتك الصلاة فصلّ فهو مسجد.

٢٠